سلام ..
: أن آية { لا إكراه } محكمة، ولكنها خاصة بأهل الكتاب، فإنهم لا يُكْرَهون على الإسلام إذا أدُّوا الجزية، وكانوا تحت حكم المسلمين؛ أما غيرهم فيجبرون عليه؛ وهذا القول الثاني هو ما عليه أكثر أهل العلم، وقد استدلوا لما ذهبوا إليه، بما رواه ابن عباس رضي الله عنهما، قال: ( نزلت في الأنصار، قال: كانت المرأة منهم إذا كانت نزرة أو مقلاة - الذي لا يعيش لها ولد - تنذر لئن ولدت ولدًا لتجعلنه في اليهود، تلتمس بذلك طول بقائه، فجاء الإسلام وفيهم منهم، فلما أجليت النضير، قالت الأنصار: يا رسول الله، أبناؤنا وإخواننا فيهم، فسكت عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت: { لا إكراه في الدين } رواه البيهقي . وهذا الذي اختاره شيخ المفسرين الطبري وصوَّبه، وحمل عليه معنى الآية، فقال: ( وأولى هذه الأقوال بالصواب، قول من قال: نزلت هذه الآية في خاصِّ من الناس ) ثم قال: عنى بقوله تعالى ذكره: { لا إكراه في الدين } أهل الكتابين والمجوس، وكل من جاء إقراره على دينه المخالف دين الحق، وأخذ الجزية منه ) .

هذا حاصل أقوال المتقدمين في الجمع بين هذه الآيات؛ والواقع فإن الناظر في كتب التفسير المتقدمة عمومًا، يجد أن المفسرين لم يخرجوا عن هذين القولين، في الأغلب، ورجَّح أكثرهم القول بأن آية البقرة خاصة بأهل الكتاب ومن شاكلهم .

وإن كان ثمة من ملاحظة نبديها على هذا المسلك، فهي أن نقول: إن القول بالتخصيص هنا لا يرفع التعارض الواقع بين الآيات موضوع الحديث، ناهيك على أن القاعدة التفسيرية تقرر: أن العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب .

أما عن أقوال المتأخرين، فإننا نكتفي بالوقوف عند قولين منها:

القول الأول: قول سيد قطب " في ظلال القرآن " إذ رأى - رحمه الله - أن الإكراه على العقيدة والدين أمر ينافي حقيقة دعوة الإسلام، فينبغي أن يترك الناس - كأفراد - وما يختارونه من دين ومعتقد، لكن ينبغي أن تزال من طريقهم تلك العوائق التي تمنعهم من إبصار حقيقة هذا الدين، وتصدهم عن دين الإسلام؛ ونص عبارته: إن ( الإسلام بوصفه دين الحق، الوحيد القائم في الأرض، لا بد أن ينطلق لإزالة العوائق المادية من جهة؛ ولتحرير الإنسان من الدينونة بغير دين الحق، على أن يدع لكل فرد حرية الاختيار، بلا إكراه منه، ولا من تلك العوائق المادية كذلك ) ويوضح هذه الحقيقة بقوله: ( { لا إكراه في الدين } أي: لا إكراه على اعتناق العقيدة، بعد الخروج من سلطان العبيد، والإقرار بمبدأ أن السلطان كله لله؛ أو أن { الدين كله لله } بهذا الاعتبار ) .

فآية: { لا إكراه } وما شاكلها - حسب رأي سيد - موضوعها الأفراد؛ وآية: { قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة } وما وافقها، فموضوعها تلك العوائق المادية والمعنوية، التي تصد الناس عن معرفة دين الحق، وتمنعهم من الانضواء تحت لوائه .

وظاهر من كلام سيد - رحمه الله - أنه وفَّق بين الآيات توفيقًا متَّجهًا، تؤيده الأدلة ولا تأباه، وأعمل كل دليل وَفْق ظرفه، وحسب حاله، وهذا أمر معهود، وطريق مقبول عند العلماء، للتوفيق بين الأدلة .