الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم .. وبعد ،

فإن مما جرى على لسان الضيف في مداخلاته في النقطة السالفة أن يقرن دوماً بين " قوة الله و " قداسته " و " عدله " .. وهاكم مقتطفات من مداخلته الأخيرة فقط في النقطة الفائتة :
انه كمال عدله وقداسته
التوفيق بين قوة الله وعدله وقداسته وقدرته
ناقضا لعدله وتناقضا في العلم
وإن مما استرعى انتباهي حقاً في مداخلتيه في هذه النقطة إغفاله لفظة " عدله " تماماً مع إثباته لِدَتَيْها !
فسنطرح نصا وتعليما..ونناقش صلاحه او بطلانه..هل هو التعليم المثالي الذي يمثل كمال وقداسة الله .. ام لا
ونرى ايهما اكمل واصلح للبشر..وايهما يمثل كمال الله وقداسته...
ايهما تظن عزيزي البخاري تناسب قداسة الله الكاملة وبعده عن الشر ابتعادا كلياً وتوضح سمو تعاليمه الحقّة المثالية التي تمثل كمال صلاحه..
اما ما لا يليق بقداسة الله وكماله..
فليت شعري أين ذهبت لفظة "العدل" وصفة "العدل" الإلهي في هاتين المداخلتين ؟!

أجيبك أنا وأقول : لأنها الصفة التي تنقض عليك طرحك بأكمله .
ولقد كنت قبل الكتابة في هذه النقطة متردداً بين وازع للاحتجاج على أهلية النقطة للمناقشة ، ونازع للنفس في الكلام عن هذه النقطة بياناً للإعجاز التشريعي الذي لن تجده سوى في الإسلام .

أما ما أتيت به فلا تؤاخذني إن قلت إن
دعواك يغني بطلانها عن إبطالها ويغني فسادها عن إفسادها إذ تُناقض العقل السليم والفكر القويم والفطرة وثوابت الأخلاق والعدل الذي مناطه إعطاء كل ذي حق حقه .
قولك :
هنا يسمح الله للمسلم بارتكاب السيئة مثل السيئة التي تلقاها في رد السيئة
فأولاً : لفظ "ارتكاب" هو لفظ موهم ناجم عن مغالطة .. إذ إنه يوحي بغير مدلوله المراد ، بما يدل على البدء بالعدوان أو المبالغة فيه أو في رده ، وهو مرفوض تقوم عليه الحجة بالآيات البالغة الدلالة على عكس ذلك .
ثانياً : قولك فيه مغالطة أخرى .. إذ جملتك توحي بأن القصاص يقوم به أفراد الناس كلٌ حسب مراده ، وهو المرفوض أيضاً .. فأمر العقوبات والقصاص يقوم به الحاكم .. وبموجب شرع الله .
يقول الإمام القرطبي في تفسيره للآية 179 من سورة البقرة : ((
اتفق أئمة الفتوى على أنه لا يجوز لأحد أن يقتص من أحد حقه دون السلطان، وليس للناس أن يقتص بعضهم من بعض، وإنما ذلك للسلطان أو من نصبه السلطان لذلك، ولهذا جعل الله السلطان ليقبض أيدي الناس بعضهم عن بعض
)) .
كما جاء في الفقه الميسر على ضوء الكتاب السنة ج1 ص346 : (( ينفذ القصاص بحضور الحاكم -الإمام- أو نائبه، فهو الذي يقيمه ويأذن فيه؛ ليمنع من الجور فيه، ولإقامته على الوجه الشرعي، ودرءاً للفساد والتخريب والفوضى )) .

وبهذا تسقط أقوالك :
مع العلم ان من يرتكب الشر مرة..سيجعله هينا في عينه ويشجعه على تكرار ارتكاب الشر
ولكن توكيل الله القصاص لبشر غير كامل العلم..هو المرفوض
فكان تحليل الله للمسلم بارتكاب الشر في رد الشر
..
ثالثاً : قولك :
والخيار الثاني الذي يقدمه هو التسامح

فهذا قول مرفوض .
إذ إنه يوحي بإقرار الله أفضلية القصاص على العفو وهو معنى لم تأته الآية بحال ! ولو أنك تدبرت الآيات التي قبلها والتي بعدها لعلمت أن القصاص ذُكر في معرض المدح مرة ، والعفو ذكر في معرض المدح أخرى .. فالخياران في منزلة متكافئة لا يبغي أحدهما على الآخر .
﴿ وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)
قال الإمام القرطبي : (( قال ابن العربي: ذكر الله الانتصار في البغي في معرض المدح، وذكر العفو عن الجرم في موضع آخر في معرض المدح، فاحتمل أن يكون أحدهما رافعا للآخر، واحتمل أن يكون ذلك راجعا إلى حالتين، إحداهما أن يكون الباغي معلنا بالفجور، وقحا في الجمهور، مؤذيا للصغير والكبير، فيكون الانتقام منه أفضل. وفي مثله قال إبراهيم النخعي: كانوا يكرهون أن يذلوا أنفسهم فتجترئ عليهم الفساق. الثانية : أن تكون الفلتة، أو يقع ذلك ممن يعترف بالزلة ويسأل المغفرة، فالعفو ها هنا أفضل، وفي مثله نزلت ﴿ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وقوله: ﴿ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وقوله: ﴿ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ، قلت: هذا حسن )) فلو كلفت نفسك الرجوع للتفاسير أو قراءة الآيات كاملة لارتفع الإشكال .

وأما قولك :
وبما ان السيئة شر! فهنا يامر الله بارتكاب الشر في رد الشر.
فها هنا مغالطة أخرى هي التعميم والإطلاق ، ونسيت أن الأمر نسبي .. فرد اعتداء المعتدي لا يمكن أن يكون شراً إلا على المعتدي نفسه .. وهو ما يستحقه .
فلا يخفى على عاقل سويّ أن مجازاة السيء بمثل سوءه هو عين العدل الذي من شأنه إقامة المجتمع الصالح القويم ، ولا يطلق على المجازاة حينئذ أنها "شر" أو "سوء" إذ إن هدفها في النهاية هو الحفاظ على المصلحة العامة ، ولأن العقوبة حينئذ إنما قاعدة منطلقها هي العدالة التي لا يتأتى لعاقل أن يَسِمها بـ " الشر " بل حينئذ هي كل "الخير" .
وبهذا تسقط كل أقوالك الباقية التي تمنيت وأتمنى أن تقيم لها دليلاً من العقل أو الفطرة أو الواقع حتى .
ايهما تظن عزيزي البخاري تناسب قداسة الله الكاملة
قداسة الله الكاملة لا يمكن أن تناقض عدله ... فلا يمكن لقداسة الله الكاملة أن تمنعني من أخذ حقي ممن ظلمني واعتدى عليّ ، بل إن هذا عين قداسة الله الذي لا يرضى بالظلم ومن أسمائه "العدل" .

وأما قولك رداً على قولي : ((
الإسلام يأمر بالقصاص وينهى عن العفو)) :
لم أقل بتاتاً انه ينهي عن العفو..فاستمحيك عذراً ان لا تقولني ما لم اقل! بل ارجع لقولي ستجد انني قلت ان الاسلام طرح العفو ..بل انه اشاد به في بعض المواضع
فأشكرك عليه ... هذا ما أردته منك ، ولتنظر بعينك ولتتأمل عظمة التشريع الإسلامي ، الذي أتاح للمعتدى عليه أن يسترد حقه ممن اعتدى عليه بما يكفل إقامة العدل والعدل وحده ، أو أن يعفو عمن ظلمه وله أجره على الله ... فلم يمنعه عدله ، ولم يحرمه فضله .

والسلام ،