ثالثا ...
ـــــــــــــــ
أتفقنا فى مداخلاتنا السابقة بل وأثبتنا أن التلمود كتاب دينى يهودى يعتمد كليا على فهم اليهود للتوراة وتعاليم رجال الدين اليهودى وعليه وفى هذا المدخلة سنتعرض لفكرة أقتباس القرأن من الكتب السابقة ومنها التلمود ، وهنا يجب أن نقف على هذا السؤال !


هل وجود الحدث فى الكتب السابقة كما أشار اليه القرأن هو فى صالحه أم ضده !؟

أنه لمن الطبيعى أن يكون فى صالح القرأن لأن أيماننا نحن المسلمين فى كتب السابقين أنها محرفة والمحرف هو ما أُخذ عن أصل حُرف فيه ، فما زال بين طيات هذه التحريفات بعضا من الصدق ولا نقول برده كله ولم يقل به أحد من المسلمين.

فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال : ( كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا (آمنا بالله وما أنزل إلينا ) الآية ) ( أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب"الإعتصام بالكتاب والسنة" برقم (6814) وفي كتاب " التوحيد " برقم (6987) وانفرد به ).

فلم ينفى الرسول الكريم الصدق عن كتب القوم والحديث الصحيح الذى سقناه خير شاهد ، فرسالة الله الى البشرية هى رسالة واحدة وهذا من تمام الكمال وقمة العدل الإلهى فكل رسول أتى قومه برسالة التوحيد مع أختلاف الشرائع بإختلاف الأمم ولكن تظل الرسالة واحدة وكل خبر ورد ذكره عن أمة من قبل له معاصرون شاهدوه بأعينهم وعايشوه فأن ينقل الشاهد على هذا الحدث أو الخبر ما رأه لمن يأتى بعده فهذا طبيعى جدا وفى كل وقت وعصر كان هناك مؤرخون يدونون هذه الاحداث ويتناقلون فيما بينهم هذه الاخبار ولكن طرأ عليها بعض التغيير لأن من اعتنى بها هم البشر فأن يأتى القرأن ويصحح الخبر ويصدق عليه فهو المعجزة ! فياتى بالخبر كما حدث ويرفع عنه ما وقع فيه من تحريف .

قال الكلبي في (التسهيل لعلوم التنـزيل 1/46) : ( وتصديق القرآن للتوراة وغيرها، وتصديق محمد صلى الله عليه وسلم للأنبياء والمتقدمين، له ثلاث معان: أحدها: أنهم أخبروا به، ثم ظهر كما قالوا، فتبين صدقهم في الإخبار به. والآخر: أنه صلى الله عليه وسلم أخبر أنهم أنبياء، وأُنزل عليهم الكتب، فهو مصدق لهم أي شاهد بصدقهم. والثالث: أنه وافقهم فيما في كتبهم من التوحيد وذكر الدار الآخرة، وغير ذلك من عقائد الشرائع، فهو مصدق لهم لاتفاقهم في الإيمان بذلك ) .

فما معنى ان أسجل خبرا رأيته بأم عينى اليوم وجاء بعد مئات السنين روى هذا الخبر لمن يعاصره ، فهل معنى ذلك أن يخرج على من روى عنى الخبر مدعى يزعم بكذب الخبر الذى حدث بالفعل بحجة واهية أنه اقتبس هذا الخبر عنى ويسوق كلماتى التى كتبتها أنا فى عصرى مدللا بذلك على اقتباس الاخر منى وبهذا يسقط الخبر فهذه حجة جاهل بلا شك لأن الخبر فى الاصل قد حدث وشهدته أنا بعينى ودونته كما رايت .

فتصديق القرآن لتلك الكتب بين أيدي اليهود والنصارى في بعض النصوص التي تحدثت عن التوحيد وعن البشارة بالنبى وعن بعض الأحكام وقصص المرسلين عليهم الصلاة والسلام إنما لبيان أن الرسالة التي جاء بها الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم ليست ببدعة ولا بهرطقة إنما هى رسالة الأنبياء أجمعين وما عندهم من تطابق وتشابه مع القرآن الكريم يقيم الحجة عليهم .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ( فإن المسلمين واليهود والنصارى متفقون على أن في الكتب الإلهية الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له , وأنه أرسل إلى الخلق رسلاً من البشر , وأنه أوجب العدل وحرم الظلم والفواحش والشرك , أو أمثال ذلك من الشرائع الكلية وأن فيها الوعد بالثواب , والوعيد بالعقاب بل هم متفقون على الإيمان باليوم الاخر ) ( الجواب الصحيح 1/ 328 ) .

فأن تتفق هذه الكتب فى أمر لهو خير شاهد على صدق رسالة الاسلام ،

أخرج أبو داود في كتاب " الحدود " من حديث أبي هريرة رضي الله عنه انه قال : ( زنى رجل من اليهود وامرأة فقال بعضهم لبعض : اذهبوا بنا إلى هذا النبي فإنه نبي بعث بالتخفيف فإن أفتانا بفتيا دون الرجم قبلناها واحتججنا بها عند الله قلنا فتيا نبي من أنبيائك قال : فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد في أصحابه فقالوا : يا أبا القاسم ما ترى في رجل وامرأة زنيا فلم يكلمهم كلمة حتى أتى بيت مدراسهم فقام على الباب فقال : أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى ما تجدون في التوراة على من زنى إذا أحصن ؟ قالوا : يحمم ويجبه ويجلد والتجبيه أن يحمل الزانيان على حمار وتقابل أقفيتهما ويطاف بهما قال وسكت شاب منهم فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم سكت ألظ به النشدة فقال : اللهم إذ نشدتنا فإنا نجد في التوراة الرجم فقال النبي صلى الله عليه وسلم : فما أول ما ارتخصتم أمر الله , قال : زنى ذو قرابة من ملك من ملوكنا فأخر عنه الرجم ثم زنى رجل في أسرة من الناس فأراد رجمه فحال قومه دونه وقالوا لا يرجم صاحبنا حتى تجيء بصاحبك فترجمه فاصطلحوا على هذه العقوبة بينهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم : فإني أحكم بما في التوراة فأمر بهما فرجما , قال الزهري : فبلغنا أن هذه الآية نزلت فيهم (إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ )المائدة44.كان النبي صلى الله عليه وسلم منهم ) (رواه أبو داود في كتاب " الحدود " برقم 3860 ) .

أنظر إلى هذا الحديث الجامع الذى شرح كيف حرف اليهود كتبهم فالمصلحة مقدمة لديهم دائما ، حرفوا حد الله الذى أنزله الله عليهم لأجل مصلحة الحاكم ولما أردوا أن يرجعوا الى الحكم مرة أخرى أحتج البسطاء منهم بما حدث مع الحاكم فثبت فى الزنى عندهم الجلد بدل الرجم الى أن أتى القرأن وأظهر الحق الذى قد حرفوه لأجل مصلحتهم الشخصية وهكذا الحال مع كل ما وقع عليه من تحريف فكانت دائما المصلحة مقدمة على حكم الله الذى ارتضاه لعباده !



ويقول جل شأنه وتقدست اسماؤه ( وإنه لتنزيل رب العلمين(192)نزل به الروح الأمين(193)على قلبك لتكون من المنذرين(194)بلسان عربي مبين(195)وإنه لفي زبر الأولين(196) - الشعراء .

يقول الامام الطبرى فى تفسيرالأية " يقول تعالى ذكره: وإن هذا القرآن لفي زبر الأوّلين: يعني في كتب الأوّلين، وخرج مخرج العموم ومعناه الخصوص، وإنما هو: وإن هذا القرآن لفي بعض زبر الأوّلين; يعني: أن ذكره وخبره في بعض ما نزل من الكتب على بعض رسله. وقوله:( أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ ) يقول تعالى ذكره: أولم يكن لهؤلاء المعرضين عما يأتيك يا محمد من ذكر ربك، دلالةٌ على أنك رسول رب العالمين، أن يعلم حقيقة ذلك وصحته علماء بني إسرائيل

ويذكر نحوه الامام بن كثير فى تفسير الاية السابقة فيقول "يقول تعالى: وإنَّ ذِكْر هذا القرآن والتنويه به لموجود في كتب الأولين المأثورة عن أنبيائهم، الذين بشروا به في قديم الدهر وحديثه، كما أخذ الله عليهم الميثاق بذلك "

ويقول عليه رحمة الله

ثم     : ( أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ ) أي: أو ليس يكفيهم من الشاهد الصادق على ذلك: أن العلماء من بني إسرائيل يجدون ذكر هذا القرآن في كتبهم التي يدرسونها؟

( وَإِنَّهُ ) أي: ذِكْرُ إنزال القرآن، قاله أكثر المفسرين. قاله الامام البغوى .

وروى بن حاتم هكذا فى تفسيره أخبرنا أبو عبد الله الطهراني، فيما كتب إلي أنبأ عبد الرزاق، أنبأ معمر، عن قتادة، في قوله: " وإنه لتنزيل رب العالمين " ، قال:"القرآن".

حدثنا محمد بن يحيى، أنبأ العباس بن الوليد، ثنا يزيد بن زريع، ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: " وإنه لفي زبر الأولين " أي"في كتب الأولين"، وروي عن السدي مثل ذلك.

ويقول فيها الامام الرازى كلام ما اروعه "اعلم أن الله تعالى لما ختم ما اقتصه من خبر الأنبياء ذكر بعد ذلك ما يدل على نبوته صلى الله عليه وسلم وهو من وجهين : الأول : قوله : (وإنه لتنزيل رب العالمين ) وذلك لأنه لفصاحته معجز فيكون ذلك من رب العالمين ، أو لأنه إخبار عن القصص الماضية من غير تعليم ألبتة ، فلا يكون ذلك إلا بوحي من الله تعالى ، وقوله بعده : ( وإنه لفى زبر الأولين ) كأنه مؤكد لهذا الاحتمال ، وذلك لأنه عليه السلام لما ذكر هذه القصص السبع على ما هي موجودة في زبر الأولين من غير تفاوت أصلا مع أنه لم يشتغل بالتعلم والاستعداد ، دل ذلك على أنه ليس إلا من عند الله تعالى ، فهذا هو المقصود من الآية .

وفى تفسير الباب لأبن عادل لما ذكر قصص الأنبياء لمحمد - عليه السلام - أتبعه بما يدل على نبوته فقال : ( وإنه لتنزيل رب العالمين ) لأنه لفصاحته معجز فيكون من رب العالمين . وأيضا فلأنه إخبار عن الأمم الماضية من غير تعلم ألبتة ، وذلك إلا بوحي من الله تعالى . وأيضا فقوله ( وإنه لفي زبر الأولين ) مؤكد لما ذكرنا ، لأن ذكر هذه القصص على ما هي في زبر الأولين من غير تفاوت أصلا مع أنه لم يشتغل بالتعلم والاستفادة دليل على أنه ليس إلا من عند الله

وفى النكت والعيون قوله تعالى : ( وإنه لفي زبر الأولين ) يعني كتب الأولين من التوراة والإنجيل وغيرها من الكتب .

وهكذا ذكر جميع اهل التفسير فأن يتم ذكر خبر فى القرأن فى الكتب السابقة لهو اكبر دليل على ان هذا القرأن وحى من عند الله لأنه تعالى هو من أجرى المعجزات فى كل وقت ومكان ، وأن يتم ذكر هذه الاخبار بهذه الدقة لهو دليل حى باق على صدق نبوته عليه افضل الصلاة والسلام إذ كيف لهذا النبى الأمى ان يقف على هذه الأخبار بهذه الدقة إلا ان يكون وحى من عند الله .

تم بحمد الله .