الباب السابع
مع التيار الشيوعى والإلحادى


لا بد للإسلام من خطة إيجابية يواجه الغزو الثقافى بها
فى مواجهة التيارات الفكرية الهاجمة علينا أصدرت عدة مؤلفات تتحدث عن النظام الاقتصادى الإسلامى، كما تصورته من كتاب الله وسنة رسوله وتطبيقات الخلافة الراشدة، وكان يغلب علي ـ وأنا أقدم هذا التصور ـ أمران :
ـ اطلاع المثقفين المعاصرين من خريجى المعاهد المدنية على الجوانب المضيئة من تراثنا والمغنية عما سواها، حتى يكون تعلقهم بدينهم لا بغيره .
ـ ثم الإزراء على الأوضاع المعوجة السائدة، ورفض السناد الدينى الذى تنتحله لنفسها .
وأعترف بأنى تجوزت فى التعبير أحياناً، وقبلت بعض العناوين الشائعة " كالديمقراطية " فى ميدان الحكم " والاشتراكية " فى ميدان الاقتصاد، لا لإعجابى بهذه العناوين، ولكن لأجعل منها جسراً يعبر عليه الكثيرون إلى الإسلام نفسه، أى أنى أريد نقل " الديمقراطيين " و " الاشتراكيين " إلى الإسلام بعدما أوضحته وأبرزت معالمه، لا أنى أريد صبغ الإسلام بصبغة أجنبية أو نقله إلى مذاهب مستوردة ..
وقد جاء من بعدى الأستاذان " سيد قطب " و " مصطفى السباعى " ـ عليهما رحمة الله، فألف الأول " العدالة الاجتماعية فى الإسلام "، وألف الأخير " اشتراكية الإسلام " وهما يقصدان ما قصدت إليه من رد المفتونين بالمبادئ الجديدة إلى مواريث أسمى وأغنى ..
وربما كان ما كتباه أفضل مما كتبته أنا وأكثر تنظيماً .
وعذرى أننى كنت رائداً تدمى أظافرى فى الاكتشاف والتدوين، فإذا جاء من بعدى ووجد حقائق ممهدة كان على تنسيقها أقدر وعلى صوغها أدق !!
ومما لا ريب فيه أن الإسلام دين تنهض دعائمه الأولى على الإيمان بالله واتباع ما أوحاه إلى رسوله الخاتم محمد ، وأن عقائده وعباداته ليست مجال أخذ ورد .
لكن " نظام الحكم والمال " فيه يعتمد على نصوص محدودة، ثم على قواعد وأقيسة ومبادئ ومصالح كثيرة ..
وقد جمد " الفقه الدستورى " لدينا من أعصار بعيدة، ثم جمد بعده " فقه الفروع " منذ أغلق باب الاجتهاد حتى فتحه أناس ليسوا موضع طمأنينة ..
كان رجال القانون فى أوربا وأمريكا ـ منذ قرنين ـ يضعون الدساتير التى تقيد الملوك والرؤساء، وتبرز سلطات الأمم فى وجه الحاكم الفردى المطلق .
أما نحن فكان المطلوب منا أن ندعو إلى الإسلام .. وحسب، والذين يشمئزون من كلمة " ديمقراطية " لا يفكرون فى القيام بجهد عملى بنقل " الشورى " الإسلامية من ميدان الفكر النظرى المطلق إلى قوانين دقيقة تنصف الجماهير العانية وتضبط سلطات الولاة على اختلاف ألقابهم .
ونحن نسمى هذا التزمت بلادة، وربما اتهمنا بواعثه النفسية، وإذا كان أصحابه مخلصين فهو إخلاص " الدبة " التى قتلت صاحبها، وقد أصاب الإسلام أعظم الضرر من هؤلاء !!
تأمل فى هذه القصة التى ذكرها الشيخ الكبير محمد رشيد رضا قال :
إن الخديوى إسماعيل استدعى رفاعة الطهطاوى وخاطبه :
" يا رفاعة، أنت أزهرى تعلمت فى الأزهر وتربيت به، وأنت أعرف الناس بعلمائه، وأقدرهم على إقناعهم بما ندبناك له .. إن الفرنجة قد صارت لهم حقوق ومعاملات كثيرة فى هذه البلاد، وتحدث بينهم وبين الأهالى قضايا، وقد شكا الكثيرون إلىّ أنهم لا يعلمون أيحكم لهم أم عليهم فى هذه القضايا ؟ ولا يعرفون كيف يدافعون عن أنفسهم .. لأن كتب الفقه التى يحكم بها علماؤنا معقدة وكثيرة الخلاف، فاطلب من علماء الأزهر أن يضعوا كتاباً فى الأحكام المدنية الشرعية تشبه كتب القانون فى تفصيل المواد واطراح الخلاف، حتى لا تضطرب أحكام القضاة، فإن لم يفعلوا وجدتنى مضطراً للعمل بقانون " نابليون " الفرنسى !! " ( فى كتاب تاريخ المحاكم المختلطة والأهلية للأستاذ عزيز خانكى، وتسمى الآن المحاكم الوطنية، والنقل عن مجلة " المسلم " )
قال رفاعة الطهطاوى ـ مجيباً الخديوى ـ : يا أفندينا : إنى سافرت إلى أوربا، وتعلمت فيها، وخدمت الحكومة، وترجمت كثيراً من الكتب الفرنسية، وقد شخت، وبلغت إلى هذه السن، ولم يطعن فى دينى أحد، فإذا اقترحت الآن هذا الاقتراح بأمر منكم طعن علماء الأزهر فى دينى، وأخشى أن يقولوا : إن الشيخ رفاعة ارتد عن الإسلام آخر عمره ؛ إذ يريد تغيير كتب الشريعة وجعلها مثل كتب القوانين الوضعية .. فأرجو أن يعفينى أفندينا من تعريض نفسى لهذا الاتهام ؛ لئلا يقال : مات كافراً . فلما يئس الخديوى .. أمر بالعمل بالقوانين الفرنسية ..
والقصة المحزنة تحكى فساد الأمراء والعلماء جميعاً، وتكشف أن ما أصاب المسلمين من شتات وخزى ليس بلاء يؤجرون عليه، ولكنه عقاب يستحقونه " وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون " .
ولقد كنت أسأل نفسى : نحن نكافح هذه القوانين المستوردة من الخارج وما تتضمنه من فساد وإلحاد، فكيف دخلت بلادنا، وماذا كان موقف العلماء منها يوم جاءت، ولِم لمَ يموتوا دون تحكيمها فى مجتمعنا ؟
ثم علمت أن موتنا الأدبى هو الذى مهد لقبولها واستقرارها .. ومع نهضتنا الإسلامية الحالية بدأت تشريعات جنائية ومدنية تستقى من ينابيع الإسلام الأصيلة، ولا ريب أننا نملك أعظم ثروة تشريعية فى القارات الخمس غير أنها دفينة فى صحائف مهجورة ومصبوبة فى قوالب قديمة، ونستطيع أن نسترشد بها فى إقامة صرح قانونى إسلامى
شامخ ..
ويبقى قبل ذلك وبعده أن يزدهر الفقه الدستورى عندنا، ويتخلص من أوهام العصور المتخلفة ورعايا حكام الجور ..
يبقى أن تتحول كلمة " الخلافة الراشدة " مفصلة : " إن رأيتم خيراً فأعينونى وإن رأيتم شراً فقومونى " .. إلخ .. إلى مواد مفصلة لدستور إسلامى يمنع الطغيان، وينعش الأمم، ويضع سياجاً متيناً حول كل حق خاص أو عام ..
وقبل أن نحتقر كلمة " ديمقراطية " ونجبه قائليها نقدم العوض الإسلامى عنها وعن آثارها القريبة والبعيدة .
وأى حرج فى أن ننتفع بتجارب الماضى الطويل عندنا وعند غيرنا ونحن نضع الدساتير ؟
وما يقال فى الجانب السياسى يقال فى الجانب الاقتصادى ..
إن ديننا يروع بما حوى من تعاليم تحقق الأخوة وتضمن الكرامة وتحارب الجوع والذل والبطالة والضياع .. ثم إنه حرم الاحتكار والاستغلال والربا والترف .
وجملة النصوص القرآنية والأحاديث النبوية فى هذا الميدان تكون صورة اجتماعية زاكية راقية .
ولا نقول : تكوّن مذهباً اجتماعياً مستقلاً، فإن الآثار الإسلامية الموصولة بهذا الشأن لا تعدو أن تكون فروعاً من الشجرة الكبيرة التى تضم تعاليم الإسلام جمعاء، أو بتعبير آخر هى بعض شعب الإيمان التى تبلغ الستين أو السبعين شعبة ..
والجهد الإسلامى الواجب : إذا كان الإنسان يوفر الكرامة للإنسان، فما هى العناصر التى يستجمعها، لإنشاء بيئة تنبت العز، ولمنع البيئة التى تنبت الهوان ؟ وكيف يصوغ هذه العناصر قوانين ضابطة لأحوال الأمم ؟
إذا كان الإسلام يمقت الفقر ويحب الاستغناء، فما هى العناصر التى يحشدها ليستغل خبرات الأرض فى البر والبحر ؟ وكيف يجند الهمم للكدح والكفاح ؟ ثم كيف يصوغ ذلك كله قوانين تحيل الجماعة الإسلامية إلى خلية ناشطة منتجة ؟
إن المسلمين ظلوا أمداً :
ـ يحتفون بالأنساب أكثر مما يحتفون بالأعمال .
ـ ويؤخرون العلم ويقدمون الحظ .
ـ ويريقون الأوقات على مصاطب اللغو والثرثرة أكثر مما يستغلون الأوقات فى الجد .
ـ وتحكمهم تقاليد ابتدعوها أكثر مما تحكمهم مواريث الدين ذاته ..
بل جعلوا العلم بالدين وظيفة الهمل والمغموصين .. فكان العقاب الأعلى لهذه الخيانات الباطنة والظاهرة أن سقطت الأمة الإسلامية على الصعيد العالمى هذا السقوط الذريع، وانسحب ذلك على دينها، فلم يصدق الناس أنه رحمة للعالمين .. !!
لقد بذلنا ـ أول العهد بالتأليف ـ جهداً حسناً فى سبيل تقديم الإسلام متجاوباً بل متبنياً لآمال الشعوب فى الكرامة والتقدم، وأمطنا اللثام عن نصوص كانت موجودة بداهة، ولكن العيون كانت تتجاوزها .
وربما أخطأنا فى الشرح والاستنتاج ـ والخطأ خليقتنا ـ لكن هذه الكتابات إذا جردناها من حرارة الشباب وسكبنا عليها قليلاً من برودة الشيخوخة، أمكن استخلاص المادة التى تسن منها قوانين تشرف الأمة الإسلامية وترفع كفتها ..
إن الإنكليز فى سبيل صد الشيوعية وصلوا إلى تأميم الطب، وكفالة العيش لكل عاطل حتى يجد العمل .
وغيرهم ابتكر ضروباً من الاشتراكية سدت الباب سداً أمام اليسار المغرى، فهل يغنى عنا أن نقول : فى الإسلام ما يكفى ويشفى دون أن نترجم تعاليمه إلى دساتير وقوانين ؟
ولكى نعرف كيف يتصرف غيرنا ليخدم نفسه ويحقق غرضه ننقل هذه الكلمات من رسالة عن " المخطط الشيوعى " للدكتور إبراهيم دسوقى أباظة جاء فيها : " ينفرد المخطط الشيوعى بخاصة نفاذة، فهو يجمع عند الماركسى الحق بين التواء الأسلوب وصدق العقيدة، فكل ما يوصل إلى الغاية تسوغه الغاية وإن كان يصدم مرحلياً بجوهرها، وكل ما يحمل إلى الهدف يبرره الهدف، وإن بدا مناهضاً لمنطقه ..
" ـ وهكذا التحق " المراكسة " بالوطنية وهم العالميون ! ..
" ـ وانتعلوا نزعة القومية وهم اللاقوميون ! ..
" ـ واعتصموا بحبل الدين وهم الملحدون " !
ويقول : " وبين دول العالم الثالث لم يعد الدين أفيون الشعوب ـ لمكانة الدين فى شعوب هذا العالم ـ وإنما أصبح الشعار المرفوع : الدين لله والشيوعية للجميع ..
" أو كما قال " قسيس أحمر " : ننظم حياتنا هنا كما نحب فإذا جاءت الآخرة نظرنا كيف نتصرف !! ..
" وعلى هذا الأساس تحرك الحزب الشيوعى فى إيطاليا وفرنسا، وفى السودان واليمن الجنوبى ولا يزال بعضنا يدافع عن التراث الإسلامى بتفكير عصر المماليك " !!
وحتى نعرف عدونا وما يصنع نقرأ هذه الكلمات " إن الإعلام الشيوعى اكتسب منذ السنوات الأولى للثورة الحمراء قدرات لم تعرف من قبل، إذ أصبح قوة مؤثرة فى صنع الفكر وتوجيه الحركات الثقافية فى أنحاء العالم .. ويكفى للتدليل على حجم هذا الإعلام ما ورد فى إحصاءات الأمم المتحدة أخيراً أن الاتحاد السوفيتى يحتل المركز الأول فى إنتاج الكتب إذ يصدر يومياً 3700000 كتاب، أى ما يوازى ربع إنتاج العالم ويبلغ ما تنتجه المطابع السوفيتية فى الدقيقة الواحدة 20500 نسخة، ولعل فى هذا الأرقام ما يكفى، بل ما يصرخ بالمراد " .
ترى ماذا تنتج المطابع الإسلامية ؟ لا رقم يذكر هنا، لأنه لا مجال للمقارنة، إننا نحن المؤلفين المسلمين نلتقط أنفاس الحياة بأعجوبة !
ويستطرد الدكتور أباظة فيقول : " ونجاح الاتحاد السوفيتى فى إدراك هذا المستوى العالى من الإنتاج الإعلامى يعود إلى ما تقرر خلال الأيام الأولى لقيام الثورة فقد أصدرت الحكومة فى 29 / 12 / 1917 مرسوماً حددت فيه مبادئ ونظم نشر الكتاب " .
ويعتقد الشيوعيون أن الصحافة والكتب من أهم وسائل الثورة الثقافية أو بتعبير آخر من أهم وسائل الانقلاب الفكرى الذى ينشدونه ولا شك أن الكتب والرسائل المؤلفة بذكاء من أمضى الأسلحة فى القضاء على الأفكار والنظرات المعارضة، وبث الآراء والتصورات الماركسية .
وتقول الأرقام إن عدد الجرائد فى الاتحاد السوفيتى 7937، ويبلغ مجموع النسخ من كل طبعة 120 مليون ويصدر منها فى العام الواحد 26 مليار و 655 مليون نسخة .
أما عدد المجلات فقد بلغ 4704 يصدر منها فى كل طبعة 132 مليون نسخة وبديهى أن هذا الإنتاج الضخم يتوزع على روسيا وغيرها من المؤسسات الشيوعية فى أرجاء العالم، وهو يطبع باللغات المحلية واللهجات الوطنية " .
ذاك ما تبذله لتوضيح وجهة نظرها دولة تحتل الصف الأول فى التسلح العسكرى، وإذا كانت الأمور قد تذكر بأضدادها فلا بأس من إيراد هذه النكتة ..
كتبت يوماً كلمة أشرح فيها اعتماد الإسلام على الإقناع فى نشر تعاليمه وأنه ما يلجأ إلى السيف إلا حيث يلقى السيف .
وهذه الكلمة جزء من فصل طويل فى كتابى " الاستعمار أحقاد وأطماع " .
وفوجئت بعد نشر هذه الكلمة بكاتب لا أعرف ما هو يتهمنى بالضعف والاستسلام لآراء المستشرقين،
ويقول : إن الإسلام يعتمد على القوة فى انطلاقه !
فقلت : زعم أولاد البلد أن أصم وكسيحاً ومفلساً ركبوا زورقاً لينقلهم إلى الشاطىء الآخر للنهر، وبينما الزورق فى وسط الأمواج قال الأصم : كأنى أسمع دبيب نملة على الشاطىء، فرد الكسيح : صه وإلا ركلتك فى الماء، وأجاب المفلس : الذى تعرف ديته أقتله ..
أى قوة تتحدث عنها أيها المسكين ؟ ولنفرض جدلاً أن الإسلام يملك قوة تجعله المتفرد بالسلطان على الأرض !! هل يعنى ذلك أن الدعوة ليست وسيلته الفذة ؟ وأن اعتماده الأعظم ليس على وسائل الإعلام ؟ إنه ما يلجأ إلى القوة إلا يوم تكون كسراً للعدوان، وحطماً للطغيان وكفكفة لشرور المغرورين وناشدى العلو والفساد فى
الأرض ..
لكن المغفلين كثيرون، والطامة الكبيرة أن يملك هؤلاء السفهاء قدرة على الكلام فى الإسلام ومناوشة
علمائه !!
ونعود إلى موضوعنا : إن شرح الإسلام بصورة عامة، وشرح الجانب الاجتماعى والاقتصادى منه بصورة خاصة يحتاج إلى بصر بالحياة المعاصرة وقضاياها المعقدة ومبلغ تغلغل الدولة فى شئون الأفراد والجماعات، بل ويصر بما تضمنه الإسلام من نصوص وآثار وما توحى به هذه النقول من دلالات قريبة وبعيدة ..
ثم صوغ ذلك قيماً ومبادئ وقوانين سهلة سائغة، على أن يساند هذا البلاغ تطبيق ناجح ونموذج عملى
محترم !!
وبقى أن نعرف عن الشيوعيين شيئاً آخر .. دعاواهم العريضة عن منطقهم العلمى وفلسفتهم الواقعية، ولا أعرف مفلساً أكثر حديثاً عن ثروته الطائلة من الشيوعى الملحد الذى يكثر الحديث عن أسانيد كذبه ودلائل
زيفه ..
لا شىء هنالك غير جرأة فى اتهام الناس بالرجعية والجمود .
واتهام المؤمنين بأنهم مخرفون نقلة أوهام ليس جديداً فى تاريخ الدنيا، إنه ذات الاتهام الذى كان يقوله عرب الجزيرة لصاحب الرسالة من أربعة عشر قرناً " حتى إذا جاءوك يجادلونك يقول الذين كفروا : إن هذا إلا أساطير الأولين " ( الأنعام : 25 )
والشيوعية نفسها فى ميدان التطبيق الاقتصادى نظام فاشل، فإنتاجها الزراعى أقل من غيره، وإنتاجها الصناعى أردأ من غيره، والقول " بحتمية الحل الاشتراكى " لون من السفسطة والكذب العام .
وقد قلنا إنها نظام سياسى نجح فى قتل المعارضة لأن أرزاق الناس جميعاً تجرى من بين أصابع الحاكمين ..
وقد أصابنا مس من الفكر الشيوعى فى حياتنا الاجتماعية فإذا اليوم ينعق فى ساحات كانت قبل عامرة، لم تجن الجماهير غير الشؤم والفزع والخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات ..
إن العقل العلمى قد ينقص كثيراً من المتدينين أما أنه ينقص الدين نفسه فلا ثم لا .. كيف والتفكير فريضة إسلامية، والنظر الواعى إلى الكون والناس ركن ركين فى الإيمان .
إن الجو الصحو الدافئ هو وحده الذى ينمو فيه الإسلام ويزدهر، فإذا تقاصر الشعاع وانتشر الغيم شرع الإسلام يرحل !
وربما بقيت جماهير تتعلق بأذياله وهو مول ذاهب، لكن الظن لا يغنى من الحق شيئاً، والأثر لا يغنى عن العين نفسها ..
وبعض الناس أقلقه من الشيوعية أنها تذهب بما يملك وهو كثير كثير وما ننظر إلى أولئك ونحن نحارب الشيوعية، وإنما ننظر فى المقام الأول إلى هذا الإلحاد الحقود الأعمى المخاصم لله وأنبيائه جميعاً، المتبرم بالوحى الأعلى وتوجيهاته للناس .
ونحب بالمنطق العلمى أن يعرف القاصى والدانى أن الله حق، وأنه مشرف على العالم يدير أمره ويهب له وجوده، ويحسب على كل عاقل مسالكه، وما قدم وما أخر " الله لا إله إلا هو الحى القيوم " .
* * * * *
دار بينى وبين أحد الملاحدة جدال طويل، ملكت فيه نفسى وأطلت صبرى حتى ألقف آخر ما فى جعبته من إفك، وأدمغ بالحجة الساطعة ما يوردون من شبهات ..
قال : إذا كان الله قد خلق العالم فمن خلق الله ؟
قلت له : كأنك بهذا السؤال أو بهذا الاعتراض تؤكد أنه لا بد لكل شىء من خالق !!
قال : لا تلقنى فى متاهات، أجب عن سؤالى .
قلت له : لا لف ولا دوران، إنك ترى أن العالم ليس له خالق، أى أن وجوده من ذاته دون حاجة إلى موجد، فلماذا تقبل القول بأن هذا العالم موجود من ذاته أزلاً وتستغرب من أهل الدين أن يقولوا : إن الله الذى خلق العالم ليس لوجوده أول ؟
إنها قضية واحدة، فلماذا تصدق نفسك حين تقررها وتكذب غيرك حين يقررها، وإذا كنت ترى أن إلهاً ليس له خالق خرافة، فعالم ليس له خالق خرافة كذلك، وفق المنطق الذى تسير عليه .. !!
قال : إننا نعيش فى هذا العالم ونحس بوجوده فلا نستطيع أن ننكره !
قلت له : ومن طالبك بإنكار وجود العالم ؟
إننا عندما نركب عربة أو باخرة أو طائرة تنطلق بنا فى طريق رهيب، فتساؤلنا ليس فى وجود العربة، وإنما
هو : هل تسير وحدها أم يسيرها قائد بصير !!
ومن ثم فإننى أعود إلى سؤالك الأول لأقول لك : إنه مردود عليك، فأنا وأنت معترفان بوجود قائم، لا مجال لإنكاره، تزعم أنه لا أول له بالنسبة إلى المادة، وأرى أنه لا أول لها بالنسبة إلى خالقها .
فإذا أردت أن تسخر من وجود لا أول له، فاسخر من نفسك قبل أن تسخر من المتدينين ..
قال : تعنى أن الافتراض العقلى واحد بالنسبة إلى الفريقين ؟
قلت : إننى أسترسل معك لأكشف الفراغ والادعاء الذين يعتمد عليهما الإلحاد وحسب، أما الافتراض العقلى فليس سواء بين المؤمنين والكافرين ..
إننى ـ أنا وأنت ـ ننظر إلى قصر قائم، فأرى بعد نظرة خبيرة أن مهندساً أقامه، وترى أنت أن خشبة وحديدة وحجرة وطلاءة قد انتظمت فى مواضعها وتهيأت لساكنيها من تلقاء أنفسها ..
الفارق بين نظرتينا إلى الأمور أننى وجدت قمراً صناعياً يدور فى الفضاء، فقلت أنت : " انطلق وحده دونما إشراف أو توجيه " وقلت أنا : بل أطلقه عقل مشرف مدبر ..
إن الافتراض العقلى ليس سواء، إنه بالنسبة إلىّ الحق الذى لا محيص عنه، وبالنسبة إليك الباطل الذى لا شك فيه، وإن كل كفار عصرنا مهرة فى شتمنا نحن المؤمنين ورمينا بكل نقيصة فى الوقت الذى يصفون أنفسهم فيه بالذكاء والتقدم والعبقرية ..
إننا نعيش فوق أرض مفروشة، وتحت سماء مبنية، ونملك عقلاً نستطيع به البحث والحكم، وبهذا العقل ننظر ونستنتج ونناقش ونعتقد .
وبهذا العقل نرفض التقليد الغبى كما نرفض الدعاوى الفارغة، وإذا كان الناس يهزءون بالرجعيين عبيد الماضى ويتندرون بتحجرهم الفكرى، فلا عليهم أن يهزءوا كذلك بمن يميتون العقل باسم العقل، ويدوسون منطق العلم باسم العلم، وهم للأسف جمهرة الملاحدة .. !!
لكننا نحن المسلمين نبنى إيماننا بالله على اليقظة العقلية والحركة الذهنية، ونستقرئ آيات الوجود الأعلى من جولان الفكر الإنسانى فى نواحى الكون كله .
فى صفحة واحدة من سورة واحدة من سور القرآن الكريم وجدت تنويهاً بوظيفة العقل اتخذ ثلاث صور متتابعة فى سلم الصعود، هذه السورة هى سورة الزمر، وأول صورة تطالعك هى إعلاء شأن العلم والغض من أقدار الجاهلين : " قل هل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب " .
ثم تجىء الصورة الثانية لتبين أن المسلم ليس عبد فكرة ثابتة أو عادة حاكمة بل هو إنسان يزن ما يعرض عليه ويتخير الأوثق والأزكى " فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب " ( الزمر : 9 )
ثم يطرد ذكر أولى الألباب للمرة الثالثة فى ذات السياق على أنهم أهل النظر فى ملكوت الله الذين يدرسون قصة الحياة فى مجاليها المختلفة لينتقلوا من المخلوق إلى الخالق " ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع فى الأرض ثم يخرج به زرعاً مختلفاً ألوانه ثم يهيج فتراه مصفراً ثم يجعله حطاماً إن فى ذلك لذكرى لأولى الألباب "
( الزمر : 21 )
وظاهر من الصور الثلاث فى تلك الصفحة من الوحى الخاتم أن الإيمان لمبتوت الصلة بالتقليد الأعمى أو النظر القاصر أو الفكر البليد .
إنه يلحظ إبداع الخالق فى الزروع والزهور والثمار، وكيف ينفلق الحمأ المسنون عن ألوان زاهية أو شاحبة توزعت على أوراق وأكمام حافلة بالروح والريحان، ثم كيف يحصد ذلك كله ليكون أكسية وأغذية للناس والحيوان، ثم كيف يعود الحطام والقمام مرة أخرى زرعاً جديد الجمال والمذاق تهتز به الحقول والحدائق، من صنع ذلك كله ؟
قال صاحبى وكأنه سكران يهذى : الأرض صنعت ذلك !!
قلت : الأرض أمرت السماء أن تهمى والشمس أن تشع وورق الشجر أن يختزن الكربون ويطرد الأوكسجين والحبوب أن تمتلئ بالدهن والسكر والعطر والنشا ؟؟
قال : أقصد الطبيعة كلها فى الأرض والسماء !
قلت : إن طبق الأرز فى غذائك أو عشائك تعاونت الأرض والسماء وما بينهما على صنع كل حبة فيه، فما دور كل عنصر فى هذا الخلق ؟ ومن المسئول عن جعل التفاح حلواً والفلفل حريفاً أهو تراب الأرض أم ماء
السماء ؟
قال : لا أعرف ولا قيمة لهذه المعرفة !!
قلت : ألا تعرف أن ذلك يحتاج إلى عقل مدبر ومشيئة تصنف ؟
فأين ترى العقل الذى أنشأ والإرادة التى نوعت فى أكوام السباخ أو فى حزم الأشعة ؟؟
قال : إن العالم وجد وتطور على سنة النشوء والارتقاء ولا نعرف الأصل ولا التفاصيل !!
قلت له : أشرح لكم ما تقولون ! تقولون : إنه كان فى قديم الزمان وسالف العصر والأوان مجموعة من العناصر العمياء، تضطرب فى أجواز الفضاء، ثم مع طول المدة وكثرة التلاقى سنحت فرصة فريدة لن تتكرر أبد الدهر، فنشأت الخلية الحية فى شكلها البدائى ثم شرعت تتكاثر وتنمو حتى بلغت ما نرى !! هذا هو الجهل الذى أسميتموه علماً ولم تستحوا من مكابرة الدنيا به !!
أعمال حسابية معقدة تقولون : إنها حلت تلقائياً، وكائنات دقيقة وجليلة تزعمون أنها ظفرت بالحياة فى فرصة سنحت ولن تعود !! وذلك كله فراراً من الإيمان بالله الكبير !!
قال وهو ساخط : أفلو كان هناك إله كما تقول كانت الدنيا تحفل بهذه المآسى والآلام، ونرى ثراء يمرح فيه الأغبياء وضيقاً يحتبس فيه الأذكياء، وأطفالاً يمرضون ويموتون، ومشوهين يحيون منغصين ..
قلت : لقد صدق فيكم ظنى، إن إلحادكم يرجع إلى مشكلات نفسية واجتماعية أكثر مما يعود إلى قضايا عقلية مهمة !!
ويوجد منذ عهد بعيد من يؤمنون ويكفرون وفق ما يصيبهم من عسر ويسر " ومن الناس من يعبد الله على حرف، فإن أصابه خير اطمأن به، وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة " ( الحج : 11 )
قال : لسنا أنانيين كما تصف نغضب لأنفسنا أو نرضى لأنفسنا، إننا نستعرض أحوال البشر كافة ثم نصدر حكمنا الذى ترفضه ..
قلت : آفتكم أنكم لا تعرفون طبيعة هذه الحياة الدنيا ووظيفة البشر فيها، إنها معبر مؤقت إلى مستقر دائم، ولكى يجوز الإنسان هذا المعبر إلى إحدى خاتمتيه لا بد أن يبتلى بما يصقل معدنه ويهذب طباعه، وهذا الابتلاء فنون شتى، وعندما ينجح المؤمنون فى التغلب على العقبات التى ملأت طريقهم وتبقى صلتهم بالله واضحة مهما ترادفت البأساء والضراء فإنهم يعودون إلى الله بعد تلك الرحلة الشاقة ليقول لهم : " يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون " ( الزخرف : 68 )
قال : وما ضرورة هذا الابتلاء ؟
قلت : إن المرء يسهر الليالى فى تحصيل العلم، ويتصبب جبينه عرقاً ليحصل على الراحة، وما يسند منصب كبير إلا لمن تمرس بالتجارب وتعرض للمتاعب، فإن كان ذلك هو القانون السائد فى الحياة القصيرة التى نحياها على ظهر الأرض فأى غرابة أن يكون ذلك هو الجهاد الصحيح للخلود المرتقب ؟
قال ـ مستهزئاً ـ : أهذه فلسفتكم فى تسويغ المآسى التى تخالط حياة الخلق وتصبير الجماهير عليها ؟
قلت : سأعلمك ـ بتفصيل أوضح ـ حقيقة ما تشكو من شرور، إن هذه الآلام قسمان : قسم من قدر الله فى هذه الدنيا، لا تقوم الحياة إلا به، ولا تنضج رسالة الإنسان إلا فى حره، فالأمر كما يقول الأستاذ العقاد : " تكافل بين أجزاء الوجود، فلا معنى للشجاعة بغير الخطر، ولا معنى للكرم بغير الحاجة، ولا معنى للصبر بغير الشدة، ولا معنى لفضيلة من الفضائل بغير نقيصة تقابلها وترجح عليها ..
" وقد يطرد هذا القول فى لذاتنا المحسوسة كما يطرد فى فضائلنا النفسية ومطالبنا العقلية، إذ نحن لا نعرف لذة الشبع بغير ألم الجوع، ولا نستمتع بالرى ما لم نشعر قبله بلهفة الظمأ، ولا يطيب لنا منظر جميل ما لم يكن من طبيعتنا أن يسوءنا المنظر القبيح .. "
وهذا التفسير لطبيعة الحياة العامة ينضم إليه أن الله جل شأنه يختبر كل امرئ بما يناسب جبلته، ويوائم نفسه وبيئته، وما أبعد الفروق بين إنسان وإنسان، وقد يصرخ إنسان بما لا يكترث به آخر ولله فى خلقه شئون، والمهم أن أحداث الحياة الخاصة والعامة محكومة بإطار شامل من العدالة الإلهية التى لا ريب فيها .
إلا أن هذه العدالة كما يقول الأستاذ العقاد : " لا تحيط بها النظرة الواحدة إلى حالة واحدة، ولا مناص من التعميم والإحاطة بحالات كثيرة قبل استيعاب وجوه العدل فى تصريف الإرادة الإلهية . إن البقعة السوداء قد تكون فى الصورة كلها لوناً من ألوانها التى لا غنى عنها، أو التى تضيف إلى جمال الصورة ولا يتحقق لها جمال بغيرها، ونحن فى حياتنا القريبة قد نبكى لحادث يعجبنا ثم نعود فنضحك أو نغتبط بما كسبناه منه بعد فواته " .
تلك هى النظرة الصحيحة إلى المتاعب غير الإرادية التى يتعرض لها الخلق .
أما القسم الثانى من الشرور التى تشكو منها يا صاحبى فمحوره خطؤك أنت وأشباهك من المنحرفين .
قال مستنكراً : أنا وأشباهى لا علاقة لنا بما يسود العالم من فوضى ؟ فكيف تتهمنا ؟
قلت : بل أنتم مسئولون، فإن الله وضع للعالم نظاماً جيداً يكفل له سعادته، ويجعل قويه عوناً لضعيفه وغنيه براً بفقيره، وحذر من اتباع الأهواء واقتراف المظالم واعتداء الحدود .
ووعد على ذلك خير الدنيا والآخرة " من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن لنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون " .
فإذا جاء الناس فقطعوا ما أمر الله به أن يوصل، وتعاونوا على العدوان بدل أن يتعاونوا على التقوى فكيف يشكون ربهم إذا حصدوا المر من آثامهم ؟
إن أغلب ما أحدق بالعالم من شرور يرجع إلى شروده عن الصراط المستقيم، وفى هذا يقول الله جل شأنه : " وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير " ( الشورى : 20 )
إن الصديق رضى الله عنه جرد جيشاً لقتال مانعى الزكاة، وبهذا المسلك الراشد أقر الحقوق وكبح الأثرة ونفذ الإسلام، فإذا تولى غيره فلم يتأس به فى صنيعه كان الواجب على النقاد أن يلوموا الأقدار التى ملأت الحياة
بالبؤس ؟!
قال : ماذا تعنى ؟
قلت : أعنى أن شرائع الله كافية لإراحة الجماهير، ولكنكم بدل أن تلوموا من عطلها تجرأتم على الله واتهمتم دينه وفعله !!
ومن خسة بعض الناس أن يلعن السماء إذا فسدت الأرض، وبدلاً من أن يقوم بواجبه فى تغيير الفوضى وإقامة الحق يثرثر بكلام طويل عن الدين ورب الدين .. !!
إنكم معشر الماديين مرضى تحتاج ضمائركم وأفكاركم إلى علاج بعد علاج ..
وعدت إلى نفسى بعد هذا الحوار الجاد أسألها : إن الأمراض توشك أن تتحول إلى وباء، فهل لدينا من يأسو الجراح ويشفى السقام أم أن الأزمة فى الدعاة المسلمين ستظل خانقة ؟
* * * * *
ذكر الصحافى الشهير " أنيس منصور " أن العالمة الإنجليزية الدكتورة " مرجريت برنبريدج " مديرة مرصد " جرنيتش " قد اكتشفت أبعد نجم فى هذا الكون، وقد سمى الفلكيون هذا النجم " كازار " وأطلقت عليه الدكتورة المكتشفة " كازار 172 " .
هذا الجسم يبعد عنا بمقدار 15600 مليون سنة ضوئية، والسنة الضوئية كما ذكرنا من قبل تساوى ( 365 يوماً × 24 ساعة × 60 دقيقة × 60 ثانية × 186000 ميل وهى سرعة الضوء فى الثانية الواحدة ) .
ورد هذا النبأ فى مجلة الطبيعة، ووصفت الدكتورة المكتشفة هذا النجم بأنه ساطع جداً .
ولهذه العالمة سبق فى ميدان الاكتشاف الفلكى إذ سجلت وجود نجم سماوى آخر فى أبريل الماضى سنة 1973.
ولما سئلت الدكتورة عن اتساع الكون الذى نعيش فى جانب محدود منه قالت : لا أحد يعرف . إن هذه هى حدود معرفتى بالقدر الذى تسمح به عدسة قطرها ( 120 ) بوصة، ولو كانت هناك عدسات أكبر أو أجهزة أقدر وأدق لاتسع أمامنا الكون، أكثر وأكثر .
سئلت : هل الله موجود ؟ وكان جوابها : من المؤكد أنه موجود !!
قيل لها : ولكن لماذا ؟ فأشارت إلى السماء وقالت : لهذا !!
ومن قبل ذلك بنصف قرن عندما أعلن " أينشتين " نظرية " النسبية " سأله بعض الناس : هل الله موجود ؟
وكان الرد : رياضياً موجود !!
وسئل : وكونياً ؟ قال : موجود !
قيل له : لماذا ؟ وكان الجواب : لهذا .. " وأشار إلى السماء " .
أقول إن القرآن الكريم أكثر الحديث عن السماء، وهو يبنى الإيمان على التأمل فى الكون والنظر فى سعته ودقته وخصائص مادته واستقامة قوانينه " والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون " ( الذاريات : 51 ) " ولقد جعلنا فى السماء بروجاً وزيناها للناظرين " ( الحجر : 16 ) " وجعلنا السماء سقفاً محفوظاً وهم عن آياتها معرضون "
( الأنبياء : 32 )
وهناك إيماءة علمية معجبة مثيرة فى الحديث عن النجوم وأبعادها السحيقة تحسها وأنت تقرأ قوله تعالى : " فلا أقسم بمواقع النجوم وإنه لقسم لو تعلمون عظيم " ( الواقعة :76 )
إن جملة " لو تعلمون " تشير إلى أن هناك حقائق كبيرة فوق مستوى العقل البشرى تتصل بهذه المواقع، ترى على أوضحها الكشوف الفلكية الأخيرة ؟ ربما .. إذا كان الخطاب متجهاً إلى الناس فى عهد ابتداء الوحى .. إنهم لم يروا فى المراصد الحديثة أسرار القبة الزرقاء وما فيها من عجائب .. أما أهل هذا العصر فقد عرفوا، وبهرهم ما عرفوا واضطرت جمهرتهم أن تقول : " سبحانك ما خلقت هذا باطلاً " ومع ذلك فنقول إن ما عرفه العلماء الآن شىء تافه بالنسبة إلى ما زوى عنهم، فإن آلاتهم التى اعتمدوا عليها أرتهم القليل وعجزت عن الكثير، ويبقى الخطاب القرآنى موجهاً إلى الأقدمين والمحدثين على سواء " فلا أقسم بمواقع النجوم وإنه لقسم لو تعلمون عظيم " .
إن الكون كبير، وأكبر منه خالقه جل جلاله ..
وأعترف أنى لم أعرف ضآلة الأرض التى نحيا فوقها إلا بعد قراءات يسيرة فى علم الفلك، بعدها فقط فهمت معنى الحديث القدسى " يا عبادى لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك فى ملكى شيئاً . يا عبادى لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكى شيئاً " ( رواه الترمذى فى القيامة، وغيره ) .
أومض فى بصيرتى شعاع عن عظمة الخالق الأعلى جعلنى أردد مع صاحب الوحى الخاتم وأصدق بشر فى الآخرين، هذا التسبيح القانت ما جعلنى أكذب أساطير اليهود والنصارى التى تصف الله بأنه جلس يأكل مع عبده إبراهيم، أو اشتبك فى صراع مع عبده يعقوب !!
قبحاً لهذا اللغو ! .. أكذلك يوصف رب المشارق والمغارب بديع السموات والأرض، جاعل السموات والأرض ؟؟
وعدت إلى القرآن الكريم أنظر إليه بإعزاز، وأتدبر آياته بأدب وأستمع إليه يصف الجاهلين بربهم فيقول :
" وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون " ( الزمر : 67 ) .
لكن لماذا التأمل فى السماء وحدها ؟ هل يحتاج اليقين إلى هذا النظر العالى ؟ إن هناك أنفسنا والأرض التى نعيش عليها، يمكننا أن ننظر فيها ـ عن قرب ـ لنعتبر ونتعلم .. " وفى الأرض آيات للموقنين وفى أنفسكم أفلا تبصرون " ( الذاريات : 21 )
كنت أفكر فى مسألة علمية تحتاج إلى استغراق ومراجعة، وكانت طفلتى تلعب قريباً منى تنظر إلىّ ولا يعنيها من تفكيرى شىء .. قلت : أنا وهى نماذج لأربعة آلاف مليون أو أكثر يسكنون هذه الكرة الطائرة فى فضاء الله تدور بقدر حول أمها الشمس ..
لكل فرد من هذه الألوف المؤلفة فكره الخاص، وعالمه الذى يعيش داخله وطريقته فى الفهم والحكم على الأمور .
ترى لو انقطع التيار الذى تنير به هذه الأدمغة، إلام تصير ؟
على كل حال إنه لم ينقطع، وفى كل مخ تلافيفه التى يتحرك بها ويقوم عليها عالمه الخاص . سبحان من أبدع هذا كله، سبحان من احتوت أصابعه قلوب الخلائق جميعاً يصرفها كيف يشاء .
وعدت إلى تعليق الأستاذ أنيس منصور على الكواكب المكتشفة ودلالة السماء على عظمة الله، إنه يقول : " على الرغم من ضخامة الكون وعظمته وأبعاده التى لا ندرك لها حدوداً فإن هذا الكون أبسط من النفس الإنسانية وأسهل من الجسم الإنسانى، وأصغر من الخلية الحية ..
" إن عظمة العالم تبرز فى تكوين الحياة نفسها، إن الحياة فى الكائن الحى أروع وأعمق وأعقد وأصعب من نجم ملتهب يدور فى الفضاء السحيق بعيداً عن عيوننا وعدساتنا ..
" إن المسافة التى بينى وبين القمر أقرب جداً من المسافة التى بينى وبينك، فالذى بينى وبينك صعب وغير
مفهوم ..
" ومن هنا كان أى كائن حى مهما دق وزنه وحجمه أعظم من أى نجم غابر فى الأفق ..
" لست فى حاجة إلى أدلة على وجود الله نستوردها من السماء ـ وحدها ـ وإنما فى نفسك وجسمك وتحت قدميك توجد أعظم معجزات الخلق والإبداع " .
وفى هذا الكلام صدق كثير .. ليس من الضرورى أن يكون المرء فلكياً ليعرف عظمة ربه .. إن الرجل العادى يستطيع أن يعرف عن قدرة الله وحكمته وعلمه ورحمته ما ينمى الإيمان فى قلبه ولبه لو أنه نظر فقط إلى ما يأكله .
ولكن ناساً كثيرين " يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام . والنار مثوى لهم " ( محمد 12 )
* * * * *
فى أرجاء الأمة الإسلامية ناس أشباه متعلمين يعلنون إلحادهم دون حياء، ويزعمون أنهم ثوار على الرجعية، عشاق للمعرفة، ضائقون بالأفكار القديمة، معتنقون للأفكار الحديثة !!
وكثيراً ما لقيت فى طريقى صوراً من هؤلاء الناس، فأتفرس فى مسالكهم وأتأمل فى أقوالهم وأحوالهم، ثم أذكر كلمة العقاد رحمه الله : هناك مقلدون فى كراهية التقليد !
أما حديث العلم وتقدمه، والكون وكشوفه فهو تعلة خادعة ينكرها العلم والعلماء ..
وأول ما نلحظه على أولئك الناس نقلهم لكلمات أوحت بها بيئات أخرى وترديدها فى بلادنا دون أى حساب لاختلاف الزمان والمكان والباعث والنتيجة !!
لقد كان الفيلسوف الألمانى " نيتشه " ملحداً، وكان كفره بالله شديداً . ومما يؤثر عنه قوله فى الهجوم على الدين " عندما نستمع فى صباح الأحد إلى دقات الأجراس القديمة نتساءل : أهذا ممكن ؟ إن هذا كله من أجل يهودى صلب منذ ألفى عام كان يقول إنه ابن الله !! وهو زعم يفتقر إلى برهان ..
" لا جدال أن العقيدة المسيحية ـ هكذا يقول نيتشه ـ هى بالنسبة إلى عصرنا أثر قديم نابع من الماضى السحيق، وربما كان إيماننا بها فى الوقت الذى نحرص فيه على الإتيان ببراهين دقيقة لكل رأى نعتنقه شيئاً غير مفهوم، فلنتصور إلهاً أنجب أطفالاً من زوجة غانية، وخطايا ترجع إلى الله ثم يحاسب هو نفسه عليها خوفاً من عالم آخر يكون الموت هو المدخل إليه ! لكم يبدو كل ذلك مخيفاً، وكأنه شبح قد بعث من الماضى السحيق ! أيصدق أحد أن هذا ما زال يصدق " ؟
وهذا الطراز من الإلحاد هو الذى يحمل جرثومته بعض الناس، يحسبون أنهم يفتنوننا به نحن المسلمين عن ديننا ويصرفوننا عن رسالتنا ..
وهو طراز يختلط فيه التقليد الأعمى بالنقص المركب، أو حب الظهور بالحقد على المجتمع .. أما الزعم بأن العلم المادى ضد الدين، وأن بحوثه المؤكدة وكشوفه الرائعة تنتهى بإنكار الألوهية فهذا هو الكذب الصراح .. !
بل إن أساطين العلم والفلسفة تشابهت مقالاتهم فى إثبات الوجود الأعلى، وتكاد فى وصفها لله تنتهى إلى ما انتهى إليه القرآن الكريم من توحيد وتمجيد ..
نحن لا ننكر أن خصاماً شديداً قد وقع بين العلم والدين فى أوربا حيث كان القول بكروية الأرض كفراً، والقول بدورانها حول الشمس إلحاداً !!
ولا ريب أن هذه الجفوة المفتعلة بين حقيقة الدين وطبيعة العلم تركت آثاراً سيئة هنا وهناك، بيد أن الاعتماد على هذا فى التجهم للإيمان الحق لا يسوغ، فإن تجريد الدين من الشوائب التى لحقت به، والتزام العلم للنهج السوى فى البحث عن الحقيقة قد انتهى بصلح شريف يذكرنا بقوله جل شأنه :
" سنريهم آياتنا فى الآفاق وفى أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أو لم يكف بربك أنه على كل شىء شهيد "
( فصلت ) .
كانت المادية هى بدعة القرن الماضى، وكان الزعم السائد أنه لا وجود إلا للمادة، وأن ما وراء المادة عدم محض وأن المادة لا تفنى ولا تستحدث، وأن الدين بعد هذا كله أمسى لا مكان له !!
ثم مضت الحقائق العلمية تكشف عن وجهها فإذا مقررات الماضى تنسف من أصولها، يقول الدكتور أبو الوفا التفتازانى : " كان العلم يتصور الأمور تصوراً مادياً بحتاً إلى أن جاء العالم الشهير " ألبرت أينشتين " فغير ببحوثه الطبيعية النظر إلى المادة تغييراً حاسماً، وقد صور الفيلسوف الإنجليزى " راسل " ذلك قائلاً : درسنا العالم الطبيعى فوجدنا المادة عند العلم الحديث قد فقدت صلابتها وعفويتها، إذ حللها العلماء إلى مجموعات ذرية كل مجموعة منها تنحل إلى ذرات، وكل ذرة تعود بدورها فتنحل إلى كهارب موجبة وأخرى سالبة، ثم مضى العلماء فى التحليل، فإذا هذه الكهارب نفسها تتحول إلى إشعاعات !!
وختم " راسل " كلامه بهذه العبارة " ليس فى علم الطبيعة ما يبرهن على أن الخصائص الذاتية للعالم الطبيعى تختلف عن خصائص العالم العقلى " .
ونحن نقول : انتساب ذلك الكون الضخم إلى أصول من الأشعة شىء مثير حقاً !! ترى ما الذى كثف النور وجمد حركته ووزعه على ألوف الأشكال التى نراها ؟
إنك لن تعدم سفيهاً يقول لك : تم ذلك من تلقاء نفسه !!
وهذا القائل مستعد أن يقول لك أيضاً : إن الصحف فى عواصم العالم تصدر عن دورها مليئة بالأخبار والتعليقات والصور منسقة الحروف والأرقام تلقائياً من غير ما إشراف ولا إعداد ولا تبويب ولا ترتيب !
لعمرى إن ذلك أدنى إلى التصور من خلق الموت والحياة فى هذا العالم الفخم تلقائياً كما يأفك الأفاكون !!
لكن أى عاقل يحترم نفسه ويقدر علمه يأبى هذا المنزلق .
يقول الدكتور التفتازانى : ولعل هذا ما جعل العلامة " أينشتين " يؤثر الإيمان بالله ويرفض الشبهات التى تختلق ضده، وقد دار حوار بينه وبين صحفى أمريكى يدعى " فيرك " فى هذا الموضوع قال فيه الرجل العالم بحسم : إننى لست ملحداً !! ولا أدرى : هل يصح القول بأنى من أنصار وحدة الوجود ؟ إن المسألة أوسع نطاقاً من أن تحيط بها عقولنا المحدودة !!
[ ليس هذا العالم ممن يعتنقون مذهب الوحدة الذى يعرفه الهنود، أو بالنحو الذى تسرب من الهندوكية إلى بعض الديانات الأخرى، ولكنه يريد أن يقول : إنه يرى الله فى كل شىء ويلمح صفاته العظمى فى مجالى الكون كله " هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شىء عليم " وعذر الرجل أنه لا يعرف الإسلام فيعبر التعبير المأثور .. ]
وعاد الصحفى إلى سؤاله بطريقة أخرى يريد بها هز الإيمان الذى لاذ به هذا العالم، فقال : إن الرجل الذى يكتشف أن الزمان والمكان منحنيان، ويحبس الطاقة فى معادلة واحدة جدير به ألا يهوله الوقوف فى وجه غير المحدود !!
فيرد أينشتين : اسمح لى أن أضرب لك مثلاً : إن العقل البشرى مهما بلغ من عظم التدريب وسمو التفكير عاجز عن الإحاطة بالكون فكيف بخالقه ؟! نحن أشبه ما نكون بطفل داخل مكتبة كبيرة ارتفعت كتبها إلى السقف فغطت جدرانها، ثم هى مؤلفة بشتى اللغات . إن هذا الطفل يعلم أن شخصاً ما كتب هذا الكتب، ولكنه لا يعرف بالضبط من هو، ولا كيف كانت كتابته لها ثم هو لا يفهم اللغات التى كتبت بها !!
وقد يلاحظ الطفل أن هناك طريقة معينة رتبت بها الكتب ونظاماً غامضاً يشمل صفوفها وأوضاعها، نظاماً نحس أثره ولا ندرى كنهه .
إن ذلك القصور هو موقف العقل الإنسانى مهما بلغ من العظمة والتثقيف !!
وعاد الصحفى الأمريكى يسأل : أليس فى وسع أحد حتى أصحاب العقول العظيمة أن يحل هذا اللغز ؟
فأجاب أينشتين مرة أخرى يعلل لماذا هو مؤمن، ولماذا يعجز عن معرفة كنه الله فقال : " نرى كوناً بديع الترتيب خاضعاً لنواميس معينة، ونحن نفهم هذه النواميس فهماً يشوبه الإبهام فنؤمن بالله ولكن عقولنا المحدودة لا تدرك القوة الخفية التى تهيمن على مجاميع النجوم " .
لو كانت المواد التى يتكون منها هذا العالم الضخم تتراكم بعضها فوق بعض دون تبصر أو حكمة لدلت كثرتها وحدها على غنى واسع وثراء عريض !! فإن الأبعاد الآلية لهذا الكون مذهلة !!
لكن الأمر أبعد ما يكون عن الجزاف والفوضى .
والبناء العقلى المتغلغل فى الكون من الذرة إلى المجرة يجعلنا نكون عن هذا العالم الدقيق صورة أخرى .
ولن نأتى بهذه الصورة من عند أنفسنا بل من أقوال الفلكى الإنجليزى " سير جيمس جينز " الذى ينطق بهذه العبارة المثيرة : " لقد بدأ الكون يلوح أكثر شبهاً بفكر عظيم منه بآلة عظيمة " .
إن الروعة لا تكمن فى ضخامة الآلة التى نراها بل فى الطريقة التى تدور بها وتؤدى وظيفتها، فى حبكة الموازنة والضبط والتقدير .
ومن ثم يتجه الإعجاب إلى العقل الواضع الحاسب قبل أن يتجه إلى أثره المحدود .
ولننظر إلى عقلنا الإنسانى بين ما ننظر إليه من صنوف المخلوقات ماذا نرى ؟ إنه كائن ذكى قدير يبدو ويخفى فى أدمغة الألوف المؤلفة من سكان الأرض والأحياء والراحلين، الذين وجدوا والذين سيوجدون، من أين تولد هذا العقل ؟ من الماء والطين كأعشاب الحدائق .. هذا فرض مضحك ولا ريب، إنه نفحة من الخالق الأعلى وحده .
يقول سير جيمس جينز : يجب أن نذكر المقدمات التى يفترضها بعض النقاد من غير علم، فالكون لا يبيح لنا أن نصوره تصويراً مادياً، وسبب ذلك فى رأيى أنه قد أصبح من المدركات الفكرية العميقة أنا واجدون فى الكون دلائل قوة مدبرة أو مسيطرة يوجد بينها وبين عقولنا الفردية شىء مشترك، خير ما نصفها به أنها رياضية (!) لأننا لا نجد الآن أصلح من هذا التعبير " .
والعلامة الإنجليزى معذور فى وصف الإبداع الإلهى بهذا الأسلوب، لقد راعه وهو فلكى راسخ أن يجد فى نظام الشروق والغروب والدوران والانطلاق دقة تسجد علوم الرياضة فى محرابها، فقال : " إن التفكير المشرف عليها ليس هو العاطفة أو الأخلاق أو تقدير الجمال، ولكنه الرغبة فى التفكير بطريقة تفكير علمى رياضى !! بل إنه اعتبر العقل الإنسانى أثراً للعقل الكلى الذى توجد فيه على شكل فكر تلك الذرات التى نشأت منها عقولنا، ثم انتهى أخيراً إلى أن الآراء متفقة إلى حد كبير فى ميدان العلم الطبيعى إلى أن نهر المعرفة يتجه نحو حقيقة غير آلية " أى غير مادية، أى إلى الله الكبير المتعال . "
على هذا النحو يفكر علماء الكون الكبار، ويحكم أئمة العلم الحديث ورواده الكبار، ولذلك شعرت بسخرية أى سخرية عندما قرأت لصحافى " كبير " فى بلادنا هذه الكلمة الغبية السمجة : " إن التقدم العلمى يوشك أن يجعل أخطر الوثائق العقائدية نوعاً من البرديات القديمة التى حال لونها، وبليت صفحاتها، وعدت عليها عوامل الزمن بالتعرية والتآكل وأصبح من الضرورى للإبقاء على أثرها أن يخصص لها مكان فى متاحف التاريخ " .
قلت : ما أوسع الفرق بين منطق العلماء ومنطق الجهلاء فى تناول القضايا وإرسال الأحكام . هل يمحى الإيمان كله بهذه السهولة .
ولقد شعرت كذلك بسخرية أى سخرية عندما رأيت كتاباً بعنوان " العالم ليس عقلاً " ألفه شخص ولد فى نجد وقضى أغلب عمره على قهوات القاهرة وبيروت، وتلقى أكثر علمه من الأوراق الشاحبة التى يسطرها بعض المعلولين والمعقدين !
هذا المسخ الذى لم يعمل يوماً فى مرض ولا مختبر للكيمياء أو الفيزياء ينكر الألوهية ويسفه النتائج التى وصل إليها أمثال " أينشتين " من قادة المعارف الكونية، طبعاً لأنهم رجعيون وهو تقدمى، ولأنهم قاصرون وهو نابغة .. !!
ولست أتهم كل ملحد أنه صورة للملحدين الصغار فإن هناك بعض العلماء والفلاسفة ـ وإن كانوا قلة ـ تنكروا للإيمان وقواعده وغاياته، بيد أن المتتبع لأقوال هؤلاء يجزم بأن انتسابها إلى العلم تزوير جرىء فهم يخمنون ويفترضون ثم يبنون قصوراً على رمال !
وقد قرأت لبعضهم كلاماً عن بداية الخليقة يثير الضحك، فهم يزعمون أن العناصر فى الأزل السحيق تفاعلت اعتباطاً، وسنحت فرصة لن تتكرر بعد أبداً (!) فتكونت جرثومة الحياة ثم أخذت تنمو وتتنوع على النحو الذى نرى ..
وهذا كلام لا يصدر عن عقل محترم ولا يصفه بأنه علم إلا مخبول !!
وصدق الله العظيم " ما أشهدتهم خلق السموات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضداً ".
وأذكر أنى ـ وأنا أناقش بعض الأدلة ـ سألت نفس هذا السؤال : هل أنا كائن قديم أم مخلوق جديد ؟
فكان الجواب القاطع : لقد ولدت سنة كذا، فأنا حادث بلا ريب !! ولكن شبهة ثارت تقول : إنك تخلفت عن مادة الذين هلكوا قبلك، وعندما تموت فستكون أجساد منك ومن غيرك ! فقلت : إذا سلمت بهذا فى الأجساد فلن أسلم به فى روحى أنا .. إن هذه " الأنا " المعنوية هى حقيقتى الكبرى، وأنا مستيقن بأنى كائن جديد مستقل وجدت بعد عدم محض، فمن أبرزنى من لا شىء ؟
إننى لست معتوهاً حتى أشك فى بداية وجودى وشعورى، فمن رب هذه المنحة الخطيرة ؟ فتلوت قوله تعالى " هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً . [ الاستفهام تقريرى أى لقد أتى على الإنسان وقت كان فيه عدماً محضاً . والآيات فى صدر سورة الإنسان ] إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً " .
وعدت إلى قصة الجسد الذى أحمله فى حياتى وأنضوه بعد مماتى هل هو قديم المادة حقاً ؟ فسألت العلم : كيف يوجد ؟ وهل يمكن أن يتمثل بشراً سوياً هكذا خبط عشواء ؟ فقال العلم : إن الوليد يتخلق أول أمره من التقاء الحيوان المنوى بالبويضة !
فما الحيوان المنوى ؟ كائن دقيق توجد فى الدفقة الواحدة منه قرابة مائة مليون حيوان، كل واحد من هذه الألوف المؤلفة يمثل الخصائص المعنوية والمادية للإنسان من الطول والقصر والسواد أو البياض والذكاء أو الغباء والشدة أو الهدوء .. الخ .
ويبدأ التكون الإنسانى بوصول واحد ـ لا غير ـ من هذه الألوف الكثيفة إلى البويضة وتفنى البقية .
قلت : فلأقف عند نقطة الابتداء هذه لأسأل : من الذى صنع هذه الحيوانات السابحة فى سائلها، الحاملة لخصائص السلالة الآدمية من أجيال خلت ؟
قالوا : غدة فى الجسم !
قلت : غدة أوتيت الذكاء والوعى والاقتدار على خلق مائة مليون كائن من طراز واحد ! مجموعة دراهم من اللحم تتصرف من تلقاء نفسها فى صنع الذكاء أو الغباء، والحلم أو الغضب ؟
ما يصدق هذا إلا مغيب العقل !! وتلوت قوله تعالى :
" أفرأيتم ما تمنون . أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون ؟ " [ الواقعة : 58 ]
إننا أمام أدوات القدرة الإلهية العليا وهى تبرز مشيئة الخلاق الجليل، وكأنها تقول لنا : إن خلق الله للعالم ليس فيه شائبة غرابة ! أليس يخلق فى كل لحظة تمر ألوفاً من الناس وألوفاً من الدواب، وصنوفاً من النبات ؟؟
إن إبداع الخليقة ليس فلتة وقعت وانتهت، وأمست فى ذمة التاريخ بحيث يستطيع المكابرون أن يجادلوا فيها .. لا .. إن الإيجاد من الصفر يقع أمام أعيننا كل يوم فى عالم الأحياء فلم هذا المراء .
إن بديع السموات والأرض لا يزال يخلق فى كل وقت وفى كل بر صنوفاً من الأحياء الدقيقة والجليلة لا حصر لها، فكيف ينكر ما كان من خلق أول أو ما سوف يكون من بعث وجزاء ؟
" أو لم يروا كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده . إن ذلك على الله يسير . قل سيروا فى الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة . إن الله على كل شىء قدير " [ العنكبوت : 20 ] .
ولنفرض جدلاً أن بعض الناس يرى أن الفلك الدوار يجرى فى الفضاء دون ضابط ولا رابط، وأن الوليد الخارج من ظلمات الرحم لامع العين مورد الخد مفتر الثغر، قد صنعه على هذا التقويم الحسن شىء ما فى بطن
الأم !!
لنفرض أن بعض الناس ركب رأسه وقال هذا الكلام فما الذى يجعل هذا الزعم السخيف يوصف بأنه علم وتقدمية على حين يوصف منطق الإيمان بأنه جمود ورجعية ؟
سبحانك هذا بهتان عظيم !
لقد آن الأوان لتهتك الأستار عن أدعياء التقدم الذين يمثلون فى الواقع ارتكاساً إنسانياً إلى جاهلية عديمة الشرف والخير مبتوتة الصلة بالعقل وذكائه والعلم وكشوفه ..
ربما شك بعض الناس فى حقيقة الدين الذى يعتنقه أو فى جدواه عليه، فإذا ساور هذا الخاطر أحداً من خلق الله، فإن العربى آخر امرئ يعرض له هذا الظن، بل يقرب من المستحيل أن يساوره .
ذلك أن فضل الإسلام على العرب كفضل الضياء والماء على الزرع .
لا أقول أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف، بل أقول أوجدهم من عدم، وجعل لاسمهم حقيقة، وأقام بهم دولة وأنشأ حضارة ..
قد تكون بعض العقائد عقاقير مخدرة للنشاط البشرى، لكن الإسلام لما جاء العرب شحذهم وأثار عقولهم، ووحد صفهم، وطار بهم إلى آفاق مادية وأدبية لم يحلم بها آباؤهم ولا تخيلها أصدقاؤهم أو أعداؤهم، ومضى العرب فى طريق المجد الذى شقه الإسلام لهم فعرفهم للعالم وكان قبل يجهلهم، وأفاءوا على ماضيه القريب ما لا ينكره إلا متعصب كفور !
وارتبطت مكانة العرب الذاتية والعالمية بهذا الدين، فهم يتقهقرون إذا تخلوا عنه ويستباح حماهم . وهم يرتقون ويتقدمون إذا تشبثوا به وتحترم حقوقهم .
على عكس ما عرف فى أمم أخرى لم تستطع التحليق إلا بعدما تخففت من مواريثها الدينية كلا أو جزءاً !!
وقد استطاع مسلمو الجزائر فى هذا العصر أن يستخلصوا حريتهم من براثن عاتية وأن يدفعوا ثمن هذا الخلاص مليوناً ونصف من الشهداء !
وما ينبغى تقريره هنا أن الإسلام وحده كان وقود هذا الكفاح القاسى .. الإسلام بما غرسه فى الأفئدة من إباء.
فلما ظفر الجزائريون باستقلالهم بدءوا يستعيدون عروبتهم التى فقدوها خلال قرن وربع، ووضعت مشروعات لجعل الأفراد والجماعات ينطقون بالعربية ويتفاهمون بها بعدما كادت هذه اللغة تبيد أمام زحف الفرنسية وسيادتها فى الشوارع والدواوين !!
إن الإسلام بالنسبة للعروبة ولىّ نعمتها وصانع حياتها .
وقد اعترف مسيو " جاروديه " وهو شيوعى فرنسى عاش ردحاً من الزمان فى جبهة التحرير الجزائرية بأن الدين وحده هو الذى أوقد شرر هذا الكفاح العزيز الغالى وأن الإسلام يستحيل أن يوصف بأنه مخدر الشعوب .
والإسلام لا يجعل من العرب شعباً مختاراً يفضل غيره بسلالة أو دم خاص، كلا كلا، إن الله اختار لعباده تعاليم راشدة وشرائع عادلة، ثم وكل إلى العرب أن يحملوا هذه التعاليم والشرائع ليعملوا بها وليعلموها من شاء ..
والله يأبى كل نعرة عنصرية أو استعلاء قومى .. إنها مبادئ محددة، تنطلق منها أمة ما فتكون بعين الله، أو تند عنها فيدعها لنفسها، بالوفاء لهذه المبادئ تصعد، فإن فرطت هبطت .
ولذلك يقول الله للمنهزمين فى أحد " ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين " [ آل عمران : 139 ] فالعلو قرين الإيمان، وينصح الأمة كلها بالطاعة والإصلاح ويتهدد عدوها بالطرد والهوان، ثم يأمرها بالمقاومة ورفض الاستسلام وسيكون المستقبل لها إن هى أبقت حبلها موصولاً بربها " يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم . إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار فلن يغفر الله لهم، فلا تهنوا وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم " [ محمد : 35 ] .
والتدبر فى هذه الآيات الثلاث يعطى فكرة بينة أن تفضيل أمة ما هو تفضيل سلوك ومنهج، لا تفضيل دم أو لون وأن الإيمان الشريف والاستقامة الواضحة أساس العزة المنشودة وأنه مهما لاقى المسلمون من صعاب وهزائم فلا يجوز أن يقبلوا سلماً مخزياً ولا أن يعطوا الدنية من أنفسهم .
ولهم أن يركنوا إلى الله ولن يذل جانبهم ما آمنوا به وعملوا له .
واليقظة العزيزة التى صنعها الإسلام وهو يبنى الأمة يمكن أن نتابعها فى مرحلتين :
الأولى فى العهد المكى، يوم كان المسلمون قلة تتوقع الضيم ويتجرأ عليها الأقوياء !
لقد أمر المسلمون إبان هذه المحن أن يثبتوا ويشمخوا بحقهم، ويتنكروا لكل هوان ينزل بهم، ويطلبوا ثأرهم ممن اعتدى عليهم، فإن عفوا فعن قدرة ملحوظة لا عن ادعاء مرفوض !!
انظر كيف وصفت سورة الشورى المكية طلاب الآخرة الذين يؤثرون ما عند الله على هذه الدنيا، إنهم " الذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون والذين إذا أصابهم البغى إذا هم ينتصرون ! وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله والله لا يحب الظالمين " [ الشورى : 38 ] .
فطلاب الآخرة ـ كما وصفتهم السورة المكية ـ ليسوا الذين يعيشون فى الدنيا أذناباً مستباحين أو ضعافاً مغموصين، أو كما يقول الشاعر يصف قوماً تافهين :
ويقضى الأمر حين تغيب تيم
ولا يستأمرون وهم شهود

لا، لا، إن هؤلاء المؤمنين بالدار الآخرة يفرضون أنفسهم على هذه الحياة الدنيا ويكرهون العدو والصديق على أن يحسب حسابهم ويزن رضاهم وسخطهم، ويعلم أن نتائج العدوان عليهم أذى محذور وشر مستطير، لأنهم إذا بغى عليهم ينتصرون، ويلطمون السيئة بمثلها ! وليس ذلك بالنسبة للحق الأدبى للجماعة كلها، بل هو كذلك بالنسبة إلى حق الفرد فى ماله الخاص، فقد سئل النبى :
" أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالى ..
" قال : قاتله . قال : أرأيت إن قتلته ؟ ..
" قال : هو فى النار . قال : أرأيت إن قتلنى ؟ ..
" قال : فأنت شهيد " [ مسلم فى كتاب الإيمان ]
هل هذه الوصايا هى التى تخدر الأفراد والجماعات ؟
سبحانك هذا بهتان عظيم !
فإذا تجاوزنا العهد المكى إلى العهد المدنى نجد توجيهاً ينبع من هذه الروح الأبية الشامخة .
إن الهوان جريمة وقضاء الحياة فى ضعف واستكانة مرشح أول للسقوط فى الدار الآخرة .
ومن هنا أثبت القرآن الكريم هذا الحوار بين ملائكة الموت وبين الذين عاشوا فى الدنيا سقط متاع وأحلاس ذل .
" إن الذين توفاهم الملائكة ظالمى أنفسهم قالوا : فيم كنتم ؟ قالوا : كنا مستضعفين فى الأرض . قالوا : ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها ؟ فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيراً " [ النساء : 97 ] .
والهجرة المفروضة هنا هى التحول من مكان يهدد فيه الإيمان وتضيع معالمه إلى مكان يأمن فيه المرء على دينه، ولكن حيث استقرت دار الإسلام فلا تحول، وإنما يبقى المسلمون حيث كانوا ليدفعوا عن ترابهم ذرة ذرة ولا يسلموا فى أرض التوحيد لعدو الله وعدوهم .
والآية تحرم قبول الدنية وإلف الاستضعاف، وتوجب المقاومة إلى آخر رمق .
ومما يؤكد هذا المعنى أن القرآن أحصى الطوائف التى تعذر فى هذا التمرد المطلوب على قوى الشر .
ومع استثنائها فإن مصيرها ذكر معلقاً على " رجاء " المغفرة والعفو لا على " توكيد " ذلك !!
" .. إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم " [ النساء : 98 ] .
والتعبير بـ " عسى " هنا مثير للقلق، وهى إثارة مقصودة حتى لا يقعد عن مكافحة المعتدين من يقدر على إلحاق أى أذى بهم مهما قل .
ولا يقيم على ضيم يراد به
إلا الأذلان عير الحى والوتد

هذا على الخسف مربوط برمته
وذا يشق فلا يرثى له أحد

المسلم لا يقبل الحياة على أية صورة وبأى ثمن، إما أن تكون كما يبغى، وإما رفضها وله عند ربه خير منها .
ومن صيحات الكرامة والإباء قول رسول الله : " من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد " ! [ الترمذى فى الديات، وأبو داود فى السنة ]
وفى حديث آخر " من قتل دون مظلمته فهو شهيد " ! [ صحيح رواه الشيخان وأصحاب السنن الأربعة وأحمد ]
هل رأيت استنهاضاً للهمم واستنفاراً للنضال، واستثارة للذود عن الدماء والأموال والأعراض أحر من هذه المبادئ ؟!
أيمكن فى منطق العقل والإنصاف أن يوصف هذا الدين بأنه مخدر للشعوب ؟ ألا شاهت الوجوه !!
ومن حقنا أن نتساءل : هل ضمان الخبر يحفظ الكرامة الفردية ويوفر الأمان للجماعات ؟
لا شك أن للعنصر المادى أثراً فى طمأنينة المرء وشد أزره، ولكنه ليس كل شىء فى خلق العزة الشخصية والجماعية ! فرب سجين ملىء البطن خفيض الرأس، ورب طاو حديد البصر جهير الصوت .
قال لى صديق : وضعت الحب للعصافير فى شرفة بيتى، وجلست بعيداً أرقبها وهى تلتقطه بمناقيرها كعادتها .. بيد أنى ارتقبتها طويلاً فلم تهبط، ثم أدركت بغتة أن باب الشرفة مفتوح وأن الحذر عاقها عن الأكل فقمت أغلق الباب وأنا أقول : إن الطعام لا يغنى عن الأمان .
وهذا صحيح، فإن الله لما امتن على قريش بنعمته وبركته قال : " فليعبدوا رب هذا البيت الذى أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف " .
إن الشبع لا يغنى عن الحرية أبداً، وإن توقير " الديمقراطية الاقتصادية " يستحيل أن يغنى عن " الديمقراطية السياسية " .
إن الإنسانية ليست جسداً يعلف ويسمن، ولكنها فطرة تتشوف للانطلاق والتحرر، ولا بد أن يتقرر لها حقها فى النقد والمراجعة وحساب كل ذى منصب مهما جل وإقصاء من تكره وإدناء من تحب ..
واليقظة التى ينشدها الإسلام للشعوب تتضمن الأمرين جميعاً .
" ونريد أن نمن على الذين استضعفوا ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم فى الأرض " [ القصص : 5 ]
فكيف يتهم الدين بأنه مخدر للشعوب ؟
وربما اتصل بهذه التهمة المتهافتة تصور البعض أن الدين رباط مع الماضى، وأن التطور ينافيه .
ونتساءل نحن : ما هذا التطور ؟
إن الإلحاد ليس تطوراً، بل هو ترديد لكفر الصغار من جهلة القرون الأولى .
من ألوف السنين وقفت قبيلة عاد من رسولها موقفاً كأنما لخصت فيه كل ما يقال فى هذا العصر على ألسنة الشطار، من دعاة الإلحاد " أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم تراباً وعظاماً إنكم مخرجون . هيهات هيهات لما توعدون . إن هى إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين . إن هو إلا رجل افترى على الله كذباً وما نحن له بمؤمنين " [ المؤمنون : 35، 37 ]
إن التحلل من قيود الدين ليس تجديداً ولا ابتكاراً بل هو خضوع للغرائز الدنيا التى أنامت ألوف الخلعاء والخبثاء من عشرات القرون وجعلتهم يحيون وفق شهواتهم وحدها ! فأى ارتقاء فى هذا المسلك الرخيص ؟!
فى غضون القرن التاسع عشر للميلاد كانت نزعات الإلحاد تغلب على العقل الغربى، وبدا كأن العلم الطبيعى يتجه بالناس وجهة مادية تتنكر للدين وتضيق بتعاليمه، ولما كان الغربيون سادة الدنيا وقتئذ فقد صبغوا الفكر العالمى تقريباً بهذه الصبغة الداكنة ..
وقد تسأل : ماذا كان موقف المتدينين بإزاء هذا الفكر الزاحف ؟
والإجابة أن المسلمين كانوا فى حالة ذهول أنستهم رسالتهم المحلية والعالمية على سواء، فهم لا يريدون من دينهم شيئاً طائلاً ينفعون به أنفسهم بله أن ينفعوا به غيرهم .
وأما بنو إسرائيل فقد شرعوا عقب تقرر الحقوق السياسية فى الأقطار الحديثة يجمعون شملهم ليعيدوا ملك " يهوه " على الأرض ويستعدوا لحكم العالم من " أورشليم " وما كان عليهم أن تكتسح ظلمات الشك
كل ضمير .. !!
وأما النصارى فلو تفرغوا لمواجهة هذا الخطر لكانوا كالذى يرد الطوفان بالراحتين، فكيف وهم مشغولون بالقضاء على الإسلام المريض !
لذلك نجح الإلحاد فى فرض أفكاره وأحكامه على أغلب ميادين النشاط الإنسانى، وربما سمح للأديان أن تبقى ميولاً فردية واتجاهات أدبية وحسبها ذلك .
على أن القرن العشرين للميلاد أخذ يتجه ـ خصوصاً فى أواسطه ونهاياته وجهة مغايرة، وظهر فى كتابات كثير من العلماء الطبيعيين نزوع واضح إلى الإيمان بالغيب والتسليم بوجود إله حكيم قادر، عالم خبير !
وتدين العلم كسب إنسانى جليل !
والصورة التى تكونت لدى العلماء الطبيعيين عن الله أقرب إلى الحقيقة مما يهرف به كثير من رجال
الأديان .. !!
ولو كان للإسلام رجال يحسنون عرضه كما نزل فى أصوله الأولى لكان الإسلام دين الحاضر والمستقبل على سواء، ولكن الفكر الإسلامى وقع فى محنة رهيبة !!
ولست أزعم أن كل العلماء الكونيين نزاعون إلى التدين، فهناك من ضل الطريق !! ولكن تيار الإيمان لو مضى فى طريقه بين هؤلاء دون عوائق سياسية ودون إرهاب خارجى لتغير الوضع، فإن جمهرتهم سوف تدخل فى دائرة الدين بلا ريب !!
والمشكلة التى نواجهها نحن فى بلادنا الإسلامية هى تأخر مثقفينا فى مضمار التقليد !!
فعدد كبير منهم لا يزال يعيش فى العقلية المادية للقرن التاسع عشر .
وعدد آخر قد يعدو هذا النطاق ليرنوا ببصره إلى المسجونين كرهاً داخل بعض المذاهب المادية الحاكمة، وهم قوم كفروا عن إرهاب لا عن اختيار ففيم يقلدون ؟
والغريب أن نفراً من علماء الإسلام يزعمون أن الدين ـ كسائر القضايا الأدبية ـ لا صلة له بالعقل ! أى أن التفكير الإلحادى للقرن التاسع عشر ما زال هو الذى يسيطر عليهم، فأى بلاء هذا ؟
ونحن نناشد أحرار العقول أن يراجعوا أنواع المعرفة التى تعرض عليهم، فإن للاستعمار الثقافى دخلاً فى تلويثها وغشها ..
إن أعظم شىء فى رسالة الإسلام احترامها للعقل البشرى، وحفاوتها بالعلم الطبيعى، وبناؤها اليقين على النظر الصائب فى ملكوت الأرض والسماء .
ولا يوجد كتاب سماوى حث العقل على النظر، وقاد العلم فى مضمار البحث كهذا القرآن الكريم .
إننا بمنطق القرآن نرفض الظنون ونخضع لليقين، نرفض الأوهام ونستكين للحقيقة وحدها ..
إن التدين الذى تعلمناه من كتابنا ليس تحميل العقل ما لا يطيق ولا الهيمان فى عالم الأخيلة .. إنه تدين زكى عملى .
ثم هو يضم إلى هذا الفكر الناضج قلباً سليماً، لا مكان فيه لنية خبيثة أو غرض صغير، على أساس أن الإنسان لا يسيره العلم النظرى قدر ما تسيره مقاصده وآماله ..
ما أكثر ما يكون الذكاء سلاحاً يستعمل فى الخير والشر على سواء، فإذا صدق الإيمان صلح القلب واستقام المنهج " ومن يؤمن بالله يهد قلبه " " إن فى ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد " [ق 37].
وفى معرفة الكون وخالقه، والنفس وهداها يقول ابن عطاء الله السكندرى هذه الكلمة الحاسمة :
" لا ترحل من كون إلى كون، فتكون كحمار الرحى، يسير والمكان الذى ارتحل إليه هو الذى ارتحل منه، ولكن ارحل من الأكوان إلى المكون " وأن إلى ربك المنتهى " ..
" وانظر إلى قوله : " فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه " [ رواه البخارى فى سبعة مواضع من صحيحه، وأخرجه باقى الستة وغيرهم ] . فافهم قوله عليه الصلاة والسلام وتأمل فى هذا الأمر إن كنت ذا فهم ".
يقول الله تعالى " والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون . والأرض فرشناها فنعم الماهدون . ومن كل شىء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون ففروا إلى الله إنى لكم منه نذير مبين . ولا تجعلوا مع الله إلهاً آخر إنى لكم منه نذير مبين "
[ الذاريات : 48 ـ 50 ] .
هذه آيات خمس، والثلاثة الأولى منها وصفت الأكوان علوها وسفلها وما أنبتت فيها من حياة وأحياء .
والاثنتان الأخريان انتقلتا من الأكوان إلى المكون فتحدثتا عن وجوده ثم توحيده .
والحق أن الانحصار فى الكون والاحتباس بين مظاهره فواحش عقلية ونفسية لا يرضاها أريب لنفسه، بل ينفر منها أولو الألباب .
إن من له أدنى مسكة يعرف ـ من العالمين ـ رب العالمين ويعرف من الأكوان صاحب هذه الأكوان !!
إن هذا الملكوت الضخم الفخم من ودائع ذراته إلى روائع مجراته شاهد غير كذوب على أن له خالقاً أكبر وأجل .
إنها لجهالة أن يغمط هذا الإله العظيم حقه، وإنها لنذالة أن يوجد بشر ينكره ويسفه عليه .
ولكن خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين !!
والعاقل ينظر فى الكون فيتعلم منه تسبيح الله وتحميده، ويستنتج من قوانين الحياة وأحوال الأحياء ما يستحقه المولى الأعلى من أسماء حسنى وصفات عظمى ..
والناس صنفان : صنف يعرف المادة وحدها ويجهل ما وراءها ولا نتحدث الآن مع هؤلاء، فقد ذكرنا نبأهم فيما مضى .
وصنف مؤمن بالله مصدق بلقائه، ولكنه هائم فى بيداء الحياة، ذاهل وراء مطالب العيش، مستغرق المشاعر بين شتى المظاهر، فهو لا يكاد يتصل بسر الوجود أو يتمحض لرب العالمين .
ومع هذا الصنف المؤمن نقف لنرسل الحديث .
هناك قوم لا تخلص لله معاملاتهم، بل هى مشوبة بحظوظ النفس ورغبات العاجلة، وهؤلاء لن يتجاوزوا أماكنهم ما بقيت نياتهم مدخولة حتى إذا شرعت أفئدتهم تصفو بدءوا المسير إلى الأمام .
وهناك قوم يعاملون الله وهم مشغولون بأجره عن وجهه أو بمطالبهم منه عن الذى ينبغى له منهم، وهؤلاء ينتقلون عن أنفسهم من طريق ليعودوا إليها من طريق أخرى .
إنهم مقيدون بسلاسل متينة مع أنانيتهم فهو يسيرون ولكن حولها، لو حسنت معرفتهم بالله ما حجبتهم عنه رغبات مادية ولا معنوية بل لطغى عليهم الشعور به، وبما يجب له، وتخطوا كل شىء دونه، فلم يهدأوا إلا فى ساحته، ولم يطمئنوا إلا لما يرضيه هو جل شأنه على حد قول ابن فراس :
فليتك تحلو والحياة مريرة
وليتك ترضى والأنام غضاب

وليت الذى بينى وبينك عامر
وبينى وبين العالمين خراب

إذا صح منك الود فالكل هين
وكل الذى فوق التراب تراب

وابن عطاء الله يرى أن العامة يترددون بين مآربهم كحركة بندول الساعة لا تتجاوز موضعها على طول السعى، أو هم على حد تعبيره كحمار الرحى ينتقل من كون إلى كون، والمكان الذى ارتحل إليه هو الذى ارتحل منه .
والواجب على المؤمن أن يقصد وجه الله قصداً، وأن يتفصى تفصياً من ألوف الأربطة التى تشده إلى الدنيا وتخلد به إلى الأرض .
ومن خدع الحياة أن المرء قد يعمل لنفسه وهو يحسب أنه يعمل لله، ولو وضعت بواعثه الكامنة تحت مجهر مكبر لاستبان أن كثيراً من دواعى غضبه ورضاه وسروره وتعبه وراحته يصلها بوجه الله خيط واه على حين تصلها بحظوظ النفس حبال شداد .
وهنا الخطر المخوف أن الهجرة إذا كانت لله فقد مضت وقبلت وإلا فالأمر كما قال الرسول " من هاجر إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه " .
والشعور بوجود الله ليس أمراً يتكلف له الإنسان شيئاً، إنه شعور بالواقع !
قد يكون لك حبيب مسافر مثلاً فأنت إذا اشتقت إليه تتخيل صورته وتحاول الأنس بالوهم عن الحقيقة .
ولكن الشعور بالله ليس تقريباً لبعيد ولا تجسيداً لوهم، إنه إيمان بالواقع الذى يعد تجاهله باطلاً كشعورك
مثلاً ـ وأنت فى البيت ـ بأنك فى البيت، أو شعورك ـ وأنت فى القطار ـ بأنك فى القطار .
إنه الواقع الذى لا معدى عن الاعتراف به، وبناء كل تصرف على أساسه . إن الألوهية لا تفارق العباد لحظة من ليل أو نهار، ومن ثم فإن الغفلة عن الله غفلة عن الحق المبين .
ـ وإذا كان الأعمى يعجز عن رؤية الأشياء فإن الأشياء لم تزل من مكانها لأن عيناً كليلة لم تتبينها .
ـ وإذا كان الناس فى ذهول عن الحق المصاحب لهم المحيط بهم فذلك عمى تعود عليهم وحدهم معرته .
وقد كثر القرآن الكريم من أشعار الناس بهذه المعانى، وصاح بهم وهم يفرون عنها، إلى أين ؟ فأين تذهبون ؟ أين المذهب " والله من ورائهم محيط " [ الطارق ] .
    : " هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شىء عليم . هو الذى خلق السموات والأرض فى ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج فى الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير " [ الحديد ] .
هو بصير بما نعمل وهو معنا حيثما كنا ! ألا تعين هذه الحقائق على صدق المعرفة وحِدَّة الشعور بوجوده وإشرافه ؟
ثم ألا يدل ذلك على أن ذكرك لله ليس استحضاراً لغائب ؟ إنما هو حضورك أنت من غيبة وإفاقتك أنت من غفلة !!
ولا بد هنا من توكيد التفرقة بين وجود الله ووجود العالم، فإن بعض الناس يستغلون المعانى التى شرحناها للبس الحق بالباطل .
إن وجود الله مغاير لوجود سائر المخلوقات، وهذا العالم منفصل عن ذاته جل شأنه انفصالاً تاماً .
وقد تسمع بعض الفلاسفة أو بعض المتصوفين يقول : إنه يرى الله فى كل شىء .
وهذا التعبير صحيح إن كان يعنى أنه يرى آثاره وشواهده .
أما إن كان يعنى وحدة الخالق والمخلوق أو وحدة الوجود كما يهرف الكذبة، فالتعبير باطل من ألفه إلى يائه، والقول بهذا كفر بالله وبالمرسلين .
ووصف الإحاطة الإلهية فى هذا المجال وسيلة لا غاية .. وسيلة لتصحيح النية والجهد والهدف وإهابة بالإنسان أن يدير نشاطه البدنى والعقلى على مرضاة الله وحده .
وليت الناس يسعون فى هذا الطريق بنصف قواهم !
ولو أن امرءاً حاول استرضاء الله بنصف الجهد الذى يبذله لكسب المال، أو التمكين فى الأرض لقطع مرحلة رحبة فى طريق الارتقاء الروحى والخلقى، ولو أن امرءاً كره الشيطان ووساوسه بنصف الشعور الذى يكره به الآلام والخصوم لنال من طهر الملائكة حظاً .
إن الله قد يقبل نصف الجهد فى سبيله، ولكنه لا يقبل نصف النية، إما أن يخلص القلب له، وإما أن يرفضه كله.
وقد أسلفنا القول إن الإنسان قد تحتل قلبه مقاصد شتى هى التى تبعثه على الحركة والسكون، وعلى الرضا والسخط، وأن هذه المقاصد تنبعث عن أنانيته لا عن إيمانه بربه وابتغائه ما عنده .
والعلماء المربون يطاردون هذه المقاصد المتسللة إلى القلب ويمنعونها أن تثوى فيه . ولا يتوانون فى مطاردتها حتى تخفى ويطهر القلب منها .
ذلك أن الإسلام دقيق جداً فى تقويم النية الباعثة عليه والغاية المصاحبة له، فمن لم يكن الله وجهته فى هجرته فلا عمل له ولا خير فيه .
فى الحياة الآن ألوف من المدربين والأطباء والمهندسين والضباط والعمال والتجار والموظفين .. الخ يزحمون ظهر الأرض بحركة واسعة المدى، فأما ما كان للتكاثر والتظاهر فسوف يلصق بالتراب، وأما ما كان لله فهو مبارك الثمر ممتد الأثر .
إن البقاء لما قصد به رب السماء " من كان يريد حرث الآخرة نزد له فى حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له فى الآخرة من نصيب " [ الشورى : 20 ] .
ونعود إلى الصنف المسجون بين عناصر المادة لا يعرف غيرها، إنه ينتقل من عنصر، وينسب مادة إلى مادة، ويجحد ما بعد ذلك .
وقد ناقشنا هؤلاء، ودحضنا ما ساقوا من شبه، ونريد هنا كشف الستر عن بعض دعاوى القوم .
إن وصف الإيمان بأنه حركة رجعية، والإلحاد بأنه حركة تقدمية وصف كاذب، فالكفر قديم قدم الغرائز الخسيسة والأفكار السفيهة .
وتاريخ الحياة يتجاور فيه الخير والشر والصلاح والفساد فمن قال : " إن الإيمان طبيعة أيام مضت وانتهى دورها وأن الكفر يجب أن يفسح له الطريق " فهو دجال .
كذلك وصف الإيمان بأنه حركة فكر محدود، والإلحاد بأنه حركة عقل ذكى أو وصف الإيمان بأنه منطق الدراسة النظرية، والإلحاد بأنه منطق الدراسة العلمية والبحوث الكونية، هذا كلام خرافى لا حرمة له، فإن جمهرة كبرى من قادة العلم الكونى والدراسات الحيوية يؤمنون بالله ويرفضون الزعم بأن الكون خلق من غير شىء .
والواقع أن الإلحاد يعتمد على الظنون والشائعات، لا على اليقين والبراهين، وأنه لم يثبت فى معمل أو مختبر بأن الله غير موجود .
وكل ما هنالك أن الماديين نسبوا لغير الله من النظام والإبداع ما لا تصح نسبته إلا لله .
ووراء هذا النسب المنتحل ساروا وأيديهم خالية من أى يقين، بل هم كما وصف القرآن الكريم " وما يتبع أكثرهم إلا ظناً إن الظن لا يغنى عن الحق شيئاً . إن الله عليم بما يفعلون " .
أما الدلائل التى تغرس الإيمان فى القلوب عن طريق التفكير السليم فى هذا الكون الكبير فهى قائمة ناهضة .