[frame="1 10"]
ثالثا : الثورة في المغرب الأقصى :

وفي عام 559 هـ - 1164 هـ قامت قبائل صنهاجة بالثورة ضد خليفة الموحدين يوسف بن عبدالمؤمن وتزعم تلك الثورة مرزدغ الصنهاجي وانضمت إلى تلك الحركة بطون من صنهاجة وغمارة وأورية وقام الثوار بمهاجمة النواحي ودخلوا تازا ، حيث قتل رجالها وسبي نساءها واحتوى أموالها ولم يتوان خليفة الموحدين في إرسال جيشا للثوار ففض جموعهم وقضى على زعمائهم.
وكانت هذه الثورة هي أول شرارة للثورات التي قامت في المغرب الأقصى منذ 560 هـ ، فقد تبعتها ثورة كبيرة أخرى ، قادها سبع بن منحفاد وخلفه قبيلة غمارة وكانت هذه الثورة أخطر من سابقتها على دولة الموحدين ولذل خرج لهم الخليفة الموحدي على رأس جيوشه الجرارة للقضاء عليها وفي الثالث من شهر رمضان من سنة اثنين وستين وخمسمائة تمكن الموحدون من انزال الهزيمة بقبائل غمارة المنحازة إلى هذا الجبل . وكانت هذه الهزيمة سببا في دخول الكثيرين من غمارة في طاعة الموحدين وأصبحت قوات الموحدين تحرز انتصاراً بعد انتصار وتلاحق المتمردين من الثوار حتى استطاعت أن تلقي القبض على سبع بن منحفاد ثم قتل وصلب ليكون عبرة لغيره وكان ذلك في عام 562 هـ . وهكذا تمكن الموحدون من القضاء على الثورة التي هزت كيان دولتهم واضعفت قوتهم وأوهنت شوكتهم وبذلك الانتصار اضطرت كثير من القبائل المغربية الى الطاعة والإذعان لدولة الموحدين .
غير أن الموحدين ما كادوا يقضون على ثورتي صنهاجة وغمارة ، حتى التهبت ثورة أخرى في سنة ثالث وستين وخمسمائة (563 هـ) ، ووقعت بجبل تاسررت في المغرب الأقصى ونواحيه وجرد جيش موحدي قوي إلى الثوار ، بقيادة السيد أبي حفص عمر ، تمكن من إخماد الثورة والقضاء على رؤوسها .
بعد ذلك هدأت الأمور في دولة الموحدين بعض الوقت وهدأت البلاد ، سواء في المغرب أو الأندلس ، ودخلت دولة الموحدين في فترة من الهدوء عمها الإطمئنان والراحة ، فانتعشت الزراعة والصناعة وراجت الحركة التجارية.

رابعاً: الثورة في المنطقة الشرقية من المغرب الأقصى :
بسبب الظلم الذي تعرض له أهل قفصة في المغرب الأوسط اندلعت ثورة بن الرند في عام 575 هـ واستطاع علي بن المعز بن المعتز الرندي أن يتخلص من حكم الموحدين في قفصة وساعدته عدة أسباب في تحقيق هدفه منها ، ما فعله قراقوش التقوى من أعمال ضد سيطرة الموحدين ونجاحه في الإستيلاء على الكثير من البلاد من أيدي الموحدين وكان قراقوش هذا مرسل من قبل الأيوبيين في مصر لضم ما يمكن ضمه للدولة الأيوبية السنية الخاضعة للخلافة العباسية في بغداد وكما أن الإنشغال الذي حدث للموحدين بسبب الثورات في الأندلس والمغرب الأقصى شجع ابن الرند وأهل قفصة في السعي من اجل التخلص من الهيمنة الموحدية المتعصبة لمذهب وعقيدة ابن تومرت المنحرفة ، ولذلك اهتم الموحدون بأمر هذه الثورة ، وخاصة وأن قراقوش التقوى اشتهر صيته في أفريقية وقوي سلطانه وتحالفت معه قبائل من بني هلال وبني سليم ، فخشيت دولة الموحدين من اندلاع الثورات وانتشار اعمال التمرد ومن حدوث تحالف ثلاثي في المغرب الأوسط والأدنى بين ابن الرند وقراقوش وقبائل بني هلال وسليم ولذلك بادر خليفة الموحدن يوسف بن عبدالمؤمن بالخروج على رأس جيش من مراكش في عام 575 هـ واستطاع يوسف بن عبدالمؤمن أن يحتل قفصة في عام 576 هـ ثم أخذ الخليفة بعد ذلك في المرور على بعض ولايات أفريقية ومدنها ، ليتفقد احوالها ويطمئن عليها ، وبعد ان رتب الخليفة أمور افريقية رجع إلى قاعدة حكمه وبمعيته قائد ثورة التمرد على ابن الرند الذي لجأ الى الخليفة مستسلما وتائبا وطالبا للعفو عند حصار الموحدين لمدينة قفصة.
لقد ساهمت الثورات التي حدثت ضد دولة الموحدين في تشجيع ملوك وامراء الأسبان ، على الطمع في دولة الموحدين ، وأحيت فيهم روح القتال والحرب التي كادت تنتهي في عهد عبدالمؤمن بن علي ولذلك تجددت روح العداء للموحدين من جديد .

خامسا: غزو الخليفة الموحد لبلاد الأندلس :
لما استتب الأمر ليوسف بن عبدالمؤمن في بلاد المغرب ، انصرف إلى الجهاد في الأندلس وكان أول عبوره لمضيق جبل طارق إلى أسبانية في صفر سنة 655هـ/1171 م ، واستطاع ان يوجه ضرباته الشديدة الى إبن سعد بن مردنيش الذي توفى عام 567هـ فتنازل أبناؤه على أملاكهم كلها للموحدين، فتفرغ بذلك أبو يعقوب يوسف إلى حرب النصارى ، ومكث في الأندلس أربعة أعوام ، نظم خلالها عدة غزوات ضد النصارى ، حقق فيها نجاحات رائعة ، ثم عاد إلى مراكش عام 571هـ/1176م بعد أن بنى جامع أشبيلية، وأدخل الماء إليها وأقام جسرا على واديها .
واستمرت الحرب بين المسلمين والنصارى في الأندلس على شدتها ، برية وبحرية ولما رأى أبو يعقوب يوسف ضآلة النتائج التي أحرزتها قواته في جهاده ضد النصارى ، عبر إلى الأندلس في صفر 580 هـ / 1184م وصمم على قتال مملكة البرتغال التي كانت أشد الأعداء على المسلمين ووضع خطة تقضي أولا بمهاجمة مملكة البرتغال من البر والبحر ، ثم الزحف على ضفاف نهر التاجة إلى قلب مملكتي قشتاله وليون ، بينما تنشغل قوات اسلامية أخرى تزحف من الجنوب قوات النصارى القشتاليةوالليونية ، وساعده في تحقيق خطته حشوده الضخمة ، وقوى مسلمي الأندلس . سار أبو يعقوب يوسف على راس الجيش الرئيسي متجها إلى بطليوس ، معتزما حصار اشبونة ، وكان عليه قبل أن يتمكن من محاصرتها بنجاح ، أن يستولي على قلعة شنترين الواقعة على مقربة منها على ضفة نهر التاجة اليسرى ، وعلى ذلك فما كاد يعبر نهر التاجة بجيشه ، حتى ضرب الحصار حول قلعة شنترين مؤملاً أن تسقط في يده قبل مقدم الأسطول الذي خصص لمحاصرة أشبونة من جهة البحر.
وبعد أحد عشر يوما من حصار شنترين بدأ يضربها بآلات الحصار ولم تمض ثلاثة أيام على مهاجمة المدينة ، حتى استولى ابو يعقوب عليها ، خلا قلعتها ، وذلك في 22 ربيع الأول سنة 580 هـ ، وكان أبو يعقوب يتولى القيادة بنفسه معتبر القادة الذين معه آلات صماء لتنفيذ مشيئته ، وكان ذلك يسبب المرارة الشديدة في نفوس أولئك القادة المجربين ، فاعترضوا على تحويل المعسكر من شرقي شنترين إلى شماليها وغربيها ، حيث يتعرض الجيش بذلك إلى خطر التطويق من جانب الأعداء ولكن إرادة أبي يعقوب يوسف هي التي نفذت دون سواها ، فكان الخطر ولما دخل الليل أمر ابو يعقوب ولده إسحاق والي أشبيلة ان يبكر في صباح اليوم التالي بالسير في قوات الأندلس والقيام بالهجوم في اتجاه أشبونة، وذلك لكي يحمي الهجوم علىقلعة شنترين من التعرض للمفاجأة ، فهل وقع سوء فهم ، أم كانت ثمة فتنة؟
إن أبا إسحاق سار في الليل بدلا من أن يسير في الصباح ، وبدلا من أن يسير في اتجاه اشبونة عاد فعبر نهر التاجة وسار بقوات الأندلس في اتجاه اشبيلية وما كاد هذا النبأ يذاع بين بقية الجيش، حتى انتشر الإضطراب والروع في أنحاء المعسكر الإسلامي ، وتفاقم الأمر ، حيث زحف سانو إبن ملك البرتغال على شنترين ليلا في جيش يبلغ خمسة عشرة ألف مقاتل ، وفي تلك الأثناء كان ابو يعقوب قد شرع في تنفيذ خطته لمهاجمة مدينة الكوبازة ، بيد أنه حينما تحول بمعسكره إلى المواقع الجديدة ، ألقى بنفسه أمام الجيش البرتغالي وجها لوجه .
وكان تغيير مواقع المعسكر الذي أمر به أبو يعقوب ، خلافا لنصح قواده ، ووجود الجيش البرتغالي في مركز يهدد المسلمين ومسير القوات الأندلسية الى ما وراء نهر التاجة ، وهو ما بدا كأنه أمر غير طبيعي ، وأخيرا ذيوع نبأ ما لبث أن تأيد بمقدم جيش آخر من النصارى أعظم من سابقه ، كل هذه الأمور بثت في معسكر الموحدين نوعا من الرعب العام ، ترتب عليه ان غدت أوامر أبي يعقوب لا قيمة لها . وفي صباح اليوم التالي وصل جيش من النصارى يبلغ عشرين ألف مقاتل ، وانضم إلى جيش البرتغال الذي يقوده ولي العهد سانشو ، وبادر النصارى بمهاجمة الموحدين وهم في اضطرابهم واختلال نظامهم ، وساعدت حامية القلعة شنترين جيش النصارى بالخروج من القلعة ، ومهاجمة المسلمين ولما كان قسم كبير من الموحدين قد عبر نهر التاجة ، فإنه لم يبقى لدى أبي يعقوب سوى حرسه الخاص ، وقليل من القوات الأخرى، وقوافل العتاد والمتاع التي لم تستطع لحاقا بباقي الصفوف . ورأى زعيم الموحدين وهو يضطرم سخطا ، انه وقع ضحية خيانة ، أو ضحية سوء تفاهم، لقد وجد نفسه أمام الأعداء وخاض معركة كانت كفة النصارى فيها أرجح فقد قتل حرس أبي يعقوب وحمل ابو يعقوب على النصارى بسيفه وقتل ستة من الرجال ،واخيرا طعنه أحد النصارى بسيفه طعنة نافذة فسقط على الأرض ملطخا بدمائه.
ولما بلغ خبر اشتباك الخليفة مع النصارى رجع الأمير أبو اسحاق بقواته وهاجم بها النصارى وسالت دماء الفريقين غزيرة ، فتح المسلمون في نهايتها قلعة شنترين.
استشهد ابو يعقوب يوسف بن عبدالمؤمن في 12 ربيع الأول 580هـ/24أيار (يوليو) سنة 1184م وكانت مدة حكمه اثنين وعشرين عاما .
لقد حمل الجنود خليفتهم إلى اشبيلية ، وأرسل منها في تابوت إلى تينملل حيث دفن بجوار أبيه عبدالمؤمن.

سادساً: أسباب فشل أبي يعقوب يوسف في توحيد الأندلس :
لم يستطع السلطان يوسف عبدالمؤمن أن يحقق نصرا حازماً على النصارى في الأندلس لعدة أسباب منها :
1- لم تكن قيادة يوسف بن عبدالمؤمن قد وصلت الى درجة النضج العسكري والسياسي ولذلك نجده يحشد الجيوش الكبيرة التي تحتوي على عناصر مختلفة من قبائل بني هلال وسليم وقبائل الموحدين ومقاتلة الأندلس والجند الموحدي وليست لهذا الجيش خطة مرسومة يسير علهيا ، كما حدث عند غزوه لمدينة وبذة عام 567 هـ حيث كان قرار الغزو جاء متأخرا عن وقت وصوله الى الأندلس بقرار فردي من الخليفة الموحدي والذي كان هو صاحب الرأي النهائي والقاطع في إدارة قيادة الجيش وكان من سماته أخذه للقرارات بسرعة مذهلة وبدون ترو أحيانا فهو قرر ان تكون وجهة حملته الكبيرة مدينة ونده ، بمجرد اقتراح وفد شرق الأندلس ذلك عليه ، ثم انه اثناء مسيره الى وندة ، غير وجهة مسيرة الجيش لافتتاح حصني بلج والكرسي وذلك لمجرد اقتراح ابن همشك عليه بذلك .
2- ومما يعيب كفاءة خليفة الموحدين ، عدم تقديره للظروف وعدم قدرته على الوصول إلى هدفه من أيسر الطرق وعلى سبيل المثال ما حدث من رفضه لعرض أهل مدينة ونده تسليم مدينتهم مقابل حصولهم على الأمان وكان من المشرّف له أنه قبل هذا العرض وحصل على المدينة بدون أي جهد كان.
3- كانت للخليفة الموحدي ميولات فكرية طغت على الاهتمامات العسكرية والسياسية ولذلك نجد الخليفة الموحد بدلا من ان يكون مشرفا على تسيير دفة المعارك وهو القائد الوحيد والمسؤول الأول ، مشغولا بمناقشة مسائل فكرية لا تمت إلى المواقف العسكرية بصلة ، فعندما كانت جيوش الموحدين تحاصر مدينة وندة جاءه احد قادة الوحدين وطلب من الخليفة امداده ببعض الجند حتى يتمكن من احراز النصر ، لم يلتفت إليه واستمر في مناقشة تلك المسائل .
4- لم يكن ولاء المسلمين قوي لدولة الموحدين ولذلك كلما تحين فرصة للطعن فيها والثورة عليها يستغلهاخصومهم الذين تعرضوا للظلم والقهر من زعماء الموحدين .
5- انتشار الخيانة في اداء الواجب والتعدي على اموال الدولة من قبل الولاة في عهد يوسف بن عبدالمؤمن ولذلك اضطر الخليفة لمحاسبة الولاة ومعاقبة الجناة في الاموال التي اغتصبوها ونفيهم من البلاد ووصل الامر بالبعض إلى أن أنزل بهم عقوبة الإعدام ، لقد شمل ظلم الولاة الكثير من رعايا الدولة وتولدت قاعدة عريضة من المجتمع تعارض سياسة الولاة الظالمة القمعية وواصلوا جهادهم السلمي بمطالبة الدولة بمحاسبة بعض الولاة ، واضطر الخليفة لمحاسبة بعض مسؤولي الدولة ومن أشهر هذه الحوادث:
- محاسبة محمد بن أبي سعيد مسؤول الأعمال المخزنية في اشبيلية وثبتت عليه خيانته للدولة فصودرت أمواله وممتلكاته وامتحن في نفسه طويلا ثم ضرب عنقه وكان ذلك عام 573هـ.
6- انتشار الطاعون في المغرب والأندلس في زمن يوسف بن عبدالمؤمن في عام 571 هـ واستمر لمدة عام تقريبا ، بالمغرب الأقصى وامتد الى الاندلس وإلى المغرب الأوسط والأدنى. وقد قضى على الكثيرين من السكان وعلى بعض زعماء دولة الموحدين منهم أربعة من أبناء عبدالمؤمن بن علي . وقد أصيب الخليفة الموحدي نفسه وأخوه السيد ابو حفص عمر ، ولكنهما شفيا من المرض وعوفيا ، وكاد هذا المرض أن يقضي على من كان بدور الخليفة وأهله ، أما أهل مدينة مراكش فقد قضى على الكثيرين منهم وضاق المصلى بالموتى ، فأمر الخليفة بأن يصلى عليهم في عامة مساجد مراكش ، ونتيجة لهذا الوباء الفاتك ، فقد خيم جو من الكآبة والحزن على مراكش الزاهر ، ولم يعد يخرج منها أحد أو يأتي وافد إليها.
ومن كبار الشخصيات التي قضى عليها هذا الوباء الشيخ ابو حفص عمر بن يحي الهنتاتي . وهو أحد طبقة الجماعة ، ومن كبار الشخصيات التي ساهمت في إقامة دولة الموحدين وقد كان قادما من قرطبة إلى مراكش فأصيب في الطريق ومات عام 571هـ وكان لهذا الوباء الذي فتك بالكثيرين من أهل المغرب والأندلس ، اثره في اضعاف المعنويات ، وفي قلة الأيدي العاملة ، وتعطل التجارة ، وتوقف الحياة الزراعية والصناعية وقد ترتب على ذلك ازمة اقتصادية حادة كانت ذات اثر مادي ومعنوي سيء على الرعية وشجعت هذه الظروف العصيبة التي تمر بها دولة الموحدين ممالك وإمارات النصارى من النيل من الموحدين ولذلك نقضت تلك الممالك والإمارات المعاهدات التي بينها وبين الموحدين وأخذت تعبث في بلاد الأندلس بالفساد "وكان الناس من ضعف المرض لا يستطيعون الحركة" ونتيجة لهذه الظروف القاسية لم يستطع الموحدون ان يقوموا برد حاسم على التو والحين.


يتبع
[/frame]