الاستفسار رقم: (10):

شبهة يثيرها العلمانيون, ألا وهي: الاختلاف في الرأي الفقهي أدى إلى قتل (70) ألف من الصحابة والتابعين في موقعة الجمل, أليس هذا بسبب خلل في الشريعة التي لم تعصم أفضل الأمة بعد نبيها من الاقتتال؟ فكيف بنا الآن؟ وهل لو تصارع بعض الصحابة على المنصب, فكيف نجعلهم كلهم عدولا في علم الحديث؟

الرد يكون كالآتي:
ثمَّة مسائل هاهنا, وهي:

· المسألة الأولى: حكم الاختلاف الفقهي وأسبابه:

- الاختلاف الفقهي بين أهل العلم جائز, ودليله إقرار النبي e وإجماع الصحابة الكرام t.
- أما إقرار النبي, لما قال: «لاَ يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ العَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ», رواه البخاري. أخذ بعض الصحابة بلازم الكلام فصلوا, وأخذ بعضهم الآخر بمنطوق الكلام فلم يصلوا: (فَذُكِرَ لِلنَّبِيِّ e، فَلَمْ يُعَنِّفْ وَاحِدًا مِنْهُمْ). أي: أقرهم على فهمهم, ولم يرجح فريقا على آخر.
- وأما إقرار الصحابة, فلقد كان شائعًا بينهم الاختلافُ في الرأي, وقد أجمعوا على جواز ذلك, فكان إجماعهم دليلا على جواز الاختلاف الفقهي.
- وأسباب الاختلاف الفقهي هي:
1) طبيعة اللغة العربية؛ من حيث أساليب تعبيرها, ومن حيث دلالة ألفاظها. ولما كانت أداة الاجتهاد هي اللغة العربية, كان من الطبيعي أن تؤثر في استنباط الأحكام الشرعية.
2) الأحاديث من حيث ضعفها وصحتها, ومن حيث تعارضها, ومن حيث نسخها, ومن حيث مطلقها ومقيدها, ومن حيث خاصها وعامها, ومن حيث مجملها ومفصلها. وتشترك الآيات ببعض ذلك.
3) اختلاف أسس الاجتهاد والقواعد الأصولية والدلائل الإجمالية بين الأصوليين والمجتهدين التي تؤدي إلى اختلاف الاستنباط من الدليل نفسه.
· المسألة الثانية: عدالة الصحابة جميعهم في الحديث:

الصحابة كلهم عدول؛ لأنَّ الله أثنى عليهم, ولأنَّ النبي أثنى عليهم, ولأنهم خير الناس بعد الأنبياء؛ لا تضر جهالة الصحابي في رواية الحديث. ودلائل الثناء عليهم كثير, منها:
1) ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ﴾, (الفتح: 29).
2) ﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾, (التوبة: 100).
3) ﴿لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾, (الحشر: 9).
4) قال رسول الله e: «يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ فَيَغْزُو فِئَامٌ مِنَ النَّاسِ، فَيَقُولُونَ: فِيكُمْ مَنْ صَاحَبَ رَسُولَ اللَّهِ e؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ, فَيُفْتَحُ لَهُمْ. ثُمَّ يَأْتِى عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ فَيَغْزُو فِئَامٌ مِنَ النَّاسِ، فَيُقَالُ: هَلْ فِيكُمْ مَنْ صَاحَبَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ e؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ, فَيُفْتَحُ لَهُمْ. ثُمَّ يَأْتِى عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ فَيَغْزُو فِئَامٌ مِنَ النَّاسِ، فَيُقَالُ: هَلْ فِيكُمْ مَنْ صَاحَبَ مَنْ صَاحَبَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ e؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ, فَيُفْتَحُ لَهُمْ», رواه البخاري ومسلم. ففي هذا الحديث ظاهر الثناء على أصحاب رسول الله، فقد جُعل الفتح لهم ولمن صاحَبهم ولمن صاحَب من صاحَبهم إكراماً لهم.
5) قال رسول الله e: «خَيْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْقَرْنُ الَّذِي بُعِثْتُ أَنَا فِيهِمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَكُونُ قَوْمٌ تَسْبِقُ شَهَادَتُهُمْ أَيْمَانَهُمْ، وَأَيْمَانُهُمْ شَهَادَتَهُمْ», رواه أحمد والبزار. أمة الإسلام خير الأمم, والصحابة هم خير الخيرية y.
6) قال رسول الله e: «إِنَّ اللَّهَ اخْتَارَ أَصْحَابِي عَلَى الْعَالَمِينَ سِوَى النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ»، وقال: «فِي أَصْحَابِي كُلِّهِمْ خَيْرٌ», رواه البزار. وغير ذلك من المدح.
لقد دل هذا الثناء من الله U, ومن الرسول u على اعتبار أقوالهم، ودل على أن صدقهم أمر لم يمسه سوء, وأن العبرة هي بكونهم أصحاب رسول الله.

· المسألة الثالثة: موقعة الجمل:

لقد كانت عام 36 هـ في البصرة بين قوات أمير المؤمنين علي بن أبي طالب, والجيش الذي يقوده الصحابيان: طلحة بن عبيد الله, والزبير بن العوام. وقد كانت معهما أم المؤمنين عائشة التي ذهبت مع جيش المدينة على ظهر جمل، وسميت المعركة بالجمل نسبة إلى هذا الجمل. وإزاء ذلك أقول:
- من تسبَّب بفتنة قتل عثمان بن عفان هم من تسبَّب بفتنة موقعة الجمل؛ ذلك أنَّه لما وقع الصلح بين الطائفتين, قال أهل الفتنة: إذن, القصاص واقع بنا لا محالة, والنجاة بإنشاب الفتنة وإضرام الحرب بين المتصالحين من الصحابة, وقد كان أمرٌ دُبِّرَ بليلٍ, ووقع المحظور.
- ولعلَّ قول النبي لعلي: «إِنَّهُ سَيَكُونُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ عَائِشَةَ أَمْرٌ» الذي رواه الإمام أحمد يومئ إلى موقعة الجمل, وكان أمر الله قدرًا مقدورا.
- إذن, بعد تمحيص موقعة الجمل, نقول:
- لم تكن موقعة الجمل بسبب الاختلاف الفقهي_ كما يزعم العلمانيون _, بل كانت بسبب مكيدة وقعت بعد توقيع الصلح بين الصحابة من قبل من قتلوا عثمان لئلا يُقتصَّ منهم.
- ولم يكن ثمة قتال على المنصب بها, بل هي بسبب المكيدة التي لم ينجُ منها الصحابة الكرام.
- وقد كان عدد الفريقين قرابة الخمسين ألفًا, فكيف قتل سبعون ألفًا؟! إنَّ هذا لشيء عجاب!!
- ثمَّ إنه لا دخل للشريعة الإسلامية بما حصل؛ لأن الاقتتال لم يكن بسببها, بل بسبب المكيدة سابقة الذكر. فتدبر.