[frame="1 10"]
شيء من سيرة عبدالمؤمن ووفاته:
1- لما نزل عبدالمؤمن سلا وهي على البحر المحيط ينصب إليها نهر عظيم ويمر في البحر عبر النهر، وضربت له خيمة، وجعلت جيوشه تعبر قبيلة قبيلة، فخر ساجداً، ثم رفع وقد بلّ الدمع لحيته، فقال: أعرف ثلاثة وردُوا هذه المدينة لاشيء لهم إلا رغيف واحد، فراموا عبور هذا النهر، فبذلوا الرغيف لصاحب القارب على أن يُعَدِّ بهم، فقال: لا آخذه إلا عن اثنين، فقال احدهما وكان شاباً: تأخذ ثيابي وأنا أسبح، ففعل، فكان الشابُّ كلما أعيا، دنا من القارب، ووضع يده عليه يستريح، فيضربه بالمجذاف، فما عدَّى الا بعد جُهد فما شك السامعون أنه هو السابح، والآخران بن تومرت، وعبدالواحد الشرقي.
2- ذكر ابن العماد في شذرات الذهب عبدالمؤمن بن علي فقال: (كان ملكاً عادلاً سايساً عظيم الهيبة عالي الهمة كثير المحاسن متين الديانة قليل المثل وكان يقرأ كل يوم سبعاً من القرآن العظيم، ويجتنب لبس الحرير ويصوم الاثنين والخميس ويهتم بالجهاد والنظر في الملك كأنما خلق له وكان سفاكاً لدماء من خالفه سأل أصحابه مسألة ألقاها عليهما فقالوا لا علم لنا الا ما علمتنا فلم ينكر ذلك عليهم فكتب بعض الزهاد هذين البيتين ووضعهما تحت سجادته وهما:
ياذا الذي قهر الانام بسيفه
ماذا يضرك أن تكون إلهــــاً
الفظ بها فبما لفظت فإنه
لم يبق شيء أن تقول سواها
فلما رآها وجم وعظم أمرهما وعلم أن ذلك بكونه لم ينكر على أصحابه قولهم لا علم لنا إلا ما علمتنا فكان عبدالمؤمن يتزيا بزي العامة ليقف على الحقائق فوقعت عيناه على شيخ عليه سيما الخير فتفرس فيه أنه قائل البيتين فقال له أصدقني أنت قائل البيتين قال أنا هو قال لم فعلت ذلك قال قصدت اصلاح دينك فدفع إليه ألف دينار فلم يقبلها ومن شعره وقد كثر الثوار عليه:
لاتحفلن بما قالوا وما فعلوا
أن كنت تسموا إلى العليا من الرتب

3- فبعد أن أتم عبدالمؤمن افتتاح المغرب الأوسط وإسقاط امارة بني حماد فيه، وافتتاح المغرب الأدنى وإجلا النورمانديين منه إلى صقلية، وضمها إلى دولة الموحدين، وأصبحت دولة خلافته تمتد من حدود برقة شرقاً حتى البحر المحيط غرباً، ويشمل سلطانه معظم بلاد الأندلس الاسلامية، وبعد أن تم له تعيين ابنه ولياً لعهده، وعقد لأبنائه على أغلب ولايات الدولة وقضى على أغلب المتآمرين ورؤوس الفتنة، وخضّد شوكة افراد بيت بن تومرت، وعمل على تقوية جانبه باصطناع أعراب بني هلال وتقويه ظهره بعصبية قبيلته، شرع في الاعداد للمشروع العسكري الكبير الذي نوى القيام به، ألا وهو دخول الأندلس بجيش لم يسبق له مثيل للقضاء على الممالك والامارات الاسبانية وكل من تمرد على دولة الموحدين ولذلك استعد عبدالمؤمن لهذه الحملة.
يقول ابن صاحب الصلاة: (تم اعداد مائتي قطعة بحرية جديدة في دور الصناعة بمرسى المعمورة عند حلق البحر على ضفاف وادي سبو، وغيره من الدور في بلاد المغرب وسواحل الأندلس وهذه القطع تعتبر اضافة لقطع الأسطول الموحدي الزاخر. وكانت الاستعدادات في نفس الوقت تجري لتدريب الرجال على أفانين القتال البحري والتهيئة له. كما أنه: "وأعد من القمح والشعير للعلوفات والمواساة للعساكر على وادي سبو بالمعمورة المذكورة، ما عاينته مكدساً كأمثال الجبال بما لم يتقدم الملك قبله.. ونظر في استجلاب الخيل له من جميع طاعاته بالعدوة وافريقية، وانتخاب الأسلحة من السيوف المحلاة والرماح الطوال على أجمل الهيئات والدروع والبيضات والترسة، إلى غير ذلك من الثياب والكسا والعمائم والبرانس، ما استغربته الأذهان ولاتقدم بمثله زمان. وقسم ذلك كله على الموحدين ...).
خرج عبدالمؤمن بن علي من مراكش في جموع الموحدين ومختلف القبائل يوم الخميس خامس عشر من ربيع الأول من عام ثمانية وخمسين وخمسمائة هجرية (558هـ) وانتهى به السير في رباط الفتح من مدينة سلا. ونزلت الجيوش في الفحوص الواقعة ما بين عين غبولة وأرض بندغل وكان تعداد الجيش حوال مائة الف راجل ومائة ألف فارس. وتقرر في مجلس الحرب الذي عقده الخليفة، تقسيم الجيش أربعة أقسام، وتوجيهها إلى أربع جهات مختلفة من بلاد اسبانيا:
1- الجيش الأول: يتجه إلى مدينة قلمرية عاصمة البرتغال.
2- الجيش الثاني: إلى فرناند ودي ليون.
3- الجيش الثالث: إلى الفونسو الثامن ملك قشتالة.
4- الجيش الرابع: يسير إلى برشلونة.
غير أن الذي غير هذا المخطط وجمّد هذا العمل الكبير، مرض عبدالمؤمن بن علي المفاجئ، وانتظار الموحدين شفائه، إلا أن المرض أصاب قوته وأظهر ضعفه حتى اسلمه إلى منيته مساء يوم الخميس العاشر من جماد الآخرة من سنة 558هـ قال ابن كثير في عام ثمان وخمسين وخمسمائة:
"فيها مات صاحب المغرب عبدالمؤمن بن علي، وخلفه من بعده في الملك ابنه يوسف وحمل أباه إلى مراكش على صفة أنه مريض، فلما وصلها أظهر موته فعزاه الناس وبايعوه على الملك من بعد أبيه، ولقبوه أمير المؤمنين، وقد كان عبدالمؤمن هذا حازماً شجاعاً، جواداً معظماً للشريعة، وكان من لايحافظ على الصلوات في زمانه يقتل، وكان إذا أذن المؤذن وقبل الأذان يزدهم الخلق في المساجد، وكان حسن الصلاة ذا طمأنينة فيها، كثير الخشوع، ولكن كان سفّاكاً للدماء، حتى على الذنب الصغير، فأمره إلى الله يحكم فيه بما يشاء...).
إن المتتبع لتاريخ عبدالمؤمن بن علي يلاحظ بوضوح أن حماسه لدعوة بن تومرت تبدد حيث انشغل بالأمور السياسية والعسكرية واكتفى بالقيام بزيارة قبر ابن تومرت بين الفينة والأخرى، كرمز على محبته له ولدعوته، أما العمل على تأصيلها في نفوس الناس ونشرها في أماكن جديدة فلم يذكر المؤرخون - على حسب اطلاعي - أنه قام بشيء من هذا، ويدل على ذلك أن عبدالمؤمن لما بسط سلطانه على بلاد المغرب والأندلس لم تنتشر دعوة ابن تومرت في تلك الديار، ولم تتأصل محبتها في قلوب سكانها كما تأصلت عند سكان بلاد المغرب الأقصى الذين انتشرت بينهم تلك الدعوة في عصر بن تومرت ولم يسر ظل الدعوة الموحدية جنباً إلى جنب مع الظل السياسي للدولة في عهد عبدالمؤمن وإن كان استمر على نفس البرنامج التعليمي الذي وضعه بن تومرت واصدر أوامره إلى كافة الموحدين بشأن ضرورة المحافظة على تعاليم ابن تومرت والعمل على نشرها وكان ذلك تكتيكاً من عبدالمؤمن لكي يحافظ على مكانته بين الموحدين المخلصين لدعوة ابن تومرت. إن تاريخ عبدالمؤمن يشير إلى أنه لم يكن جاداً في الالتزام الحرفي لدعوة بن تومرت، ولعل ماتحمله دعوة بن تومرت من شطط وغلو في بعض افكارها من الأسباب الرئيسية التي جعلته يحجم عن العمل على نشرها حتى لا يحدث رد فعل مضاد له مما يعرض دولته للخطر.


يتبع
[/frame]