وأما قوله تعالى : { لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا } فالتأكيد فيه خارج عن لن لا منها (1) ولا تأكده خلافا له في كشافه لكن وافقه على التأكيد كثيرون اهـ . قلت فقول الخضري لكن وافقه كثيرون . نعم وافقه كثيرون ولكن هذه الكثرة بالنسبة للقائلين بعدم التأكيد قليل ويظهر ذلك جليا لمن تتبع كتب اللغة وأقوال المتبحرين في هذا الفن ولو سلمنا جدلا بأن لن في قوله تعالى :{ لَن تَرَانِي } للتأكيد فهل يا ترى تفيد النفي الدائم الذي فهمه الزمخشري وأمثاله حتى جعلوا رؤية الله عزوجل بالأبصار مستحيلة بمقتضى ما فهموه من الآية الكريمة .

أليس قوله تعالى حكاية عن قصة موسى مع الخضر :{ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا } (2) وهو جائز غير محال .
وهذا الفخر الرازي يوافق الزمخشري في أن لن للتأكيد ولكنه يرد عليه في كونها لتأكيد النفي الدائم . فيقول (3) (( إن لن لتأكيد نفي ما وقع السؤال عنه والسؤال إنما وقع عن تحصيل الرؤية في الحال فكأن قوله عزوجل : { لَن تَرَانِي } نفي لذلك المطلوب فأما أن يفيد النفي الدائم فلا )) .

قلت وقد سبق أن نظر الزمخشري (4) لقوله تعالى : { لَن تَرَانِي }

بقوله عزوجل : { لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ } (5) على أن مفاد الآيتين سواء في تأكيد النفي المؤبد وهذا مغالطة منه وهروب من الحق لأن بين الآيتين بونا وفرقا شاسعا وقد مر بنا قول الخضري (6) وأما قوله تعالى : { لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا } التأييد فيه خارج عن لن لا منها اهـ قلت ومن ذلك أيضا قوله تعالى :{ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ } (7) فليس التأبيد دلت عليه لن بل من دليل خارج .

قال أحمد الإسكندري في الإنصاف (8) (( لن كما قال تشارك لا في النفي وتمتاز بمزيد تأكيده وأما استنباط الزمخشري من ذلك منافاة الرؤية لحال الباري عزوجل ثم إطلاق الحال على الله مما يستحرز عنه واستشهاده على أن لن تشعر باستحالة المنفي بها عقلا مردود كثيرا بكثير من الآي كقوله تعالى : { فَقُل لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَدًا } (9) فذلك لايحيل خروجهم عقلا { لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ } (10){ لَّن تَتَّبِعُونَا } (11) فهذه كلها جائزات عقلا لولا أن الخبر منع من وقوعها فالرؤية كذلك اهـ

قلت فإذا فهمت ذلك فاعلم أن قوله تعالى : { لَن تَرَانِي الخ } هي أدل على جواز الرؤية منها على استحالتها عكس مافهمه النفاة كالمعتزلة وغيرهم ويظهر ذلك جليا لمن نهج سبيل الحق واجتنب اتباع الهوى وأمعن النظر في الآية الكريمة أعني في سؤال موسى عليه السلام { رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ }
______________
1_ وذلك أن جملة لن يخلقوا الخ وارادة مورد التعجيز لأنه لما كان الخلق والايجاد
للانفس مختصا بالمولى تقدست أسماؤه وما سواه عاجز عن ذلك دلت الآية الكريمة
بجملتها على عجز المخلوق عجزا مؤبدا عن أن يخلق ذبابة فوضح أن التأبيد
مستفاد من غير لن .
2_ سورة الكهف 67 .
3_ في تفسيره الكبير 14 / 333 الطبعة الأولى بمطبعة البهية المصرية سنة 138 .
4_ انظر صفحة 21 من هذا الكتيب : ومعنى نظراتي للآية بنظير لها أي بشبيه .
5_ الحج 73 .
6_ صفحة 25 .
7_ الحج 47 .
8_ الانصاف على الكشاف للزمخشري 2/ 114 .
9_ التوبة 83 .
10_ هود 36 .
11_ الفتح 15 .