{ بسْمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيم}

عودة من جديد
أعتذر كثيراً عن التأخير لكن الأمرَ ليس بيدى كما أخبرتكم

سأستعرض لكم الآن مؤلفاً ثانياً من مؤلفات مرحلة النشأة وهو :
( تأويل مشكل القرآن )
لمؤلفه
( ابن قتيبة )


وأنا شخصياً أحب هذا الكتاب كثيراً وأعتقد أن الحديث عنه
سيروق لكم بإذن الله ويكفى أنه يتحدث عن أسلوب ومعانى القرآن الكريم


وينتظم الكتاب مقدمةً وسبعةَ عشرَ باباً جاءت على النحو التالى :
1 : باب ذكر العرب وما خصهم اللهُ بهِ من العارضة والبيان واتساع المجاز
2 : باب الحكاية عن الطاعنين
3 : باب الرد على الطاعنين فى وجوه القراءات
4 : باب ما ادُّعِىَ على القرآن من اللحن
5 : باب التناقض والاختلاف
6 : باب المتشابه
7 : باب القول فى المجاز
8 : باب الاستعارة
9 : باب المقلوب
10 : باب الحذف والاختصار
11 : باب تكرار الكلام والزيادة فيه
12 : باب الكناية والتعريض
13 : باب مخالفة ظاهر اللفظ معناه
14 : باب تأويل الحروف التى ادُّعِىَ على القرآن بهاالاستحالة وفساد النظم
15 : باب اللفظ الواحد للمعانى المختلفة
16 : باب تفسير حروف المعانى وما شاكلها من الأفعال
17 : باب دخول بعض الصفات مكان بعض


وإذا تأملنا هذه الأبواب جيداً سنجد أنها - برغم مباحثها المتعددة - تدور
فى مجملها حول أمرين رئيسيين :


الأمر الأول : الرد على الطاعنين على القرآن الكريم والذين يرجفون بالكذب
فيقولون أن به تناقضاً فى التعبير , وفساداً فى النظم , واضطراباً فى الإعراب

الأمر الثانى : الكشف عن أسلوب القرآن الكريم ومعانيه وفنونه فى التعبير
واتساقه فى النظم فى ضوء الأدب العربى القديم شعره ونثره وذلك للبرهنة على
أن هذا النظم ليس خارجاً عن مألوف الفن الأدبى الرفيعوليس غريباً فحول البيان


وقد كان ( ابن قتيبة ) حاضرَ البديهة متيقظاً لمقاصدِهِ وأهدافِهِ
لذلك حرص فى مقدمة كتابه وفى بابه الأول على أن يوضحَ منهجه الذى
التزمه وغرضه من تأليف كتابه , كما كان حريصاً على أن يلقىَ بالحقيقة
التى يؤمن بها بين يدى القارئ وسعى من خلال كتابه إلى إثباتِها وهى
أنَّ القرآن الكريم إعجاز لا يُطاوَل وبنيان لُغَوى ليس إلى
الطعن فى نظمِهِ وتأْليفِهِ من سبيل


وتحدث ( ابن قتيبة ) فى كتابِهِ عن اللغة العربية وخصائِصِها وفنونها
فى التعبير والأداء , وانتقص من قدر المعارضين والطاعنين على
القرآن الكريم وسلبهم القدرة على معرفتها وفهمها وفقه أسرار التعبير فيها


وعرض ( ابن قتيبة ) فى الباب الثانى من كتابِهِ بعضاً من هذه المزاعم
التى يزعم بها المبطلون ويتقوَّلونَ بها على كتابِ اللهِ الذى لا يأتيه
الباطلُ من بين يديهِ ولا من خلفِهِ .... وذكر منها :

1 : اختلاف القراءات القرآنية وتعددها
2 : تناقض مضامين بعض الآيات مع آياتٍ أخرى
3 : ورود المتشابه فى القرآن الكريم رغم أنه كتاب هداية للناسِ أجمعين
4 : ظاهرة التكرار فى التعبير أو فى الأنباءِ أو فى القصصِ


وقام ( ابن قتيبة ) فى الأبواب التالية بتفنيد تلك المزاعم وبيان بطلانِها

فهو فى باب ( الرد على الطاعنين فى وجوهِ القراءات ) يفسر حديث
رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( نزل القرآنُ على سبعةِ أحرف ) ثم يبين
السر فى تعدد القراءات واختلافها وأوجه هذا الاختلاف مؤكداً أنها اختلافات
لُغَويَّة فى مجملها , وهو حريص على تأكيد أن هذه الاختلافات ليست اجتهاداً
من رسول اللهِ ( صلى الله عليه وسلم ) ولا من صحابتهِ وإنما نزل بها ( الروح الأمين )
الذى أمره أن يُقْرِئَ كلَّ قومٍ بلغتهم وما جرت عليه عادتهم


وفى باب ( التناقض والاختلاف ) يدفع ابن قتيبة عن كتاب الله تعالى شبهة تناقض آياته
بعضها مع بعض مؤكداً أنها تتوافق لا تتناقض وتأتلف لا تختلف ولكن قصور
علم هؤلاء الطاعنين وسوء نظرهم وجهلهم بلطيف المعانى القرآنية
هو الذى أوحى لهم بوجود هذا التناقض .


وصدق جل وعلا إذ يقول { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا }
سورة : النساء , آية رقم : ( 82 )


وفى باب ( المُتَشَابِه ) يتحدث ( ابن قتيبة ) عن جملةٍ من المسائل لعلَّ من
أهمها حديثه عن معنى المُتَشَابِه والمشكل والحكمة من وجوده فى كتاب الله تعالى
موَضِّحاً أنَّ القرآن ليس بدعاً فى ذلك وإنما هذا ما جرى عليهِ فصيحُ كلامِ العربِ


وفى باب ( القول فى المجاز ) يقدم ( ابن قتيبة ) آرائَهُ فى قضايا شَغَلَت جماعات
مختلفة فى المجتمع الإسلامى مثل جماعة المفسرين والبلاغيين واللغويين
ويعرض لكثيرٍ من آيات القرآن الكريم يشرح ما يتَأَوله المتَأَوِّلون فيها
ويبين فساد ما ذهبوا إليهِ .
ثم يتناول أقسام المجاز ويفرد لكلِّ قسمٍ منهم مبحثاً خاصاً وباباً منفرداً .


أما باب ( تأويل الحروف التى ادُّعِىَ على القرآن بها الاستحالة وفساد النظم ) فقد
بدأه بالحديث عن الحروف المقطعة التى فى أوائل بعض سور القرآن الكريم
ثم أشار إلى اختلاف المفسرين فى دلالتها , وهو يعقب على كل رأى بما يؤَيِّدُهُ من كلام العرب


أما بقية الأبواب فوجهتُها لُغَوِيُّة خالصة فهو فى باب ( اللفظ الواحد للمعانى المختلفة ) يقدم
دراسة دلالية لمجموعة من الألفاظ التى استعملها القرآن الكريم
مهتماً بتوضيح الدلالة الأصلية لكل لفظ وما تفرَّع عنها من دلالات أخرى


كما تحدث فى باب ( تفسير حروف المعانى وما شاكلها من الأفعال التى لا تنصرف ) عن
الدلالات التركيبية لبعض الأدوات مثل : كَأَيِّن , وأَنَّى , ومهما , وحرص على دراسة اصولها وتطورها


ويقدم ( ابن قتيبة ) فى الباب الأخير ( دخول بعض حروف الصفات مكان بعض ) دليلاً على
اتساع العربية وقدرتها التعبيرية التى تمكن للنص القرآنى
من استعمال الحرف للدلالة على حرفٍ آخر .



ما استعرضناه معاً الآن هو عرض موجز لأبواب الكتاب ومباحثه
وقد وقفنا فيهِ عند رؤوس القضايا التى طرحها المؤلف فى كتابهِ
ويُعَدُّ هذا الكتاب مصدراً هاماً من مصادر التراث التى أفادت الحركة العلمية المستنيرة
حتى أنه تتنازعه طوائف ثلاث وهى : طائفةُ البلاغيين , وطاففة اللغويين , وطائفة المفسرين .
فلا تجد مُؤَلَّفاً فى البلاغة أو اللغة أو التفسير دون أن يشير إلى هذا الكتاب
من قريب أو من بعيد مُوَضِّحاً قيمته وتأثيره فى حركة هذا العلم أو ذاك .


والكتاب يمثل عند البلاغيين مرحلة جديدة متطورة فى تاريخ البلاغة العربية
فبعد أن كانت المباحث البلاغية مجرد أفكار وملاحظات فى ( البيان والتبيين ) وغيره ,
أصبحت أبواباً وفصولاً مستقلة فى ( تأويل مشكل القرآن ) .


أما عند اللغَوِيِّين فالكتاب يُعَدُّ مبحثاً هاماً من المباحث اللغوية لما عرضه من
أفكار أصبحت فيما بعد قضايا علمية كبرى لها خصائصها واتجاهاتها
مثل أوجه الاختلاف فى القراءات القرآنية فلم يسبقه أحد فى الحديث عن هذا
ودلالة الألفاظ فتحدث عن ظاهرتى التضاد والمشترك اللفظى ووصل فيها إلى
نتائج لا تبعد كثيراً عمَّا وصل إِلَيْهِ المتأخرون من علماء اللغة


وإذا تأملنا أبواب الكتاب جيداً فسنجد أنه يقوم فى حقيقته
على دراسة النص القرآنى والكشف عن أنماط تعبيراته ودلالات ألفاظه
ولذا فقد صنفه الدارسون ضمن كتب التفسير واعتبروه من
الكتب التفسيرية التى تسلك مسلكاً لُغَوِيَّاً فى التفسير .
وقد اهتم ابن قتيبة فى دراسة النص القرآنى بالجانب اللغوى من ألفاظ وتراكيب ودلالات
مستهدفاً بذلك إثبات عربية القرآن بلفظِهِ ومعناه .


بَقى أن نقولَ أن الكتاب يُعَدُّ جوهرة المؤَلَّفاتِ البلاغية فى عصرِهِ لما احتواه
من قضايا ساهمت فى دفع حركة الدراسات اللغوية نحو التقدم والازدهار .


==================================

وهكذا إخوانى الأعزاء نكون قد أنهينا ( مرحلة النشأة )
ولاحقاً بإذن الله سوف أستعرض لكم مرحلة ( النضج والازدهار ) ومؤلفاتها
وما صاحبها من تطور فى علوم البلاغة


فانتظرونى

لكم خالص تحياتى