لتأصيل التوراتي: المجازر الصهيونية التطبيق العملي للعقيدة اليهودية (4)
إن جميع الكتاب بلا استثناء عند كتابتهم عن المجازر والمذابح الصهيونية التي يرتكبها العدو الصهيوني في فلسطين وغيرها، يرجعون ذلك إلى: الديانة اليهودية، حياة الجيتو اليهودي، (اللاسامية)، ثم يحشرون واقع المجتمع الأوروبي والتحولات التي حدثت فيه في القرنين الأخيرين؛ بتقديري أنه حشر قسري، ليربطوا بين ذلك الواقع الأوروبي وما سيتوصلون له من تحليل بأن: الحركة الصهيونية حركة سياسية، (استعمارية)، من نتاج العقلية والثقافة الأوروبية في عصر الاحتلالات الغربية، ويجردونها من أصولها وجذورها الدينية. و يعترفوا فقط: أن الحركة الصهيونية استغلت الدين اليهودي لتبرير جرائم القتل والمذابح التي ترتكبها، ولتبرير ادعائها بالحق الديني والتاريخي في فلسطين، في الوقت الذي حقيقة الحركة الصهيونية هي: حركة دينية أسطورية غيبية في جوهرها ومضمونها كله، وهي الأداة السياسية اليهودية لتحقيق غايات الدين اليهودي. ونؤكد هنا أننا لا نعني بالدين اليهودي أنه الرسالة السماوية التي أنزلت على سيدنا موسى عليه السلام، ولكننا نقصد تلك الخرافات والأساطير التي جمعتها التوراة المحرفة والتلمود اليهودي الذي بين أيدي اليهود في الوقت الحاضر، تلك الديانة التي أصبحت ديانة وثنية بعد أن حرفها كتبة التوراة عن أصلها السماوي.
وفي هذه الدراسة سأنطلق من المشترك بين جميع الكتاب، وهو: أن الحركة الصهيونية هي نتاج عقلية وثقافة الجيتو اليهودي، و(اللاسامية)، لنرى إن كان الجيتو و(اللاسامية) بضاعة غربية أم اليهودية؟!!, إن كانت الديانة اليهودية هي التي تمثل الأساس العقائدي والفكري لجميع أشكال وصور الإرهاب الصهيو ـ أمريكي، أم الثقافة الغربية.
أولا: الجيتو اليهودي
كل من يعود إلى التوراة سيجد أن الجيتو اليهودي صنعته تعاليم عزرا، أو ما يعرف "بقوانين عزرا". وقوانين عزرا هي التي وضعت وصاغت الأساس العنصري للدين اليهودي، الذي لم يكتف بمنع الزواج من الغير كما يقول عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر: (لم تكتفِ التعاليم الدينية بحظر الزواج، وإنما حظرت على اليهود حتى الأكل مع الغير ووصل الفصل العنصري ذروته، من الشمول والتكامل فغدا الاختلاط مرادفاً للشر والانحطاط لا في عالم الإنسان وحسب بل وفي عالم الحيوان والنبات أيضاً فالحيوانات الهجينة غير مرغوب فيها والنسيج المختلط الغزل والزرع والخبز المختلط الحب كله مكروه شرعاً) .
كما أن التلمود اليهودي قد لعب الدور الأكبر في رسم حياة ومستقبل اليهود، يقول الدكتور (أسعد رزق) تعليقاً على دور التلمود في تكريس العزلة اليهودية في كل مكان (... ينبغي علينا كذلك أن لا نتجاهل المسؤولية التي تقع على عاتق اليهودية التلمودية منذ أن استتبت لها السيطرة على حياة اليهود وحتى أواخر القرن الثامن عشر وقيام الثورة الفرنسية. فالمجتمع اليهودي المغلق من سياج التلمود ليس من صنع العداء "المسيحي" لأتباع الديانة اليهودية، بل هو التجسيد المتعمد للنظرة الضيقة والانفصالية التي يظهر اليهود من خلالها أنفسهم، فولدت عندهم الاستعلاء والانعزال وجعلتهم لا يلتفتون إلى ما عداهم من الشعوب الأخرى إلا من مقام عليائهم وتفوقهم، ومن خلال القناعة التي رصدوها في كتبهم الدينية عن "الصفوة" و"الشعب المختار") .
وقد كان اليهود داخل هذه الأسوار يعيشون حياة اليهودية تامة وفق تعاليم الدين اليهودي، ويمارسون شعائرهم التعبدية والروحية والحياتية وفق تلك التعاليم، فهم كانوا أينما حلوا (لا ينسون أصلهم ولا دينهم .لذلك نراهم يتكاثفون وينظمون صفوفهم ويسعون لدى سلطات البلاد التي يقيمون فيها للحصول على حقوقهم الشرعية في الحياة، وكانوا ينتظمون من الناحية الزمنية في جمعيات لها رؤساء وحكامها وقضاؤها وتقاليدها، أما من الناحية الروحية فكانت تجمعهم المعابد التي يقصدونها للاستماع إلى تلاوة النصوص المقدسة، والصلاة والتعبد الجماعي، وكانت هذه المعابد أيضاً حكومات صغيرة) لا تعلم عنها الدولة شيئاً.
ثانيا: العداء لليهود "اللاسامية"
إن ظاهرة معاداة اليهود أو ما يسمي خطأ (اللاسامية) مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بحياة الجيتو، وهي مثل الجيتو لم تكن وليدة العصر الحديث أو المجتمع الأوروبي، ولا هي ابتكار اليهودي جديد، ولكن العداء للاليهود وفرض كابوسه عليهم هو مخطط قديم، يعود إلى عهد (عزرا ونحميا) اللذان وضعا الشريعة أيام السبي البابلي، وقاما بتطبيقها عملياً بعد عودتهما من السبي البابلي إلى فلسطين أيام الحكم الفارسي، وعقدة "السامية" هي أصل العنصرية والغرور والتعصب العرقي، والشعور بالاستعلاء والتفوق والتمايز على كل الجنس البشري، عند اليهودي.
ويذهب الكثير من المؤرخين إلى أن الصحفي الألماني اليهودي الأصل ولهلم مار (هو أول من استخدم مصطلح "اللاسامية" بمعنى معاداة اليهود، وذلك في عام 1889م بعد الحرب البروسية الفرنسية التي تسببت في انهيار الكثير من الماليين الألمان وجعلتهم يلقون باللوم على اليهود) .
وقد نشأت ظاهرة ما يسمى (اللاسامية) أو العداء لـ(لسامية) نتيجة لسوء الفهم الغربي للمضامين الدينية من وراء رفع اليهود نسبهم إلى سام بن نوح، وادعائهم أن الرب وعده وذريته بفلسطين "أرضا موعودة"، وبالسيادة العالمية على الكون، معتبرين أن جميع البشر من غير اليهود هم حيوانات خُلقت في هيئة البشر لتليق بخدمة السيد اليهودي، دون أن يوجد أي دليل تاريخي أو أثري صحيح على ذلك النسب. فالثابت تاريخياً وأثرياً وعرقياً، أن بني إسرائيل يعودون بنسبهم إلى سيدنا إبراهيم، ولم يكن نسب سيدنا إبراهيم مجهولاً كما فَهِم بعض الحَرفيين من المؤرخين وعلماء الآثار، الذين التبس عليهم جهل كتبة التوراة أو توريتهم على نسب إبراهيم، مما سبب لبس وحالة من عدم الوضوح عن نسب إبراهيم، علما أن أصل سيدنا إبراهيم يعود إلى قبيلة أرامية كانت تسكن في أور بابل في جنوب العراق في زمن حمورابي الكلداني.
أسطورة (السامية) الكاذبة هي التي أعطت الشرعية لكل الدعاوى اليهودية، بأنهم هم وحدهم "شعب الله المختار" وكل من سواهم "جوييم" حيوانات لا وزن لها ولا قيمة، ولا تستحق الحياة إلا بقدر ما يحتاج السيد اليهودي من الخدم منها. كما أنها تبرر لجرائم اليهود اللاإنسانية، وتعطي لهم الحق في التهرب من العدالة، ومعاقبة مرتكبها من اليهود، وتجعلهم أمة متمايزة عن الأمم الأخرى، وتجعل الكيان الصهيوني فوق القانون والشرعية الدولية، وأن من حق اليهود محاسبة جميع البشر، ولا يحق لأحد محاسبتهم.
"ساميون" وجوييم
بناء على تلك الأسطورة، قسم اليهود البشر إلى قسمين: "ساميون" هم اليهود، ولهم كل الحقوق الإنسانية، لأنهم "شعب الله المختار والمقدس" الذي خلق للسيادة العالمية، وإلى الجوييم أو الأغيار، وهم جميع المخلوقات الأخرى من بشر وحيوانات وغيرها. يقول البروفيسور اليهودي المشهور إسرائيل شاحاك عن نظرة اليهود لغير اليهود: (أصبحت موضة شائعة جداً في أوساط معينة هذه الأيام تجاه غير اليهود: فهم يعتبرون، بالمعنى الحرفي للكلمة، امتدادات للشيطان). وفي موضع آخر يقول: (أن كل غير اليهود مخلوقات شيطانية "ليس بداخلها أي شيء جيد على الإطلاق" حتى الجنين غير اليهودي يختلف نوعياً عن الجنين اليهودي، كما أن وجود غير اليهودي مسألة "غير جوهرية" في الكون، فقد نشأ كل الخلق من أجل اليهود فقط) .
تلك الأسطورة جعلت اليهودي يعتقد أنه قد خُلق بتدبير سماوي، لأن الدنيا التي أبدعها الله سبحانه وتعالى ما كان يمكن أن يستقيم أمرها من غير اليهود. فهناك قول مأثور ردده التلمود هو (كما أن العالم لا يمكن أن يعيش بلا هواء فإنه لا يمكن أن يعيش بدون إسرائيل) . تلك الأسطورة ربت اليهودي على النزعة العنصرية التي تجعله يشعر أنه من جوهر غير طينة البشر جميعاً، وأن هذا الجوهر مفرد بأسرار ومواهب لا توجد في غيره. وهذا الاعتقاد من السخافات المتكررة في التلمود، لازال موجودا في كتابات وأقوال الحاخامات. فقد خلص الحاخام شلومو نكديمون بعد سفططة عقيمة إلى أنه: (يجب "فصل" جسد الإسرائيلي عن جسد سلالة نوح لأنه من نوع مختلف تماماً، والشيء ذاته ينطبق على الروح. روح المخلوقات الإسرائيلية من طبيعة مضادة لروح سلالة نوح) . أما الحاخام "اسحق غينسبور" فيعتبر أن (الدم اليهودي والعربي، طبقاً للتعاليم اليهودية، لا يتساويان في القيمة). ولذلك، فان قاضياً في محكمة بئر السبع وقف صارخاً: (إن العرب لا يمكنهم توقع نفس العدالة المقدمة للاليهود) .
هذه العقيدة اليهودية التي تقوم على أساس إلغاء الآخر وعدم الاعتراف بوجوده، هي التي أصلت في اليهود الروح العدوانية، والقسوة والوحشية، وانعدام الشفقة أو الرحمة، وغيرها من الطباع اليهودية في التعامل مع الشعوب والأمم الأخرى.
الروح العدوانية الصهيونية
ولأن الديانة اليهودية هي مصدر التربية الصهيونية، كما هي مصدر الأفكار والعقائد الصهيونية، فقد اعتمدت التربية الصهيونية اعتماداً كبيراً على الدين في سبيل تشكيل أجيال متشبعة بتعاليم التوراة والتلمود، من أجل ترسيخ مفاهيم العنصرية والاستعلاء والعدوانية والعنف والإرهاب ضد غير اليهود في نفوس الناشئة اليهود. ومن هذا المنطلق يؤكد البروفسور اليهودي إسرائيل شاحاك (أن الديانة اليهودية عمقت الخصوصية والعنصرية لدى اليهود). ويمكن تلخيص أهم ما تبثه تلك الأساطير التوراتية في اليهود من روح، في :
1 - استلهام الروح العدوانية في التراث الديني اليهودي، فالتطرف الديني والعنصري في النظرة الصهيونية الجديدة تجاه غير اليهودي، يعكس دمجاً فكرياً بين القومية المعادية للأجانب وبين التطرف الديني الضيق.‏ أي أنها تشكل الأساس الديني للعنف والإرهاب، الذي ينتج عنهما: القتل والسبي والتدمير والقسوة الوحشية.
2 - استلهام تقاليد الروح العدوانية في الفكر والسلوك الصهيوني، فالصهيونية فكراً وسلوكاً موبوءة بالتعصب العنصري والديني، والعنف هو الأداة التي يتوسل بها الصهاينة لإعادة صياغة شخصية اليهودي، وقد جعلت الصهيونية من اللحم والدم العربي معهداً لتخريج خبراء القتل المجاني.‏ أي أنها تشكل الأساس الديني للاحتلال والتوسع والسيطرة، الذي ينتج عنها: الاغتصاب اليهودي لأرض الغير بعد طرد أهل الأرض منها.
3 - تمجيد القوة الإسبارطية كمثل أعلى، لذلك تم‏ عسكرة المجتمع "الإسرائيلي" في فلسطين.‏ أي أنها تشكل الأساس الديني للحرب الجماعية أو الأمة المسلحة، الذي ينتج عنها: وجوب القتال على كل قادر، وتسخير الشعب كله لهدف الحرب. يضاف إلى ذلك ما له علاقة بالحرب نفسها، كأداة، وكأسلوب حياة، وتجاوز كل الأخلاق والأعراف والقوانين الخاصة بالحفاظ على حياة المدنيين والآمنين، وحسن معاملة الجنود الأسر والحفاظ على حياتهم.
4 - الإحساس بحتمية الحروب للوجود "الإسرائيلي" في فلسطين ، فالحروب هي بمنزلة أسطورة مغلقة تدخل في إطار البنية العامة للعقيدة الصهيونية شأنها في ذلك شأن سائر الأساطير المغلقة التي يتعامل معها الفكر الصهيوني الغيبي، مثل أسطورة أرض الميعاد والشعب المختار. وقد أصبحت الحروب بمنزلة تجسيد ومتنفس حتمي وضروري للروح العدوانية لدى الشخصية اليهودية "الإسرائيلية" مهما حاولت العقيدة الصهيونية أو الإمبريالية "الإسرائيلية" أن تلبسها من أردية الشرعية المختلفة.
وإذا كان الإحساس بحتمية الحرب هو سياج لم يعد يجد الإنسان (الإسرائيلي) منه مفراً، فإن الوجه الآخر للعملة، وهو السلام، أصبح يشكل هو الآخر كابوساً مخيفاً لا يستطيع تصور وجوده لأن ما قر في الوجدان (الإسرائيلي) هو أن الحرب هي الحياة وأن السلام هو الطريق إلى الزوال. ومن هنا جاء ذلك الفزع الذي يعيشه (الإسرائيلي) مع فكرة السلام. فالحقيقة الثابتة التي تحكم المجتمع "الإسرائيلي" وستظل تحكمه هي أن الخوف من السلام سيظل مسيطراً على الإنسان (الإسرائيلي) فالشخصية (الإسرائيلية) بالرغم من نزوعها أحياناً للسلام تظل بشكل مستمر في حاجة إلى الشخصية القوية التي تختزن في داخلها كل مقومات العدوانية والقسوة لأنها هي الدرع الوحيدة التي يثقون بقدرتها على الدفاع عن وجودهم، ومن هنا كان هذا التنازع الرهيب في الشخصية (الإسرائيلية) بين الرغبة في السلام والخوف منه. وفي هذا الإطار يبرز تقويمان يقودان إلى نتيجة واحدة بالنسبة لاتجاهات (إسرائيل) تجاه الإحساس بحتمية الحرب.
هذه هي العقلية التي أنتجتها حياة الجيتو وظاهرة العداء للاليهود، اللتان أرست دعائمهما الدينية طوال تاريخ اليهود الخرافات التوراتية، واللتان يعتبرهما الكتاب هما البيئة التي نشأت وترعرعت فيها الأفكار الصهيونية، وهما المسئولتان عن كل الأمراض والعقد الدينية والنفسية والعنصرية للاليهود. وبدل من المطابقة بين العقيدة اليهودية والممارسة الصهيونية، يُفصل بأسلوب تعسفي بين الدين اليهودي والحركة الصهيونية وممارساتها، وتتحول الحركة الصهيونية بقدرة قادر إلى: حركة سياسية ترتدي عباءة الدين لاستغلال اليهود لخدمة المصالح الغربية الصليبية في وطننا.
ولأننا نرفض هذا الفهم للصهيونية، وتلك النتيجة التي لا تربط بين الاعتقاد والممارسة ربطاً وثيقاً، وتفصل بينهما فصلاً تعسفياً لا يستقيم والمنطق السوي الذي يوافق الفطرة والواقع؛ فإننا سوف نطابق بين اليهودية كدين وعقيدة وبين الصهيونية كعقيدة وفكر وممارسة، ونبين أن الإرهاب الصهيوني هو تعبير عن الإيمان الصهيوني باليهودية كدين، وأن ذلك الإرهاب هو التصديق العملي لصحة الإيمان الصهيوني بالدين اليهودي عقيدة وممارسة.
العلاقة بين الدين والإيمان
كتب (بول رينكو) يوماً: (الدين هو استلاب الإيمان). وقد علق على هذه العبارة الفيلسوف الفرنسي روجيه جارودي: ذلك أن كل دين هو الإيمان المُعَبر عنه في لغة ثقافة ما. وما نطلق عليه بأزمة الدين، هو في الواقع أزمة الثقافة التي يعبر الدين عن ذاته من خلالها. وانتهى إلى القول: (أن العقيدة هي طريقة في التفكير، وأن الإيمان هو طريقة في العمل) . هذا الفهم للعلاقة بين الدين والإيمان لا يختلف عن المفهوم الإسلامي لهذا العلاقة، فالله تعالى ربط بين الإيمان والعمل في كثير من آيات القرآن الكريم، مثل قوله تعالى: (الذين آمنوا وعملوا الصالحات). كما أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ربط أيضاً بين الإيمان والعمل، فقال: (ليس الإيمان بالتمني ولكن الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل).
وما بين عبارة بول رينكو وتعليق جارودي عليها، وربط الإسلام مابين الإيمان والعمل، نخلص إلى القول فيما يتعلق بالصهيونية، أن: الديانة اليهودية هي العقيدة، وأن الصهيونية هي الإيمان والثقافة. بمعنى آخر: أن خرافات وأساطير التوراة هي العقيدة التي رسمت وشكلت نهج اليهودي في التفكير، وأن الصهيونية وممارستها العملية ونهجها السياسي هي الإيمان المعبر عن ذلك الدين. وقد تجلت ذروة الإيمان الصهيوني بالدين اليهودي، والتعبير عنه ثقافة وممارسة، في انتهاج العنف والإرهاب والتطرف .. عقيدة وممارسة ووسيلة لاغتصاب وطن الفلسطينيين، وتهجيرهم القسري منه، وارتكاب المذابح والمجازر ضدهم لإبادتهم. وذلك تنفيذاً لأوامر الرب "يهوه"، تحت طائلة التهديد والوعيد بالمحق والإبادة للاليهود إذا هم لم ينفذوا أوامر الرب بالقتل والإبادة للفلسطينيين واغتصاب وطنهم. ومرشدهم في ذلك أساطير التوراة وأكاذيبها عن القتل والإبادة التي قام بها بنو إسرائيل ضد القبائل التي كانت تسكن فلسطين في الماضي، وخاصة ما جاء في سفر التثنية ويشوع والعدد وغيرها.
هكذا أسس الدين اليهودي طريقة التفكير الصهيوني، القائم على العنصرية والاستعلاء والحقد والكراهية ضد كل ما هو ليس اليهودي، وأصل للعنف والإرهاب ضد الجوييم وسائل دينية مشروعة، بل اعتبرها ذروة التقوى والعبادة للرب "يهوه" من أجل تحقيق غايات التوراة.
الرؤية الصهيونية للإرهاب رؤية دينية
هذا الإيمان تمثل في الرؤية التي قدمها غلاة العلمانية والإلحاد الصهاينة، التي تتطابق مطابقة تامة مع الدين اليهودي، وعلى رأسهم: ثيودور هرتزل مؤسس الحركة الصهيونية الحديثة، الذي يعتبره السواد الأعظم من الكتاب أنه من غلاة الملحدين اليهود، وأنه كان يريد وطناً للاليهود في فلسطين أو غيرها يتوافق مع قواعد القانون الدولي، وفي نظرهم لم يكن من دعاة اغتصاب الأرض بالقوة، أي بالإرهاب، ولكن بالطرق السلمية والدبلوماسية. هذا في الوقت الذي وضع فيه هرتزل الرؤية الصهيونية المطابقة للدين اليهودي لاغتصاب فلسطين وإفراغها من أهلها، التي أساسها القتل والإرهاب والإبادة الجماعية.
يرى الدكتور أسعد رزوق عن معارضة هرتزل الظاهرية لأي أفكار أو أعمال متطرفة بأنها من قبيل التكتيك، فيقول: (والباحث في الازدواجية المتعمدة لدى هرتزل وأمثاله لا يسعه إلا الاعتراف بمسألة لا تقبل الجدل إطلاقاً: وهي أن ما يُعرف عن معارضة هرتزل لكل صياغة متطرفة لأهداف الصهيونية "مع العلم أن يومياته تكشف عن نواياه الحقة!" كان من قبيل الدبلوماسية والتكتيك الذي ينتظر اختيار الوقت المناسب) .
ولم تقتصر رؤية هرتزل في ممارسة العنف والإرهاب لاغتصاب فلسطين فقط، ولكنه أيضاً وضع رؤيته ومخططه التوراتي لاغتصاب العالم أجمع!!. ويتضح ذلك من خلال مجموعة محاضراته في المؤتمر الصهيوني الأول، التي ألقاها لتعبئة اليهود بالحقد على العالم، وقد جرى التكتم علي هذه المحاضرات إلى أن نشرت مقاطع منها مجلة "فرنسا القديمة"، ثم جمعتها في كتاب بعنوان "المؤامرة اليهودية". وقد كان أبرز ما جاء فيها، هو: وضع هرتزل الإطار والتصور العام للمخططات اليهودية للسيطرة على العالم، عن طريق الوسائل الإرهابية التي نشاهد تطبيقها على أرض فلسطين منذ أن وطأتها قدم أول اليهودي بعد تأسيس الحركة الصهيونية. أضف إلى ذلك أن هرتزل شكل فريقاً من الإرهابيين ووزعهم في البداية على روسيا والدول الأوروبية من أجل الانتقام من الدول الأوروبية التي أخذت في اضطهاد اليهود.
ومن بين ما نشرته مجلة "فرنسا القديمة" من محاضرات ثيودور هرتزل، هو حكمه بالموت على كل "الجوييم"، وهذه عقيدة التوراة في إلغاء الآخر، بالحكم عليه بالموت. فقد قال حرفياً: (لقد حُكم على الجميع أن يموتوا، ولذلك خير لنا أن نُعجل في موت أولئك الذين يتدخلون في شؤوننا من أن نرى أبناءنا أو من أن نرى أنفسنا نموت، ونحن الذين أوجدنا هذه الأنظمة). ويواصل هرتزل حديثه بأن غاية اليهود السيطرة على العالم، واستئصال جميع الأديان غير الدين اليهودي، فيقول: (ومتى أصبحنا أسياد الناس لا ندع في الوجود سوى ديانتنا التي تنادي بالإله الواحد الذي يتعلق به مصيرنا، لأننا نحن "شعب الله المختار" ولأن مصيرنا يقرر مصير العالم ولذلك وجب علينا أن نلاشي سائر الأديان إلى أن نتوصل إلى السيادة على سائر الشعوب) .
رؤية هرتزل هذه رؤية توراتية لنهاية العالم وسيادة اليهود بحسب وعد الرب "يهوه" لهم، ولم تكن من بنات أفكاره، ولا اجتهاد شخصي منه، في وقت كان يبحث فيه عن وطن يأوي اليهود الذين يعانون الاضطهاد والعذاب في أوروبا الوسطى والشرقية، بسبب إصرارهم على تمسكهم بدينهم، ورفضهم القبول بالإصلاحات التي كانت تجري في تلك البلدان، وتسمح لهم بالاندماج فيها كأي مواطن من أبنائها بغض النظر عن دينه، ولكنهم كانوا يصرون على أنهم قومية اليهودية غير قابلة للاندماج مع أحد، ولهم وطن يجب العودة إليه. وأن الرب وعدهم أنه سيقوم بواسطة "شعبه المختار" بتحطيم كل الآلهة الأخرى ويحكم الأرض: (الرب رهيب عليهم فيستأصل جميع الآلهة وله يسجد الناس كل واحد من موضعه جميع جزائر الأمم). نبوءة صفينا 2/11. ألم يقضي يشوع على كل ملوك الأرض في فلسطين وبلاد الشام، ودانت له الأرض بعد قتله أولئك الملوك جميعاً، وقد ذكر أسمائهم واحداً واحد في سفر يشوع، 12/7 ـ 24: (فكانت جملة عدد الملوك واحد وثلاثين ملكاً). ومسيح اليهود الذي سيأتي آخر الزمان ويكون ملكاً للعالم يمتد سلطانه – كما تذكر التوراة- ليغطي كل الكرة الأرضية من أقصاها إلى أقصاها، وذلك بعد إعادة بناء هيكلهم المزعوم، ليس شخصاً بعينه، ولكنه رمز للسيادة والسلطان للاليهود الذي يكون مركزه القدس، حيث جاء في المزمور 68/29: (يقدم الملوك لك الهدايا في أورشليم لأن هيكلك فيها).
مخطط الترحيل القسري لاغتصاب الأرض
وإذا ما علمنا أن الرب رهن تحقيق وعده للاليهود بالسيطرة على العالم باغتصابهم فلسطين، وتطهيرها من أهلها بالقوة، واستئصال وإبادة جميع سكانها، لذلك جاءت كل أوامر الرب بالقتل والإبادة الجماعية من أجل اغتصاب الأرض بالدرجة الأولى، وفي الوقت نفسه توعدهم أنهم إذا لم يفعلوا ذلك، فإنه سيفعل بهم ما كان سيفعله في أهل فلسطين، من إبادة جماعية واستئصال. جاء في سفر التثنية، الإصحاح (8) النص (20) يتوعدهم : (كالأمم التي يبيدها الرب من أمامكم هكذا أنتم أيضاً تبيدون، لأنكم لم تطيعوا أمر الرب إلهكم). وذلك خوفاً من أن مَنْ يبقى منهم يصبح (أشواكاً في عيونكم، ومناخس في جنوبكم، ويضايقونكم في الأرض التي أنتم مقيمون فيها). سفر العدد، الإصحاح (33)، النص (55).
وإذا أضفنا أن الأرض كانت عامرة بأهلها، وأن الصهيونية تهدف إلى استجلاب اليهود من أوطانهم الأصلية لتسكنهم مكان السكان الأصليين، أدركنا أن الخطط الصهيونية للترحيل القسري وإفراغ فلسطين من أهلها؛ إنما هي تنفيذاً لتعاليم الرب، وأن القتل إنما كان لإرضاء الرب، حتى لا ينزل بهم ما كان سينزله بالفلسطينيين. وأن جميع الأعمال الإرهابية والمذابح والمجازر التي ارتكبها ولازال يرتكبها اليهود في فلسطين وجوارها تمت وتتم بوعي ديني، وأنها لم تأتي استجابة للحظة التي حدثت فيها، أو للظروف الطارئة التي تطلبت مثل تلك الجرائم. وأن الشعار (أرض بلا شعب لشعب بلا أرض) الذي أطلقه البريطاني النصراني الصهيوني شافتسبري، الذي كان مهووساً بخرافات التوراة، ونبوءات العودة والسيادة العالمية اليهودية هو شعار اليهودي توراتي، أساسه إلغاء الآخر وعدم الاعتراف به، والحكم عليه مسبقاً بالموت، وفيه إشارة إلى ضرورة إبادة السكان الأصليين في فلسطين توطئة لتحقيق وعد الرب باغتصاب الأرض. فقد جاء في سفر التثنية، الإصحاح (7) النصوص من (1 إلى 5) : (ومتى أدخلكم الرب إلهكم إلى الأرض التي أنتم ماضون إليها لترثوها، وطرد من أمامكم سبع أمم، أكثر وأعظم منكم ... وأسلمهم الرب إليكم وهزمتموهم، فإنكم تحرمونهم – تقتلونهم – لا تقطعوا لهم عهداً، ولا ترفقوا بهم ... اهدموا مذابحهم وحطّموا أصنامهم وقطّعوا سواريهم وأحرقوا تماثيلهم).
إذا علمنا ذلك، أدركنا أن عمر خطة طرد السكان العرب من فلسطين هي بعمر التوراة، التي كتبت بداياتها أيام السبي البابلي، أما حديثاً فهي بعمر الحركة الصهيونية ذاتها، فقد كان هرتزل رائدا في وضع المخطط والرؤية التوراتية لكيفية التعامل مع سكان فلسطين الأصليين، من أجل تحقيق المخطط اليهودي لإفراغ الأرض من أهلها واغتصابها. فقد كتب في مذكراته: (سنسعى لتهجير السكان المعدومين عبر الحدود من خلال تدبير الوظائف لهم في بلاد الانتقال، لكننا سنمنعهم من القيام بأي عمل في بلدنا .. وعمليتا الاستيلاء على الملكية وترحيل الفقراء ينبغي أن تجريا معا بصورة محكمة وحذرة) . كما أنه اقترح طريقة أخرى للتخلص من الفلسطينيين، وذلك خلال استخدامهم كأرقاء عند المغتصبين اليهود وتسخيرهم للقيام بالمهام الصعبة والخطرة التي لا يجوز أن تزهق أرواح اليهود فيها أو بسببها. فقد كتب في يومياته: (إذا انتقلنا إلى منطقة حيث توجد حيوانات مفترسة لم يتعود عليها اليهود كالأفاعي الكبيرة مثلاً فسأحاول أن استعمل السكان البدائيين للقضاء على الحيوانات قبل أن أجد لهم عملاً في البلاد التي يعبرون إليها) .
وبعد أن ينتهوا من الأعمال الخطرة وتهيئة الأرض وجعلها صالحة لحياة اليهود، فإنه يجب التخلص منهم بالإبادة الجماعية، وبأسلوب حضاري جداً، باستخدام أساليب ووسائل ومنجزات العصر الحديث في عملية الإبادة العصرية، حيث كتب في كتابه "دولة اليهود" بأسلوب رمزي، يقول: (لا يتم تأسيس دولة الآن بالأسلوب ذاته الذي كان يستعمل قبل ألف سنة، فمن الغباوة العودة بمستوى الحضارة إلى الوراء كما يقترح الكثير من الصهيونيين. فلنفترض على سبيل المثال أننا أجبرنا على أن نخلي بلداً ما من الوحوش، يجب علينا أن لا نقوم بهذا العمل وفقا لأسلوب الأوروبيين في القرن الخامس كأن نحمل الرمح ونذهب كل على حدة للبحث عن الدببة، يجب علينا تأليف حملة صيد كبيرة ومن ثم نجمع الحيوانات ـ الفلسطينيين الذين بحسب العقيدة اليهودية هم وجميع البشر من غير اليهود حيوانات ـ ونلقي في وسطها القنابل المميتة) . ويمكن اعتبار أفكار وإشارات هرتزل تلك بمثابة الجذور الفكرية للمجازر والمذابح التي سيمارسها اليهود في فلسطين وجوارها بعد ذلك.
هكذا استلهم اليهود من التوراة سياستهم في البطش والعنف، التي تسير على خطى إدعاءات كتبة التوراة بتدمير يوشع بن نون لأريحا في قديم الزمان، وقضائه على جميع سكانها وحتى البهائم فيها، تنفيذاً لأوامر الرب. فالصهيونية تستوحي أفكارها الرئيسية، ومنطلقاتها السياسية والعملية في الحياة من التوراة. وبدون إطالة ولضيق المساحة، وطول الدراسة، نكتفي بهذه الخلفية الدينية اليهودية للفكر الصهيوني، لنعرض للتطبيقات العملية لتلك المعتقدات الدينية التوراتية.