تحت تفسير قول الله عز وجل { وهم صاغرون } نقلت قولا لابن العربي فليراجعه من شاء ..

ثم قلت :

ولا يجب التشدق والتمسك بظاهر إجتهاد بعض اهل العلم مما فيه ما هو مخالف لأصل الإسلام في الإحسان وعدم الظلم مما يثبت منه الكثير في القرآن والسنة وليس المقام لذكرها وما ذكرته إنما هو إستنباطا من الكتاب والسنة بغير تقليد وقص ولصق أجوف عاري عن العلم والمعرفة مخالف للشريعة الغراء
فظن بعض الإخوة أني أنتصر لرأي وأرد أراء جميع العلماء السابقين وأني قد أسأت لهم بهذا القول فوجب عليا التفصيل في أمرين :

1- ما هو المعنى الغير مقبول من بعض العلماء ومن أنكره .
2- تفصيل معنى قوله تعالى { وهم صاغرون } .

1- ما هو المعنى الغير مقبول من بعض العلماء ومن أنكره :

نقل بعض المفسرين الآتي :
أن معنى صاغرون :
قال الكلبي : إذا أعطي يصفع قفاه وقال هو أن يؤخذ بلحيته ويضرب في لهزمتيه ويقال له أدِّ حق الله يا عدو الله .
وقيل : إنه يلبب ويجر إلى موضع الإعطاء بعنف . وغيره الكثير ..

وهذا هو المقصود من قولي أن هناك أقوال مخالفة للشريعة فهذا الذي نقلته وغيره مما لا يصح فيه دليلا معتبرا مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو الصحابة رضي الله عنهم جميعا في طريقة أداء الجزية بل إنه مخالف لما نص عليه الوحي المعصوم في الإحسان إلى غيرنا ممن سالمنا وعاهدناه ...

قال الله عز وجل :
{ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) }

فإن البر القسط وهو العدل يردان هذه الأقوال مطلقا لا سيما أن الدافع للجزية هو المُعاهد المُسالم ولو أنه غير مُسالم لما تقدم لدفع الجزية فكيف تؤخذ منه ثم يُصفع على قفاه ويجر من لحيته كما ورد عن البعض ؟؟!!!

بل صح عن النبي صلى الله عليه وسلم :
" ألا من ظلم معاهداً، أو انتقصه، أو كلفه فوق طاقته، أوأخذ شيئاً بغير طيب نفس منه، فأنا حجيجه يوم القيامة " رواه أبوداود وأحمد والبيهقي وصححه الألباني ..

قال القاسمي في محاسن التأويل :
الرابع : قال السيوطي أيضاً : استدل بقوله تعالى : { وَهُمْ صَاغِرُونَ } من قال إنها تؤخذ بإهانة ، فيجلس الآخذ ويقوم الذمي ويطأطئ رأسه ، ويحني ظهره ، ويضعها في الميزان ، ويقبض الآخذ لحيته ، ويضرب لهزمتيه .
قال : ويردّ به على النووي حيث قال : إن هذه سيئة باطلة . انتهى .
قلت : ولقد صدق النووي عليه الرحمة والرضوان ، فإنها سيئة قبيحة ، تأباها سماحة الدين ، والرفق المعلوم منه ، ولولا قصده الرد على من قاله لما شوهت بنقلها ديباجة الصحيفة .
ثم رأيت ابن القيّم رد ذلك بقوله : هذا كله مما لا دليل عليه ، ولا هو مقتضى الآية ، ولا نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا عن أصحابه ، قال : والصواب في الآية أن الصغار هو التزامهم بجريان أحكام الله تعالى عليهم ، وإعطاء الجزية ، فإن ذلك الصغار ، وبه قال الشافعي . انتهى .


2- تفصيل معنى قوله تعالى { وهم صاغرون } :

فسرها البخاري رحمه الله في تبويبه في الصحيح بأن الصغار : الذلة .

فنقول :
هل هي في فرض الجزية وتطبيق أحكام الإسلام عليهم مرغومين أم في أداء الجزية عن طريق أن يأتي المُعاهد مطأطأ الرأس ويصفع على قفاه ؟!

القول الأول هو ما ذهب إليه العلماء المُحققين والقول الثاني رفضوه كما بينا سابقا وإليك التفصيل :

نقل ابن المنذر في الأوسط عن الشافعي قال :
وَكَانَ الشَّافِعِي يَقُول: " سَمِعت عددا من أهل الْعلم يَقُولُونَ: الصغار أَنيجْرِي عَلَيْهِم حكم الْإِسْلَام، قَالَ الشَّافِعِي: وَمَا أشبه مَا قَالُوا بِمَا قَالُوا، قَالَ الشَّافِعِي: فَإِذا أحَاط الإِمَام بِالدَّار، فعرضوا عَلَيْهِ أَنيُعْطوا الْجِزْيَة على أَن يجْرِي عَلَيْهِم حكم الْإِسْلَام، لزمَه أَن يقبلهَامِنْهُم، وَلَو سَأَلُوهُ أَن يعطوها على أَن لَا يجْرِي عَلَيْهِم حكم الْإِسْلَام،لم يكن ذَلِك لَهُ، وَكَانَ عَلَيْهِ أَن يقاتلهم حَتَّى يسلمُوا، أَو يُعْطوا لْجِزْيَة عَن يَد وهم صاغرون، بِأَن يجْرِي عَلَيْهِم حكم الْإِسْلَام ". وانظر كتاب الأم

وقال ابن حزم في المحلى :
" وَقَالَ تَعَالَى حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ، عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ وَالصَّغَارُ هُوَ جَرْيُ أَحْكَامِنَا عَلَيْهِمْ، فَإِذَا مَا تُرِكُوا يَحْكُمُونَ بِكُفْرِهِمْ فَمَا أَصْغَرْنَاهُمْ بَلْ هُمْ أَصْغَرُونَا وَمَعَاذَ اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ "

وقال ابن عبد البر كما في التمهيد والاستذكار :
" وقال في كتاب الجزية لا خيار للامام ولا للحاكم اذا جاءه في حد الله عز و جل وعليه ان يقيمه عليهم في قول الله عز و جل ( حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ) التوبة 29 والصغار ان يجري عليهم حكم الاسلام وهذا القول اختاره المزني "

وقال ابن قيم الجوزيه :
قال ابن القيم في أحكام أهل الذمة :
" واختلف الناس في تفسير الصغار الذي يكونون عليه وقت أداء الجزية فقال عكرمة أن يدفعها وهو قائم ويكون الآخذ جالسا .
وقالت طائفة أن يأتي بها بنفسه ماشيا لا راكبا ويطال وقوفه عند إتيانه بها ويجر إلى الموضع الذي تؤخذ منه بالعنف ثم تجر يده ويمتهن .
وهذا كله مما لا دليل عليه ولا هو مقتض الآية ولا نقل عن رسول الله ولا عن الصحابة أنهم فعلوا ذلك والصواب في الآية أن الصغار هو التزامهم لجريان أحكام الملة عليهم وإعطاء الجزية فإن التزام ذلك هو الصغار
"

ولخص ذلك الشيخ أبو بكر الجزائري في أيسر التفاسير :
وهم صاغرون : أي أذلاء منقادون لحكم الإِسلام هذا .

فانقياد أهل الكتاب وغيرهم إلى أحكام الإسلام في الدولة الإسلامية وهي الأشياء التي يعتقدونها ولا يرغبون فيها ولكن يجب عليهم الإلتزام بها مادامو تحت راية الدولة الإسلامية هو الصغار بعينه وأن الدفع الجزية هو الصغار عينه وليس المقصود الصفع على القفا وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن انتقاصهم ..

طريقة أداء الجزية :

لم يصح فيها شيئا مرفوعا ولا عن الصحابة رضوان الله عليهم واجتهد العلماء فيها لكن أوجه الأقوال التي تُناسب نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن انتقاصهم وتُناسب أيضا عزة المسلمين هو ما نقلته عن ابن العربي وأكرره للفائدة :

قال ابن العربي في أحكام القرآن :
المسألة الثانية عشرة : شرط الله تعالى هذين الوصفين ، وهما قوله : { عن يد وهم صاغرون } ; للفرق بين ما يؤدى عقوبة وهي الجزية ، وبين ما يؤدى طهرة وقربة وهي الصدقة ، حتى قال النبي [ ص: 482 ] صلى الله عليه وسلم : { اليد العليا خير من اليد السفلى } .
واليد العليا هي المعطية ، واليد السفلى هي السائلة " ; فجعل يد المعطي في الصدقة عليا ، وجعل يد المعطي في الجزية صاغرة سفلى ، ويد الآخذ عليا ، ذلك بأنه الرافع الخافض ، يرفع من يشاء ويخفض من يشاء ، وكل فعل أو حكم يرجع إلى الأسماء حسبما مهدناه في الأمد الأقصى "
.

ولم يتفرد به ابن العربي وحده .. قال ابن القيم :
" قلت لما كانت يد المعطي العليا ويد الآخذ السفلة احترز الأئمة أن يكون الأمر كذلك في الجزية وأخذوها على وجه تكون يد المعطي السفلى ويد الآخذ العليا "

ونقل المفسرين عن عكرمة ما يشابهه :" أن يدفعها وهو قائم ويكون الآخذ جالسا "

هذا وإن كان من خطأ فمني ومن الشيطان والله ورسوله منه براء
وإن كان من توفيق فما توفيقي إلا بالله عليه توكلت .

والحمد لله رب العالمين
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين