[frame="1 10"]وفي عام 549هـ أعلن عبدالمؤمن للملأ من طبقات الموحدين والقبائل الداخلة في طاعتهم، من بني هلال وصنهاجة، توليته لابنه محمد ولياً لعهده وقامت تلك الجماعات في الحال بالموافقة على ذلك الأمر، وبايعت لولي العهد. وقد بين الخليفة في رسالة بعث بها إلى طلبة الموحدين في سبتة وطنجة، الظروف التي تمت فيها تولية ابنه لخلافته والعوامل التي فرضت عليه ذلك، فجاء فيها: "ولكم أن كثيراً من أولياء هذه الدعوة العلية واخوانها من أشياخ الأنظار وأعيانها، تقدمت رغبتهم في أمر أخرته الخيرة لميقاتها، وأرجأته التؤدة إلى خير أوقاتها... وكانت العشائر العربية الهلالية والقبائل الشرقية والصنهاجية ومن معها، حاضرة وبادية من أهل اقليمها وذوي ألبابها وحلومها، يشيرون إلى ذلك على انشراحهم ويعلمون أنه غاية اقتراحهم ومادة نفوسهم وأرواحهم ولم تزل مخاطبتهم في ذلك تتردد حيناً بعد حين ورغباتهم تتأكد لما كان عندهم فيه من ثلج ويقين. فلما اتفق بحمد الله وصولهم في هذه الوفادة، للأخذ بأطناب السعادة المنيفة بهم على مقتضى الآمال والإرادة، صرحوا لأول لقائهم بما أضمروه، وأبدوا سرهم المكنون وأظهروه. واعلموا أن محمداً[/frame]
- وفقه الله - هو الذي ارتضوه لحمل عبئهم وتخيروه، ورغبوا في تقديمه على بلادهم وانفاذه معهم على قصده في توليته مرادهم... فرأينا بعد استخارة الله تعالى أن نجمع في هذا الموضع المبارك من وصله من شيوخ الموحدين وطلبتهم وعمالهم ونتذاكر معهم في ذلك الأمر المسئول ونعارضهم فيه على الجملة والتفصيل، ونلقي إليهم حديث القوم المذكورين، بأتم وجوه الالقاء والتوصيل فكان ذلك على ما أقصد وذكروا في الأمر على ما أتوخى فيه واعتمد. وعرفوا بأن ذلك ليس مما بنى عليه ولا مما اعتقد... وتقدمهم الشيخ الأجل أخونا أبو حفص عمر بن يحيى - أعزه الله بتقواه - هذا أمر نحن بتقديمه وأعلم بوجوبه ولزومه وأولى بتأميره علينا وتحكيمه. ونحن السابقون إلى مبايعته على حدود الشرع ورسومه. فهو مختارنا للدين والدنيا وسؤلنا المأمول للحياطة والرعيا.. وقال أكثر الحاضرين من الأشياخ والطلبة والعمال ومن أعلم به من الطلبة والفقهاء ومن جرت مذاكرته في مثل هذه الآراء: هذا أمر في ضمائر أكثر معقود وفي نفوس جمهورنا موجود وهو الذي ليس عليه من آمالنا مزيد... وابتدأها الشيخ الأجل أبو حفص المذكور بيمناه، قصد اعتقادها على أكرم وجه وأسناه، وتتابع الأشياخ والطلبة بعده على درجاتهم وسرى النعيم بها في أبشارهم ومناتهم، وباشرها من حضرها من القبائل الموحدين وسائر اخوانهم المؤمنين قبيلاً بعد قبيل".
يتبين لنا من هذه الرسالة نقاط أولها أن عبدالمؤمن يبعد عن نفسه شبهة التفكير في تولية أحد أبنائه لخلافته في الحكم.
وثانيها أن هذه الفكرة إنما أثارتها قبائل هلال وصنهاجة والقبائل الشرقية. وهي التي لم تكتف باثارة الموضوع، بل وألحت عليه. ومسألة تعيين الحاكم أو الخليفة في دولة الموحدين، ليست من الأمور البسيطة التي يمكن لمثل هذه القبائل أن تبدي رأيها عنها وتتدخل فيها. فهي مسألة حساسة وتمس الحركة الموحدية في جوهرها فالواجب أن يثيرها الموحدون أنفسهم لا هذه القبائل التي اخضعت بحد السيف.
وتدخل هذه القبائل في مثل هذا الموضوع، يثير الشك بأن الخليفة عبدالمؤمن هو الذي أوحى لها بأن تثير وتلح عليه.
والنقطة الثانية، هي أن الموحدين وأشياخهم لما أن جمعهم الخليفة في حضرته، وعرض عليهم رغبة قبائل هلال وصنهاجة والقبائل الشرقية في أن يتولى ابنه محمد الحكم بعده، بينوا أنهم أولى من غيرهم في اقتراح مثل هذا الأمر وأنهم أولى بعقد النية والعزم عليه. والحقيقة أن تغيير نظام الطبقات جعل عبدالمؤمن السيد المطاع بلا منازع في دولة المرابطين ولذلك بادروا وسارعوا بالموافقة لما أراد وتقديم البيعة لولي عهده، النقطة الرابعة: يبدو أن أبا حفص عمر بن يحيى وجد نفسه أمام أمر الواقع ولذلك بادر باظهار الرضى عن هذه البيعة وكان أول المبايعين لابن عبدالمؤمن وتنازل أمام ضغط الواقع عن حقه الطبيعي لعبدالمؤمن في الحكم.
وهكذا استطاع عبدالمؤمن أن يجعل الحكم وراثياً في عقبه وبذلك يكون انحرف عن تعاليم ابن تومرت في قضائه على الطبقات وجعل الحكم وراثياً.
وبهذا الفعل ثارت حفيظة الكثيرين من الموحدين مما دفع بعضهم بالثورة عليه ومن الطبيعي أن يكون أهل بن تومرت أول المعارضين لعبدالمؤمن ولذلك قامت خيانات في الجيش الموحدي بقيادة يصلتين بن المعز الذي انفصل بجيشه في معارك الموحدين مع العرب في المغرب الأوسط مما سبب في انتصار بني هلال على جيش ابن واندوين والقضاء على أغلبه، وقتل قائد الجيش الموحدي في المعركة. وطمع بنو هلال أثر هذا الانتصار في الموحدين الذين اهتزت روحهم المعنوية لهذه الهزيمة. ولكن عبدالمؤمن بقدرته العسكرية الفذة استطاع أن يهزم تلك القبائل وأن يحافظ على وحدة الجيش الموحدي وارتفاع روحه المعنوية، وظهر للموحدين بمظهر الرجل الفذ القادر على الوقوف في وجه العواصف الهوج، ففوت بعمله ذاك الفرصة على يصلتين الذي كان يرمي إلى القضاء على جيش عبدالمؤمن بفعله ذاك والقي القبض على يصلتين وقتل في سبتة عام 546هـ بتهمة الخيانة العظمى.
وفي عام 549هـ حاول أخو بن تومرت، عيسى وعبدالعزيز في مدينة مراكش القيام بثورة على عبدالمؤمن والاستيلاء على مقاليد الحكم إلا أن المخلصين من انصار عبدالمؤمن واهل مراكش افشلوا تلك المحاولة الفاشلة وكان عبدالمؤمن بعيداً عن مراكش في سلا، وقبض على المتآمرين وكان تعدادهم الثلثمائة شخص وقتلوا جميعاً واعدم اخوا بن تومرت وفي عام 555هـ حاول بيت بن تومرت اغتيال عبدالمؤمن إلا أن تلك المؤامرات اهبطت في مهدها وشعر عبدالمؤمن بضرورة جلب قبيلته لحمايته من المؤامرات المتكررة، فأنفذ الأموال إلى زعماء قبيلته وأمرهم أن يأتوه ركباناً ويركبوا معهم كل من تجاوز سن الحلم من أبناء القبيلة.
وقد وصل رجال قبيلة كومية سنة 557هـ إلى مراكش في تعداد تجاوز الاربعين ألفاً وفرح بهم عبدالمؤمن فرحاً عظيماً وأنزلهم في مراكش واعطاهم الدور ووزع عليهم البساتين، وجعل منهم حرسه الخاص الذي يقف بين يديه في جلوسه ويحيط به في تسياره وبذلك اطمئن على نفسه على حكم ابنائه من بعده.
إن الخطوات التي اتخذها عبدالمؤمن من ابعاد قبائل المصامدة وشراء خدمات قبائل بني هلال، واسناد أمر الحماية إلى قبيلته كومية، والقضاء على تنظيم ابن تومرت في الطبقات جعل من الموحدين خدماً لمصلحة فرد وأطماعه المادية بعد ان كانوا يخدمون فكرة ويدافعون عن مبدأ، ففقدت نفوسهم تلك الروح المتوثبة والحماس الشديد في سبيل تقدم الدولة ونجاح الدعوة.
إن مسلك عبدالمؤمن في جعل الحكم وراثياً ساهم في ايجاد تنافس شديد وتنازع مميت بين ابناء عبدالمؤمن فيما بعد، بل سفكت دماء، وحيكت مؤامرات دنيئة بين الأخوة في سبيل تولي الحكم، وكان من نتيجة ذلك كله ضعف الدولة، وتدهورها السريع في فترة ليست بالطويلة.
لم يكتفي عبدالمؤمن ببيعة الموحدين لابنه بل قام بتعيين ابنائه على أغلب ولايات الدولة، وجعل إلى جانبهم وزراء من الطلبة ليكونوا مرشدين وناصحين لهم. ومن الأمور المهمة والأحداث ذات الدلالة في تاريخ دولة الموحدين، ظهور التكلات التي ساهمت في اضعاف الدولة، وكانت سبباً في وقوع وزيرين في نكبتين عظيمتين على يد عبدالمؤمن وهما: الوزير أبو جعفر أحمد بن عطية، وعبدالسلام الكومي.
يتبع
المفضلات