درء شبهة كذبات إبراهيم (عليه السلام)
عن أبي هريرة     أن رسول الله     قال : "لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات ، ثنتين منهن في ذات الله عز وجل . قوله : { إني سقيم } . وقوله : { بل فعله كبيرهم هذا } . وقال : بينا هو ذات يوم وسارة ، إذ أتى على جبار من الجبابرة ، فقيل له : إن هاهنا رجلا معه امرأة من أحسن الناس ، فأرسل إليه فسأله عنها ، فقال : من هذه ؟ قال : أختي ، فأتى سارة فقال : يا سارة ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك ، وإن هذا سألني فأخبرته أنك أختي ، فلا تكذبيني " .
أ.هـ أخرجه البخاري ومسلم

الأولى: بأن إبراهيم لم يكذب، بل أثبت أنه صادق ولكن بطريقة غير مُباشرة، أو كان صِدقه قضية تحمل معها دليلها، فلو كنت أنت مثلاً خطاطًا ماهرًا ولا يجيد الكتابة أحد غيرك، ثم سألك شخص أُمي غير مجيد للكتابة وقال لك: أأنت كتبت هذا؟ فقلت له باستهزاء: بل أنت الذي كتبته، فالغرض هو إثبات الكتابة لك مع استهزائك بالسائل الذي ما كان ينبغي أن يوجه هذا السؤال الظاهر البطلان. ولذلك لما أجابهم إبراهيم ـ عليه السلام ـ بأن الذي كسَرَ الأصنام هو كبيرهم رجعوا إلى أنفسهم يتهمونها بالغباء. لاعتقادهم ألوهية من لا يتكلم ولا يسمع ولا يبصر، ولا يرد عن نفسه كيدًا، ولكن العناد جعلهم يتمادون في مجادلته وتكذيبه. ولجئوا أخيرًا إلى التهديد باستعمال القوة والعُنْف، وَهُوَ سلاح كل عاجز عن الاستمرار في المحاجة المنطقية.


والثانية: وهي قوله: (إِنِّي سَقِيمٌ) بأنه كَانَ بالفعل سَقيمًا، وسقمه نفسي، وذلك من تماديهم في الباطل على الرغم من قوة الحُجة، كما قال الله تعالى في حَقِّ سيدنا محمد ـ     ـ (فَلَعَلَّكَ باَخعٌ نَفْسَكَ عَلَى آَثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفَا) (سورة الكهف: 6) فقد أوهمهم إبراهيم أنه سقيم الجسم على ما كانوا يعتقدون من تأثير الكواكب في الأجسام، وهو في الوقت نفسه سقيم النفس. وهذا الأسلوب من المعاريض التي فيها مندوحة عن الكذب.


وعن الثالثة: وهي وصف زوجته بأنها أخته ـ بأنه صادق في هذا الوصف؛ لأنها أخته في الدين كما جاء في صحيح الروايات ، وذلك ليخلصها من ظُلْم الجبار روى مسلم "ج 15 ص 123 بشرح النووي" أن رسول الله ـ     ـ قال: "لم يكذب إبراهيم النبي ـ عليه السلام ـ قط إلا ثلاث كذبات، ثنتين في ذات الله: قوله إني سقيم وقوله بل فعله كبيرهم، ، وواحدة في شأن سارة، فإنه قدِم أرض جبار ومعه سارة وكانت أحسن الناس، فقال لها: إن هذا الجبار إن يعلم أنك امرأتي يغلبني عليك، فإن سألك فأخبريه أنك أختي، فإنك أختي في الإسلام. فإني لا أعلم في الأرض مسلمًا غيري وغيرك، فلما دخل أرضه رآها بعض أهل الجبار أتاه فقال له: لقد قدم أرضك امرأة لا ينبغي لها أن تكون إلا لك. فأرسل إليها فأتى بها، فقام إبراهيم ـ عليه السلام ـ إلى الصلاة، فلما دخلت عليه لم يتمالك أن بسط يده إليها، فقبضت يده قبضة شديدة فقال لها: ادعى الله أن يطلق يدي ولا أضرك ففعلت فعاد فقبضت أشد من القبضة الأولى، فقال لها مثل ذلك ففعلت فعاد فقبضت أشد من القبضتين الأوليين، فقال ادعى الله أن يطلق يدي فلك الله ألا أضرك ففعلت وأطلقت يده ودعا الذي جاء بها فقال له: إنما أتيتني بشيطان ولم تأتني بإنسان ، فأخرجها من أرضي وأعطها "هاجر" قال: فأقبلت تمشي فلما رآها إبراهيم ـ عليه السلام ـ انصرف، فقال لها "مهيم"؟ قالت: خيرًا ، كف الله يد الفاجر وأخدم خادمًا" قال أبو هريرة فتلك أُمكم يا بني ماء السماء.

شرح العلماء للحديث :

1- قال الإمام النووي في " شرح مسلم " (6/100) :

قال المازري : أما الكذب فيما طريقه البلاغ عن الله تعالى فالأنبياء معصومون منه ، سواء كثيره وقليله ، وأما ما لا يتعلق بالبلاغ ، ويعد من الصفات كالكذبة الواحدة في حقير من أمور الدنيا ففي إمكان وقوعه منهم وعصمتهم منه القولان المشهوران للسلف والخلف . قال القاضي عياض : الصحيح أن الكذب فيما يتعلق بالبلاغ لا يتصور وقوعه منهم ، سواء جوزنا الصغائر منهم وعصمتهم منه ، أم لا ، وسواء قل الكذب ، أم كثر ؛ لأن منصب النبوة يرتفع عنه ، وتجويزه يرفع الوثوق بأقوالهم .
وأما قوله     ( ثنتين في ذات الله تعالى وواحدة في شأن سارة ) فمعناه أن الكذبات المذكورة إنما هي بالنسبة إلى فهم المخاطب والسامع ، وأما في نفس الأمر فليست كذبا مذموما لوجهين : أحدهما أنه ورى بها ، فقال في سارة : أختي في الإسلام ، وهو صحيح في باطن الأمر ، وسنذكر إن شاء الله تعالى تأويل اللفظين الآخرين . والوجه الثاني أنه لو كان كذبا لا تورية فيه لكان جائزا في دفع الظالمين ، وقد اتفق الفقهاء على أنه لو جاء ظالم يطلب إنسانا مختفيا ليقتله ، أو يطلب وديعة لإنسان ليأخذها غصبا ، وسأل عن ذلك ، وجب على من علم ذلك إخفاؤه وإنكار العلم به ، وهذا كذب جائز ، بل واجب لكونه في دفع الظالم ، فنبه النبي     على أن هذه الكذبات ليست داخلة في مطلق الكذب المذموم . قال المازري : وقد تأول بعضهم هذه الكلمات ، وأخرجها عن كونها كذبا ، قال : ولا معنى للامتناع من إطلاق لفظ أطلقه رسول الله     قلت : أما إطلاق لفظ الكذب عليها فلا يمتنع لورود الحديث به ، وأما تأويلها فصحيح لا مانع منه . قال العلماء : والواحدة التي في شأن سارة هي أيضا في ذات الله تعالى ؛ لأنها سبب دفع كافر ظالم عن مواقعة فاحشة عظيمة ، وقد جاء ذلك مفسرا في غير مسلم ، فقال : ما فيها كذبة إلا بما حل بها عن الإسلام أي يجادل ويدافع . قالوا : وإنما خص الاثنتين بأنهما في ذات الله تعالى لكون الثالثة تضمنت نفعا له ، وحظا مع كونها في ذات الله تعالى . وذكروا في قوله : ( إني سقيم ) أي سأسقم لأن الإنسان عرضة للأسقام ، وأراد بذلك الاعتذار عن الخروج معهم إلى عيدهم ، وشهود باطلهم وكفرهم . وقيل : سقيم بما قدر علي من الموت . وقيل : كانت تأخذه الحمى في ذلك الوقت .

وأما قوله ( بل فعله كبيرهم ) فقال ابن قتيبة وطائفة : جعل النطق شرطا لفعل كبيرهم ، أي فعله كبيرهم إن كانوا ينطقون . وقال الكسائي : يوقف عند قوله : بل فعله أي فعله فاعله ، فأضمر ، ثم يبتدئ فيقول : كبيرهم هذا ، فاسألوهم عن ذلك الفاعل . وذهب الأكثرون إلى أنها على ظاهرها ، وجوابها ما سبق . والله أعلم .

2- قال الإمام ابن الجوزي في " كشف المشكل من حديث الصحيحين " (1/982) :

اعلم أن الكذب لا يجوز على الأنبياء بحال فهذا أصل ينبغي أن يعتقد ولا يناقض بأخبار الآحاد فإنه ثابت بدليل أقوى منها وإنما المعنى أن إبراهيم قال قولا يشبه الكذب قال أبو بكر بن الأنباري كلام إبراهيم كان صدقا عند البحث وإنما أراد النبي {    } أنه قال قولا يشبه الكذب في الظاهر وليس بكذب قال ابن عقيل : دلالة العقل تصرف ظاهر هذا اللفظ وذاك أن العقل قطع بأن الرسول ينبغي أن يكون موثوقا به ليعلم صدق ما جاء به عن الله ولا ثقة مع تجويز الكذب عليه فكيف مع وجود الكذب منه وإنما استعير ذكر الكذب لأنه بصورة الكذب فسماه كذبا مجازا ولا يجوز سوى هذا قلت واعلم أن تلك الكلمات إنما كانت من إبراهيم على جهة المعاريض غير أن الأنبياء يحذرون من كلمة تشبه الكذب ولذلك يقول الخليل إذا قيل له في القيامة اشفع لنا إني كذبت وبيان أنها كانت من جهة المعاريض أنه روي عن الكسائي أنه كان يقف عند قوله ( بل فعله ) ويقول فعله من فعله وقال ابن قتيبة معناه إن كانوا ينطقون فقد فعله كبيرهم هذا وكذلك ( إني سقيم ) أي سأسقم فهو كقوله تعالى ( إنك ميت ) أي ستموت . أهـ

3- قال الإمام محمد بن أنور الكشميري في " العرف الشذي شرح سنن الترمذي " (3/387) :

قوله : ( ثلاث كذبات إلخ ) اتفق العلماء على أن الثلاثة توريات لا كذبات صريحة . أهـ

زيادة : ذهب الإمام الرازي إلى تضعيف الحديث في " التفسير الكبير " (22/185) فقال : واعلم ان بعض الحشوية روى عن النبي -     - أنه قال : ما كذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات ، فقلت : الأولى أن لا يقبل مثل هذه الأخبار ، فقال على طريق الاستنكار : ان لم نقبله لزمنا تكذيب الرواة ، فقلت له : يا مسكين ان قلناه لزمنا الحكم بتكذيب إبراهيم - عليه السلام - ، وان أردناه لزمنا الحكم بتكذيب الرواة ولا شك أن صون إبراهيم عن الكذب أولى من صون طائفة من المجاهيل عن الكذب . أهـ
وقد نقل الإمام ابن عادل الحنبلي في " اللباب في علوم الكتاب " (16/324) رأي الإمام الرازي وارتضاه .

قال الامام بن حجر في شرح صحيح البخاري:وَأَمَّا إِطْلاقه الْكَذِب عَلَى الأمُور الثَّلأثَة فَلِكَوْنِهِ قَالَ قَوْلاً يَعْتَقِدهُ السَّامِع كَذِبًا لَكِنَّهُ إِذَا حُقِّقَ لَمْ يَكُنْ كَذِبًا لأنَّهُ مِنْ بَاب الْمَعَارِيض الْمُحْتَمِلَة لِلأمْرَيْنِ فَلَيْسَ بِكَذِبٍ مَحْض.