[frame="1 10"]أبو يوسف يعقوب المنصور
أولاً اسمه وشيء من سيرته:
هو أبو يوسف يعقوب بن أبي يعقوب يوسف بن أبي محمد عبدالمؤمن بن علي، القيسي الكومي صاحب بلاد المغرب - كان صافي السمرة جداً، إلى الطول ماهو، جميل الوجه أفْوَهَ أعيْنَ شديد الكحل ضخم الأعضاء جهوري الصوت جزل الألفاظ، من أصدق الناس لهجة وأحسنهم حديثاً وأكثرهم إصابة بالظن، مجربا للأمور ولي وزارة أبيه، فبحث عن الأحوال بحثاً شافياً وطالع مقاصد العمال والولاة وغيرهم مطالعة أفادته معرفة جزئيات الأمور ولما مات والده اجتمع رأي أشياخ الموحدين وبني عبدالمؤمن على تقديمه فبايعوه وعقدوا له الولاية ودعوه أمير المؤمنين كأبيه وجده ولقبوه بالمنصور، فقام بالأمر أحسن قيام، وهو الذي أظهر أبهة الملك ورفع راية الجهاد ونصب ميزان العدل وبسط احكام الناس على حقيقة الشرع ونظر في أمور الدين والورع والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأقام الحدود حتى في أهله وعشيرته الأقربين كما أقامها في سائر الناس أجمعين، فاستقامت الأحوال في أيامه وعظمت الفتوحات.
ولما مات أبوه كان معه في الصحبة، فباشر تدبير المملكة من هناك، وأول مارتب قواعد بلاد الأندلس، فأصلح شأنها وقرر المقاتلين في مراكزها ومهد مصالحها في مدة شهرين
أ- اصلاحاته في منهج دولة الموحدين:
صرح زمن حكمه بعدم صحة الاعتقاد بعصمة بن تومرت وجالس الصلحاء والمحدثين ومال إلى الظاهر، وأعرض عن كتب المالكية، وأحرق مالا يحصى من كتب الفروع.
قال عبدالواحد بن علي: كنت بفاس فشهدت الأحمال يؤتى بها، فتحرق، وتهدّد على الاشتغال بالفروع، وأمر الحفاظ بجمع كتاب في الصلاة من "الكتب الخمسة" ، و "الموطأ" ، ومسند ابن أبي شيبة ومسند البزار وسنن الدّرا قطني وسنن البيهقي وكان يملي ذلك بنفسه على كبار دولته وحفظ ذلك خلق، فكان لمن يحفظه عطاء وخلعة .
وكان لايحب التعمق في آراء الفقهاء البعيدة عن الدليل، قال مرّة لعبدالواحد بن علي: (أنا انظر في هذه الآراء التي أحدثت في الدين، أرأيت المسألة فيها أقوال، ففي أيّها الحقُّ؟ وأيها يجب أن يأخذ به المقلد؟ فافتتحت أبين له، فقطع كلامي، وقال: ليس إلاّ هذا، وأشار إلى المصحف، أو هذا، وأشار إلى "سنن" أبي داود، أو هذا، وأشار إلى السيف قلت: والذي ينبغي للحاكم أن يوسع دائرة المذاهب، والاطلاع مادمت على أصول أهل السنة والجماعة وهذا مافعله السلطان الكبير والقائد الفذ نور الدين محمود زنكي حيث ترك مذاهب أهل السنة والجماعة تنشط في دعوتها ودعّم مدارس المالكية والحنابلة والشافعية مع كونه حنفياً واهتم بالمحدثين ووفر لهم مايحتاجون من أجل تبليغ رسالتهم وكذلك القرّاء والحفاظ وبذلك الفعل الجميل استطاع ان يجند أهل السنة والجماعة ضد الرافضة وضد النصارى وواصل السير بعد وفاته تلميذه المخلص صلاح الدين وتحققت الانتصارات الكبرى والفتوحات العظمى.
إن هذا التضييق الذي فعله أبو يوسف يعقوب الناصر وبعض حكام الموحدين جعل أسباب تفجر الثورات الداخلية متواجداً.
لقد نظر الموحدون الى الذين خالفوهم في ميدان العقائد والمبادئ نظرة معادية اتسمت بالحقد والكراهية، على انهم من غير أهل الإيمان فعاملوهم بقسوة بالغة، مما أثار لدى بعض العلماء والفقهاء موجة من الذعر والخوف ولعل أوضح مثال على هذه الحالة ماجاء على لسان الوهراني بعد سقوط دولة المرابطين بقوله: (لما تعذرت مآربي واضطربت مغاربي، ألقيت حبلي على غاربي، وجعلت من مذهبات الشعر بضاعتي من اخلاق الأدب رضاعتي).
وعبر الوهراني عن كرهه الشديد للموحدين من خلال جواب على سؤال حول رأيه في عبدالمؤمن بن علي الموحدي وأولاده وسيرته ببلاده فقال: (مؤيد من السماء خواض للدماء مسلط على من فوق الماء حكم سيفه في المعمم واعمله في رقاب الأمم.. ولو أن للعلم لساناً والورقة إنساناً لتألمت وتظلمت.. ولكن السكوت على هذا الحال أرجح ومسالمة الأفاعي أنجح".
وهذا أبو الوليد محمد بن عبدالله القرطبي، الذي يصف المقري أحواله في كتاب نفح الطيب بقوله: (وخرج من الفتنة بعد ما علا ذكره في قرطبة وأقام بالاسكندرية خوفاً من بني عبدالمؤمن بن علي ثم قال كأني والله بمراكبهم قد وصلت إلى الاسكندرية خوفاً من بني عبدالمؤمن بن علي ثم قال كأني والله بمراكبهم قد وصلت إلى الاسكندرية ثم سافر إلى مصر، وأقام بها مدة ثم قال فوالله مامصر والاسكندرية بمتباعدين، ثم سافر إلى الصعيد وحدّث بقوص بالموطأ ثم قال، ويصلون الى هذه البلاد ولايحجون ما أنا إلا هربت منه اليه، ثم دخل اليمن رآها قال: هذه أرض لا يتركها بنو عبدالمؤمن فتوجه إلى الهند، حيث ادركته منيته بها سنة 551هـ وقيل باليمن".
ولله درّ الإمام مالك في نصحه لأبي جعفر المنصور العباسي عندما أراد أبو جعفر أن يحمل الناس على الموطأ:
قال أبو مصعب: سمعت مالكاً يقول: دخلت على أبي جعفر بالغداة حين وقعت الشمس بالأرض، وقد نزل عن شماله إلى بساط، وإذا بصبي يَخْرج ثم يَرجع، فقال: أبو جعفر:- أتدري من هذا؟ قال: لا، قال: هو والله ابني وإنما يفزع من شيبتك، وحقيق أنت بكل خير، وخليق بكل إكرام، يقول مالك: وقد كان أدناني، وألصق ركبته بركبتي، فلم يزل يسألني حتى أتاه المؤذن بالظهر، فقال لي: أنت أعلم الناس، فقلت: لا والله يا أمير المؤمنين، فقال: بلى ولكنك تكتم ذلك، ولئن بقيت لأكتبن كتابك بماء الذهب، ثم أعلِّقه في الكعبة، وأحمل الناس عليه. فقلت: يا أمير المؤمنين لاتفعل، فإن في كتابي حديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وقول الصحابة، وقول التابعين، ورأياً هو إجماع أهل المدينة لم أخرج عنهم، غير أني لا أرى أن يعلق في الكعبة.
وفي رواية: يا أمير المؤمنين إنّ أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) تفرقوا في البلاد، فأفتى كلّ في مصره بما رآه "فلم يزل يُؤخذ عنهم كابراً عن كابر إلى يومنا هذا، فإن ذهبت تولَّهم عمَّا يعرفون إلى مالا يعرفون رأوا ذلك كفراً، فأقِرَّ كل أهل بلد على مافيها من العلم، وخذ هذا العلم لنفسك.
لقد كان عصر أبي يوسف يعقوب الناصر من أفضل عصور دولة الموحدين ولايمنع ذلك أن نعلق على بعض الأخطاء التي حدثت في فترته وإن كان الرجل استطاع أن يصلح بعض الانحرافات العقدية عن الموحدين مثل زعمهم العصمة لابن تومرت وينكر على من قدم كتبه على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ذكر الذهبي أن أبا يوسف يعقوب المنصور سأل الفقيه أبا بكر بن هاني الجياني ماقرأت؟ قال: تواليف الإمام - يعني ابن تومرت -، قال: فزوروني، وقال ماهكذا يقول الطالب! حكمك أن تقول: قرأت كتاب الله، وقرأت من السُّنة، ثم بعد ذلك قل ماشئت.
وكان مجلسه عامراً بالعلماء وأهل الخير والصلاح يقول تاج الدين ابن حموّية: دخلت مراكش في أيام يعقوب، فلقد كانت الدنيا بسيادته مجملة، يقصد لفضله ولعدله ولبذله وحسن معتقده، فأعذب موردي، وأنجح مقصدي، وكانت مجالسه مزينة بحضور العلماء والفضلاء، تفتح بالتلاوة ثم الحديث، ثم يدعو هو، وكان يجيد حفظ القرآن، ويحفظ الحديث، ويتكلم في الفقه، ويناظر، وينسبونه إلى مذهب الظاهر. وكان فصيحاً، مهيباً، حسن الصورة، تامَّ الخلافة، لايُرى منه اكفهرارٌ، ولا عن مجالسه إعراض، بزيِّ الزهاد والعلماء، وعليه جلالة الملوك، صنف في العبادات، وله "فتاوٍ" ، وبلغني أن السودان قدّموا له فيلاً فوصلهم، وردّه، وقال: لانريد أن نكون أصحاب الفيل وكان يجمع الزكاة ويفرقها بنفسه، وعمل مكتباً للأيتام، فيه نحو ألف صبيٍّ، وعشرة معلمون. حكى لي بعض عُماله: أنه فرق في عيد نيَّفا وسبعين ألف شاة.
وكان يهتم بطلاب العلم الذين يأتون من الآفاق وقال ذات مرة: يا معشر الموحدين، أنتم قبائل، فمن نابه أمرٌ، فزع إلى قبيلته، وهؤلاء - يعني طلبة العلم - لا قبيل لهم إلا أنا، فعظموا عند الموحدين.
وكان يجمع الأيتام في العام، فيأمر للصبي بدينار وثوب ورغيف ورمانة واهتم بالمرضى وبنى لهم مارستان وغرس فيه من جميع الأشجار، وزخرفه وأجرى فيه المياه، ورتب له كل يوم ثلاثين ديناراً للأدوية، وكان يعود المرضى في الجمعة.
يتبــع[/frame]
المفضلات