تفاءل تهوى

طفل ينالُ درجةً متدنيةً في مادة دراسية ما, فغالباً ما يتلقى ملاحظاتٍ من معلمه وأمه وأبيه, وتعليقاتٍ من إخوته ورفاقه تدور حول ضعفه في هذه المادة.
فهل لهذه الملاحظات تأثير على مستواه في هذه المادة فيما بعد؟

من المشاهدات اليومية المتكررة, وبتحليلٍ منطقي بسيط نجد أن هذه الكلمات التي تُوجَّه إليه تركز عنده فكرةً عن نفسه مفادها أنه ضعيف في هذه المادة, والدليل علامته المتدنية. وتثبت عنده هذه الفكرة مع التكرار, ليتصرف فيما بعد على هذا الأساس, فيهتم بالمادة اهتمام الضعيف بها, ويدرسها دراسة الضعيف.
تعالوا لنتخيل مشهداً آخر... نفس الطفل أخذ نفس الدرجة المتدنية, فقابلته المعلمة بالحثِّ على إحراز الأفضل, وبثّت فيه أمه الأمل في تحقيق درجات أعلى, وأكّد له أبوه أنه قادر على التفوق في هذه المادة.
كيف سيتعامل الطفل مع هذه التغذية الراجعة؟
من المتوقع أن تبعث فيه مواقف مَن حولَه ثقةً بنفسه وبقدرته على التفوق في فصله, ويعتبر تلك الدرجة المتدنية كبوة جواد.
وللقارئ أن بتخيّل مواقف حياتية مشابهة تقوم فيها مواقف ُ وردودُ أفعالٍ وتعليقاتٌ بدور مُشجِعٍ أو مُثَبِّطٍ في حياة المرء, وإن كانت المثبِّطة المُحبِطة منها طاغية على الأغلب.
ربما كان لهذه المواقف السلبية مسؤولية كثير مما نراه في مجتمعاتنا من تكسير معنويَّات وإحباطات وفشل.
نعود لنؤكد على نقطة مهمة. ما الذي قام به كل من الأب والأم والمعلمة والزملاء في مثالنا السابق؟
كلمات... مجرّد كلمات قيلت للطفل.
وهذا لبُّ حديثنا: هل للكلام تأثير على حياتنا الحاضرة والمستقبلية بالكم والكيفية التي نتوقعها؟
ربما لو قلنا أن تلك الأفكار التي نحملها في أذهاننا (أو يحملها غيرنا) ونترجمها إلى كلمات تُخطط مستقبلنا وترسمه وفقاً لها لَما جانبنا الصواب كثيراً.
فرسولنا صلى الله عليه وسلم أرشدنا إلى التفاؤل وتوقع الخير وثبت عنه أنه كان يعجبه الفأل، والفأل هو الكلمة الطيبة التي يسمعها الإنسان، فيرتاح لها وتسره, ونهى عن الطيرة وهي التشاؤم. وكما في القول الشائع: "تفاءلوا بالخير تجدوه". وكيف نتفاءل بالخير إلا بأفكارنا الإيجابية وكلامِنا الإيجابي ؟ ويُخبرنا صلى الله عليه وسلم إنه بتعمُّد التفكير الإيجابي وانتقاء الكلمات الإيجابية نستقطب الخير لأنفسنا ولغيرنا.
وفي حديث قدسي يقول لنا رب العزة جل وعلا: "أنا عند ظن عبدي بي" (صحيح البخاري – 7405). فظَنُّك في شيء أو شخص أو حتى في رب العالمين -إن كان حسناً أم سيئاً- يُحدِّد موقفك منه وبالتالي أفعالك, وفيما بعد النتائج المترتبة عليها.
ولم يكن الخطاب لنا فقط لنتفاءل ونُحسن الظن -وهي مسألة ذهنية داخلية- بل تعدّاها إلى أمرٍ آخر.
فقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: "خير الأسماء عبد الله وعبد الرحمن وأصدقها الحارث وهمام وشرها حرب ومرة". (السلسلة الصحيحة – 1040). ويروى أنه صلى الله عليه وسلم غيّر ما قبُحَ من أسماء الصحابة. فعن ابن عمر: "أن ابنةً لعمر كان يقال لها عاصية؛ فسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم جميلة" (صحيح ابن ماجه – 3023).
وأمرنا أن نجنب أولادنا الأسماء المشتقة من كلمات توحي بالتشاؤم, حتى يسلم الولد من مصيبة هذه التسمية وشؤمها.
روى سعيد بن المسيب أن جده حزنا قدم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ( ما اسمك ). قال : اسمي حزن ، قال: (بل أنت سهل). قال : ما أنا بمغير اسماً سمّانيه أبي، قال ابن المسيب : فما زالت فينا الحزونة بعد. (صحيح البخاري – 6193).

ومن تأكيد الرسول صلى الله عليه وسلم على الربط بين الاسم الذي نطلقه على الشخص وبين واقع حياته, ما رواه سمرة بن جندب أن رسول الله تعالى قال: "...ولا تسمين غلامك يساراً ، ولا رباحاً ، ولا نجيحاً ، ولا أفلح ، فإنك تقول : أثمّ هو؟ فلا يكون . فيقول : لا . ..." (أثمّ هو: أهناك يسار). (صحيح مسلم – 2137).
فإن نودي على حاملي هذه الأسماء التي فيها يُمن أو تفاؤل, وكانت الإجابة بالنفي ( لا... يسار..رحل ...) -سواءٌ قصدنا بها ذلك المعنى السيئ أم لا- قد يحصل كدَرٌ من قبح الجواب.

فالكلمات التي تخرج من أفواهنا والتي تحمل شؤماً أو سوءاً لها تأثير علينا وعلى من حولنا. وتحذير الرسول صلى الله عليه وسلم لنا يؤكد أن المعاني التي تحملها تلك الكلمات ربما تتحول واقعاً بحسنها وسيئها.

وأكدها رسول الله صلى الله عليه وسلم في عدة مناسبات كقوله عن السيدة عائشة رضي الله عنها: "لا يقولن أحدكم خبثت نفسي، ولكن ليقل لقست نفسي" (صحيح البخاري – 6179).

فانتقاء الألفاظ الحسنة مطلوب, والتحدّث بالخير وتوقعه مرغوب, كي ينعكس على واقعنا.

ومزيدٌ من الأحاديث الشريفة يؤكد لدينا هذه الفكرة ويُرسّخها, ومنها ما رواه أبو سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا رأى أحدكم رؤيا يحبها، فإنما هي من الله، فليحمد الله عليها, وليحدث بها، وإذا رأى غير ذلك مما يكره، فإنما هي من الشيطان ، فليستعذ من شرها، ولا يذكرها لأحد، فإنها لا تضره". (صحيح البخاري – 6985)

وفي رواية أخرى :"فإذا رأى أحدكم ما يحب فلا يحدث به إلا من يحب" (صحيح البخاري – 7044)
فمن السنة أن يحدث بالرؤيا من يحب ويعلم منه المودة, ولا يقصُّها على من لا يأمنه وذلك حتى لا يشوش عليه بتأويل يوافق هواه, أو يسعى حسداً في إزالة النعمة عنه. أما الرؤيا السيئة فلا يذكرها لأحد خشية تعبيرها بالمكروه, فيحصل الاضطراب منها, ولأن كتمها سبب لاضمحلالها.
وعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الرؤيا تقع على ما تعبر، و مثل ذلك مثل رجل رفع رجله فهو ينتظر متى يضعها، فإذا رأى أحدكم رؤيا فلا يحدث بها إلا ناصحاً أو عالماً". (السلسلة الصحيحة – 120).
ومن طريف ما روى الإمام مالك في الموطأ عن يحيى بن سعيد: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لرجل: ما اسمك؟ قال: جمْرَة؛ قال: ابن مَنْ؟ قال: ابن شهاب. قال: ممن؟ قال من الحرقة. قال: أين مسكنك؟ قال: بحرّة النار. قال: بأيّتها؟ قال: بذات لظى. قال عمر: أدرك أهلك فقد هلكوا واحترقوا, فكان كما قال عمر رضي الله عنه.

إنها لإشارات واضحة إلى أن ما نفكر فيه وما نقوله من كلمات -قصدنا معناها أم لا- يؤثر بشكل واضحٍ على حياتنا, ويصوغ مستقبلنا.
تلك هي البرمجة الإيجابية في تربية الرسول صلى الله عليه وسلم. فلنتعلم منه صلوات الله عليه كيف نصنع الإيجابية والتفاؤل, ونبثهما في حياتنا بأفكارنا وحديثنا وأفعالنا.
ونختم بما روى البيهقي عن السيدة عائشة رضي الله عنها: "ما جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت شعر قط إلا بيتاً واحدًا:
تفاءل بما تهوى يكُنْ فلقلّما يقالُ لشيءٍ كان إلا تحقَّقا
بقلم: ضحى فتاحي

__________________

jthxg flh ji,n