بسم الله الرحمن الرحيم

نكمل بمشيئة الله تعالى ما بدأناه


بعد أن انتهينا من فصاحة الكلمة سنتحدث عن فصاحة الكلام
الكلام الفصيح عند البلغاء والفصحاء هو ما كان سهلَ اللفظ واضحَ المعنى
متلائمَ الكلمات فصيحَ المفردات غير مخالف لقواعد العرب النحوية والصرفية
ويكون بعيداً عن التنافر والتعقيد اللفظى والتعقيد المعنوى


ولكى تكتمل فصاحة الكلام لابد أن يخلو من أربعة عيوب وهى :
تنافر الكلمات عند اجتماعها ولو كانت مفرداتها صحيحة
ضعف التأليف
التعقيد اللفظى
التعقيد المعنوى


وسنستعرض معاً تلك العيوب عيباً عيباً بالترتيب

العيب الأول : تنافر الكلمات عند اجتماعها :
هذا الوصف يُعرض للكلام عند اجتماع كلماته فيصبح النطق بها ثقيلاً
بالغم من أنه عن تفريق الكلمات تصبح كل كلمة لينة سهلة النطق


ومثال ذلك :
قول عمرو بن الجاحظ حينما تحدث عن قبر حرب بن امية
وقبرُ حربٍ بمكانٍ قفرُ وليس قربَ قبرِ حربٍ قبرُ


وإذا تأملنا معاً مفردات البيت سنجد أنه عند تفريقها تصبح لينة سهلة النطق
أما عند اجتماعها تصبح ثقيلة النطق لا يستسيغها اللسان العربى
وذلك لتشابه الحروف فى ألفاظ
( قبر , حرب , قفر )

ملحوظة :
رُفعَ لفظ ( قفر ) بالرغم من أنه نعت للفظ ( مكان ) والقياس يقتضى أن يكون مكسوراً
كى يتبع الموصوف فى إعرابِهِ ولكنه رُفعَ للضرورة الشعرية
وفسر أهلُ النحوِ والصرفِ ذلك الأمر بأنه من قبيل الصفة المقطوعة عن موصوفها


ومثال آخر :
قول أبى الطيبِ المتنبى فى مدح سيف الدولة الحمدانى :
أَقِل أَنِل أقْطِع احْمِل علّ سلّ أَعِد زِد هش بش تَفَضّل أَدْن سُرّ صِل

فى هذا البيت تعمد المتنبى تكرار أفعال الأمر دون عاطفٍ أو فاصلٍ بينها
وهذا لولعِهِ الشديد بالإغراب
وإذا تأملنا مفردات البيت جيداً سنجد أننا إذا فرقنا ألفاظه تصبح لينة سهلة النطق
أما عند اجتماعها تسبب ثقلاً فى النطق وعسراً على اللسان كما رأينا فى البيت



العيب الثانى : ضعف التأليف :
وهو أن يكون تأليف الكلمات فى الجمل مخالفاً لما هو معروف ومُتّبَع فى قواعد النحو

ومن ذلك قول الفرزدق :
بالباعث الوارث الأموات قد ضمنت إياهم الأرض فى دهر الدهارير


جاء الفرزدق بالضمير المنفصل
( إياهم ) للضرورة الشعرية مع إمكان مجئ
الضمير المتصل ليقول
( ضمنتهم )
بدلاً من الضمير المنفصل كما هو متبع فى قواعد النحو
ولكنه أتى بضمير منفصل وهذا يخالف فصاحة الكلام


ومن ذلك أيضاً قول حسان بن ثابت شاعر الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) :
ولو أن مجداً أخلَدَ الدهرُ واحداً من الناسِ أبقى مجدُهُ الدهرَ مُطْعِماً

أعاد حسان بن ثابت الضمير فى ( مجده )
على متأخرٍ لفظاً ورتبةً وهو ( مطعماً )
مخالفاً
بذلك المُتّبَع والمشهور فى قواعد العربية


ومن ذلك أيضاً قول المتنبى فى مدح بدر بن عمار :
خلت البلادُ من الغزالةِ ليلها فأعاضَهَاكَ اللهُ كى لا تحزَنَا


كان على المتنبى تقديم ضمير المخاطب على ضمير الغائب
كما نص سيبويه فيقول
( فأعاضكها )
بدلاً من
( فأعاضهاك )
ولكن
ألجأته الضرورة الشعرية إلى ما قال



العيب الثالث : التعقيد اللفظى :
ويكون بالإتيان بالكلمات فى جملة الكلام وجعلها مرتبة ترتيباً
يخالف الترتيب الذى يقتضيه نظام الكلام مثل تقديم الصفة على الموصوف
وتقديم الصلة على الموصول وتشتيت عناصر الجملة الواحدة وعناصر الجمل فى الكلام الواحد
وهذا العيب يُعَد أشد العيوب نَكَارةً وبعداً عن الفصاحة
لأنه يفضى غلى اختلال المعنى واضطرابِهِ , وذلك مخالفاً للفصاحة التى تقوم على الإبانة وتوضيح المعانى


ومثال ذلك قول الفرزدق فى مدح الوليد بن عبد الملك :
إلى ملِكٍ ما أمّهُ من محاربٍ أبوهُ ولا كانت كُلَيبٌ تصاهِرُهُ


يريد الفرزدق أن يقول : إلى ملك أبوه ليست أمه من محارب ولا كانت كليب تصاهره
ولكنه قدم وأخر فى الكلام فأبهم المعنى وألغز المراد فأفسد فصاحة الكلام


وهذا مثال آخر لشاعرٍ يصف دياراً عَفَتْ آثارُها :
فأصبحت بعد خط بهْجَتِها كأن قفراً رسومَهَا قلَمَاً


يريد الشاعر أن يقول : فأصبحت بعد بهجتها قفراً كأن قلماً خط رسومها
ولكنه قدم وأخر جميع المفردات التى بداخل الكلام
فأبهم المعنى تماماً وألغز المراد فيصعب على القارئ أن يعرف مغزى الكلام



العيب الرابع : التعقيد المعنوى :
ويكون باستخدام لوازم فكرية بعيدة وخفية العلاقة
أو استخدام كنايات يصعب إدراك المراد منها لعدم اقترانها بما يشير إلى دلالاتها المرادة
فينتج عن ذلك خفاء دلالة الكلام وصعوبة التوصل إلى المعنى المراد


ومثال ذلك قول العباس بن الأحنف :
سأطلُبُ بعدَ الدارِ عنكم لتقربوا وتسْكُبُ عينَاىَ الدموعَ لتجْمُدا


من الوهلة الأولى لقراءة هذا البيت يتخبط القارئ فى معانيه فيتساءل كيف
يطلب الشاعر الفراق عنهم ليقربوا إلى قلبِهِ ؟؟؟؟؟
ولكن الشاعر هنا يريد أن يقول : سأطلب بعد الدار عنكم وأتحمل آلام الفراق وأصبر عليهِ
لأن عاقبة الصبرِ هى الفرج , وحين يأتى الفرجيكون قرب دائم ووصل مستمر مصحوب بسرور لا ينقطع
وعبر العباس بن الأحنف بجمود العينعن حالة السرور التى سينالها حينما يأتى الفرج
بالوصل بعد كثرة البكاء فلا دموعَ بعد ذلك
فى حين أن جمود العين يُعَبّر بهِ عن جفاف العيون وشُحِّها بالدموع
عند حاجة النفس إلى البكاء لأن البكاء يخفف من آلامها
وجفاف العيون يمنع البكاء فتزداد بذلك آلام النفس على عكس ما أراده العباس
ومن هنا رأوا فى كلامِهِ تعقيداً معنوياً


ويمكن أن نمثل التعقيد المعنوى بقولنا : ( فتح السلطان أبواب السجون )
فأول ما سيتبادر إلى الأذهان هو أن السلطان فتح أبواب السجون
كى يُخْرِجَ المساجينَ منها بعد أن أصدر عفواً شاملاً عنهم
ولكننا نقصد من العبارة أن السلطاننشر جُنْدَهُ لملاحقةِ خصومه لإيداعهم فى السجن
فالكناية المقصودة مضَادَّة للكناية التى تتبادر إلى الذهن ومن هنا ينتج التعقيد المعنوى


انتظروا الجزء الثانى إن شاء اللهُ تعالى