الداعي
عضو جميل


مقتبس من: أم هريرة في 21/11/2009, 21:35:38


ولكن بما أن القصة من وضع الزنادقة, لماذا يقول القرآن:



(وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آيَاتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)
أم هريرة, تحيةً طيبةً, وبعد:


يقول الله_ جل جلاله _في كتابه المحكم:" وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ", (الحج: 52). وقد ذكر بعض المفسرين قصة الغرانيق سببًا لنزول هذه الآية, وقد ردَّ ذلك المحققين؛ يقول الشنقيطي في كتابه (دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب):" وَعَلَى هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، فَسُلْطَانُ الشَّيْطَانِ بَلَغَ إِلَى حَدٍّ أَدْخَلَ بِهِ فِي الْقُرْآنِ، عَلَى لِسَانِ النَّبِيِّ_ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ _الْكُفْرَ الْبَوَاحَ، حَسْبَمَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ الْقِصَّةِ الْمَزْعُومَةِ.

فَالْجَوَابُ أَنَّ قِصَّةَ الْغَرَانِيقِ مَعَ اسْتِحَالَتِهَا شَرْعًا لَمْ تَثْبُتْ مِنْ طَرِيقٍ صَالِحٍ لِلِاحْتِجَاجِ، وَصَرَّحَ بِعَدَمِ ثُبُوتِهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ، كَمَا بَيَّنَّاهُ بَيَانًا شَافِيًا فِي رِحْلَتِنَا. وَالْمُفَسِّرُونَ يَرْوُونَ هَذِهِ الْقِصَّةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ طَرِيقِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْكَلْبِيَّ مَتْرُوكٌ.
وَلِذَا قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ إِنَّهُ لَمْ يَرَهَا مَسْنَدَةً مِنْ وَجْهٍ صَحِيحٍ. وَقَالَ الْعَلَّامَةُ الشَّوْكَانِيُّ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ: وَلَمْ يَصِحَّ شَيْءٌ مِنْ هَذَا وَلَا ثَبَتَ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ وَمَعَ عَدَمِ صِحَّتِهِ بَلْ بُطْلَانُهُ، فَقَدْ دَفَعَهُ الْمُحَقِّقُونَ بِكِتَابِ اللَّهِ. وَذُكِرَ عَنْ إِمَامِ الْأَئِمَّةِ ابْنِ خُزَيْمَةَ أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ مِنْ وَضْعِ الزَّنَادِقَةِ ، وَأَبْطَلَهَا عِيَاضٌ وَابْنُ الْعَرَبِيِّ الْمَالِكِيَّيْنِ وَالْفَخْرُ الرَّازِيُّ وَجَمَاعَاتٌ كَثِيرَةٌ).
وعليه, فليس ثمَّة ما يدفعنا إلى اعتماد هذه القصة المزعومة, ومن المعلوم أنَّ سبب النزول لا يصلح إن لم يثبت بطريق صحيح؛ لذا لم يصحَّ سبب نزول لآية الحج, فما هو تفسيرها؟

هذه الآية من الآيات المتشابهات, وهي على جهة التساوي. ولفظ (التمني) المقصود من قوله: (أمنيته) ظني الدلالة, يشمل معنيين, ألا وهما: القراءة والتلاوة, وحب الشيء والرغبة فيه. فمن المعنى الأول قول حسان بن ثابت:


تَمَنَّى كِتَابَ اللَّهِ أَوَّلَ لَيْلِهِ ... وَآخِرَهَا لَاقَى حِمَامَ الْمَقَادِرِ

وقول كعب بن مالك:


تَمَنَّى كِتَابَ اللَّهِ آخِرَ لَيْلِهِ ... تَمَنِّيَ دَاوُدَ الزَّبُورَ عَلَى رُسُلِ

فالتمني في البيتين بمعنى القراءة والتلاوة. ومن المعنى الثاني قول الله:" وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ", (القصص: 82). وتمنيهم هو: (يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ). وكذلك قوله:" فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ", (الجمعة: 6).
فإذا كان التمني المقصود هو القراءة والتلاوة, فإنَّ المعنى هو: وما أرسلنا من قبلك- أيها الرسول الكريم -من رسول ولا نبى إلا إذا قرأ شيئا مما أنزلناه عليه، ألقى الشيطان فى معنى قراءته الشبه والأباطيل؛ ليصد الناس عن اتباع ما يتلوه عليهم هذا الرسول أو النبى.
قال الآلوسى- رحمه الله -: والمعنى: وما أرسلنا من قبلك رسولا ولا نبيا، إلا وحاله أنه إذا قرأ شيئا من الآيات، ألقى الشيطان الشبه والتخيلات فيما يقرؤه على أوليائه، ليجادلوه بالباطل، ويردوا ما جاء به، كما قال- تعالى -:" وَإِنَّ الشياطين لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ", وقال- سبحانه -:" وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإنس والجن يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القول غُرُوراً". وهذا كقولهم عند سماع قراءة الرسول- صلى الله عليه وسلم -:" حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة والدم": إن محمدا يحل ذبيحة نفسه ويحرم ما ذبحه الله. وكقولهم عند سماع قراءته لقوله- تعالى -:" إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ": إن عيسى قد عبد من دون الله، وكذلك الملائكة قد عبدوا من دون الله.
والآية الكريمة:" لِّيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشيطان" على هذا التفسير واضحة المعنى. إذن المراد بما يلقيه الشيطان فى قراءة الرسول أو النبى، تلك الشبه والأباطيل التى يلقيها فى عقول الضالين، فيجعلهم يؤولونها تأويلا سقيما ويفهمونها فهما خاطئا.
وقوله:" فَيَنسَخُ الله مَا يُلْقِي الشيطان ثُمَّ يُحْكِمُ الله آيَاتِهِ والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ" بيان لسنته- سبحانه -التى لا تتخلف فى إحقاق الحق, وإبطال الباطل. فيزيل- سبحانه -بمقتضى قدرته وحكمته ما ألقاه الشيطان فى القلوب التى شاء الله لها الإيمان والثبات على الحق, ثم يحكم- سبحانه -آياته بأن يجعلها متقنة لا تقبل الرد، ولا تحتمل الشك فى كونها من عنده- عز وجل -والله عليم بجميع شئون خلقه، حكيم فى كل أقواله وأفعاله وتصرفاته.
ثم بين- سبحانه -بعد ذلك أن الحكمة فى إلقاء الشيطان لشبهه وضلالته هى امتحان الناس فقال:" ليَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشيطان فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ والقاسية قُلُوبُهُمْ". أي: فعل ما فعل- سبحانه -ليجعل ما يلقيه الشيطان من تلك الشبه فى القلوب فتنة واختبارا وامتحانا، للذين فى قلوبهم مرض. ثم بين- سبحانه -حكمة أخرى لما فعله الشيطان من إلقاء الشبه والوساوس فى القلوب فقال:" وَلِيَعْلَمَ الذين أُوتُواْ العلم أَنَّهُ الحق مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُواْ بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ". أي: وفعل ما فعل- سبحانه -ليعلم العلماء من عباده، الذين حبب- سبحانه -إليهم الإيمان، وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان، أن ما جاء به الرسل والأنبياء هو الحق الثابت من ربك، فيزدادوا إيمانا به (فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ)؛ فتخضع وتسكن وتطمئن إليه نفوسهم.
وإذا كان التمني المقصود هو حب الشيء والرغبة فيه, فإن المعنى هو: وما أرسلنا من قبلك- أيها الرسول الكريم -من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى هداية قومه إلى الدين الحق الذى جاءهم به من عند ربه، ألقى الشيطان الوساوس والشبهات فى طريق أمنيته؛ لكي لا تتحقق هذه الأمنية، بأن يوهم الشيطان الناس بأن هذا الرسول أو النبي ساحر أو مجنون، أو غير ذلك من الصفات القبيحة التى برأ الله- تعالى -منها رسله وأنبياءه.
يقول الله:" كَذَلِكَ مَآ أَتَى الذين مِن قَبْلِهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ قَالُواْ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَوَاصَوْاْ بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ". والآية الكريمة على هذا التفسير واضحة المعنى، ويؤيدها الواقع، إذ إن كل رسول أو نبي بعثه الله- جل جلاله -كان حريصا على هداية قومه، وكان يتمنى أن يؤمنوا جميعا، بل إن الرسول- صلى الله عليه وسلم -كاد يهلك نفسه همًّا وغمًّا بسبب إصرار قومه على الكفر.يقول الله:" فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ على آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث أَسَفاً", إلا أن قوم كل رسول أو نيى منهم من آمن به, ومنهم من أعرض عنه بسبب إغراء الشيطان لهم، وإيهامهم بأن ما هم عليه من ضلال هو عين الهدى.

وعليه, فقولك: (أفهم أن محمدا ندم على تصرفه وعالج الأمر بأن نسبه للشيطان وأخرج نفسه مثل الشعرة من العجين ..ولكن التاريخ لا يرحم) قول باطل عاطل, فهو لم يقم بشيء حتى يندم عليه, ولم يتهم حتى يجعل الشيطان شماعة, ويا ليتك تأملت قول الله:" ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ", فليس ثمَّة خدش لإحكام الآيات, فتأمَّلي.