دورة تكوينية في علوم البلاغة


مقدمة:

يقسم البلاغيون علوم البلاغة إلى ثلاثة أصناف: علم المعاني، وعلم البيان، وعلم البديع.
· علم المعاني: وهو العلم الذي " تعرف به أحوال اللفظ العربي التي بها يطابق اقتضاء الحال"[1] " بحيث يكون وفق الغرض الذي سيق له". "وموضوعه: اللفظ العربي من حيث إفادته المعاني الثواني التي هي الأغراض المقصودة للمتكلم"[2]. وذلك أن للألفاظ العربية معان أول، وهي ما يفهم من اللفظ بعد التركيب، ومعان ثوان، وهي الأغراض التي يساق لها الكلام، ألا ترى أن قولك: زيد قائم، يختلف عن قولك: إن زيدا قائم، وعن قولك: إن زيدا لقائم. فالمعنى الأول هو القيام في كل، لكن المتكلم قصد في المثال الأول مجرد الإخبار بالقيام، في حين قصد بالثاني نفي الشك والتردد، وفي الثالث نفي الإنكار والجحود، فهذه هي المعاني الثواني.
· علم البيان: وهو العلم الذي تعرف به كيفيات أداء المعنى الواحد، بطرق يغاير بعضها بعضا. ألا تراك تعبر عن سخاء السخي تارة بالحقيقة، فتقول: فلان سخي، وتارة بالتشبيه فتقول: فلان كالبحر جودا، وتارة بالاستعارة، كقول أبي الطيب المتنبي:

تعرض لي السحاب، وقد قفلنا *** فقلت: إليك! إن معي السحابا

· علم البديع: وهو العلم الذي تعرف به "المزايا التي تزيد الكلام حسنا وطلاوة، وتكسوه بهاء ورونقا، بعد مطابقته لمقتضى الحال".[3]
هذه توطئة أردنا من خلالها التعريف بعلم البلاغة، وإليكم الآن المحور الأول من هذه الدورة:

المحور الأول:


في معنى البلاغة والفصاحة:

ü الفصاحة:
· الفصاحة لغة:
جاء في معجم مقاييس اللغة:
«فصح: الفاء والصاد والحاء أصل يدل على خلوص في شيء ونقاء من الشَّوْب. من ذلك: اللسان الفصيح: الطليق، والكلام الفصيح: العربي، والأصل: أفصح اللبن: سكنت رغوته. وأفصح الرجل: تكلم بالعربية، وفصُح: جادت لغته حتى لا يلحنُ؛ في كتاب ابن دريد:" أفصح العربي إفصاحا، وفصح العجمي فصاحة، إذا تكلم بالعربية"، وأراه غلطا، والقول هو الأول. وحكى: فَصُح اللبن فهو فصيح، إذا أخذت عنه الرغوة... ويقولون: أفصح الصبح، إذا بدا ضوؤه»[4].
فمجمل المعاني التي ذكرت لهذا الأصل لا تعدو النقاء والصفاء، والبيان، والظهور. ومن ذلك قوله تعالى: «وأخي هارون هو أفصح مني لسانا». ومن ثم أمكننا القول: إن الفصاحة لغة هي: الصفاء والنقاء، والظهور. ولا شك أن هذا المعنى اللغوي يتداخل مع المعنى الاصطلاحي.
· الفصاحة اصطلاحا:
تأمل الأمثلة الثالية تعرف معنى الفصاحة:
1- قال أعرابي:

تركت ناقتي ترعى الهُعْجُعَ[5].

2- وقال عيسى بن عمرو النحوي، وقد سقط من على حماره فاجتمع عليه الناس:

مالَكُمْ تَكَأْكَأْتُمْ[6] علي، كَتَكَأْكُئِكُمْ على ذي جِنَّةٍ[7]؟ اِفْرَنْقِعُوا عني[8].

3- قال أبو النجم:

الحمد لله العلي الأجْلَلِ *** الواحد الفرد القديم الأول

4- قال الشاعر:

وقبْرِ حَرْبٍ بمكان قَفْرٍ *** وليس قُرْبَ قَبْرِ حَرْبٍ قَبْرُ

5- قال حسان بن ثابت رضي الله عنه:

ولو أن مجدا أخلدَ الدهرَ واحدا *** من الناس أبقى مجدُه الدهرَ مُطمِعا[9]

6- قال عباس بن الأحنف:

سأطلبُ بُعْدَ الدارِ عنكم لتقربُوا *** وتسكُبُ عيناي الدموعَ لِتجْمُدَا


تأمل المثال الأول تجد كلمة الهُعْجُع ثقيلة على اللسان لتنافر حروفها، ومن ثم استكرهوها، فعدوها غير فصيحة. وأما المثال الثاني فقد ذكر فيه عيسى ابن عمر النحوي كلمتين غريبتين هما: تكأكأ، وافرنقع، والغرابة كون الكلمة غير ظاهرة المعنى، أو غير مألوفة الاستعمال عند العرب الفصحاء، حتى يخفى معناها، فيحتاج فيه إلى التنقيب وكثرة البحث في المعاجم وقواميس اللغة المطولة. وقد تنتج الغرابة عن تردد الكلمة بين معنيين أو أكثر بلا قرينة تحدد المعنى المراد. وأما في المثال الثالث فقد استعمل أبو النجم كلمة الأجلل، وهي مخالفة للقياس اللغوي، إذ القياس يقتضي إدغام اللام في اللام. وأما في المثال الرابع فالكلمات كلها فصيحة إلا أن نظم بعضها إلى جوار بعض جعلها متنافرة، فثقلت على اللسان، فعد البيت غير فصيح لتنافر كلماته. وأما المثال الخامس فقد خفي المعنى بسبب ضعف النظم (التأليف) لخروجه عما يقتضيه نسق الجملة العربية من الترتيب بين الوظائف النحوية، فإن الضمير في (مجده) عائد على (مطمعا)، وهو متأخر لفظا ورتبة، والصواب خلاف ذلك. ومعنى البيت: «أنه لو كان مجد الإنسان سببا لخلوده في هذه الدنيا لكان (مطعم بن عدي) أولى الناس بالخلود، لأنه حاز من المجد ما لم يحزه غيره، على يد أصحاب الشريعة»[10] وأما المثال السادس ففيه تعقيد معنوي، وهو أن يكون «التركيب خفي الدلالة على المعنى المراد بحيث لا يفهم معناه إلا بعد عناء وتفكير طويل»[11]فقد جعل الشاعر جمود العين كناية عن قرب التلاقي، وهو معنى بعيد لم تألفه العرب في كلامها، بل جمود العين عندها دلالة على الصلابة والقسوة.

الآن وقد استأنست بهذه الأمثلة وعرفت مكامن العيب فيها تستطيع أن تستنتج أن الفصاحة تتناول الكلمة كما تتناول الكلام، وإليك البيان:
- فصاحة الكلمة:
يشترط في الكلمة لتكون فصيحة خلوصها من:
· تنافر الحروف
· الغرابة
· مخالفة القياس اللغوي
- فصاحة الكلام:
يشترط في الكلام ليكون فصيحا، فضلا عن فصاحة كلماته،خلوصه من:
· تنافر الكلمات
· ضعف التأليف
· التعقيد المعنوي
كما يوصف المتكلم أيضا بالفصاحة إذا أتى بكلام فصيح، وكان نطقه سليما. ولذلك سمي زياد الأعجم بالأعجم « لنقصان آلة نطقه عن إقامة الحروف، وكان يعبر عن الحمار بالهمار، فهو أعجم وشعره فصيح لتمام بيانه»[12]
ü البلاغة:
· البلاغة لغة:
جاء في معجم مقاييس اللغة:
« بلغ: الباء واللام والغين أصل واحد وهو الوصول إلى الشيء: تقول: بلغتُ المكان، إذا وصلت إليه. وقد تسمى المشارفة بلوغا بحق المقاربة، : «فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف»[الطلاق/2]. ومن هذا الباب قولهم: هو أحمق بِلْغٌ وبَلْغٌ، أي إنه مع حماقته يبلغ ما يريده. والبلغة ما يُتبلّغ به من عيش، كأنه يراد أنه يبلغ رتبة المكثر إذا رضي وقنع، وكذلك البلاغة التي يمدح بها الفصيحُ اللسان، لأنه يبلغ بها ما يريده، ولي في هذا بلاغ، أي كفاية.[13]
فالبلاغة، إذن، هي الوصول، وبلوغ المراد.
· البلاغة اصطلاحا:
وأما اصطلاحا فهي مطابقة الكلام لمقتضى الحال، مع فصاحته. وذلك بمراعاة أحوال المخاطَبين، ومقامات التخاطب، وقصد المخاطِب. فيكون الكلام على قدر الحاجة، من غير زيادة ولا نقصان، مراعيا تنوع المقامات والحوال، وما يقتضيه ذلك من تنوع العبارة؛ فمقام الشكر يباين مقام الذم، ومقام الجد يباين مقام الهزل. وهناك مواطن يحسن فيها الإطناب، وأخرى يحسن فيها الإيجاز، وثالثة يحسن فيها الإشارة والتلميح.. وإلى مثل هذا أشار الثعالبي في كتابه: «سحر البلاغة وسر البراعة»[14]بقوله:« ليست البلاغة أن يٌطال عنان القلم أو سنانه، ويٌبسط رهان القول أو ميدانه، بل هو أن يبلغ أمد المراد، بألفاظ أعيان ومعان أفراد، من حيث لا مزيد على الحاجة، ولا إخلال يفضي إلى الفاقة. البلاغة ميدان لا يقطع إلا بسوابق الأذهان، ولا يسلك إلا ببصائر البيان».
وقال أبو هلال العسكري في كتاب «الصناعتين»: «البلاغة كل ما تبلغ به المعنى قلب السامع فتمكنه في نفسه لتمكنه في نفسك مع صورة مقبولة، ومعرض حسن (وإنما) جعلنا حسن المعرض وقبول الصورة شرطا في البلاغة؛ لأن الكلام إذا كانت عبارته رثة، ومعرضه خلقا لم يسم بليغا، وإن كان مفهوم المعنى، مكشوف المغزى».[15]

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــ
[1] - السيد أحمد الهاشمي: جواهر البلاغة/دار الفكر 1414هـ/1994م/ص: 38.

[2] - نفسه/ ص: 39.

[3] - نفسه/ص: 308.

[4] - ابن فارس: معجم مقاييس اللغة/ باب الفاء والصاد وما يثلثهما/ مادة فصح/ج2/ص:356)

[5] - نبت ترعاه الإبل.

[6] - اجتمعتم.

[7] - مجنون.

[8] - انصرفوا.

[9] - مطمع: أحد رؤساء المشركين، وكان يدافع عن النبي صلى الله عليه وسلم.

[10] - جواهر البلاغة: هامش ص: 22.

[11] - نفسه/ص: 22


- أبو هلال العسكري: كتاب الصناعتين/ تحقيق الدكتور مفيد قميحة/الطبعة الثانية: 1409-1989/ دار الكتب العلمية: بيروت لبنان/ ص:17.[12]


[13] - معجم مقاييس اللغة/ الجزء 1/ باب الباء واللام وما يثلثهما في الثلاثي/ (مادة بلغ) ص: 156.


- مكتبة مشكاة الإسلامية (قرص مدمج)[14]



- كتاب الصناعتين/ ص: 19.[15]