الباب الأول

العقل أولاً ثم ننظر فيما يقال

شعرت بحاجة إلى أن أمسح عيونى وأنظم رموشها، ثم نظرت إلى أصابعى بعد ذلك فوجدت بينها بضعة أهداب عالقة، نفختها فطارت إلى حيث لا أدرى .
وما لبثت أن تساءلت : أين وقعت ؟ وكان الجواب : على الأرض حيث تفنى ..
ولكن المعانى تداعت : وما يدريك أنها ستأخذ دورة أخرى فى الحياة فتكون سماداً لحبوب متراصة فى سنبلة قمح أو كوز ذرة ؟
ولم تقف عند ذلك : لعلها تعود إلى كيان آخر لإنسان مثلى !
ترى ماذا ستكون فى هذا الكيان الجديد ؟!
.. رموشاً تظلل العين كما كانت عندى، أو عنصراً آخر فى عظمة وفحمة ؟
وزادت المعانى تداعياً : من الذى يشرف عليها فى هذه الرحلة ؟
إنه ليس إشراف علم ورقابة . إنه إشراف كينونة وتغيير وتنقيل من أعلى لأدنى أو من أدنى لأعلى ..
وزادت المعانى تداعياً : إن هذه الملاحقة الماسة لا تعنينى وحدى .. إننا ـ أبناء آدم ـ نبلغ قرابة أربعة آلاف مليون على ظهر هذه الكرة الطائرة، والخلاق العليم وراء كل قطرة دم تتدفق فى العروق، ومن وراء كل ثمرة تنبت فى الجلود والرءوس والجفون، من وراء كل زفير أو شهيق تعلو به الصدور وتهبط .. !!
ذاك فى كياننا المادى، أما فى كياننا المعنوى فقد تصورت هذا الإشراف الأعلى على هواجس الفكر فى الأدمغة، أدمغة الخلق فى كل قارة، فى كل شبر معمور، وعلى كل تيارات الحس المختلفة من حزن وسرور، من يأس أو رجاء، من نشاط أو استرخاء ..
عجباً ! أهو إشراف رقابة من بعيد ؟ كلا، إنه إشراف ملابس متغلغل من واهب الحياة ومسير الأحياء فى البر والبحر .
وزادت المعانى تداعياً : لكن هذه الأرض ليست حكراً لنا وحدنا . إن أصنافاً أخرى من الخلائق تعيش فوقها زاحفة أو طائرة لها أرزاقها ومساربها، ومستقرها ومستودعها، ويقظتها ومنامها .
.. والعناية المحيطة تمد أجنحتها لتشمل ما نرى وما لا نرى من ذلك كله، ثم ما عالم الجماد فى هذه الكرة المعلقة الطائرة فى جو السماء ؟
إن أغلب سطحها ماء مشحون بعوالم أخرى ! ومن تحت الماء وحوله يابسة تختفى فى قشرتها معادن خسيسة وكريمة .. !!
ترى بالضبط أين البترول الذى ينقبون عنه ولا يهتدون إليه ؟ وأين الذهب الذى تهيج له أعصاب، وتتحلب له أفواه ؟ إن الله وحده هو الذى يدرى ..
وتحت القشرة الباردة وما ضمت من رطب ويابس توجد نار مستعرة، وباطن ملتهب، ما هذا كله ؟
وعدت إلى نفسى وأنا فى هذه الجولة الفكرية لأتساءل : ثم ما نحن فى هذا العالم الكبير ؟
وسمعت الإجابة على هذا السؤال من رائد الفضاء الأمريكى الذى يقول :
" .. عندما وقع علي الاختيار لبرنامج الفضاء، كان بين أوائل الأشياء التى أعطيت لى كتيب صغير يحوى الكثير من المعلومات عن الفضاء، وكان بين محتوياته فقرتان تنطقان بضخامة الكون أثرتا في تأثيراً بالغاً ..
" ولكى ندرك هاتين الفقرتين يجب أن نعرف أولاً ما هى السنة الضوئية : إن الضوء يسير بسرعة تبلغ 300 ألف كيلو متر فى الثانية ـ أى ما يعادل الدوران حول الأرض حوالى سبع مرات فى الثانية ـ فإذا أطلقت هذا الشعاع من الضوء وجعلته يستمر لمدة عام فإن المسافة التى يقطعها ـ وتبلغ حوالى 9.5 مليون مليون كيلو تر ـ هى السنة الضوئية ! ..
" وإنى أقتبس هنا ما ورد فى الكتيب عن حجم الكون الذى نعيش فيه : ( عندما نذكر أن المجرة التى تضم كوكبنا يبلغ قطرها حوالى 100 ألف سنة ضوئية نشعر بدهشة، ولما كانت الشمس نجماً لا يعتد به يقع على مسافة حوالى 30 ألف سنة ضوئية من مركز المجرة، ويدور فى مدار خاص به كل 200 مليون سنة أثناء دوران المجرة فإننا ندرك مدى صعوبة القياس الهائل للكون الواقع وراء المجموعة الشمسية، بل إن الفضاء الذى يقع بين النجوم فى مجرتنا ليس نهاية هذا الكون، فوراءه ملايين من المجرات الأخرى تندفع جميعاً فيما يبدو متباعدة عن بعضها البعض بسرعات خيالية، وتمتد حدود الكون المرئى بالمجهر مسافة 2000 مليون سنة ضوئية على الأقل فى كل اتجاه ) ..
" إن هذا الوصف يظهر مدى ضخامة الكون الذى نعيش فيه ..
" ولنعد الآن إلى ما نعرفه عن تكوين الذرة وهى أصغر جسم حتى الآن فنجد أن هناك تشابهاً كبيراً بين الذرة ومجموعتنا الشمسية فى الكون ..
" ذلك أن هذه الذرات لها الكترونات تدور حول النواة بصورة منتظمة كدوران الأسرة الشمسية حول أمها الشمس ..
" والآن ماذا أريد أن أقول ؟ أريد التحدث عن نظام الكون بأسره من حولنا ..
" من أصغر تكوين ذرى إلى أضخم شىء يمكن تصوره .. مجرات تبعد ملايين السنين الضوئية، كلها يسير فى مدارات مرسومة محددة تضبط علاقة كل منها بالأخرى . فهل يمكن أن يكون ذلك كله قد حدث اتفاقاً ؟ ..
" أكانت مصادفة أن حزمة من نفايات الغازات الطافية بدأت فجأة فى صنع هذه المدارات وفقاً لاتفاقها الخاص ؟ ..
" إننى لا أستطيع تصديق ذلك .. بل إن ذلك مستحيل، والمؤكد أن ذلك تم وفق خطة مرسومة محددة .. وهذا واحد من الأشياء الكثيرة فى الفضاء التى تبين لى أن هناك إلهاً، وأن قوة ما قد وضعت كل هذه الأشياء فى مدارات وأبقتها هناك تؤدى وظيفتها العتيدة ..
" ولنقارن السرعة فى مشروعنا ( عطارد ) مع بعض هذه الأشياء التى نتحدث عنها : ..
" إننا نظن أحياناً أن المشروع على ما يرام، فقد بلغنا سرعة تصل إلى حوالى 29 ألف كيلو متر فى الساعة فى الدوران حول الأرض ـ أى حوالى 8 كيلو مترات فى الثانية ـ وهى سرعة كبيرة حقاً بالنسبة لمقاييسنا الأرضية، كما أنها سرعة مرتفعة إلى حد مناسب ونحن على ارتفاع يزيد قليلاً على 160 كيلو متر ..
" أما بالنسبة لما يجرى فعلاً فى الفضاء فإن مجهوداتنا هذه تعد ضئيلة جداً " ا.هـ .
وصدق رائد الفضاء فى كلمته تلك، فإن ما يصل إليه الإنسان بجهده وفكره شىء محدود القيمة بالنسبة إلى ما يقع فى العالم حوله، وأذكر أننى تجولت فى مصانع السكر، ورأيت الأنابيب الطافحة بالعصير، والأفران المليئة بالوقود، والآلات التى تغطى مساحة شاسعة من الأرض، لقد قلبت البصر هنا وهنالك ثم قلت : سبحان الله ! إن بطن نحلة صغيرة يؤدى هذه الوظيفة .. وظيفة صنع السكر دون كل تلك الأجهزة الدوارة والضجيج العالى !
وخيل إليّ أن المخترعات البشرية لا تعدو أن تكون إشارة ذكية إلى ما يتم فى الكون بالفعل من عجائب دون وسائط معقدة وأدوات كثيرة .
ولو أن البشر أرادوا بناء مصنع للف الحبات النضيدة فى سنبلة قمح بالقشرة التى تحفظ لبابها لاحتاج الأمر إلى حجرة كبيرة تحت كل عود !
لكن ذلك يحدث فى الطبيعة فى صمت وتواضع !
والمقارنة التى عقدناها هنا تجاوزنا فيها كثيراً، فإن الإنسان المخترع هو بعض ما صنع الخلاق، والمواهب الخصبة فيه بعض ما أفاء الله عليه ..
وكأنما أراد الله الجليل أن يعرف ذاته وعظمته للإنسان الذى أنشأه، فهداه إلى بعض المخترعات ؛ ليدرك مما بذل فيها كيف أن الكون مشحون بما يشهد للخالق بالاقتدار والمجد .
.. إن ميلاد برتقالة على شجرة أروع من ميلاد " سيارة " من مصنع سيارات يحتل ميلاً مربعاً من سطح الأرض . ولكن الناس ألفوا أن ينظروا ببرود أو غباء إلى البدائع لأنها من صنع الله، ولو باشروا هم أنفسهم ذرة من ذلك ما انقطع لهم ادعاء ولا ضجيج ..
إننى عرفت الله بالنظر الواعى إلى نفسى وإلى ما يحيط بى، وخامرنى شعور بجلاله وعلوه وأنا أتابع سننه فى الحياة والأحياء .
وبدا لى أن أستمع إلى ربى فى الوحى الذى أنزله .. إذ لا بد أن يكون هذا الوحى حديثاً ناضجاً بما ينبغى له من إعزاز وحمد !
كان أقرب وحى إلى هو القرآن الكريم لأننى مسلم، فلما تلوته وجدت التطابق مبيناً بين عظمة الله فى قوله، وعظمته فى عمله .
سمعته يقول :
" الله خالق كل شىء، وهو على كل شىء وكيل، له مقاليد السموات والأرض .. " [الزمر : 62، 63]
" الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تفيض الأرحام وما تزداد، وكل شىء عنده بمقدار، عالم الغيب والشهادة، الكبير المتعال .. " [الرعد : 8، 9]
" الله الذى جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصراً " [ غافر : 61 ]
" الله الذى جعل لكم الأرض قراراً والسماء بناء وصوركم فأحسن صوركم " [ غافر : 64 ]
" بديع السموات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة، وخلق كل شىء وهو بكل شىء عليم، ذلك الله ربكم، لا إله إلا هو خالق كل شىء وهو على كل شىء وكيل، لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار، وهو اللطيف الخبير " [ الأنعام : 101، 102 ]
وآيات أخرى كثيرة كثيرة، كلها شواهد على أن ما وقر فى نفسى عن الله بطريق العقل قد أيده النقل تأييداً مطلقاً، وجعلنى أستريح إلى الإسلام فكراً وضميراً .
ومع ذلك فإن حب الاستطلاع دفعنى إلى أن أطالع ما بأيدى الآخرين من كتب منسوبة إلى السماء، وقلت : ربما أضافت جديداً إلى ما عندى .
.. ومددت يدى إلى " الكتاب المقدس " وشرعت أقرأ بدء الخلق، وقصة الحياة كما رواها العهد القديم .
ولست أحب التجنى والإثارة، إننى سوف أذكر ما لدى من مقررات عقلية أيدتها النقول الإسلامية، ثم أضع بين يدى الناس وجهة نظر " العهد القديم " فى هذه القضايا، مكتفياً بنقل نصوص معروفة لدى أصحابها، ويستطيع كل امرىء أن يقرأها فى مظانها .
الله يتعب ويجهل ويندم ويأكل ويصارع
هل يمكن أن يتعب الله، وأن يأخذه الإعياء بعد عمل ما ؟
القرآن الكريم يجب على هذا السؤال : " أو لم يروا أن الله الذى خلق السموات والأرض ولم يعى بخلقهن بقادر على أن يحيى الموتى ؟ بلى إنه على كل شىء قدير " ( الأحقاف : 33 )
ومن البدائه أن يكون الخلاق الكبير فوق الإجهاد، وذهاب القوة : " وسع كرسيه السموات والأرض ولا يئوده حفظهما وهو العلى العظيم " ( البقرة : 255 ) .
ولذلك يقول مثبتاً هذه الحقيقة : " ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما فى ستة أيام وما مسنا من لغوب" ( ق : 38 )
لكن العهد القديم يذهب غير المذهب، ويصف الله فيقول :
" وفرغ الله فى اليوم السادس من عمله فاستراح فى اليوم السابع من جميع عمله الذى عمل، وبارك الله السابع وقدسه، لأنه فيه استراح من جميع عمله الذى عمل الله خالقاً " ( سفر التكوين : الاصحاح الثانى )
ودعك من الركاكة التى صيغت بها هذه العبارات، فقد يكون المترجم هابط الأسلوب فى التعبير عن معنى ما، لكنك لا تستطيع أن تفهم معنى آخر من هذا الكلام، إلا أن الله " استراح " من جميع أعماله فى اليوم السابع، هذه الأعمال التى أداها بوصفه خالقاً .
واليهود يحرمون العمل يوم السبت، ويقدسونه، وجاء فى التوراة أن موسى أمر بأن يقتل رجماً أحد الحطابين الذين أبوا إلا الكدح فى هذا اليوم !
كيف جرى الحديث عن الله بهذه الكلمات ؟ لعلها غلطة ناقل، لكن الحديث عن عجز الله تبعه حديث آخر عن جهله !!
واسمع إلى وصف العهد القديم لآدم وزوجه بعدما أكلا من الشجرة :
" وسمعا صوت الرب الإله ماشياً فى الجنة عند هبوب ريح النهار، فاختبأ آدم وامرأته من وجه الرب الإله فى وسط شجر الجنة، فنادى الرب الإله آدم وقال له : أين أنت ؟ فقال : سمعت صوتك فى الجنة فخشيت لأنى عريان فاختبأت . فقال : من أعلمك أنك عريان، هل أكلت من الشجرة التى أوصيتك أن لا تأكل منها ؟ .. " ( سفر التكوين : الاصحاح الثالث )
ما هذا ؟ كان الإله يتمشى فى الجنة خالى البال مما حدث، ثم تكشفت له الأمور شيئاً فشيئاً، فعرف أن آدم خالف عهده، وأكل من الشجرة المحرمة !
تصوير ساذج يبدو فيه رب العالمين وكأنه فلاح وقع فى حقله ما لم ينتظر !
ما أبعد الشقة بين هذا التصوير وبين وصف الله لنفسه فى القرآن العظيم : " ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه، ونحن أقرب إليه من حبل الوريد " ( ق : 16 ) " وما تكون فى شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهوداً إذ تفيضون فيه " ( يونس : 61 )
وقد أعقب هذا " الجهل الإلهى " قلق غريب، فإن الله يبدو وكأن ملكه مهدد بهذا التمرد الآدمى .
لقد أكل آدم من الشجرة ـ شجرة المعرفة ـ وارتفع بهذا العصيان إلى مصاف الآلهة فقد أدرك الخير والشر، وكان الرب عندما خلقه حريصاً على بقائه جاهلاً بهما .
ومن يدرى ربما ازداد تمرده وأكل من شجرة الخلد وظفر بالخلود، إنه عندئذ سوف ينازع الله حقه، إذن فليطرد قبل استفحال أمره .
جاء فى العهد القديم :
" وقال الرب الإله : هو ذا الإنسان قد صار كواحد منا عارفاً الخير والشر، والآن لعله يمد يده ويأخذ من شجرة الحياة أيضاً، ويأكل ويحيا إلى الأبد، فأخرجه الرب الإله من جنة عدن ليعمل الأرض التى أخذ منها، وطرد الإنسان وأقام شرقى جنة عدن الكروييم ولهيب سيف متقلب لحراسة طريق شجرة الحياة " ( التكوين : الاصحاح الثالث )
لكن سيرة آدم وأبنائه على ظهر الأرض لم تكن مرضية لله . إن منهجه فى الحياة ضل بالآثام والمتاعب، ولم يكن الله حين خلقه يعرف أنه سيكون شريراً إلى هذا الحد، لقد فوجئ بما وقع، ومن أجل ذلك حزن الرب وتأسف فى قلبه أن خلق آدم وأبناء آدم .. قال العهد القديم :
" فحزن الرب أنه عمل الإنسان، وأن كل تصور أفكار قلبه إنما هو شرير كل يوم، فحزن الرب أنه عمل الإنسان الذى خلقته، .. الإنسان مع بهائم ودبابات وطيور السماء، لأنى حزنت أنى عملتهم .. " ( التكوين : الاصحاح السادس )
الحق أننى أدهش كل الدهشة للطفولة الغريرة التى تضح من هذا الحديث الخرافى عن الله جل جلاله .
إن الإله فى هذه السياقات الصبيانية كائن قاصر .. متقلب .. ضعيف .
وما أشك فى أن مؤلف هذه السطور كان سجين تصورات وثنية عن حقيقة الألوهية وما ينبغى لها ..
وأول ما نستبعده حين نقرأ هذه العبارات أن تكون وحياً، أو شبه وحى ..
ومع ذلك فإن اليهود والنصارى يقدسون ذلك الكلام، ويقول أحد القساوسة : " الكتاب المقدس ـ يعنى العهدين معاً ـ هو صوت الجالس على العرش، كل سفر من أسفاره أو اصحاح من اصحاحاته أو آية من آياته هو حديث نطق به الكائن الأعلى ! " .
والمرء لا يسعه إلا أن يستغرق فى الضحك وهو يسمع هذا الكلام ! إنه إله أبله هذا الذى ينزل وحياً يصف فيه نفسه بالجهل والضعف والطيش والندم .
ونحن المسلمون نعتقد أن الكتاب النازل على موسى برىء من هذا اللغو، أما التوراة الحالية فهى تأليف بشرى سيطرت عليه أمور ثلاثة :
الأول : وصف الله بما لا ينبغى أن يوصف به، وإسقاط صورة ذهنية معتلة على ذاته " سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً " .
الثانى : إبراز بنى إسرائيل وكأنهم محور العالم، وأكسير الحياة، وغاية الوجود .. فهم الشعب المختار للسيادة والقيادة لا يجوز أن ينازعوا فى ذلك .
الثالث : تحقير الأمم الأخرى، وإرخاص حقوقها، وإلحاق أشنع الأوصاف بها وبأنبيائها وقادتها .
وقد تتخلل هذه الأمور بقايا من الوحى الصادق، والتوجيهات المبرأة، بيد أن الأسفار الشائعة الآن تغلب عليها الصبغة التى لاحظناها .
وها نحن أولاء نسوق الأدلة على ما قلنا مكتفين بالشواهد من سفر التكوين وحده، لأن الانتقال إلى غيره يطيل حبل الحديث .
فى هذا السفر أعلن الله ندمه على إغراق الأرض بالطوفان .
وقال لنوح : لن أرتكب هذه الفعلة مرة أخرى ! وسأضع علامة تذكرنى بذلك حتى لا أعاود إهلاك الحياة والأحياء، وهاك النص :
" وكلم الله نوحاً وبينه معه قائلاً : .. أقيم ميثاقى معكم فلا ينقرض كل ذى جسد أيضاً بمياه الطوفان، ولا يكون أيضاً طوفان ليخرب الأرض، وقال الله : هذه علامة الميثاق الذى أنا واضعه بينى وبينكم وبين كل ذوات الأنفس الحية التى معكم إلى أجيال الدهر، وضعت قوسى فى السحاب فتتكون علامة ميثاق بينى وبين الأرض، فيكون متى أنشر سحاباً على الأرض وتظهر القوس فى السحاب .. فمتى كان القوس فى السحاب أبصرها لأذكر ميثاقاً أبدياً بين الله وبين كل نفس حية فى كل جسد على الأرض .. " ( الاصحاح التاسع من سفر التكوين )
هذا هو التفسير لقوس قزح، وتحلل اللون الأبيض إلى عناصره المعروفة بألوان الطيف، كما شرح ذلك علماء الطبيعة .. قوس قزح هى قوس الله يبرزها فى الأفق إشارة إلى العهد الذى أخذه على نفسه كى لا يغرق الأرض مرة أخرى، إنه يرى هذه القوس فيتذكر، حتى لا يتورط فى طوفان آخر !!
ورأيى أن الطوفان القديم كان عقوبة لقوم نوح وحدهم، وأنه ليس غرقاً استوعب سكان القارات الخمس . فما ذنب هؤلاء المساكين ونوح رسالته محلية لا عالمية، اللهم إلا إذا كان المعمور يومئذ من هذا الكوكب ديار نوح وحسب .
وأياً ما كان الأمر، فإن وصف الله بالضيق لما ارتكب من إغراق الأرض، وتعهده ألا يفعل ذلك، أمر يليق بالخلق لا بالخالق .. بالناس لا برب الناس .
على أن هذه القصة أيسر من دعوة الله إلى ضيافة نبيه إبراهيم، لقد قدم الله فى شكل رجل مع اثنين من ملائكته، وأقام لهم إبراهيم وليمة دسمة، فأكلوا منها جميعاً !!
وكان إبراهيم حريصاً على إحراز هذا الشرف، شرف أن يأكل الله فى بيته، فلما لبى الله الدعوة أسرع الرجل الكريم فى إعداد مائدة مناسبة ! وهاك القصة كما رواها سفر التكوين :
" وظهر له الرب .. ونظر وإذا ثلاثة رجال .. وقال : يا سيد ( يقصد الله ) إن كنت قد وجدت نعمة فى عينيك فلا تتجاوز عبدك .. فأسرع إبراهيم إلى الخيمة إلى سارة وقال : اعجنى واصنعى خبز ملة، ثم ركض إبراهيم إلى البقر وأخذ عجلاً رخصاً وحيداً وأعطاه للغلام فأسرع ليعمله ثم أخذ زبداً ولبناً والعجل الذى عمله ووضعها قدامهم وإذا كان هو واقفاً لديهم تحت الشجرة أكلوا، وقالوا له : .. ويكون لسارة امرأتك ابن .. فضحكت سارة فى باطنها قائلة : بعد فنائى يكون لى تنعم وسيدى قد شاخ ! فقال الرب لإبراهيم : لماذا ضحكت سارة .. ؟ هل يستحيل على الرب شىء ؟ " ( الاصحاح الثامن عشر من سفر التكوين )
ونتجاوز هذه المائدة الدسمة التى أكل منها الرب وملائكته، لنقف بإزاء قصة أخرى من أغرب وأفجر ما اختلق الروائيون !!
القصة الجديدة تحكى مصارعة بين " الله " وعبده " يعقوب " !
.. وهذه المصارعة دامت ليلاً طويلاً، وكاد يعقوب يفوز فيها لولا أن الطرف الآخر فى
المصارعة ـ وهو الله !! ـ لجأ إلى حيلة غير رياضية هزم بعدها يعقوب !
ومع ذلك فإن يعقوب تشبث بالله وأبى أن يطلقه حتى نال منه لقب " إسرائيل " !!
ومنحه الله هذا " اللقب الفخرى " ثم تركه ليصعد إلى العرش ويدير أمر السماء والأرض، بعد تلك المصارعة الرهيبة !!
أى سخف هذا، وأى هزل ؟؟
أى عقل مريض أوحى بهذا القصص السفيه ؟؟
ولكن اليهود يريدون أن يرفعوا مكانة جدهم الأعلى، ولا عليهم أن يختلقوا ما يستغربه الخيال، وهاك القصة بأحرفها من سفر التكوين :
" فبقى يعقوب وحده وصارعه إنسان حتى طلوع الفجر، ولما رأى أنه لا يقدر عليه ضرب حق فخذه فانخلع حق فخذ يعقوب فى مصارعته معه، وقال : أطلقنى ! .. فقال : لا أطلقك إن لم تباركنى ! فقال له : ما اسمك ؟ فقال : يعقوب، فقال : لا يدعى اسمك فى ما بعد يعقوب بل إسرائيل .. وسأل يعقوب وقال : أخبرنى باسمك
فقال : لماذا تسأل عن اسمى ؟ وباركه هناك . فدعا يعقوب اسم المكان " فينيئل " قائلاً : لأنى نظرت الله وجهاً لوجه ونجيت نفسى .. لذلك لا يأكل بنو إسرائيل " عرق النسا " الذى على حق الفخذ إلى هذا اليوم لأنه ( الله ) ضرب حق فخذ يعقوب على عرق النساء !! " ( سفر التكوين الاصحاح : 32 )
.. نعم تخليداً لذكرى هذه المصارعة نشأ حكم فقهى بتحريم العمل يوم الراحة الإلهية .
وكم يفخر اليهود إذ كان أبوهم بهذه المثابة من القوة التى عاجزت الإله، وكادت توقع به الهزيمة !!
العهد القديم وافتراءاته على المرسلين بعد افتراءاته على ربهم
وهنا ننتقل إلى " الأمر الثانى " فى بناء التوراة وهو :
إفراد بنى إسرائيل بالنسب العريق، والعلاقة الفذة على حساب غيرهم من الأمم .
.. اليهود يكرهون العرب كما يكرهون غيرهم من الأجناس الأخرى فيجب أن تعتمد هذه الكراهية على أساس دينى يصبح العرب بعده ملعونين فى الأرض والسماء ..
فكيف يتوصلون إلى هذا الغرض ؟
إنهم يثبتون قصة طريقة يزعمون فيها أن نوحاً نبى الله والمدافع الأول عن دينه والناجى بأهله من الطوفان الطام العام، هذا النبى سكر من كثرة ما أفرط فى شرب الخمر، ثم استلقى على الأرض كاشفاً سوأته، وأن أحد أبنائه رآه كذلك فضحك منه وشهر به .
فلما أفاق نوح من سكرته، وعلم بما وقع، لم يخجل من نفسه وتبذله، بل استنزل لعنة الله على من سخر منه، وهاك النص :
" وشرب ( يعنى نوح ) من الخمر فسكر وتعرى فى خبائه، فأبصر " حام " أبو كنعان عورة أبيه، وأخبر أخويه خارجاً، فأخذ " سام " و " يافث " الرداء ووضعاه على أكتافهما ومشيا إلى الوراء، وسترا عورة أبيهما، فلما استيقظ " نوح " من خمره علم ما فعل ابنه الصغير، فقال : ملعون " كنعان "، عبد العبيد يكون لإخوته، وقال : مبارك الرب إله " سام "، وليكن كنعان عبداً لهم، ليفتح الله ليافث فيسكن فى مساكن سام وليكن " كنعان " عبداً لهم .. " ( تكوين : اصحاح 9 )
يقول " عصام الدين ناصف " : ومعنى ما تقدم أن الإسرائيليين الساميين يريدون أن يتخذوا الكنعانيين عبيداً لهم، وقد كان العدل والمنطق يقتضيان ذلك النبى الجليل ألا يصب تلك اللعنة الحامية على حفيده البرىء " كنعان " بل يصبها على ابنه الخاطئ " حام "، وأنى له ذلك والكنعانيون هم المقصودون بأعيانهم لأنهم أصحاب فلسطين التى لبث الإسرائيليون دهوراً يحلمون بها ويتوقون إلى غشيان مروجها الزاهرة وجنى زروعها الناضرة " .
أى أن مؤلف التوراة مهتم بتزكية بنى إسرائيل على حساب تجريح غيرهم، ومن ثم استنزل اللعنة على كنعان، حتى تبقى الشعوب المنسوبة إليه فى منزلة زرية .
ولا بأس من اختلاق سبب لهذه اللعنة تذهب فيه كرامة نبى ومكانته .
إذن ليشرب نوح الخمر حتى يفقد وعيه ويكشف عورته .
ثم ليدع على حفيده بما دعا به، والحفيد المسكين لا جريرة له .
المهم أن الكنعانيين أصبحوا جنساً ملعوناً لأن دعوة " السكران " مستجابة !!
وكما رأى كاتب التوراة أن يُسكر نوحاً ليصل إلى هذه النتيجة، رأى أن يُسكر لوطاً ليصل إلى نتيجة مشابهة.
إن تلويث الأنبياء شىء سهل على من هونوا الألوهية نفسها، ولكن مزور العهد القديم هنا بلغ من الإسفاف دركاً سحيقاً، فهو لم يكتف بأن جعل لوطاً سكيراً بل جعله عاهراً .
وبمن يزنى ؟ بابنتيه : إحداهما بعد الأخرى، فى ليلتين حمراوين، وهاك النص :
" .. فسكن ( يعنى لوط ) فى المغارة هو وابنتاه، وقالت البكر للصغيرة : أبونا قد شاخ، وليس على الأرض رجل ليدخل علينا كعادة كل الأرض ! هلم نسقى أبانا خمراً ونضطجع معه، فنحيى من أبينا نسلاً !! فسقتا أباهما خمراً فى تلك الليلة، ودخلت البكر واضطجعت مع أبيها، ولم يعلم باضطجاعها ولا بقيامها، وحدث فى الغد أن البكر قالت للصغيرة : إنى قد اضطجعت مع أبى، نسقيه خمراً الليلة أيضاً فادخلى اضطجعى معه، وقامت الصغيرة واضطجعت معه، ولم يعلم باضطجاعها ولا بقيامها، فحبلت ابنتا لوط من أبيهما، فولدت البكر ابناً، ودعت اسمه " موآب " وهو أبو الموآبيين إلى اليوم " ( تكوين : اصحاح 19 )
يقول عصام الدين حفنى ناصف : " وهذا هو مربط الفرس ! لقد عرف شعبا موآب وبنى عمون بصلابة الرأس وصعوبة المراس ..
" وما انفكا منذ القدم ينصبان لحرب بنى إسرائيل ويدحرانهم وينزلان بهم أكبر الخسائر ..
" فوجب على كتاب التوراة أن " يتلقحوا " عليهما [ أى يرمون الناس بالباطل ] ويطلقوا ألسنتهم فى أعراضهما ويلصقوا بهما أقبح المثالب " ..
وفى سبيل ذلك لا حرج على اليهود أن يسيئوا إلى نبى كريم، وأن ينسبوا إليه وإلى ابنتيه ما يتورع عنه الحشاشون والرعاع .
المهم عندهم أن يجرحوا أعداءهم، وأن يسقطوا أنسابهم، وأن يعتمدوا فى ذلك على وحى سماوى معصوم، لا يجرؤ على تكذيبه أحد !!
" وإن منهم لفريقاً يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب، ويقولون هو من عند الله، وما هو من عند الله، ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون " ( آل عمران : 78 )
يقول عصام الدين حفنى ناصف : " وصفوة القول أن كتاب التوراة لم يدونوا هذه القصص المسلسلة اعتباطاً، بل إنهم ابتدعوها ورتبوها ليصلوا بها إلى غاية لهم وضعوها نصب أعينهم، هى أن الله خلق الكون من أجل الأرض، وخلق الأرض من أجل بنى آدم، وأنه أباد بنى آدم وقطع دابرهم ما عدا نوحاً وبنى نوح، واستبقى هؤلاء ليختار من بينهم ساماً ثم يختار من حفدته إسرائيل وبنى إسرائيل " .
ولقد آمن بنو إسرائيل بهذه الخزعبلات، وانتفخت أوداجهم غروراً وتبجحاً فتوهموا أنهم شعب مقدس .
جاء فى سفر التثنية هذا النص : " لأنك أنت شعب مقدس للرب إلهك، إياك قد اختار الرب إلهك، لتكون له شعباً أخص من جميع الشعوب الذين على وجه الأرض " ( تثنية : 7 : 6 )
وهذا الاعتداد القوى بالجنس والشعب هون عند اليهود كثيراً من القيم والفضائل، فإن طمأنينتهم إلى شرف الأرومة، ونبل الجرثومة جعلهم لا يبالون شيئاً عندما يقولون أو يفعلون، فهم ـ على أية حال ـ " الأسباط " أولاد الأنبياء، وجلية الدنيا !!
ولا بأس عندهم من اقتراف الدنايا، أو افترائها ما دام ذلك يحقق ما يشتهون، والغية تبرر الوسيلة .
ولقد نظرت إلى قصصهم عن زيارة إبراهيم الخليل لمصر فرأيتهم بسهولة يصفون الرجل الكبير بأنه ديوث ! وفى سبيل حرصه على الحياة والمنافع الدنيئة يقدم امرأته إلى من يملكون النفع والضر ..
والتحقت زوجة إبراهيم ببيت فرعون الذى أهداه فى نظير ذلك بعض الغنم والحمير !!
قبحكم الله " إن إبراهيم كان أمة " ( النحل : 120 ) كان إنساناً يساوى الألوف من الرجال، وفى سبيل الله حارب الوثنية، وحطم الأصنام، وتعرض لنيران الجحيم، وربى جيلاً من الموحدين الحراص على مرضاة الله .
فهل هذا الرجل هو الذى يغرى امرأته بالذهاب إلى بيت فرعون من أجل الظفر بزريبة غاصة بالغنم والحمير ؟ لكن كاتب التوراة لم ير فى ذلك حرجاً، وهاك النص :
" .. وحدث لما قرب ـ أى ابرام ـ إلى مصر أنه قال لساراى امرأته : إنى قد علمت أنك امرأة حسنة المنظر، فيكون إذا رآك المصروين أنهم يقولون : هذه امرأته، فيقتلوننى ويستبقونك، قولى إنك أختى ليكون لى خير بسببك وتحيا نفسى من أجلك . فحدث لما دخل أبرام إلى مصر أن المصريين رأوا المرأة أنها حسنة جداً، ورآها رؤساء فرعون، ومدحوها لدى فرعون، فأخذت المرأة إلى بيت فرعون، فصنع إلى ابرام خيراً بسببها، وصار له غنم، وبقر وحمير وعبيد وإماء وأتن وجمال، فضرب الرب فرعون وبيته ضربات عظيمة .. فدعا فرعون ابرام وقال : ما هذا الذى صنعت بى، لماذا لم تخبرنى أنها امرأتك ؟ خذها واذهب " ( تكوين : 21 )
ولنتجاوز هذه القصة الهابطة إلى قصة أخرى عن يعقوب نفسه الأب المباشر لليهود، والذى أخذ لقب إسرائيل بعد معركة حامية مع الله نفسه ظلت ليلاً طويلاً، والذى سمى اليهود دولتهم القائمة على أنقاض العرب باسمه .
إن هذا النبى عندنا نحن المسلمين إنسان جليل نبيل، شارك أباه فى الدعوة إلى الله، ونبذ الوثنية، ورفع علم التوحيد وإقامة الملة السمحة " ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون " .
لكنه عند اليهود شخص محتال، سرق النبوة من أخيه البكر بطريقة منحطة .
ويظهر أن الفكر اليهودى يحسب النبوة ميراثاً دنيوياً يمكن الاستيلاء عليه بالشطارة والمهارة، وليست هبة عليا يمنحها رب العالمين من يصطفيهم من أهل الطهارة والنضارة .
وكان اليهود يخصون الابن البكر بالتركة كلها مادية كانت أو أدبية، وعلى هذا كان " عيسو " الابن الأكبر لإسحاق هو الذى سيرث اللقب والمال ـ مثلما كان يحكم القانون الإنجليزى ـ ولكن أم يعقوب تفاهمت مع ولدها على غير هذا، وانتهزت أن " عيسو " خرج ليحضر الطعام إلى أبيه المكفوف ثم نفذت خطتها، وهاك التفاصيل كما حكاها سفر " التكوين " .. تفاصيل سرقة نبوة !! :
" .. وكانت رفقة سامعة إذ تكلم إسحاق مع عيسو إبنه، فذهب عيسو إلى البرية كى يصطاد صيداً ليأتى به، وأما رفقة فكلمت يعقوب ابنها قائلة إنى قد سمعت أباك يكلم عيسو أخاك قائلاً : ائتنى بصيد واصنع لى أطعمة لآكل وأباركك أمام الرب قبل وفاتى، فالآن يا ابنى اسمع لقولى فيما أنا آمرك به : اذهب إلى الغنم وخذ لى من هناك جديين جيدين من المعزى فاصنعهما أطعمة لأبيك كما يحب، فتحضرها إلى أبيك ليأكل حتى يباركك قبل وفاته، فقال يعقوب لرفقة أمه : هو ذا عيسو أخى رجل أشعر وأنا رجل أملس، ربما يجسنى أبى فأكون فى عينيه كمتهاون وأجلب على نفسى لعنة لا بركة فقالت له أمه : .. اسمع لقولى فقط .. وأخذت رفقة ثياب عيسو ابنها الأكبر الفاخرة التى كانت عندها فى البيت، وألبست يعقوب ابنها الأصغر، وألبست يديه وملاسة عنقه جلود جديى المعزى .. فدخل إلى أبيه وقال : يا أبى فقال : ها أنذا، من أنت يا بنى ؟ فقال يعقوب لأبيه : أنا عيسو بكرك، قد فعلت كما كلمتنى، قم اجلس وكل من صيدى لكى تباركنى نفسك .. فقال إسحق ليعقوب : تقدم لأجسك يا بنى .. أأنت هو ابنى عيسو أم لا .. فجسه وقال : الصوت صوت يعقوب ولكن اليدين يدا عيسو .. فباركه .. وقال : .. فليعطك الله من ندى السماء ومن دسم الأرض .. لتستعبد لك شعوب وتسجد لك قبائل . كن سيداً لإخوتك، وليسجد لك بنو أمك، ليكن لاعنوك ملعونين ومباركوك مباركين " ( تكوين : 27 )
وهكذا تمت سرقة رسالة سماوية .
.. أنا أفهم أن تختطف الطائرات فى الجو، وأن تغتصب المناصب فى الأرض، أما أن يفرض شخص نفسه على الله، ويعتبر نفسه نبياً، ويحول رسالة سماوية إليه بطريق التدليس والنصب، فهذا هو العجب العجاب، ولكنه منطق مؤلفى العهد القديم .
ويظهر أن شريعة الاحتيال أخذت امتدادها فى التصرفات التى نسبها العهد القديم إلى يعقوب وأبنائه .
وأمامى الآن قصة زنا وقعت لابنة " يعقوب " !
وما أكثر قصص الزنا التى تقع فى بيوت الأنبياء، كما يفترى هؤلاء الأفاكون .
والقصة لفتاة اسمها " دينة " بنت يعقوب عليه السلام ! من إحدى زوجاته، أعجب بها ابن رئيس المدينة المجاورة واتصل بها، ثم رأى أن يجعل هذه العلاقة مشروعة، فلاطف الفتاة وقرر الزواج بها وكلم أباه كى يمضى فى إجراءات العقد ..
وذهب رئيس القبيلة يعرض على يعقوب مصاهرته . وتظاهرت الأسرة بقبول المصاهرة، وكانت شروط الصلح مقبولة، وطلب أبناء يعقوب من أصهارهم الجدد أن يختتنوا حتى يتم الزواج، وتتسع دائرة العلاقات بين بنى إسرائيل وأهل المدينة جميعاً .
وفى اليوم الثالث لإجراء الختان بين ذكور المدينة أغار أولاد يعقوب عليها وهى آمنة، فقتلوا الذكور كلهم وسبوا كل الأطفال والنساء ونهبوا ما وجدوه من ثروات .
ولم يذكر سفر التكوين أن يعقوب علق بشىء على هذه المأساة، بل يشتم من السياق أن المؤامرة تمت بموافقته.
وهكذا يفعل الأنبياء !!
إن مبدأ ( الغاية تبرر الوسيلة ) لم يؤخذ من الساسة " الزمانيين " .. إن مصدره من هنا، وإليك النص :
" وخرجت دينة ابنة ليئة التى ولدتها ليعقوب .. فرآها شكيم ابن حمور الحوى رئيس الأرض وأخذها واضطجع معها وأذلها، وتعلقت نفسه بدينة ابنة يعقوب، وأحب الفتاة، ولاطف الفتاة، فكلم شكيم حمور أباه قائلاً خذ لى هذه الصبية زوجة، وسمع يعقوب أنه نجس دينة ابنته .. فسكت حتى جاءوا ( أى أبناؤه ) [ ثم بعد أن عرض عليهم حمور مصاهرتهم ] .. فأجاب بنو يعقوب شكيم وحمور أباه بمكر ..، فقالوا لهما : لا نستطيع أن نفعل هذا الأمر : أن نعطى أختنا لرجل أغلف .. إن صرتم مثلنا بختنكم كل ذكر نعطيكم بناتنا ونأخذ لنا بناتكم .. واختتن كل ذكر .. فحدث فى اليوم الثالث إذ كانوا متوجعين ( أى بسبب الختن ) أن ابنى يعقوب : شمعون ولادى أخوى دينة أخذا كل واحد سيفه وأتيا على المدينة بأمن وقتلا كل ذكر وقتلا حمور وشكيم بحد السيف .. ونهبوا المدينة، وسبوا ونهبوا كل ثروتهم وكل أطفالهم ونساءهم وكل ما فى البيوت .. " ( تكوين : 34 )
أين شرف المعاملة فى هذه الروايات المليئة بالفسق وسفك الدم ؟
ولنا أن نسأل :
ـ كيف ضاع عرض ابنة نبى على هذا النحو الغامض ؟
ـ وإذا كان غلام أثيم قد اغتصبها كرهاً فلم لم يعاقب وحده ؟
ـ وإذا كان يعقوب وبنوه قد قبلوا إصلاح الخطأ بإتمام الزواج فلماذا أغاروا على المدينة، واستباحوها وأزهقوا أرواح الأبرياء، واسترقوا الأطفال والنساء ؟
ـ هل هذه سيرة أنبياء وأولاد أنبياء ؟ أم سيرة قطاع طرق ؟
لكن مؤلف التوراة وقر فى نفسه أن اليهود شعب مختار، فصور الألوهية والنبوة وعلاقة اليهود بالناس أجمعين على الصورة التى أبرزنا لك ملامحها، لم نستعن فى توضيحها إلا بالنصوص الواردة فى الكتاب المقدس !!
أكرهت نفسى على قراءة سفر التكوين بأناة، ثم تملكنى الضجر وأنا أقرأ الأسفار الأُخَر فاكتفيت بنظرات عابرة .
إن جمهرة الفلاسفة والعلماء المؤمنين بالله يرفضون كل الرفض أن يوصف بالانحصار والجهالة والتسرع، كما يرفضون كل الرفض أن يسىء اختياره لسفرائه إلى خلقه فلا يقع إلا على السكارى والمنحرفين .
بل إن عرب الجاهلية المشركين كانت نظرتهم إلى خالق الكون أرقى وأرحب .
وما أوخذوا به أنهم تزلفوا إليه بآلهة أرضية لا أصل لها يحسبون أنه أكبر أو أنهم أقل من أن يتصلوا به اتصالاً مباشراً .
أما وصف الله أو الحديث عنه بالعبارات المدونة فى العهد القديم فهو خبال فى الفكر يتنزه المولى الجليل عنه ..
بيد أن النصارى قبلوا هذه الأسفار على علاتها وجعلوها شطر الكتاب المقدس !
لماذا ؟ .. لأنها تخدم قضيتين تقوم عليهما النصرانية الشائعة :
الأولى : قضية تجسد الإله، وإمكان أن يتحول رب العالمين إلى شخص يأكل ويصارع ويجهل ويندم .. الخ .
الثانية : قضية أن البشر جميعاً أرباب خطايا وأصحاب مفاسد وأنهم محتاجون لمن " ينتحر " من أجلهم كى تغفر خطاياهم .
وقد رفض الإسلام كلتا القضيتين، وتنزل القرآن الكريم مفيضاً الحديث عن تنزيه الله وسعته وقدرته وحكمته وعلمه، كما أفاض الحديث عن الناس ومسئوليتهم الشخصية عما يقترفون من خير أو شر .
وذكر القرآن الكريم أن لله عباداً تعجز الأبالسة عن غوايتهم، وأنهم من نقاوة الصدر وشرف السيرة ورفعة المستوى بحيث يقدمون من أنفسهم نماذج للإيمان والصلاح والتقوى، تتأسى بها الجماهير .
" إن عبادى ليس لك عليهم سلطان . وكفى بربك وكيلاً " ( الإسراء : 65 )
فإن لم يكن نوح ولوط وإبراهيم ويعقوب من هؤلاء النبلاء الكرام فمن هم إذن الصالحون الفضلاء ؟
وإذا كان أنبياء الله سكارى وزناة ومحتالين فلماذا يلام رواد السجون وأصحاب الشرور ؟؟
ولا عذر للنصارى فى تصديق هذا اللغو، بل لا عذر لهم فى ادعاء أن الله ولد أو أن له ولداً، إلى آخر ما يهرفون به ..
أحياناً فى هدأة الليل أرمق النجوم الثاقبة وأبعادها السحيقة، ثم أتساءل : أليس بارئ هذا الملكوت أوسع منه وأكبر ؟ فكيف يحتويه بطن امرأة ؟
وأحياناً أرمق الأمواج ذوات الهدير وهى تضرب الشاطىء وتعود دون ملل أو كلل . إن أربعة أخماس الأرض مياه، ويبرق فى رأسى خاطر عابر، هل رب هذا البحر العظيم كان جنيناً فرضيعاً .. فبشراً قتيلاً ؟
وأهز رأسى مستنكراً وأنا أتلو هذه الآيات :
" قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون ؟ سيقولون لله، قل أفلا تذكرون "
" قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم ؟ سيقولون لله، قل أفلا تتقون "
" قل من بيده ملكوت كل شىء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون ؟ سيقولون لله، قل فأنى تسحرون " ( المؤمنون : 84 ـ 89 )
" ما اتخذ الله من ولد، وما كان معه من إله " ( المؤمنون : 91 )
" رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً " ..
* * * * *
.. فى هذا القرن المشئوم سقطت الخلافة الإسلامية، ونكست راية الإسلام، واختفت من الصعيد العالمى كل علاقة تشير إلى وجود سياسى لهذا الدين الحنيف ..
نعم كانت هناك أمم إسلامية كبيرة تنتشر على رقع واسعة من الأرض . لكن هذه الأمة لاذت بقومياتها الخاصة، ولبست أزياء مدنية مائعة، وأغلبها استبعد الدين من الحياة العامة، وأماته تربية وقانوناً ومسلكاً وشعاراً .
وربما سمح له بوجود فى بعض العبادات الفردية، لكن هذا الوجود مؤقت بطبيعته إلى أن تجرف تيارات الحياة الجديدة مخلفات الماضى البعيد ..
وفى الوقت نفسه، كانت تعاليم العهد القديم ـ التى سقنا لك مثلاً منها ـ تصنع أمة جديدة .
كان اليهود يتجمعون فى فلسطين ليقيموا مملكة " يهوه " على الأرض وفق مراسمهم الموروثة ..
وكانت الصليبية الحقود تعينها بما تملك من قوة، احتضنتنها أملاً مستبعداً، وما زالت ترعاها حتى جعلتها حقيقة قائمة ..
وهكذا أفلحت القوى الشريرة فى ضرب الحق، وتغيير معالم الدنيا، وقيل فى كل مكان : بدأت نهاية الإسلام تقترب ! يوشك أن يوارى فى الثرى !
شاهت الوجوه ! هم يحسبونها النهاية ونحن سنجعلها بداية الصعود كرة أخرى .
.. إن حقائق القرآن لن تتلاشى، والأساطير التى كذبت على الله وعلى الناس لن تخلد ..
.. إن الصراط المستقيم لن تطمس شاراته أو تضيع آياته، وعلى مسلمى الحاضر والقادم أن يواجهوا قدرهم ويؤدوا واجبهم ..
الأعداء كثيرون، والعوائق صعبة، والكفاح طويل، وربما صاح المرء وهو يودع محنة ويستقبل أخرى : أما لهاذ الليل من آخر ؟
إن الفجر سيطلع حتماً، ولأن يطوينا الليل مكافحين أشرف من أن يطوينا راقدين .
" من خاف أدلج، ومن أدلج نجا، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة " ( البخارى وغيره ).