المحور الثاني: الخبر والإنشاء:


1- حد الخبر والإنشاء:
قال طرفة بن العبد:
وظلمُ ذوي القُرْبى أشَدُّ مَضَاضَةً ****** على المَرْءِ من وقْعِ الحُسامِ المُهَنَّدِ
وقال امرؤ القيس:
وليس غريبا مَنْ تَنَاءَتْ دِيَارُهُ ****** ولكنَّ مَنْ وَارَى الترابُ غريبُ
وقال أب يوصي ابنه:
«يا بُنيَّ، زاحِمِ العلماءَ بركبتيك, وأنْصِتْ إليهم بأذنيك، فإن القلب يحيا بنور العلم، كما تحيا الأرضُ المَيْتَةُ بمطر السماء»

تأمل المثال الأول تجد طرفة بن العبد يخبرك أن ظلم الأقارب أشد وقعا وتأثيرا من الضرب بالسيف القاطع الحاد، وهو في ذلك قد يكون صادقا، وقد يكون كاذبا، وصدقه وكذبه بعرض كلامه على الواقع، فإن أيده ووافقه، فهو صادق، وإن خالفه ورده، فهو كاذب.

وفي المثال الثاني يخبرك امرؤ القيس أن الغريب من الناس ليس ذاك الذي هاجر وطنه وأهله، وإنما الغريبُ من غَيَّبَهُ الموتُ، وهو في ذلك قد يكون صادقا، وقد يكون كاذبا، ويعرف صدقه من كذبه بعرض كلامه –أيضا- على الواقع.

وأما في المثال الثالث فالأب لا يخبر بحصول شيء أو عدم حصوله، وإنما ينادي ابنه، ويأمره بمزاحمة العلماء، والإنصات إليهم. وأنت في هذه الحال لا تملك أن تقول: إنه صادق في ندائه وأمره، أو كاذب.

وقد تتبع العلماء كلام العرب فوجدوه لا يعدو هذين النمطين. فالكلام، إذن، خبر وإنشاء. فما هو الخبر؟ وما هو الإنشاء؟

- الخبر: كلام يحتمل الصدق والكذب لذاته، أي بصرف النظر عن قائله، وبهذا نخرج الأخبار الواجبة الصدق ككلام الله عز وجل، وكلام نبيه صلى الله عليه وسلم، والحقائق البدهية المألوفة.
- الإنشاء: كلام لا يحتمل الصدق والكذب لذاته، أي بصرف النظر عما يستلزمه، فإن قولك: اغفر لي أمر يستلزم خبرا، وهو: أطلب منك المغفرة.
2- الغرض من إلقاء الخبر:
· قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم أخلاقا» ( رواه أحمد وأبو داود)
· وتقول لأحدهم:
«اشتريتَ أَمْسِ ثلاجة»
· وقال الله عز وجل على لسان موسى عليه السلام:
« رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ » ( القصص/ 24)
· وقال الله عز وجل على لسان زكرياء عليه السلام:
«رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا» (مريم/4)
· وقال الشاعر:

مَضتِ الليالي البيضُ في زمن الصِّبا **** وأتى المشِيبُ بِكُل يوم أسودِ

· وقال عمرو بن كلثوم:

إذا بلغ الفطامَ لنا صبيٌّ **** تَخِرُّ لهُ الجبابِرُ ساجِدينا

· وقال النابغة الذبياني:

فإنك شمسٌ والملوكُ كواكبُ **** إذا طلعتْ لم يَبْدُ مِنْهُنَّ كوكبُ

· وتقول لِعَاصٍ:
«إن الله شديدُ العقاب»
· وتقول لمن كذب:
«المؤمن لا يكذب»
· وتقول لصديق:
«فزنا ورب الكعبة!»

تأمل المثال الأول، تجد الرسول صلى الله عليه وسلم يقصد أن يفيد المخاطَبَ الحكمَ المتضمن في الخبر، وهو أن كمال الإيمان يحصل بحسن الخلق. ويسمى هذا الغرض الذي ألقي من أجله الخبر: فائدة الخبر.

وفي المثال الثاني يعرف المخاطِبُ أن المخاطَب عالِمٌ بالخبر إلا أنه يقصد أن يُعْلِمَهُ أنه هو –أيضا- عالم به. ويسمى هذا الغرض بلازم الفائدة.

وفي المثال الثالث لا يقصد موسى عليه السلام فائدة الخبر ولا لازم الفائدة، وإنما يسترحم ربه ويستعطفه، فهو مفتقر إلى فضله ونعمائه. ويسمى هذا الغرض الاسترحام والاستعطاف.

وفي المثال الرابع يظهر زكرياء عليه السلام ضعفه وافتقاره. ويسمى الغرض إظهار الضعف.

وفي المثال الخامس يتحسر الشاعر على ذهاب الشباب، ويسمى الغرض إظهار التحسر.

وفي المثال السادس يفتخر عمرو بن هند بشجاعة قومه، ويباهي بما لهم من القوة والمنعة التي جعلت الأعداء يهابون حتى الرضع، والغرض هو الفخر.

وفي المثال السابع يمدح النابغة النعمان بن المنذر ويشبه حاله وحال باقي الملوك بحال الشمس مع الكواكب، فالغرض هو المدح.

وفي المثال الثامن يقصد المتكلم تحذير المخاطب من عقاب الله لتماديه في المعصية، فالغرض هو التحذير.

وفي المثال التاسع يقصد المتكلم توبيخ هذا الكاذب، فالغرض هو التوبيخ.
وفي المثال العاشر يظهر المتكلم فرحه بالفوز، فالغرض هو إظهار الفرح.

الآن وقد عرفت أن الخبر يلقى لأغراض تختلف بحسب الأحوال والمقامات بإمكانك أن تستنتج أن للخبر غرضان أصليان هما: فائدة الخبر ولازم الفائدة. إلا أنه قد يخرج عن هذين الغرضين لأداء أغراض أخرى تفهم من سياق الكلام، ومن هذه الأغراض: الاسترحام والاستعطاف/ إظهار الضعف والافتقار/ إظهار التحسر/ الفخر/ المدح/ التحذير/ التوبيخ/ إظهار الفرح. وهناك أغراض أخرى كالهجاء، والعتاب، وتحريك الهمة...

3- أضرب الخبر:
تقول:
· زيدٌ قائِمٌ
· إنَّ زيدا قائمٌ
· إنَّ زيدا لَقائمٌ

لا شك أن قارئ هذه الجمل يظن للوهلة الأولى أن معناها واحد، فكلها تثبت القيام لزيد. فهل هي كذلك؟

الجواب أن ليست كذلك؛ وذلك أن المتكلم قصد في الأولى مجرد إثبات القيام، وفي الثانية دفع شك الشاك، وتردد المتردد، وفي الثالثة دفع حجود الجاحد، وإنكار المنكر. ولا شك أنه خاطب بالأولى الخالية من التوكيد مخاطبا خالي الذهن من الخبر، وبالثانية المؤكدة توكيدا خفيفا الشاك والمتردد، وبالثالثة الجاحد والمنكر. فلهذا تنوعت العبارة وإن كان المعنى متحدا في الظاهر.

فاعلم - رحمك الله – أن البلاغة تقتضي مخاطبة الناس على قدر حاجتهم، بلا زيادة ولا نقصان مع مراعاة أحوالهم. ومن هنا تنوعت أضرب الخبر؛ فكان منها الخبر الابتدائي، وهو الخبر الخالي من التوكيدِ المخاطَبُ به الخالي الذهن من الخبر، والخبر الطلبي، وهو الخبر المؤكد توكيدا خفيفا المخاطب به المتردد والشاك في مضمون الخبر، والخبر الإنكاري، وهوالخبر المؤكد توكيدا شديدا المخاطب به المنكر والجاحد لمضمون الخبر.
فائدة: يؤكد الخبر بأدوات كثيرة منها: إن، أن، القسم، لام الابتداء، نونا التوكيد، أحرف التنبيه، الحروف الزائدة، قد، أما الشرطية...

4- خروج الخبر عن مقتضى الظاهر:
· تقول لمن يعلم وجوب الصلاة، ولا يصلي:
«الصلاة واجبة»
· :
«ولا تُخاطِبْنِي في الذِينَ ظلموا إنَّهُمْ مُغْرَقُون» (هود/37)
· وقال سبحانه وتعالى:
«ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ» (المؤمنون/15)
· وتقول لمن يشك في انتصار الموحدين:
« النصرُ حَلِيفُ الْمُؤمنين»
· وتقول له أيضا:
«إنَّ النصرَ لَحَلِيفُ المؤمنين »
· :
«وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِد» (البقرة/163)

تدبر المثال الأول تجد الخبر خاليا من التوكيد، وقد عرفت أن هذا النوع من الخبر المسمى ابتدائيا يخاطب به خالي الذهن، لكنه هنا خوطب به من يعلم مضمونه، فخرج بذلك عن مقتضى الظاهر، إذ مقتضى الظاهر يقتضي أن يخاطب به الجاهل أو خالي الذهن. فلماذا آثر المتكلم تنزيل العالم بالخبر منزلة الجاهل به؟

لاشك أن عدم عمل هذا المخاطب بما علم جعله بمنزلة الجاهل فكانت صيغة الخبر توبيخا له على عدم عمله بمقتضى ما علم.
وفي المثال الثاني جاء الخبر مؤكدا توكيدا خفيفا، وهذا النوع من الأخبار يسمى طلبيا كما عرفت سابقا، وقد خوطب به نوح عليه السلام وهو لا يعلم ما سيحل بقومه، فثم تنزيل خالي الذهن منزلة الشاك لَـمَّا تقدَّم في الكلام ما يشير إلى حكم الخبر، وهو نهيُ الله عز وجل نوحا عليه السلام عن مخاطبته بشأن مخالفيه، فعلم أن خَطبا ما سيحل بقومه، فصار بمنزلة المتردد الشاك.

وفي المثال الثالث تجد المخاطبين غير منكرين لحتمية الموت، ومع ذلك خاطبهم الله عز وجل وكأنهم منكرون لهذه الحقيقة بخبر مؤكد توكيدا شديدا، مع أن لا أحد ينكر الموت على الإطلاق مؤمنا كان أو كافرا. فما السبب في ذلك؟

لا شك أن هذا الخبر الإنكاري اقتضاه ما هم عليه من انشغال بالحياة الدنيا، وعدم استعدادهم للآخرة، فأشبهت حالهم حال من ينكر الموت فأُنْزِلُوا منزلةَ المنكرين.

وفي المثال الرابع خوطب المتردد أو الشاك بخبر ابتدائي فُنُزِّلُ مَنْزِلَةَ خالي الذهن من الخبر. فما السبب في ذلك؟

إنه لما كان الخبر مما يُعْلَمُ يَقينُهُ بما ثبت في محكم التنزيل من أن التمكين للمؤمنين صار كالأمور المعلومة بالاضطرار، وكان الشاك فيه كالجاهل، خوطب خطاب الخالي الذهن. وكذلك الحال في المثال الخامس حيث ثم تنزيل المتردد منزلة المنكر إمعانا في التأكيد على أن الخبر مما لا يَسُوغُ إنكاره لِقِيَامِ الدليلِ على تحققه.

وفي المثال السادس خاطب الله عز وجل المنكرين لوحدانيته خطاب الخالي الذهن من الخبر، فَنَزَّلَهُمْ منزلة الجاهلين، لأن معهم من الأدلة والبراهين الساطعة ما لو تدبروه لرجعوا عن الإنكار إلى الإقرار.

وهكذا ينبغي أن تعلم -رحمك الله- أن الخبر قد يخرج عن مقتضى الظاهر لاعتبارات يقتضيها المقام، ومن ذلك:
1- تنزيل العالم بالخبر منزلة الجاهل.
2- تنزيل خالي الذهن من الخبر منزلة الشاك والمتردد.
3- تنزيل غير المنكر منزلة المنكر.
4- تنزيل المتردد منزلة خالي الذهن.
5- تنزيل المتردد منزلة المنكر.
6- تنزيل المنكر منزلة خالي الذهن.

انتهى الجزء الأول من المحور الثاني بفضل الله وكرمه.

ترقبوا مجموعة من التمارين المتعلقة بهذا الجزء



( المحور الخاص بالإنشاء سيجيء في وقته المحدد له إن شاء الله)



الليث الأغلب