وأما من أراد أن ينفي رؤية الله عزوجل بالأبصار فإنما أراد بذلك التعطيل فلما لم يمكنهم أن يظهروه صُراحا أظهروا ما يؤول بهم إليه فتعالى الله عن ذلك علواً كبيراً .

قال المحدث المفسر ابن كثير في قوله تعالى : { لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ } مانصه (( فيه أقوال للائمة من السلف أحدها لاتدركه في الدنيا وإن كانت تراه في الآخرة كما تواترت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلممن غير ما طريق ثابت في الصحاح والمسانيد والسنن إلى أن قال : وقال آخرون من المعتزلة بمقتضى ما فهموه من هذه الآية إنه لايرى في الدنيا ولا في الآخرة فخالفوا أهل السنة والجماعة في ذلك مع ما ارتكبوه من الجهل بما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم تم ذكر أدلة في ذلك )) (1) .


وأما ما ذكرته سابقا من أن قوله عزوجل : { لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ } دليل على منكري الرؤية لالهم فهو ماذكره شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله : (( إنما نفى الإدراك الذي هو الإحاطة كما قاله أكثر العلماء ولم ينف مجرد الرؤية لأن المعدوم لايرى وليس في كونه لايرى مدح إذ لو كان كذلك لكان المعدوم ممدوحا وإنما المدح في كونه لا يحاط به وإن رئي كما أنه لايحاط به وإن علم فكما أنه إذا علم لايحاط به فكذلك إذا رئي لا يحاط به رؤية فكان في نفي الإدراك من إثبات عظمته مايكون مدحا وصفة كمال وكان دليلا على إثبات الرؤية لا على نفيها لكنه دليل على إثبات الرؤية مع عدم الإحاطة وهذا هو الحق الذي اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها )) (2) .


ومعلوم أن المدح إنما يكون بالصفات الثبوتية وأما العدم المحض فليس بكمال فلا يمدح به الرب عزوجل وإنما يمدح بالنفي إذا تضمن أمرا وجوديا كمدحه سبحانه وتعالى بنفي الشريك والصاحب والولد والظهير المتضمن كمـال
الربوبية والألوهية وقهره ، وبنفي الأكل والشرب المتضمنين كمال صمديته وغناه وبنفي الشفاعة عنده عزوجل إلا بإذنه المتضمن كمال توحده وغناه عن خلقه ، وبنفي الظلم المتضمن كمال عدله وغناه ولهذا لم يمدح عزوجل بعدم محض لم يتضمن أمرا ثبوتيا لأن المعدوم يشارك الموصوف في ذلك العدم ولا يوصف الكامل بأمر يشترك هو والمعدوم فيه فلهذا فإن قوله عزوجل : { لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ } يدل على كمال عظمته وأنه أكبر من كل شيء وأنه لكمال عظمته لايدرك بحيث يحاط به وإن رئي لأن الإدراك هو الإحاطة بالشيء وهو قدر زائد على الرؤية كما يدل على ذلك قوله سبحانه : { فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ } .

{ قَالَ كَلَّا} (3) فموسى عليه السلام لم ينف الرؤية وإنما نفى الإدراك والرب عزوجل يرى ولا يدرك كما يعلم ولايحاط به علما بل الشمس هذه المخلوقة لايتمكن رائيها من إدراكها على ماهي عليه وكذلك السماء فإن الرائي يقلب فيها بصره ولا يتمكن من الإحاطة بها والله عزوجل أعظم من ذلك كله .




______________
1_ ابن كثير في تفسير 3 / 161 .
2_ الرسالة التدمرية /25 .

3_ الشعراء 63 .