Elqurssan, تحيةً طيبةً, وبعد:
لقد وقعت بما وقع به أمير المؤمنين, أبو حفص, عمر بن الخطاب t, وما وقع به أمير المؤمنين هو فصل الآية من سياقها؛ ذلك أنَّّه قال معقِّبًا على قول الله Y: ﴿وَفَاكِهَةً وَأَبًّا﴾, (عبس: 31). قال معقِّبًا: فقد عرفنا الفاكهة, فما الأبّ؟ ثم استدرك قائلاً: لعمرك يا بن الخطاب إن هذا لهو التكلف! وما عليك ألا تعرف لفظاً في كتاب الله؟!
إذن, عمر بن الخطَّاب عجز عن معرفة الأبِّ, ولو ربط اللفظة في سياقها القرآني لاهتدى إلى مدلولها؛ ذلك أنَّ القرآن ربط بين الفاكهة والأبِّ, ثمَّ علَّق عليهما مباشرةً بقوله: ﴿مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ﴾, (عبس: 32). فدلَّ سياق الآيات على معنى الأبِّ؛ فبما أنَّ الفاكهة متاع للإنسان, فالأبَّ متاع للأنعام. وعليه, فالأبُّ هو نبات الأرض مما يختص بالأنعام, وقد فسر ابن عباس هذه الآية في حضرة عمر, ولم ينكر عليه ذلك.
Elqurssan, هذا ما وقعت أنت به, فلقد فصلت الآيات عن سياقها القرآني, ولو عشت ظلالها, وتناولت معانيها, وتأملت لطائفها؛ لأدركت وشائجها وتناسقها وإحكامها, وصدق الله Y: ﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾, (هود: 1). وعليه, لا بدَّ من تناول الآيات المتعلقة بهذه الجزئية, وهي: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾, (البقرة: 30_33).
بعد تدبر هذه الآيات, ونشد لطائفها, والتنقيب عن دخائلها وسرائرها تنتهي إلى لمسات هذا الكتاب الإبداعية, كيف لا وهو كتاب لم تدرك سموَّه الفصحاء, ولم تداني آياته فصاحة البلغاء؟! خطاب الله بدأ بالملائكة: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ﴾, ثمَّ انتهى خطابه بخطابهم تارةً أخرى: ﴿قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾, ثمَّ ختم القصة بخطابهم: ﴿قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾, وهذه هي الحلقة التي فقدتها_ أيها (Elqurssan) _من تدبرك, مما جَعَلَتْكَ قاصرًا عن إدراك الترابط!!
لقد أخبر الله I ملائكته الأخيار بما عقد عليه العزم من جعله خليفةً في الأرض, فاعترض المكرمون بقولهم: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾؛ ذلك أنَّهم يعلمون أنَّهم هم المعصومون, وغيرهم غير معصوم, وانتفاء العصمة يقود إلى إفساد الأرض وسفك الدماء, وهم يظهرون بذلك علمهم, ولم يكتفوا بذلك, بل أظهروا فضلهم على غيرهم, فقالوا: ﴿وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾؛ أي: خاضعون لك, وقائمون على أمرك, وكان ممن قال ذلك إبليس, فقال الله لهم: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾, ثمَّ بدأ بإقامة الحجة عليهم؛ ذلك أن قولهم يَسْفُرُ فيه تفضيل أنفسهم على خليفة الله في الأرض, فأراد الله أن يحاججهم, وأن يقيم عليهم برهانه بدعواه: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾, فكانت الخطوة الأولى في طريق إقامة الحجة على الملائكة بعد الخلق هي تعليم آدم مسميات الأشياء, أي الذوات, فأراد الله أن يجرَّد الملائكة من كلِّ حجة يملكونها, فقال لهم: ﴿أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾, أي: إن كنتم صادقين في أنكم أفضل من خليفتي في الأرض, وأراد أمرين حسب السياق القرآني, ألا وهما: تعجيز الملائكة؛ ذلك أن أمره أمر تعجيز, وإظهار جهلهم؛ لإبراز خليفته عليهم في العلم, فردَّ الملائكة ردَّ أدبٍّ وتعظيم: ﴿سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾, فكان ردُّهم تصريحًا ببطلان دعواهم التي ادَّعوا, فأتت اللحظة لدحض حجتهم, فقال: ﴿يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ﴾, أي بالأسماء التي عجز المكرمون عن معرفتها, وقصر علمهم فيها, فلمَّا ظهرت عليهم الحجة, سألهم سؤال تقرير إقامة الحجة وصدق الدعوى: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾. إذن, رأينا أنَّ الله قد أجمل دعواه, فقال: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾, ثمَّ فصل دعواه, فقال: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾. وهذه هي طريقة المحاجة؛ فالإجمال يأتي قبل إقامة الحجة والبرهان, والتفصيل يأتي بعد تحقيق الدليل والسلطان؛ لأنَّه يصح للمدَّعِي أن يوقف المحجوج على غلطه, وأن يسمو عليه بسلطان برهانه؛ ذلكم بأنه للحق صولة وجولة!! بَيْدَ أنَّ الملائكة لا يمترون في أنَّ فعل الله حقٌّ وعدلٌّ وصدقٌّ, فهم ليسوا بحاجة إلى نصب البراهين, ويكأنَّ الله يعلِّم خليفته طريق المحاججة بحجاجه لملائكته!!
وعليه, لم يكن قوله: ﴿قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ...﴾ سؤالاً مختصًّا بهم من حيث جهلهم بالأسماء, بل هو مختص بهم من حيث كونهم فضَّلوا أنفسهم على خليفة الله, ورأوه غير جدير بخلافة الأرض أو هم أحقُّ بها وأهلها, فأقام الله عليهم حجته, ودفع دعواهم بإبانة زيفها, وأكَّد عليهم قوله في بادئ الأمر: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾, ليس غير.

أخي الكريم, أحبك الله الذي أحببتني فيه.