بارك الله فيكم

------------
12- وكان من أسبابه دعاوى ادعاها وما يزال يدعيها الملحدون عن التناقض بين الإيمان وحقائق العلم الطبيعي ، سلَّم بها كثير من المفكرين في الغرب ، وبدأت تجدها تتكرر من جيل إلى جيل ، وتنقل في كتاب بعد كتاب ؛ مع أنها لا تدل على شيء مما أراد لها مدعوها.

ليس هذا مكان تفصيل القول في هذه الدعاوى والرد عليها، لكن لنذكر منها على سبيل التمثيل:

أ- توهمهم أن الإيمان بوجود الخالق مرتبط بتصورات معينة للدنيا كانت شائعة عند الناس في أوروبا ، وأن العلم أثبت عدم صحة تلك التصورات ، فأزال بذلك الأساس الذي كان يقوم عليه ذلك الإيمان!

هذا مع أنه لا علاقة ضرورية بين الإيمان وبين تلك التصورات.

من أكثر ما يذكرونه في هذا المجال :

اعتقاد الناس فيما مضى بأن الأرض هي مركز الكون، وأن (كوبرنكس) جاء فأثبت أن الأرض إن هي إلا كوكب من كواكب عدة، وانه لا ميزة لها على سائر الكواكب والنجوم.

ينسى أصحاب هذا القول أن العلم الطبيعي ارتبط في أذهان كثير من أهله بتصورات للكون ما لبث العلم نفسه أن أبطلها.

ألم يكن كثير من العلماء الطبيعيين يتصورون أن الكون أزلي لا بداية له ولا نهاية، بل يعُّد هذا أمراً لازماً للنظرة العلمية حتى جاءت نظرية (الانفجار العظيم) فسببت لهم حرجاً عظيماً؟!

فإذا كان الدين سيُرفض لأن بعض التصورات قد ارتبطت عند بعض الناس به، وهي ليست بلازمة له لا عقلاً ولا نقلاً ؛ فليرفض العلم الطبيعي أيضاً لارتباطه في أذهان بعض أهله بتصورات تبين بطلانها.

زعم الفيزيائي المشهور (واينبيرج) – في كتاب له حديث (1) – أن المتدينين كانوا يظنون أن الأجرام السماوية ذات طبيعة سامية مختلفة عن طبيعة الأجرام الأرضية ، ولذلك كانوا يعتقدون أنها هي التي تدل على وجود الخالق:

" لكن الشمس وسائر النجوم فقدت مكانتها المتميزة ؛ فنحن نعلم أنها كرات من غاز ملتهب ، متماسك بفعل الجاذبية ، وممنوعة من التقوض بضغط يظل مستمراً بسبب الحرارة الناشئة عن المفاعلات الحرارية النووية الموجودة في قلب النجوم. إن النجوم لا تنبئنا عن عظمة الخالق بأقل ولا أكثر مما تنبئنا به الحجارة الموجودة على الأرض حولنا ".

-------------------
(1) Dreams of Final Theory, Weinbery. P. 193.
-------------------


ويقال لـ (واينبيرج) هذا وأمثاله:

على فرض أن بعض المتدينين كانوا يعتقدون أن الأجرام السماوية ذات طبيعة مختلفة عن المخلوقات لأرضية ؛ فمن الذي قال إن كل المؤمنين بوجود الخالق كانوا يعتقدون هذا الاعتقاد ؟!

وعلى فرض أنهم كانوا جميعاً يعتقدونه ؛ فمن الذي قال إن إيمانهم بوجود الخالق كان متوقفاً على مثل هذا التصور للأجرام السماوية ؟!

ما أكثر ما يتصور الإنسان الشيء ثم يجده على غير ما تصور فلا يؤثر ذلك في إيمانه ولا في ثقته بربه ، بل يعزو ذلك
إلى جهله ، ويَسرُّه أن الله هداه إلى هذا التصور الصحيح.

إن كل إنسان يمر عليه زمان وهو طفل يتصور السماء والشمس والقمر والنجوم على غير حقيقتها ، ثم يشب ويعلم أن هذه القبة الزرقاء ليست كما تصورها جسماً صلداً ، وإنما هي مجرد لون ، وأن الشمس والقمر والنجوم ليست بأحجامها البادية للعين بل هي أكبر من ذلك بكثير، فلا يدعوه ذلك لأن يتحول من الإيمان إلى الكفر؛ فلماذا إذن يكون خطؤه في تصوره لطبيعة الجرام السماوية داعياً لمثل هذا التحول ؟!

إن الملحد لا يتحدث هنا عن واقع مشاهد ، ولا عن لازم عقلي ، بل يعبر عن وهم توهمه ؛ وإلا لو كان الأمر كما زعم لما بقي على ظهر الأرض مؤمن ، ولما كان الناس محتاجين إلى العلم الطبيعي الحديث لينتقلوا من الإيمان إلى الكفر؛ لأنهم كانوا يكتشفون مثل هذه الأخطاء في تصوراتهم حتى قبل مجيىء هذا العلم.

ولو كان اكتشاف الإنسان : أن الأجرام السماوية هي غازات ملتهبة داعياً لأن يقول إن الله لم يخلقها !!
لكان يكفيه أيضاً للوصول إلى مثل هذه النتيجة أن يعلم مثلاً : أن الإنسان هذا برغم عقله ومواهبه وعواطفه وإنجازاته تمثل كمية الماء ستين بالمئة من جسمه !.




ب- ومنها توهمهم وجود تناقض بين فكرة الخلق وفكرة الأسباب:
أي أنه لكي يكون الشيء مخلوقاً لله فلا ينبغي أن تكون لحدوثه أسباب طبيعية ، فإذا اكتشفنا أسباب حدوثه الطبيعية كان هذا دليلاً على أنه لم يحدث بقدرة الخالق !!!

هذه فكرة غالطة رغم شهرتها وانتشارها بين الناس ، مؤمنهم وكافرهم ، في الشرق والغرب ، وعلى مدى تاريخ طويل !!

عرضنا بشيء من التفصيل لهذه القضية في الفصل الخامس من هذا الكتاب فيكفي أن نقرر هنا ما قرره علماء أهل السنَّة من أنه :
لا تناقض بين كون الشيء مخلوقاً وكون لحدوثه أسباب ؛ لأن الله تعالى من سُنَّته وعادته أن يخلق بالأسباب، ولأنه هو – سبحانه – خالق تلك الأسباب وجاعلها أسباباً.

قيل للنبي صلى الله عليه وسلم:
يا رسول الله !
أرأيت أدوية نتداوى بها، ورقى نسترقي بها ، وتقاة نتَّقيها، هل ترد من قدر الله شيئاً؟
قال: "هي من قدر الله" (1)
-----------------------
(1) أخرجه الترمذي، ك/ الطب، ب/ ما جاء في الرقى والأدوية، رقم 2065، وابن ماجه، ك/ الطب، ب/ ما أنزل الله داء إلا انزل له شفاء، رقم 3437، واللفظ له.
-----------------------

إن الغفلة عن هذه الحقيقة هي التي جعلت الملحدين يستطيلون على بعض المؤمنين ويتحدونهم كلما اكتشفوا لبعض الأحداث أسباباً لم تكن معروفة من قبل.

من ذلك ما يقوله صاحب هذا الكتاب في الفصل الذي خصصه للعلاقة بين العلم ووجود الخالق:

" بل إنه حتى القرن التاسع عشر كان تصميم النباتات والحيوانات يعد دليلاً بيناً على وجود الخالق.
ما تزال في الطبيعة أشياء لا حصر لها لا نستطيع تفسيرها ، لكننا نرى أننا نعرف المبادئ التي تحكم الطريقة التي تعمل بها. إن على من يريد السر الغامض الحقيقي اليوم أن يبحث عنه في مجال علم الفلك أو علم الجزئيات الصغيرة" (2).
----------------
(2) Dreams, p. 200.
----------------

يريد (واينبيرج) أن يقول لنا كما قال مئات الفلاسفة والعلماء الغربيين قبله:
إن السر الذي يعتمد عليه الإيمان يكشف – ويزول فتزول بزواله الحاجة إلى وجود الخالق !!– حين نستطيع تفسير حدوث الأشياء تفسيراً طبيعياً !!!
وأنه لم يبق هنالك اليوم من سر – أي : شيء ما زال العلم عاجزاً عن تفسيره – إلا في المجالين اللذين ذكرهما، فهما وحدهما اليوم ملاذ من يبحث عن سرٍّ يُرسي عليه إيمانه !!!

إنه لا تناقض بين كون الشيء مخلوقاً لله وكون لحدوثه تفسير طبيعي كما قدَّمنا، لكن غاية ما يبلغه العلم هو :

أن يفسر لنا الحدوث بأسباب ثانوية ،

أي أسباب هي نفسها بحاجة إلى أسباب.

ونحن محتاجون بلا شك إلى معرفة مثل هذه الأسباب في حياتنا اليومية، لكنها :

ليست الأسباب التي تفسر لنا وجود الأشياء تفسيراً نهائياً.


وهذا هو الموضوع الذي سنشبع الحديث فيه في بحثنا هذا بإذن الله تعالى.


يتبع ...