في ثلاث مسائل : مسألة الصفات ، ومسألة الفوقية ، ومسألة الحرف والصوت ، وكُنتُ متحيراً في الأقوال الموجودة في كتب أهل العصر في جميع ذلك من تأويل الصفات وتحريفها ، أو إمرارها والوقوف فيها وإثباتها بلا تأويل ولا تعطيل ولا تشبيه ولا تمثيل ، فأجد النصوص في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ناطقةً بحقائق هذه الصفات ، وكذلك في إثبات العلو والفوقية ، وكذلك في الحرف والصوت ، ثم أجد المتأخرين من المتكلمين في كُتبهم : منهم من يؤول الاستواء بالقهر والاستيلاء ، ويؤول النـزول بنـزول الأمر ، ويؤول اليدين بالقدرتين أو النعمتين ، ويؤول القَدم بقدم صدقٍ عند ربهم … وأمثال ذلك ،
ثم أجدهم مع ذلك يجعلون كلام الله تعالى معنىً قائماً بالذات بلا حرفٍ ولا صوتٍ ويجعلون هذه الحروف عبارة عن ذلك المعنى القائم ، وممن ذهب إلى هذه الأقوال قومٌ لهم في صدري منـزلة ، مثل طائفة من فقهاء الأشعرية الشافعيين ، لأني على مذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه ، عرفتُ فرائض ديني وأحكامه ، فأجد مثل هؤلاء الشيوخ الأجلة يذهبون إلى مثل هذه الأقوال وهم شيوخي ولي فيهم الاعتقاد التام لفضلهم وعلمهم ، ثم إنني مع ذلك أجد في قلبي من هذه التأويلات حزازاتٌ لا يطمئن قلبي إليها ، وأجدُ الكدرَ والظُّلمةَ منها ، وأجدُ ضيقَ الصدر وعدم انشراحهِ مقروناً بها ، فكنتُ كالمتحير المضطرب في تحيره المتململ من قلبه في تقلبه وتغيره .
وكنتُ أخافُ أن من إطلاق القول بإثبات العلو والاستواء والنـزول ، مخافة الحصر والتشبيه ، ومع ذلك فإذا طالعت النصوص الواردة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أجدها نصوصاً تشير إلى حقائق هذه المعاني ، وأجدُ الرسول صلى الله عليه وسلم قد صرَّح بها مُخبراً عن ربه واصفاً لهُ بها ، وأعلم بالاضطرار أنه صلى الله عليه وسلم كان يَحضرُ مجلسهُ الشريف والعالم والجاهل والذكي والبليد والأعرابي والجافي ؛ ثم لا أجد شيئاً يُعقبُ تلك النصوص التي كان يَصفُ ربهُ بها لا نصاً ولا ظاهراً مما يصرفها عن حقائقها ويؤولها كما تأولها هؤلاء مشايخي المتكلمين : مثل تأويلهم الاستواء بالاستيلاء،ونـزول الأمر للنـزول،وغير ذلك،
ولم أجد عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يُحذر الناس من الإيمان بما يظهر من كلامه في صفته لربه من الفوقية واليدين وغيرها ، ولم يُنقل عنه مقالةً تدل على أن لهذه الصفات معاني أُخَر باطنة غير ما يظهر من مدلولها مثل فوقية المرتبة ويد النعمة والقدرة وغير ذلك ، وأجد الله عز وجل يقول : ( الرحمن على العرش استوى ) ( خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش ) ( يخافون ربهم من فوقهم ) ( إليه يصعد الكلم الطيب ) …
ثم ذكر الأدلة من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على إثبات علو الله تعالى على خلقه على ما يليق بجلال الله تعالى وعظمته وأنه هو الظاهر المراد من هذه النصوص ، ثم قال : إذا علمنا ذلك واعتقدناه تخلَّصنا من شُبهة التأويل وعماوة التعطيل وحماقة التشبيه والتمثيل ، وأثبتنا علو ربنا سبحانه وفوقيته واستواءه على عرشه كما يليق بجلاله وعظمته ، والحقُ واضحٌ في ذلك والصدور تنشرحُ له ، فإن التحريف تأباه العقول الصحيحة مثل : تحريف الاستواء بالاستيلاء وغيره ، والوقوف في ذلك جهلٌ وعيٌّ ، وع كون أن الرب تعالى وصف لنا نفسهُ بهذه الصفات لنعرفهُ بها ،
فوقوفنا عن إثباتها ونفيها عدولٌ عن المقصودِ منه تعالى في تعريفنا إياها ، فما وصف لنا نفسه بها إلا لِـنُثبت ما وصف به نفسه ولا نقف في ذلك ، وكذلك التشبيه والتمثيل حماقةٌ وجهالةٌ فمن وفَّقهُ الله تعالى للإثبات بلا تحريفٍ ولا تكييفٍ ولا وقوفٍ فقد وقع على الأمر المطلوب منه إن شاء الله …
وختم رسالته بقوله : فرحم الله عبداً وصلت إليه هذه الرسالة ولم يُعاجـلها بالإنكار ، وافتقر إلى ربه في كشف الحق آناء الليل والنهار ، وتأمل النصوص في الصفات ، وفكر بعقله في نـزولها وفي المعنى الذي نـزلت له وما الذي أُريد بعلمها من المخلوقات ، ومن فتح الله قلبه عرف أنه ليس المراد إلا معرفةُ الرب تعالى بها ، والتوجه إليه منها ، وإثباتها له بحقائقها وأعيانها كما يليقُ بجلاله وعظمته بلا تأويل ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل ولا جمود ولا وقوف ، وفي ذلك بلاغ لمن تدبر ، وكِفايةٌ لمن استبصر … « [ انظر رسالته ضمن الرسائل المنيرية ( 1 / 174 – وقد مرَّ معنا شيئاً من كلامه في الوقفة الرابعة .
المراجع
الشيخ/ ناصر بن محمد الأحمد
مجموع الفتاوى – شرح الأصفهانية (لشيخ الإسلام ابن تيمية)
الشيخ القرضاوي في الرد على الأشعرية ( كتاب شرح الرسائل المنيرية لأبا محمد الجويني )
المفضلات