8) قولك: (لم تُجب عن سؤالي ألبتة! سألتُك: شحم الخنزير حلالا أم حرام؟ فأظن فيك قول: حرام. فهل لاجتهادك في المسألة أم للإجماع؟):

- سؤالك الثاني خطأ, وحتى يكون صحيحا, هكذا تقول: فهل لاجتهادك في المسألة أم لتقليدك؟
- اجتهادي يكون مستندًا على القرآن والسنة, وما أرشدا إليه من إجماع صحابة أو قياس.
- تقليدي يكون راجعًا إلى تبني رأي عالم أثق برأيه وعلمه وفهمه كالشافعي.
- قولك: (فإن قلت: للإجماع، قلت: نقضت ما تبنيته!) قول غريب! إن أجمع الصحابة على تحريم شحم الخنزير, فهو دليل شرعي يتفق مع ما تبنيته.
- إن اتفقت آراء الفقهاء والمجتهدين في تحريم شحم الخنزير فهو اتفاق مبني على الدليل الشرعي, فدليل تحريمي هو الدليل الذي استند عليه الفقهاء والمجتهدون, وليس إجماعهم.
- ملحظ: إن اتفق الفقهاء والمجتهدون على تحريم شحم الخنزير من دون دليل فهو اتفاق باطل؛ لأنَّهم يشرعون من دون الله, وينازعون الله في ألوهيته: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ﴾, (النحل: 116). وفي هذه الحالة: الأصل في الأشياء الإباحة ما لم يرد دليل التحريم.

- قولك: (وإن قلت: لا, قلت: كيف تصل لحكم خالفت فيه الأمة كل هذه القرون, وهل تتوقع أن يضيع الدين كل هذه القرون - لتكون أنت من يكشف الله على يدك الحكم؟):
- الجواب: لا.
- لم أصل لحكم مخالف لما عليه الفقهاء والمجتهدون, بل اتفقت معهم.
- إن كان ما توصلت إليه مخالفًا لما هم عليه؛ فهذا لا يعني أنَّ الدين ضائع؛ لأنَّ رأيي الذي بني على دليل شرعي ليس رأيا قطعيا, بل هو محتمل للخطأ, وهذا يعني أنَّ المسألة خلافية, ليس غير.
- هذا الافتراض منهي عنه في الشرع؛ لأنه تنطع, والنبي e يقول: «هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ», ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.

- الآن, لك بعض الحقائق التي لم تظفر بها:

· لم يجمع أهل العلم على تحريم (شحم الخنزير), بل ثمَّة خلاف؛ إذ إنَّ الإمام داود الظاهري يرى أنَّ (شحم الخنزير) حلال حكمه الإباحة, وله طائفة تتبنى رأيه, وقد أجاز أهل العلم الأخذ بهذا الرأي؛ لأنَّه رأي شرعي.

· اختلفت أدلة من حرَّم (شحم الخنزير)؛ منهم من جعل لفظ (اللَّحم) في قوله: ﴿لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ﴾ يدل عليه. ومنهم من جعل الرجس وصفًا للخنزير بعينه, فشحمه رجس, والرجس حرام. ومنهم من جعل إجماع أهل العلم دليلا على تحريمه.

· دليلي على تحريم (شحم الخنزير) هو القاعدة الشرعية: (إذا حرَّم الله شيئا, فإنَّ التحريم يقع على ما يؤكل منه جميعًا). لمَّا ثبت تحريم الخنزير: «إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الْمَيْتَةَ وَالْخِنْزِيرَ وَالْأَصْنَامَ»_ متفق عليه _, ثبت تحريم شحمه, بناء على القاعدة الشرعية.

· يقول ابن حزم عن هذا السؤال: (أحرم الله تعالى شحم الخنزير أم لم يحرم؟) فإن قالوا: حرم الله تعالى ذلك, قلنا لهم: ومن أين يعرف تحريم الله تعالى ما حرم إلا بتفصيله تحريمه وبوحيه بذلك إلى رسوله u؟ وهل يكون من ادعى أن الله تعالى حرم أمر كذا بغير وحي من الله تعالى بذلك إلا مفتريا على الله تعالى, كاذبا عليه جهارا؟ إذ أخبر عنه تعالى بما لم ينزل به وحيا ولا أخبر به عن نفسه، وقد : ﴿وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ﴾؟
فإن قالوا: لم يحرمها الله تعالى بوحي من عنده, ولا حرمها رسوله uبنص منه, لكن أجمع المسلمون على تحريم كل ذلك، قيل لهم: هذه أطم وأفحش أن يكون شيء يقرون أنه لم يحرمه الله تعالى ولا رسوله e, وإذا لم يحرمه الله تعالى ولا رسوله e, فقد أحله الله تعالى بلا شك, فأجمع المسلمون على مخالفة الله تعالى ومخالفة رسوله u؛ إذ حرموا ما لم يحرمه الله تعالى ولا رسوله e, وقد أعاذ الله تعالى المسلمين من هذه الكفرة الصلعاء.
فإن قالوا: لما أجمع المسلمون على تحريمه, حرمه الله تعالى حينئذ, قلنا لهم: متى حرمه الله تعالى؟ أقبل إجماعهم أم مع إجماعهم أم بعد إجماعهم؟ ولا سبيل إلى قسم رابع. فإن قالوا: بعد إجماعهم, جعلوا حكمه تعالى تبعا لحكم عباده, وهذا كفر محض. وإن قالوا: بل مع إجماعهم, كانوا قد أوجبوا أنهم ابتدءوا مخالفة الله تعالى في تحريم ما لم يحرمه وقد بينا فحش هذا آنفا. وإن قالوا: بل قبل إجماعهم, قلنا: فقد صح أنه تعالى حرمه, ولا يعرف تحريمه إياه إلا بتفصيل منه تعالى بتحريمه, والتفصيل لا يكون ألبتة إلا بنص. وهذا قولنا, وإلا فهو دعوى كذب على الله تعالى وتكهن, وقول في الدين بالظن, فظهر يقين ما قلناه وفساد قولهم, وصح أن المسلمين إنما أجمعوا على تحريم كل ذلك اتباعا للنص الوارد في تحريمه, كما لم يجمعوا على تحريم لحمه إلا بعد ورود النص بتحريمه, ولا فرق.

9) قولك: (ذهبتَ تجمع نصوصاً فيها ذكرُ الخنزير, أستطيع أن أناقشك فيها):

- أرجو منك_ في مداخلاتك المقبلات _أن تترفع عن هذه التعابير: (لقد تبسمت مشفقا), فهي لا تليق بنقاش فقهي, ولا تخرج من طالب علم, فضلا عن عالم.
- كون الحديث يدل على شيء, لا يعني أنه لا يدل على غيره؛ فمثلا, يقول النبي e: «إِنَّ هَذَا الأَمْرَ فِي قُرَيْشٍ», رواه البخاري. أستطيع أن أذكره في باب: (مناقب قريش), وفي باب: (شروط الخليفة), فهل ثمَّة تناقض؟
- الحديث موضع البحث, أستطيع أن أذكره في باب: (طهارة جلد الميتة بعد دبغه), وفي باب: (تحريم جلد الميتة وإن دبغ), وفي باب: (يحرم من الميتة ما يؤكل, ليس غير). يقول أبو إياس: وإذن فإنَّ كل ما يصلح للأكل من الميتة حرام أكله ونجس أيضاً، وهو الذي يحتوي على أحكام الميتة لا غير، فيخرج من الموضوع ما لا يُؤكل منها كعظمها وظِلْفها وشعرها وسنِّها. وعلى ذلك فكل ما في الميتة مما لا يؤكل لا ينطبق عليه حكم الميتة من حيث التحريم والنجاسة، بل يظل على البراءة الأصلية من الطهارة، وهذا الفهم أيضاً هو لشيخ الإسلام ابن تيمية.

- سأبين لك أمرًا, لعلك تدرك دقة الاستدلال الفقهي, حسب أصول الفقه. والأمر هو: (القاعدة الكلية):

· القاعدة الكلية هي حكم شرعي يعامل معاملة الدليل, حيث تنطبق تحته جزيئات, يبين حكمها, نحو: (الوسيلة إلى لحرام محرمة), ونحو: (مالا يتم الواجب إلا به فهو واجب).

· القاعدة الكلية تستنبط من الدليل الشرعي, ومثال ذلك: يقول الله U: ﴿وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾, (الأنعام: 108).

· المعالجة المباشرة: يحرم سب الأصنام وما شاكلها؛ لأنَّها تؤدي إلى سبِّ الله Y.

· المعالجة غير المباشرة: سبُّ ما يعبد من دون الله مباح, فلمَّا أدَّى هذا المباح إلى حرام_ وهو سبُّ الله Y _أصبح حرامًا. وعليه: (الوسيلة إلى الحرام محرمة).

- نأتي إلى فهم الحديث:«ماتت شاة لسَوْدة بنت زِمْعة، فقالت: يا رسول الله ماتت فلانة، يعني الشاة، فقال:" فلولا أخذتم مَسْكَها"، فقالت: نأخذ مَسْك شاة قد ماتت؟ فقال لها رسول الله- صلى الله عليه وسلم -:" إنما قال الله_ عز وجل _: ﴿قُلْ لا أَجِدُ فِيْما أُوحِيَ إليَّ مُحَرَّماً علي طاعِمٍ يَطْعَمُه إلا أَنْ يكُونَ مَيْتةً أو دماً مَسْفُوحاً أَو لَحْمَ خِنْزِيرٍ﴾, فإنكم لا تطعمونه أن تدبغوه فتنتفعوا به"، فأرسلت إليها فسلخت مَسْكها فدبغته, فأخذت منه قِربة حتى تخرَّقت عندها»:

· سَوْدة بنت زِمْعة فهمت من تحريم الميتة, أنَّها كلها حرام؛ لذلك أدخلت مسك الشاة في التحريم, وأبت الاستفادة منه, سواء للأكل أو غيره.

· النبي e أقرَّها على بعض فهمها, وهو: (إدخالها مسك الشاة في نص التحريم), ولم يقرَّها في باقي فهمها, وهو: (عدم تفريقها بين أكل المسك وبين الاستفادة منه في الدبغ).

· المعالجة المباشرة: جواز دبغ مسك الميتة.

· المعالجة غير المباشرة: تحريم الميتة دخل فيه تحريم المسك في الأكل, وهو مما يؤكل. وعليه: (تحريم الشيء يشمل تحريم ما يؤكل منه).

· إذن, أستطيع أن أذكره في باب: (تحريم شحم الخنزير). كيفية الاستدلال: إنَّ الله حرم الخنزير: «إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الْمَيْتَةَ وَالْخِنْزِيرَ وَالْأَصْنَامَ», متفق عليه. والقاعدة الشرعية: (تحريم الشيء يشمل تحريم ما يؤكل منه), وشحم الخنزير مما يؤكل, فهو حرام.

10) قولك: (يا أخ الداعي_ عفا الله عنك _أيضا, هذا لتحريم البيع, لا دخلَ لحكم شحمه في الأكل. وإن أردت استدلك؟):

- يقول النبي e: «وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا حَرَّمَ شَيْئًا حَرَّمَ ثَمَنَهُ», صححه الألباني. هذا حديث يلزم منه, أنَّ تحريم البيع من تحريم العين. وعليه, فكونه يحرم بيع شحم الخنزير, فهو حرام. فتأمل.
- يقول النبي e: «إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الْمَيْتَةَ وَالْخِنْزِيرَ وَالْأَصْنَامَ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، شُحُومُ الْمَيْتَةِ تُطْلَى بِهَا السُّفُنُ، وَيُدْهَنُ بِهَا الْجُلُودُ وَيَسْتَصْبِحُ النَّاسُ؟ قَالَ: لَا، هِيَ حَرَامٌ», متفق عليه كما في المغني لابن قدامة, وقد أورده تحت باب: (حُكْمُ شُحُومِ الْمَيْتَةِ وَشَحْمِ الْخِنْزِيرِ).
- وفي رواية: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلّ حَرَّمَ الْخَمْرَ، وَالْمَيْسِرَ، وَالْخَنَازِيرَ، وَبَيْعَ الْأَصْنَامِ»فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَمَا تَقُولُ فِي شُحُومِ الْمَيْتَةِ يَدْهُنُ بِهِ السُّفُنُ وَالْأُدْمُ؟ فَقَالَ:«قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ، فَأَجْمَلُوهَا وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا».
- التحريم في الروايتين واقع على عين الخنزير, وليس على بيعه.
- لقد جعل الشرع حكم شحم الميتة هو حكم الميتة, وبناء على القاعدة المستنبطة, فشحم الخنزير يأخذ حكم الخنزير.