الحمد لله المولي النعم الجسام ، ومسدي الآلاء العظام ، الذي ترادفت أياديه السابغة ، وثبتت حججه البالغة بالدلالات الواضحة ، والعلامات اللائحة .. والصلاة والسلام على نبيه ومصطفاه ، مختاره ومجتباه وعلى آله وصحبه وسلم .. وبعد ،

فقد قال دمنة : زعموا أن رجلاً غره الفجور بعد الجهل ، وأَزَّته الجراءة بعد الحماقة ، فسلك مسلكاً وعراً غير ذي زاد إلا مما عرفت ، فما زَلَّت قدمه إلا قال : سيعينني جهلي ، وما تَقَحَّمَ وَهْدَة إلا قال : ستقيمني جراءتي ، ولا انكفأ على وجهه إلا قال : سيمنعني فجوري ، ولا عضَّه القرّ إلا قال : ستؤويني حماقتي .
ثم إنه في أمره ، مستقبل غير مستدبر ، يظن مَنَعَتَه ، إذ فجأه طارقٌ من طوارق البرِّيَّة ، فأخذ عليه سبله ، فاستذكر زاده فذكر فقال : " ويحي ! وما عسى تغني عني الحماقة وإخوتها إلا كما يغني الماء عمن أدركه الغرق ؟!"
فاهتبله طارق الليل فبات ليلته في معدته ، ثم بعره ، ثم مضى في سبيله .

قال كليلة : فَمَثَلُ من هذا يا دمنة ؟!

قال : مثل إبراهيم العبطي في نقده (مخطوطات) القرآن .

***********

أما وقد علمت أيها القاريء مثل هذا الجهول الفاجر الجريء الأحمق ، فليس أهون علينا من أن ندلك على مواضع تلك الخصال منه ، وكيف ترجمت عن نفسها في منطقه فأتت بكل ما سترى من خبل وخطل .
والرجل تكاد تنطق عليه كلماته فتفضحه ، فلا تكاد تقرأ له سطراً إلا يقول لك : ها هنا موضع جهل ، وها هنا موضع غباء ، وهناك موضع للسخف ،
وثمة موضع للحماقة .. فتستحيل كتابته يلعن بعضها بعضاً وتلعن كلها كاتبها .
وهو في ميزان العلم كالهواء ، يرجح به ما خطُر وما حقُر ، ولا يكاد يرجح بشيء إلا نفسه ، فلا يكيله إلا جهله .

وسترى من زعمه ما يبسطك وما يقبضك ، وما ذاك إلا من تخبط نفسه في مهاوي الجنون ، فكلماته تبعث رياحاً نفسية تحيلها في نفس قارئها خطراتٍ من الانقباض والانبساط ، فلا ترع فإنما ذلك دليلك عليه !
ولا أعجب من زعمه نقد القرآن من دراسة مخطوطاته ! وتالله ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين .. والجواب المجمل على تلك المزاعم يكون من وجهين :

أولاً : تأصيل عام :

إن مأتى هذا النصراني لنقد القرآن ، من خلال ما سماه " مخطوطات القرآن " لكفيل بإيداعه أقرب مستشفى عقلي ، إذ إنه لا يوجد لدينا ما يسمى بـ " مخطوطات القرآن " .. فنقل القرآن لا يعتمد على " مخطوطة " بحال .. إنما هو كما كان منذ نزل ، نقل من الصدور لا من السطور .

وهذه مزية خص بها الله هذه الأمة ليحفظ لها كتابها .. كما يقول العلامة الجزري في النشر : (( ثُمَّ إِنَّ الِاعْتِمَادَ فِي نَقْلِ الْقُرْآنِ عَلَى حِفْظِ الْقُلُوبِ وَالصُّدُورِ لَا عَلَى حِفْظِ الْمَصَاحِفِ وَالْكُتُبِ ، وَهَذِهِ أَشْرَفُ خَصِيصَةٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِهَذِهِ الْأُمَّةِ ، فَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ عن النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا يَحْكِيهِ عن ربِّهِ أّنَّهُ قّالَ : " إِنَّمَا بَعَثْتُكَ لأَبْتَلِيَكَ، وَأَبْتَلِيَ بِكَ، وَأَنْزَلْتُ عَلَيْكَ كِتَابًا لا يَغْسِلُهُ الْماء ُ، تَقْرَؤُهُ نَائِمًا وَيَقْظَانَ " ))

وقال في شرح الحديث فيما نقله عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : (( فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ الْقُرْآنَ لَا يَحْتَاجُ فِي حِفْظِهِ إِلَى صَحِيفَةٍ تُغْسَلُ بِالْمَاءِ ، بَلْ يَقْرَءُوهُ فِي كُلِّ حَالٍ كَمَا جَاءَ فِي صِفَةِ أُمَّتِهِ : " أَنَاجِيلُهُمْ فِي صُدُورِهِمْ " ، وَذَلِكَ بِخِلَافِ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ لَا يَحْفَظُونَهُ لَا فِي الْكُتُبِ وَلَا يَقْرَءُونَهُ كُلَّهُ إِلَّا نَظَرًا لَا عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ )) .

ويقول ابن الأثير رحمه الله في : ( النهاية في غريب الأثر ) في شرح معنى قوله : " لا يغسله الماء " : (( أرادَ أنه لَا يُمْحَى أبداً بل هو مَحْفوظ فِي صُدُور الذّين أُوتُوا العِلْم لا يأتيهِ الباطلُ من بين َيَديه ولا مِن خَلْفه . وكانت الكُتُب المُنَزَّلة لا تُجْمَع حِفْظا وإنَّما يُعْتَمد في حِفْظها على الصُّحف بخلاف القرآن فإن حُفَّاظَه أضْعافٌ مُضَاعَفَة لصُحُفِه )) .

ويقول القرطبي رحمه الله في ( المفهم ) : (( أي يسرت تلاوته وحفظه ، فخف على الألسنة ، ووعته القلوب ، فلو غسلت المصاحف لما انغسل من الصدور ، ولما ذهب من الوجود ، ويشهد لذلك قوله تعالى
{ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [ الحجر : 9 ] ))

إذاً فزعْمُ الكاتب أن مجرد خطأ في أحد المصاحف إنما يكون دليلاً على تحريف القرآن إنما هو محض هراء ، فما تغني جميع مصاحف الأرض عن حفظ القرآن شيئاً ، ولو أنا بتنا ليلتنا وأصبحنا على حرق جميع مصاحف الأرض ما كان ذلك على حفظ القرآن ذا أثر ، ولأمكن إعادة كتابة القرآن مرة أخرى بكل سهولة ويسر .. لأن المعول عليه في حفظ القرآن كما أسلفنا : صدور الحفظة ، لا سطور المصاحف .

وأي خطأ يتوهمه النصراني إنما يكون أحد اثنين :

- أن يكون الخطأ والخطل إنما هو من النصراني نفسه ، وسيتبين لك ذاك بعد سطور .
- أو يكون الخطأ قد وقع سهواً من كاتب المصحف جزاه الله خيراً وأجزل له المثوبة والعطاء ، ومهما يكن من شيء ، فالرجل بشر ولا يعدم الخطأ .. ولكن المهم هو قدر تأثير هذا الخطأ في حفظ الكلام ، وكلام الله محفوظ في الصدور كما بينا بيانا لا يُحتاج معه تكرار .

ثانياً : الرد المجمل على ما قاله :

وأول ما نستقبل به ردنا أن نسأل النصراني عن توثيق تلكم المخطوطات !
فهو يزعم أن المخطوطات من قرن كذا وكذا ، لكن صورتها لا تحمل دليلاً على صدق زعمه .. وليس يخفى على القاريء الكريم أهمية هذا السؤال .. السؤال عن توثيق المخطوطات المزعومة .
فما يضمن لنا أنها من عمل أحد متشطري نصارى المنتديات وعيّار من عياريهم ، يريد بها حاجة في نفسه ؟!
فالمخطوطات إذاً لا تحمل أية علامة من علامات الموثوقية ، فليس علينا جناح إن تركنا الكلام عنها برمتها .. لكنا نتنزل ونجيب عما فيها ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة .


فتابعوا ...