الطريقة الثانية :
( إيجاد نماذج كاملة في الصلاح )
إن نفوس البشر تتباين ، وطباعهم لا تتفق ، فما كان شاقا عن قوم سهل على آخرين ، وما استصعبه ناس كان سهلا ذلولا عند جمع آخرين ، ومن الخلق ذوو أفئدة ناشزة وقلوب نافرة ، ومنهم من بلغ في اليقين والإيمان الرتبة العليا ، منهم البخيل الشحيح ، ومنهم الكريم الأريحي البذول ، منهم الجبان الرعديد ، ومنهم الهصور المقدام ، نفوس أبية وذوو خصال دنية ، منهم الشكور ومنهم الكفور ، عيون فاجرة ومقل من خشية الله دامعة ،     : { إن سعيكم لشتى } ، و    : { هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن } ، و    : { إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا } ، و    : { ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام } ثم قال : { ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رؤوف بالعباد } و    : { فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق . ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار } .
ولكن الله تبارك وتعالى يسر للإنسان اختيار المعالي وخلع الدنايا ، ف    : { وهديناه النجدين } ، وقـال تعـالى : { فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى . فسنيسره لليسرى . وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى } ، و    : { إنا هدينا السبيل إما شاكرا وإما كفورا } .
وقال تبارك وتعالى : { والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم } . و    : { ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا } ، و    : { ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها وسنجزي الشاكرين } .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( اعملوا فكل ميسر لما خلق له ) . وقال صلى الله عليه وسلم : ( احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز ) .
إن همة الإنسان هي التي تقوده إلى المعالي ، وخساسته ترديه في الدنايا ، وعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم . فمن ألزم نفسه لأواء السعي علا ، ومن ارتضى الرخاوة والدعة فلا .
ولولا تكاليف السيادة لم يخب جبان ولم يحو الفضيلة ثائر
وأبواب الفضائل كثيرة جمة ، ومناحي السبق في الخير موفورة ، وإذا اختار المرء منها بابا ، وأتقن منها ميدانا فقد أقام للإسلام صرحا من القيم شاخصا ، وأبدى للناس نموذجا من المثل كاملا . فأقام الحجة لله على خلقه ، وأعلى للحق راية على مدى أفقه ، واستنار بنموذجيته أقوام ، واقتدى بِهُدَى دَرْبِه فئام ، وارْعَوَى بصرامة حقِّه طغام .
ومما ينبغي تقريره أن الكمال البشري لم يثبت إلا للمعصومين من الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، ومن عداهم فكل نقص وذنب وتقصير فهو جائز عليهم وثابت في حقهم على وجه اللزوم ، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( كل بني آدم خطاء ، وخير الخطائين التوابون ) .
وعليه فلا مطمح لأحد في بلوغ رتب الأنبياء والمرسلين أصلا ، ولكن مراتب الطاعة المختلفة مأذون بتسنمها مسموح برقيها من كل البشر .
لا جرم تنافس على تلك المراتب المتنافسون ، وتسابق إليها الحريصون ، فذاك صوام وهذا قوام وآخر بذول ورابع من الذاكرين الله كثيرا وخامس ممن شمر الساعد في طلب العلم وبلغ رتب العلماء ، ( ولكلٍ وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات ) .
وعلى هذا التنظير فإن المتصور أن تتحقق في واقعنا نماذج السلف الصالح الراقية ، ويتجسم في نطاق حواسنا ما نقرأه في تراجم أئمتنا الأعلام .
ونفس هذا التنظير يتطابق مع منهج السلف في التزكية ، فسلفنا لم يطمحوا أن يكون كل المجتمع قواما لليل ، أو صواما للنهار لأن هذا لم يتحقق في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أصلا ، فكيف نرجوه في أجيال لاحقة والرسول صلى الله عليه وسلم يقول : ( لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه ) .
بل المتصور أن تتنوع نماذج الطاعة في المجتمع الواحد ، وتتوزع رتب الطاعة العليا بين الطاقات المختلفة ، فهناك من بلغ في الزهادة واطراح ملذات الدنيا مقام معروف الكرخي ، ومنهم من استوفى من التقوى نصيب أحمد بن حنبل ، ومنهم من نذر نفسه للجهاد فلا تراه إلا مخاطرا بنفسه في كل ميدان ، ومنهم من تفرغ لمقارعة المبتدعة والزنادقة أمثال شيخ الإسلام ابن تيمية ، ومنهم من تصدر للوعظ والإفادة والنصح للأمة أمثال الحسن البصري .
وعلى هذا المنوال ينبغي أن ينظر المسلمون لمنهج الصلاح والإصلاح : أن يتوجه كل امرئ إلى ما تطيب نفسه به من رتب الطاعة فيرقى في درجاتها ، ويتسنم منها المقام الأسمى ، ويبلغ فيها الدرجة العليا ، فإن وجد زكاة قلبه في قيام الليل أدمنه ، وإن تلذذ بالصيام أدامه ، وإن أتقن العلم تخصص فيه وأفاد الناس ، وإن استحلى تلاوة القرآن جعله نَفَسَا يحيا به ، وإن كانت نفسه ذات سجايا صالحات كالكرم والحياء تمادى في الخلق ليكون مضرب المثل فيها .
وهكذا توجد في المجتمع أمثلة المعالي ، فإذا ما التفت طالب هدى ليقتدي بكريم في حسن الرفادة والقرى رأى نموذجا حاتميا ، وإذا بحث متنسك عن أسوته في الصيام والقيام وجد شبيه الفضيل ومثيل المحاسبي . والمطلوب أن يترفع كل ذي خصلة في درجاتها حتى يصير أحدوثة الدهر ، متسابقا متسارعا غيورا أن يسبقه إلى الله مشمِّر ، لا يقنع من نفسه بسير الهوينى حتى يعدو كالمُصَلِّي وينبذ الحَجْل المقيت .
إن الذي يعجز عن أن يقدم لدينه نشاطا دعويا ملموسا في معترك الصراع مع الباطل ، وفي لجة الحرب الضروس مع عروش الكفر وأصنام المذاهب الباطلة المعبودة من دون الله ، لن يعجز إن شاء الله أن يقدم لأمته نموذجا يقتدى به فيما عجز عنه الدعاة المنشغلون بمواجهة صناديد الكفر العنيد والفسق العتيد .
بل إن هؤلاء على الحقيقة هم الجنود المجهولون الذي يقوى بنماذجهم بنيان الصحوة ، ويصفو الكدر ، وتتلاشى الشوائب .
وهؤلاء هم الذي على أصداء صلاحهم تتنـزل الفتوح ويهبط النصر المبين ، يقول الأستاذ الراشد : إن الداعية إذا ألزم نفسه بالورع كانت لورعه أصداء يحدث تكررها وترددها تحريكا للناس ، ويوضح ذلك ما اكتشفه الزاهد يحيى بن معاذ من أنك ( على قدر شغلك بالله : يشتغل في أمرك الخلق ) ، وتوفيق الله تعالى لنا في عملنا التجميعي منوط بإقبالنا عليه ، وما أزمة صدود الناس عنا إلا من نتائج أزمة قلة اهتمامنا بما أوجبه الله ، ومن أقبل بقلبه على الله تعالى : أقبل بقلوب العباد إليه . إن الدعاة كثيرا ما يشطون عزوف الناس عنهم والتهاءهم بشكليات عادية يجدونها عند الأحزاب الأخرى ، وبالغث لا بالسمين ، وباللغو لا بالعلم ، وما من شك في أن هذه الظاهرة هي من الجهالة التي قوبل بها الأنبياء عليهم السلام وبعض المصلحين ، وأنها صفة متوقعة من البشر ، وأنها من علامات اقتراب الساعة ، ولكن يبدو أن صدود الناس هذه الأيام قد فاق كل صدود سابق ، وأن جهالة الناس بلغت حضيضا واطئا ، وأصبح أمر الإصلاح عسيرا على المقل الماشي في طريق الإيمان بهدوء وبرودة ، ولا بد أن يتصدى المكثر ، الراكض ، الفائر ، ذو الحرارة .
إن للتقوى آثار تشغيل ، وبمقدار جديتنا : يكون الناس جديين ، ولنا شاهد دائم في أنفسنا ، فإننا نتفاوت بين يوم ويوم ، وإيماننا يزيد وينقص ، فإذا كنا حينا في إيمان جيد : رأينا إقبال الناس علينا ، وإذا كان فينا جزر إيماني وقسوة قلب في حين آخر : رأينا قلة جدوى نشاطنا ، مع كثرة غدونا ورواحنا ، وكل منا قد تعاقبت عليه مثل هذه الأحوال ولمس بنفسه اختلاف مواقف الناس مـنه ، وضوابط إنتاج الجماعة تعتمد في كثير من جوانبها على ضوابط إنتاج الفرد . أهـ .
إن الأمة تحتاج أن يوجد من بينها من إذا أقسم على الله أبره الله ، من إذا رفع أصبعه إلى السماء داعيا تفتحت له أبواب القبول والإجابة ، من إذا ألح على الله تبارك وتعالى نزل التأييد من الله عاجلا غير آجل .
تحتاج الأمة إلى البذول المضحي بالمال والثروات لا يخاف الفقر والإملاق ، نموذجا في الإنفاق كأبي بكر الصديق يوم خرج من ماله كله فلما سأله الرسول صلى الله عليه وسلم : ماذا تركت لأهلك يا أبا بكر ؟ قال : تركت لهم الله ورسوله .
إن الأمة أحوج ما تكون إلى فتيان صدق يعيدون إلينا ذكرى المتنسكين الأول أمثال الفضيل بن عياض وابنه علي والسفيانين وعبد الله بن المبارك والكرخي وأحمد بن حنبل وأضرابهم .
إن الأمة لفقيرة إلى أنموذج في الزهد يذكر الناس بحقيقة الدنيا ويريهم أن في البشر من يمكنه أن يغالب نفسه ويطلق هذه الدنيا طلاق البتة وأن يقنع من هذه الدنيا بالقليل الذي يكفي .
محتاجة والله هذه الأمة المنكوبة إلى من يعيد لها ذكريات وأمجاد الأكارم الأول كحلم الأحنف بن قيس وجود ابن المبارك وصبر أحمد في المحن وجلد ابن تيمية في مواجهة قوى الفساد والعتو والبغي .
وما أجمل أن يتلفت الناس من حولهم في كل مدينة وقرية فيجدون هذه النماذج حجة لله عليهم ، وصرخة نذير تذكرهم بما يجب عليهم ، وتلفت أنظارهم إلى أن المكارم والمعاليَ ثَمَّ تنادي عليهم بالرقي والسمو بأحوالهم .
وليت الدعاة والمربون يلاحظون هذا الاتجاه في تربية النشأ ، فقد يجدون من بين الشبيبة من تقصر به همته عن مواجهة الناس بخطبة أو درس ولكنه سيجده في الزهادة والتقوى غرسا يحتاج إلى السقاية والعناية . وقد يجد من بينهم من لا يتقن فنون العلم ولكنه سيجده في رقة القلب وسرعة الدمعة ما يستحق أن تُنَمَّى فيه هذه الخصلة ليكون قدوة للعيون الجامدة والمُقَل المتحجرة .
وليس على الدعاة والمربين من بأس أن يندر - في نشأهم الذين يربونهم - طلبة العلم أو الراغبون في التخصص ، ويكون بدلا منهم المتنافسون في الخيرات والعبادات .
بل إني لأرى أن العلم فيه ما يرغب الناس فيه ، فآثاره في الناس مشهودة ، وفضائله في النصوص معلومة ، ورتبته في دنيا الناس لا ينكرها أو يزهد فيها إلا غر جهول .
أما الفضائل الأخرى كالزهد والاجتهاد في العبادة وتحقيق معالي الأخلاق ومكارمها فليس لها من وازع إلا نجابة الساعي إليها وسمو عقل من شمر للتمثل بها .
والصحوة الآن تمر بحالة تشبع في طلبة العلم الذين قنعوا من العلم باسمه ، واكتفوا من مزاياه بشكله ورسمه . وندر من بينهم من حقق في دنيا الناس شيئا مما تعلمه أو علمه لا أستثني ورب الكعبة نفسي .
والصحوة أشد ما تكون احتياجا إلى نماذج الصلاح العليا التي سيكون لها دور المناعة والحصانة لهذه الصحوة من الانحلال والتآكل .
ويمكننا أن لخص خطوات هذه الطريقة في الفقرات الآتية :

(1) اهتمام الدعاة والمربين بالقيم والمثل والأخلاق ونماذج الصلاح والعبادة أثناء ممارسة النشاطات التربوية والدعوية المختلفة .
(2) أن تتوافر في المكتبة الإسلامية الأدبيات التي تظهر هذه النماذج من السلف الصالح بحيث تكون وسيلة ميسورة لتعليمها للناشئة أو تعميمها على الناس وتذكرهم بها في الخطب والدروس والمواعظ .
(3) أن يقوم الدعاة بدور تربوي دقيق في ملاحظة العناصر عالية المستوى من الناشئة ، والتدقيق في صلاحيتهم لأي اتجاه ، وتنمية ذلك الاتجاه بما يحقق نبوغهم فيه ورقيهم على دربه .
(4) أن يجتهد كل الدعاة بل كل الغيورين على الدين في أن يحقق كل واحد منهم نموذجا من نماذج الصلاح التي يحبها وينوي بهذا الاجتهاد في بلوغ رتبة الصلاح أن يكون داعيا بصلاحه إلى الله تعالى وحجة له على خلقه ورمزا لشموخ هذا الدين وأثره في نفوس أتباعه .
(5) شحذ همم الناشئة للتنافس في درب الاستقامة عبر المسابقات العلمية والمخيمات التربوية والاعتكافات في المساجد والندوات الترفيهية .
وبعد .. فإن الصلاح حركة ذاتية في أعماق النفس حيث تتفاعل الإرادات ، وتتجاذب الأهواء وتتعارك النوازع ، وينتصر في النهاية العزم القوي .
والنفس الطاهرة هي التي تسمو على الخبث ، وتتجذر في تربتها قيم الحق ، ويمكث في أرض فطرتها ما ينفع الناس ، { وأما الزبد فيذهب جفا ء } ، فأكرم بها من نفس تلك التي اسْتَعْدَتْ على شهواتها جنود الإرادة ، وقفزت على أسوار المصاعب تتسنم ذرى المعالي والمكارم ، تخوض حرب التزكية واثقة أنها ستخرج من المعركة بنصر مبين وفلاح أكيد فـ{ قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها } ، لا تتهيب من مساءة شانئ أو ملامة عاذل ، قد أركزت أوتاد الحق في أرض العزم الوثيق ، وتغلغل اليقين يسري في همة متعاظمة كما سرى المداد في الماء القراح .
ومن باب رد العجز إلى الصدر .. نقول : إن كل مكلف يستطيع أن يخدم الدين بأن يكون عبقريا في درب من دروب الاستقامة ، فذا في سبيل من سبل المرحمة ، يتخصص في شأن من شئون الآخرة كما يتخصص الناس في مفردات شئون الدنيا .
وقد أشار إلى هذا المعنى نبينا صلى الله عليه وسلم حيث قال : وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( كل سلامى من الناس عليه صدقة ،كل يوم تطلع فيه الشمس تعدل بين الاثنين صدقة ، وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه صدقة ، والكلمة الطيبة صدقة ، وبكل خطوة يمشيها إلى الصلاة صدقة ، وتميط الأذى عن الطريق صدقة ) . رواه البخاري ومسلم .
وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم : ( الإيمان بضع وستون شعبة ، أعلاها لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ) . رواه البخاري ومسلم .

الطريقة الثالثة

( التنوع في وسائل الدعوة )

قد مر معنا أن الدعوة معنى شامل لكل فعل يرغب الناس في دين الله تبارك وتعالى مما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة ، وهي بهذا المعنى تأبى أن تنحصر في هيئة الموعظة سواء تشكلت في صورة الخطبة أو الدرس أو نحو ذلك .
والعجب الذي لا ينقضي من أناس أرادوا أن يحصروا مفهوم الدعوة في خطبة الجمعة ودرس العلم في المسجد ، ناسين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعظ على القبر وفي سوح القتال ، بل وعظ الناس بفعله قبل قوله ، وخصص للنساء يوما يعظهن فيه ، وكان يخص عائشة بمزيد علم لكونها المطلعة على خفي أمره فتكون بذلك المبلغ للناس ما خفي من سنــة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وجعل فداء أسرى بدر أن يعلموا صبية المسلمين الكتابة ، فكل ذلك أَوَلا ينبئ أن الدعوة وخدمة الدين يمكن أن تكون خارج حدود المسجد ؟ ! ولنا أن نسأل : كيف للدعوة أن تقتحم أسوار الطلبة الشيوعيين في الجامعات إذا لم نخرّج من طلائعنا أوتادا في العقيدة الإسلامية ومتخصصين في الأفكار الهدامة يكونون جحافل حق تهدم عروش الكفر بالحجة الواضحة والبرهان الناصع .
إنني أستقبح أن يتطاول شيوعي وقح على أحد الشباب الملتزمين ويتهمه بأنه ليس له أيديولوجية ، أو أن يَتَجَهْرَمَ علماني في مدرجات الكليات أمام آلاف الطلبة والطالبات بعقيدة الفصل بين الدين والدولة فلا يجد من الغيورين على دين الله من يقف له بالمرصاد .
ولقد شُهد للكفر جولة وحظي النفاق بدولة يوم أن توارى أهل الديانة في المساجد وتركوا الجهاد باللسان الذي أمروا به في غير ما آية : ( يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ) ، ( وجاهدهم به جهادا كبيرا ) أي بالقرآن .
إن الدعوة كما تحتاج خطيبا مصقعا فلا غنى لها أيضا عن صحفي نابه وكاتب ذي قلم سيال ومؤلف حسن الجمع والعرض ومناظر يقطع خصوم الإسلام بحججه القوية وأساليب إقناعه المبهرة ، بل إن الدعوة لا بد أن تطمح أن يكون لديها إعلاميون ذوي دراية بتقنية الإعلام حتى إذا ما تمكنت من إطلاق إذاعة أو قناة تليفزيونية كان ثمة كوادر تحمل هم الدين معها إلى تلك المواقع .
وكتابنا مؤلف حال كون المسلمين يعيشون عصر الاستضعاف ، ولكن هذا ليس بحائل أن نتطلع إلا دعوة طلائع الإسلام أن يستعدوا لعصر التمكين بالولوج في كل التخصصات ، فأسلمة العلوم لن تتحقق في أرض الواقع بدون علماء مسلمين نبغوا وأبدعوا وبهروا .
وحصر الدين في حلة الوعظ والخطبة كيد علماني عتيق ، أرادوا من ورائه أن يتسربل الإسلام ثوب الكنيسة ، فيظهر الواعظ في لباسه الرسمي المعهود ويلوك كلماته بترنيمة تشبه ترنيمة المنشدين في الكنائس ، لكأن الشيخ يريدونه صنو القسيس الذي يعظ فتتلاشى شمولية الدين في هذا الديكور المصطنع ، وإذا ما هب طبيب أو مهندس أو تاجر يريد تطبيق شرع الله وتعظيم حرماته استعظموا فريته وحسبوه كلابس ثوبي زور ، وهكذا تفر معالم الحقيقة من فحيح الكائدين .

من الذي رسم القانون الذي به أُلزم الناس ألا يروا أهل العلم إلا في مقام الوعظ ، وألا يسمعوا آيات الله تتلى إلا عن طريق الدرس أو المحاضرة ، بل من الذي يلزم الدعاة أن ينصهروا في هذه البوتقة فلا يخرجون منها ولا يحيدون عنها .
إن نصوص الشرع من القرآن أو السنة وسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجماع سلف الأمة الصالح تشير بوضوح إلى أن الدعوة الإسلامية لابد أن تكون جارفة غازية ، لا تقف عند هيئة ولا تتحجر عند تَمثال مكرور ، ومع مراعاة الضوابط الشرعية التي تحدثنا عنها فإن الدعوة لا بد أن تنطلق في أفق رحيب ، تقاوم الباطل وإلحاده ، تهاجم عرش الكفر وتهزه بثبات ورسوخ ، وليس ذلك يأتي إلا بتلمس الوجوه التي بها نلج إلى قلوب الناس ، ومعرفة الفنون ( الأنواع ) التي بها نحوز قناعاتهم .
وتأمل في القرآن كيف يحكي الله عز وجل قصة نبي من أولي العزم من الرسل ، أعيته الحيل في إسماع قومه صوت الحق ، فما برح يبتكر الوسائل ويتحين الفرص بها يجهر بالدعوة ، ذلكم هو نبي الله نوح ، قال عنه الله تبارك وتعالى : { قال رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا ، فلم يزدهم دعائي إلا فرارا ، وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا ، ثم إني دعوتهم جهارا ، ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا } .
قال الأستاذ سيد قطب رحمه الله : وهي صورة لإصرار الداعية على الدعوة وتحين كل فرصة ليبلغهم إياها .. ومع الدأب على الدعوة وتحين كل فرصة والإصرار على المواجهة اتبع نوح عليه السلام كل الأساليب ، فجهر بالدعوة تارة ثم زاوج بين الإعلان والإسرار تارة ..وفي أثناء ذلك كله أطمعهم في خير الدنيا والآخرة ، أطمعهم في الغفران إذا استغفروا ربهم ، فهو سبحانه غفار للذنوب .. وأطمعهم في الرزق الوفير الميسور من أسبابه التي يعرفونها ويرجونها وهي المطر الغزير .. كما وعدهم برزقهم الآخر من الذرية التي يحبونها وهي البنين والأموال التي يطلبونها . أهـ
وكما كان التنوع مسلك الأنبياء من قديم ، فقد رأينا سلف الأمة ينهجون ذات المنهج في خدمة دينهم . تأمل حركة التصنيف في بدايات القرون الأولى ، وكيف أنها بدأت بكتابة المصحف ثم جمع الحديث وكتابته ، ثم إفراد الصحيح ثم جمعه على أبواب السنن ، ثم جمعه على أسماء الصحابة ثم على أسماء الشيوخ ، واستتبع ذلك ضرورة معرفة الرواة الثقات من الضعفاء فتكلموا في الثقات والضعفاء وأحوالهم وتواريخ ولادتهم ووفياتهم .
وإذا عرجنا على باب آخر غير العلم وجدنا كيف أن سلفنا الصالح كانوا أول من أسس فن إدارة دور العلم ، وإذا طالعت كتاب الدارس في تاريخ المدارس أو تاريخ البداية والنهاية لابن كثير لوقفت على المستوى الراقي الذي وصلت إليه فنون الإدارة في زمان كانت أوروبا تخبط خبط عشـواء .
ولو قرأت كتاب : شمس العرب تشرق على الغرب للمستشرقة الألمانية زيغريد هونكه لعلمت أن حضارة المسلمين لم تقم على الأماني والأحلام ، بل قامت على سواعد أقوام أخذوا بأسباب المدنية ، وتنافسوا في خدمة دينهم ليعلو صرحه وتشمخ هامته فتكون العزة لله ولرسوله وللمؤمنين .
وقد مر معنا في ( احتراف خدمة الدين ) اجتهاد جماعة التبليغ في التفنن في طرق وأساليب الدعوة والوصول إلى قلوب الخلق وتلمس كل الوسائل الممكنة للدعوة إلى الله .
والتنوع ليس مزاجا مطاعا أو هوى متبعا ، ولكنه علم وذوق ، ثم دربة ومنافسة ، إذ لا بد من معرفة أوجه النفع والقصور في كل وسيلة من وسائل الدعوة ، ولا بد من وجود الإحصائيات التي تفيدنا في معرفة الإيجابيات والسلبيات ، ثم إن طرح البدائل مسبقا مع دراستها وتمحيصها ( كما هو معلوم في علم الإدارة ) له دور في تلافي الفشل الذي يعتري الوسائل القاصرة .
ولذوق الداعية دور مهم في جماليات الوسائل حتى تكون ذات رونق يتميز به الداعية المسلم عن غيره . أما منافسة الداعية لغيره ودربته في تنويع وسائله فعاملان مهمان في شحذ الهمم والإمكانيات واستنباط الأفكار الجديدة والعبقرية .

وليس يغيب عنا أن ننبه أن الجهد الجماعي في تنويع وسائل الدعوة أثرى وأغزر في الفائدة من الجهد الفردي ، كما أن قضية التنوع وغيرها من ملامح دعوية مرتهنة بقضية العمل الجماعي ولا ريب ، فقد برهنّا أن جهد الجماعة محاط برعاية الله مشمول بعنايته ومباركته .
ونختم هذا الفصل بتوصيات عملية تفيد قضية التنوع بالنسبة للداعية :
(1) ضرورة فهم مبدأ الابتكار في الوسائل الدعوية وأنها مشروطة بشروط شرعية حتى لا تدخل في دائرة الابتداع ، والمعنيّ : أن الدعاة يجب أن يفرقوا بين ما هو مسموح وغير مسموح في وسائل الدعوة حتى يستطيعوا الإبداع دون تهيب من حساسية الابتداع ( إبداع دون ابتداع ) .
(2) صقل الخبرات الدعوية بالأساليب الآتية :
أ. التعرف على الدعاة والتجمعات الدعوية والاحتكاك بجهودهم .
ب. مطالعة المؤلفات الدعوية التي تعنى بهذه القضية مثل كتاب : دليل التنمية البشرية لهشام طالب
والمسار للأستاذ محمد أحمد الراشد ومقدمات للنهوض بالدعوة للأستاذ بكار .
ج. صقل الذوق الدعوي بالثقافة العامة ومطالعة الدوريات العالمية التي يستفيد الداعية منها في أساليب العرض ومتابعة كل جديد في عالم الإعلام .

د. الإعداد لمؤتمرات ومعسكرات تدريب لتنمية قدرات الدعاة .
هـ. جمع تجارب الدعاة وخبراتهم ومهاراتهم في كتاب مطبوع لتعميم الاستفادة من تلك الخبرات .
(3) ضرورة مطالعة كل ما هو جديد عند دعاة الديانات والمذاهب الباطلة حتى يتمكن الدعاة من مقاومة إغراءاتهم
ومواجهتها بالأنفع والأرجى لقبول الناس .
(4) الاهتمام بجانب حسن العرض وبخاصة في الأنشطة الإعلامية . وقد أضحى هذا المجال علما له تقنيته ، وتواتر عندنا كيف أن المتنافسين في الحملات الانتخابية في الغرب يستعينون بمدير لحملاتهم تكون مهمته الترويج لشعبية تلك الشخصية بين الناخبين ، وما أجدرنا في سبيل ديننا أن تعلم كيف نروج له ونجعله غازيا لقلوب الناس .
(5) من الأهمية بمكان أن نولي هذا الجانب مزيدا من الاهتمام عبر إيجاد المتخصصين المتفرغين ( مكاتب خبرة ) لابتكار وسائل دعوية تفيد الدعاة وتعينهم في مجهودهم الدعوي .


الطريقة الرابعة :
( التعلم والتعليم )
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه لكُميل رجل من أصحابه - : احفظ ما أقول لك : الناس ثلاثة ، فعالم رباني ، وعالم متعلم على سبيل نجاة ، وهمج رَعاع ، أتباع كل ناعق ، يميلون مع كل ريح ، لم يستضيئوا بنور العلم ، ولم يلجئوا إلي ركن وثيق ، العلم خير من المال ، يحرسك وأنت تحرس المال ، العلم يزكو على العمل ، والمال ينقصه النفقة ، ومحبة العالم دين يدان بها باكتساب الطاعة في حياته ، وجميل الأحدوثة بعد موته وصنيعه ، وصنيعة المال تزول بزوال صاحبه ، مات خزان الأموال وهم أحياء ، والعلماء باقون ما بقي الدهر ، أعيانهم مفقودة ، وأمثالهم في القلوب موجودة أهـ.
نصوص الشرع المطهر وآثار السلف وأقاويل أهل العلم في فضل العلم والعلماء والتعلم والتعليم خارجة عن حوزة الحصر ، والمقصود من هذا الباب بيان خطر العلم والتعلم في رفع راية الدين وسموق لوائه بين العالمين .
والمقصود بالعلم ههنا كل علم أورث خشية لله وعزة للدين ، وإن كان من علوم الدنيا ، وعلوم الدين مقصودة لذاتها ، أما علوم الدنيا فمقصودة بالتبع ، فمن ابتغى علما من علوم الدنيا كالطب والهندسة والفلك والكيمياء والإدارة والمحاسبة وتقنية الحاسب الآلي واحتسب المثوبة وصدق في تسخير علمه لخدمة الدين رُجي أن تكون هذه العلوم بمثابة علوم الدين ، بل طلبها حينئذ أشرف ممن طلب علوم الدين ولم يرفع بها رأسا .
إن المقصود بكلامنا عن العلم هنا ما يعين على إعزاز الدين ورفع راية الحق ، ولا يكون ذلك إلا بثلاثة أمور :
الأول : تعظيم العلم وإجلاله واعتقاد خطورته كما قال حافظ حكمي رحمه الله :
وقدس العلم واعرف قدر حرمته لو يعلم المرء قدر العلم لم ينم

الثاني : الجد في طلبة وترك الدعة والكسل ، ومسابقة الغير فيه ، والتفوق على أهل ملة الكفر والعناد .
الثالث : الالتزام بمنهج جاد يسير عليه ويعول .
ثم إن المقصود بالتعلم والتعليم ههنا أيضا بلوغ الرتبة العليا والغاية الكبرى منهما ، وليس مجرد نوال حظ منه ولو كان قليلا .
فهمة الدعاة والغيورين على الدين يجب أن تسابق الريح ، وأن تكتسح الصعوبات ، وتتجاوز الأزمات ، فترقى بصاحبها إلى ذرى المجد والناس قعود .
أما آلية التعلم والتعليم فهي المقصودة من بحثنا ههنا ، وكيف يستطيع الدعاة أن يوظفوا هذا الركن الركين ( العلم ) في خدمة الدين ؟
إنه ما من شك أن كل أمر من أمور الدنيا له مقاصد ووسائل ومتممات ، والمقاصد هي التي تحدوا طالبها للرغبة فيها ، والوسائل سبيله الجادة لنيل مرغوبه ومطلوبه ، والمتممات مسلكه في حفظ ما ناله وحصل عليه .
ومقصود العلم بالنسبة لطلاب الآخرة نوال رضا الله تبارك وتعالى والفوز بجائزته تبارك وتعالى ، ومن مقاصد العلم تطهير النفس وتزكيتها وترقي المراتب العليا في العبودية ، ومسامتة الملائكة في مراتب الطاعة ، إذ بالعلم تزداد الخشية وتعظم الإنابة .
أما وسيلة السالك طريق الآخرة في نيل مطلوبه من العلم وتتميم ذلك بحفظه من الزوال وعدم النفع ، فيكون بما سنسطره ههنا .
فالذي ينبغي أن يعلمه كل غيور على الدين ومساهم في إعزاز الدين أن العلم كيان استراتيجي وحيوي للدعوة الإسلامية ، وهو بمثابة الروح السارية في بنيان الصحوة ، وماء حياتها ورواؤها ، وبقد ما تبلغ الصحوة من العلم شأوا بقدر ما تنال من الإعزاز قدرا .
ومعنى كون العلم كيانا استراتيجيا أنه صار ثابتا لا يقبل التغير أو المساومة ، وأنه يجب أن يوضع في أول سلم الأولويات ، كما أن اشتراطه وصفا لازما في حملة هذه الدعوة يجب أن يكون صارما لا يقبل التنازل أو التنازع .
فالدعوة لا يمكن أن تبدأ خطواتها بالجهل ، ولا يمكن أن تتسارع في الخطو بأقدام الجهلاء ، ولن تستطيع أن تقيم للدين صرحا شامخا وهي من عدة العلم خاوية على عروشها .
وقد أثبت التاريخ بالتجربة - بعد أن ثبت ذلك بنص الوحي المعصوم - أنه ما من أثر يخلد أو جهد يبقى أو تركة تدوم إلا العلم النافع الذي يستفيد به صاحبه ويفيده الناس .
فيجب والحال كما ذكرنا أن تتواصى همم الدعاة على تبني ميثاق غليظ في إحياء هذه القيمة في قلوب أفراد المجتمع ، ومن باب أولى في نفوس من ينتمون إلى هذه الصحوة المباركة ، وتحريك ماء الكسل الآسن الذي أنتن بطول الخمول والمكث ، وحفز الطاقات الهادرة التي تنصرف في أودية الدنيا إلى احتضان العلم وتبنيه وإنزاله المنزلة اللائقة به .
لم يعد من المقبول أن نكون من أصحاب دين أول كلمة في الوحي الذي اختصصنا به الأمر بالقراءة فإذا بنا نقف في ذيل القراء والناهلين من العلم القراح ، كما لم يعد من المقبول أن نرى جلد الكفار والفجار في طلب العلم ورقي مراتبه وتسنم مدارجه وحملة الحق يحملقون وللشفاه يمصمصـون .
يقول الراشد : إن من مصائب أمتنا اليوم أنها لا تقرأ ، ومع ذلك فلا يتجه هذا الخطاب لها ، لأن طريق الاستدراك طويل ، ويبدأ بيقظة الخاصة من دعاة الإسلام ليقودوا البقية ، وإنما الخطاب متجه لهذه الخاصة الرائدة القائدة ، بل ولفتيان الدعوة الميامين ، الذين هم قادة المستقبل ، فنعم الفتيان فتيان الدعوة لو قرءوا .
لقد عرفت شباب الإسلام وصاحبتهم واقتربت منهم ، فوجدتهم من أنقى الناس سريرة وأنصعهم طهرا وأصفاهم عقيدة وأجزلهم وعيا ، ورأيت منهم تشميرا إلى الخير في حرص دائب وفرارا إلى الله تعالى من خلال طريق عريض لاحب ، لكنها كثافة المطالعة تنقصهم ، ولو أنهم أحنوا ظهورهم على كتب التفسير والحديث والفقه والتاريخ طويلا ، واكتالوا لهم من الأدب والثقافة العالمية العامة جزيلا لكملت أوصافهم ولتفردوا في المناقب .
وإني لأعجب من دعاة الإسلام الذين أراهم اليوم ، كيف يجرؤ أحدهم على إطالة العنق في المجالس ، والنشر في الصحف ، قبل أن يجمع شيئا من البيان جمعه الطبري في تأول آي القرآن ، وقبل أن يرفع له راية مع ابن حجر في فتحه ، ولم ينل بعد من رفق أم الشافعي وحنانها ولا كان له انبساط مع السرخسي في مبسوطه ، أو موافقة للشاطبي في موافقاته ؟
وكيف يقنع الداعية وهو لم يقرأ بعد المهم من كتب ابن تيمية ، وابن القيم ، والغزالي ، وابن حزم ؟ وكيف يسرع داعية إلى ذلك وهو لم يكثر من مطالعة كتب الأدب العربي القديم ، ولم يعكف مع الجاحظ وأبي حيان أو ابن قتيبة وأديبي أصبهان ؟
وأعجب أكثر من هذا لداعية أثير حماسته لهذه العلوم والآداب فيقول : ليس لي وقت ، كأنه غير مطالب بإتعاب نفسه تعبا مضاعفا ، ولا شرع له السهر !
ثم أعجب أكثر إذا ذكرت له كتابا فيأتيني من الغد مغاضبا ، لخطأ وقع فيه كاتبه ، أو بدعة طفيفة ، كأن العلم لا يؤخذ إلا من صاحب سنة محضة وكتاب مصون !
وماذا عليك لو أنك قرأت ونقحت ، وتخيرت وانتقيت ، وأخذت وأعرضت ؟ .
إن أول خطوة يجب أن تخطوها الصحوة المباركة في هذا الدرب أن يتواصى الأفراد فيما بينهم على ضرورة تدارك العمر في تحصيل العلم ، وحفز الهمة في التنافس إليه ، وإشاعة هذه الروح بين كل المنتمين إلى الصحوة المباركة ، وأن يتحرك العلماء والدعاة في النداء إلى ثورة في مجال العلم ننفض به غبار الجهل العالق عبر مئات السنين ، نبعث روح السلف الصالح في أجسادنا لتنتبه من رقدتها وتستيقظ من نومتها .
وبعد ذلك يجب أن توضع المناهج التفصيلية في تربية الناشئة على العلم وحبه وطلبه والشغف به ، فإن ذلك هو الأساس المكين في إيجاد أمة تعظم العلم وتحييه وتقوم به .
كما يجب أن يعمل المسئولون في الحركات الإسلامية على توفير كل الإمكانيات المتاحة لتسهيل عملية طلب العلم لشباب الصحوة ، وتشجيعهم وتبني العبقريات الفذة منهم ، ولإصلاح المناهج التربوية بما لا يتعارض مع هذه المقاصد المذكورة .
إن مساجد الدعوة وبيوتات الدعاة يجب أن تكون صروحا للعلم ، ومنارات لطلبته ، ويجب أن يتعاون الدعاة في إيجاد المرجعيات العلمية لكل العلوم ، بحيث يسهل على طلبة العلم أن يختاروا العلوم التي تميل نفوسهم إليها .
إننا لا نطمع أن يكون المجتمع كله علماء ، ولكننا نتمنى أن يكون المجتمع بأكمله من طلاب العلم الذي يدعو العقل ليحيى من رقدته فلا يستسلم للظلم والجور أو يرضى بالهزيمة والهون .
وطالب العلم الذي بإمكانه أن ينفع دعوته ودينه هو الذي يسلك جادة العلم بجد ، وينأى بنفسه عن أماني الحالمين ، وخطو الكسالى الخاملين .
ومن أجل رفع معنويات طلبة العلم وحفز هممهم فيجب ألا يترك لهم طريق الطلب يتخبطون في دياجيره وأساليبه المختلفة المتباينة ، بل يجب أن توضع مناهج الطلب بإزاء تيسير الشيوخ المتخصصين الذين سيكون لهم اليد الطولى في توجيه الطلبة .
والآفة التي يعلمها كل طلبة العلم الآن أن مسيرة طالب العلم إذا كانت له مسيرة أصلا متروكة لهواه ومزاجه الشخصي ، فهو يقرأ اليوم كتابا فإذا مله أو وجده ثقيل الدم استساغ الترحل عنه إلى كتاب آخر دون استشارة شيخ أو انتهاج منهج .
وآخرون يقرءون الكتب التي اشتهرت بين العلماء دون اعتبار لمستواهم وإمكانياتهم في فهم أو هضم المعلومة ، وآخرون يقرءون الكتب ذات التجليد الجميل والغلاف الخلاب ، فإذا ما كان الكتاب ذا ورق أصفر أو تجليد منفر نفرت منه قلوبهم وتذرعوا بأن أعينهم لا تطيق النظر إلى الكتب الصفراء .
والأمزجة في هذا الباب لا حصر لها ، وقد عانيت شخصيا أثناء الطلب من بعض هذه الأمزجة الهوائية لقلة الشيوخ والموجهين آنئذ ولا شك أن هذا المسلك من شأنه أن يكون عائقا كبيرا في اتجاه تخريج طلبة العلم الجادين المثابرين .
وفي مقابل هذا المزاج الهوائي لطلبة العلم فإننا نجد بعض الشيوخ والعلماء والدعاة للأسـف يساهمون بدور ذي بال في تقعيد هذا المسلك وتقنينه ، وذلك عن طريق انتهاجهم نفس الطريقة في التدريس ، فبعض الشيوخ لا يثبت على كتاب ، فهو كالحال المرتحل ، بل ربما لا يثبت على علم واحد ، وإنما هو موسوعي مثل القاموس المحيط والقابوس الوسيط الجامع لما ذهب من كلام العرب شماطيط .
وآخر من العلماء والشيوخ لا عناية له بتلامذته ومريدي علمه ، فهو يلقي لهم بالمعلومات ولا يبالي فهمها فاهم أو أخطأ في تلقيها ساذج ، وربما توجد عنده عبقريات فذة لا يلقي لها بالا .

وآخر همه تلقين العلم الشرعي دون أدبه ، فيتخرج تلامذته كالخشب المسندة أو العظام النخرة أو كأعجاز نخل خاوية ، ولربما كان أول من يحاربه ويعارضه ويهاجمه هم تلامذته لأنهم لم يتنشأوا على احترام أهل العلم وتوقير حملته . وقد رأينا في عصرنا من طلبة العلم من نشأ على هذه الشاكلة فأرداه سوء منهجه في الوقيعة بالعلماء والأئمة وسبهم والحط من أقدارهم .
وآخرون كثر ليسوا بعلماء ولا أنصاف علماء ، ولكنهم متطفلون على موائد العلم ، شعارهم : قلت وعندنا ( ومن أنتم حتى يكون لكم عند ؟!!) ، وهذا الإمام لم يفهم الحديث ، وذلك الصحابي قوله مردود ، ونحو ذلك من العبارات التي لا طعم لها ، ولكنها خرجت من أفئدة خاوية من توقير العلم وأهله ، ومن عقول مفلسة من العلم وعدته .
إن هذه الآفات الناهشة في نسيج الصحوة يجب أن تستأصل من الجذور ، وتستبدل بالمثل الكاملة التي كان عليها سلف الأمة ، فلن يصلح آخرها إلا بما صلح به أولها كما قال الإمام مالك رحمه الله .
ولقد شهدت الصحوة تجربة المعاهد العلمية الخاصة التي استظل بها كثير من طلبة العلم دهرا ثم قلب لها الطغاة ظهر المجن حينما رأوا الأثر الجارف الذي أحدثته في الصف الإسلامي ، بل تواصل زحف الطغاة إلى الدعاة في بيوتهم لأجل منع دروس العلم وتجفيف أي ينبوع حكمة في المجتمع الإسلامي وإطفاء كل شعاع ينبثق في زاوية من زواياه ، وليس من شيء نتسلى به ونتعزى إلا قول الله تعالى : { يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون } ، وقال : { ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون } .
ولكن ذلك لا ينبغي أن يفت من فؤادنا أو ينال من عزيمتنا ، فإن العلم كما أسلفنا استراتيجية لا تراجع عنها ، ويجب أن نستغل كل الوسائل الممكنة للرقي بمستوى المنتمين إلى الصحوة علميا حتى ولو كان بابتكار المناهج التعليمية الجديدة والجادة التي تعالج الوضع المنقوص الذي نعيشه ونحياه .
وقد كان لكاتب هذه السطور معاناة لمأساة طلبة العلم ، فتم وضع منهج يعالج إشكاليتين حاصلتين ، الأولى : إشكالية عدم وجود العلماء أو قلتهم أو عدم تفرغهم الكامل لطلبة العلم ، والثانية : إشكالية نوعية الكتب التي يجب قراءتها في كل علم مع اعتبار المرحلية والتدرج في الطلب والتحصيل .
فعلى صعيد قلة العلماء عالج المنهج قضية التلقي باعتبارها الأساس الذي اشترطه السلف الصالح في اعتبار العلم ، حتى قال قائلهم :
من يأخذ العلم عن شيخ مشافهة يكن عن الزيغ والتحريف في حرم

ومن يكن آخذا للعلم من صحف فعلمه عند أهل العلم كالعــدم
وذلك بتقنين قراءة الطلبة للكتب ، عن طريق التدرج في مستوى الكتاب حتى تقل نسبة العبارات الغامضة والمسائل الصعبة ، مع اشتراط وجود الشيخ المتابع الذي يجري اختبارات شفوية وتحريرية ويشرح عينات مختلفة من الكتب أو العناوين التي يقرؤها الطالب .
وعلى صعيد نوعية الكتب فقد تم اختيار الكتب التي يسهل قراءتها ( مع الحرص أن تكون نسبة كبيرة منها من كتب التراث الأصيل ) وتصعيد مستواها مرحليا بعد نجاح الطالب في اجتياز الاختبار التحريري والشفوي .

وتضمن المنهج بحثا مختصرا في كيفية الاستفادة من قراءة الكتب ، تم فيه تقعيد أسس القراءة النافعة ، والوسائل العملية لتحصيل أعظم فائدة للقارئ العادي والمتوسط والعالي المستوى ، وكل ذلك عن طريق أبحاث نفسية واجتماعية تم الاستفادة منها وتأطيرها في إطار شرعي إسلامي .
إن أقل ما يجب أن يبذله دعاة اليوم هو تكوين مجموعات علمية والإشراف عليها ، والرقي بمستواها العلمي والتطبيقي ، وإكسابها الدربة اللازمة لكل ما تحتاجه الدعوة من علوم ومعارف ، حتى الدنيوي منها ، وبدون ذلك فإخال كل المحاولات المبذولة قد أثبتت التجربة أنها باءت بالفشل .

وينبغي أن يتدارس الدعاة دوما هذه القضية باعتبارها مشكلة حقيقية تهدد المستقبل الدعوي بحق ، وما لم يعلم الدعاة على تدارك هذا الأمر في مؤتمراتهم واجتماعاتهم فإن الصحوة إما أن تنحسر كما أو كيفا ، وفي كلتا الحالتين فالخاسر الوحيد هو مستقبل هذا الدين .
ولكن على صعيد المجهود الفردي نقول : إن أي منتم للصحوة المباركة بل للدين الحنيف لا بد أن يقوم لله قومة صدق ، ينفض عن سربال إيمانه غبار الجهل ، ويتحلى بزينة العلم ، ويصطف في مسيرة الساعين إليه الباحثين عنه الطالبين له .
ويكون ذلك ببذل كل جهد مستطاع في مخالطة العلماء وطلبة العلم والأخذ بنصائحهم في قراءة الكتب ، ومشافهة الشيوخ في مسائل العلم ، وعرض ما يصعب أو يستغلق فهمه عليهم .




الطريقة الخامسة
( اكتساب مهارات الدعوة )
إن الدعوة كغيرها من الأعمال تحتاج إلى دربة وخبرة ، وما من عمل أتقنه صاحبه بالفطرة ، مصداق ذلك قوله تعالى : { والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون } .
وموسى عليه السلام طلب الاستعانة بذي الخبرة حين قال : { واجعل لي وزيرا من أهلي . هارون أخي . أشدد به أزري وأشركه في أمري } . كما أن مما رشحه أن يؤاجره صاحب مدين للعمل توفر الشرطين الذين ذكرتهما إحدى البنتين : { إن خير من استأجرت القوي الأمين } . وطالوت استحق الملك بما أوتي من بسطة في العلم والجسم .
وهكذا يجب أن يمضي الدعاة ، يجابهون الصعاب ويواجهون المواقف بمهارات مكتسبة ، وخبرات مجتناة ، ودربة مستقاة . ما أعظمها من همة لا تترك لكلمة ( ظروف ) حجة لمحتج ، أو عذرا لمعتذر ، إنه يأبى إلا الكمال ، لأن النفوس الكاملة تستقبح النقص :
ولم أر في عيوب الناس عيبا كنقص القادرين على التمـام

وتكامله في إتقان الأسباب مواز ليقينه في معونة الله تعالى ، لأنها لا تأتي إلا على قدر المئونة ، وهداية التوفيق منوطة باتباع هداية الإرشاد ، والله لا يضيع أجر المحسنين .
إذا أسند إلى أحدهم عمل من أعمال الدعوة أقبل عليه بالدرس والتحليل والتمحيص ، واقترح الأساليب ودرس إمكانية تطبيقها ، والعوائق التي قد تحول دون نجاحها ، كما يدرس النتائج المتوقعة واحتمالات الفشل والبدائل المقترحة

إن الداعية الناجح ذو قلب عقول ولسان سئول ، يبغض الجهل ، ويعظم العلم ، ويحترم التخصص ، يرفض أن يقوم بعمل لا يتقنه حتى يتقنه . فهو لا يحتج بعدم الإتقان على ترك العمل ، بل يعتذر عن العمل ريثما يتقنه ويقوم به حق القيام .
إن الداعية الناجح إذا أسندت إليه خطبة حال كونه لا يجيد الخطابة ، استأذن أصحابه شهرا ليتعلم فن الخطابة ويجيد أساليبها ، ليرقى المنبر متمكنا من صنعته مالئا مكانه الذي وضع فيه .
إن الداعية الناجح إذا اكتشف أنه لا يتقن محادثة الناس على الملأ ، هرع إلى المكتبات يبحث عن الكتب التي صنفت في كيفية تنمية مهارات المحادثة ومواجهة الجماهير .
إن الداعية الناجح إذا خطب في موضوع أشبعه ، وإذا تحدث في قضية أتى على تفاصيلها فلم يترك تعقيبا لمعقب .
إن مشاريع الدعاة الناجحين لا يعتريها الفشل من قبل تقصيرهم ، أو يصيبها الشلل بسبب أخطائهم ، بل بأقدار وحكم لا يعلمها إلا الله تعالى .
وهم في بذلهم الوسع مثل الأنبياء الذين مكثوا في أقوامهم مئات أو عشرات السنين ثم لا يأتون يوم القيامة مع أقوامهم إلا بالرهط وبالواحد والاثنين وربما يأتي النبي وليس معه أحد .
والمهارات الدعوية تخصص يجب أن نؤمن به ونحترمه ، فليس كل عالم داعية والعكس صحيح أيضا ، وكم من علماء متخصصين ملئوا الدنيا علما ولكنهم يفشلون في أي موقف دعوي ساذج .
وكما يجب على الدعاة ألا يفتئتوا على وظيفة العلماء في الفتوى والإفادة ، فيجب على العلماء ألا يحتكروا الدعوة بزعم احتكارهم للعلم .
والواقع يشهد بأن المهارات الدعوية صارت تتطلب تخصصات مختلفة ومعقدة لا يسد احتياجاتها المتخصصون في الفقه والحديث .
فالدعوة تحتاج إلى المربين لمختلف الأعمار ، والذي يتعهد الأطفال والصبية الصغار ليس كمن يربي الشبيبة المراهقين ، ومن يعنى بمقارعة المنصرين ومجابهة العلمانيين لن يتفرغ كثيرا للاهتمام بسد حاجة الفقراء المسلمين مثلا .
إنها وظائف كثيرة ، تحتاج إلى جهود متضافرة ، وفي نفس الوقت إلى مهارات مكتسبة تتناسب وتلك الوظائف .
إذ لم يعد من المقبول أن يقوم داعية واحد بكل تلك الأنشطة التي ذكرناها ، أو يهتم بها ويفكر فيها ، إن ذلك سيؤدي به إلى خلل في الأداء أو قصور في التخطيط والتنظيم ولا ريب .
فناسب حينئذ أن تتوزع اختصاصات الدعوة على الدعاة ، مع ضرورة أن يقوم كل داعية بإتقان الدور الذي أسند إليه وأن يتخصص فيه ، ويعد نفسه أن يكون مرجعا لغيره من الدعاة فيما أسند إليه .
إننا لن نستطيع إيجاد العالم الموسوعي ، والداعية الجامع لكل الفنون والعلوم ، إلا أن يكون ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ، ولكن ينبغي أن نتعامل مع السنن الكونية بواقعية ، وألا نركن إلى الأماني الكاذبة والأحلام الشاردة .
ومن الواقعية بمكان أن يدرك الدعاة أن مجال الدعوة واسع الأرجاء ، وأنه يحتاج إلى جهود جبارة ، وطاقات هائلة ، وسواعد متضافرة .
وأن الساحة مليئة بالأعداء الذين أتقنوا كل المهارات الممكنة للمواجهة مع الإسلام ، وأنهم يعدون العدة الكاملة لاستئصال الدين ، وأن عدتهم في ذلك متكاملة التجهيز والتنسيق ، وأنهم متفقون على تسخير كل تقنية متاحة في نصرة باطلهم .
وبإزاء ذلك يتعامل بعض الدعاة مع واقعهم بسذاجة وبساطة لدرجة تدعو للرثاء أو الشفقـة ، مدفوعون بعواطف صادقة لكنها لا تغني فتيلا أمام سنة الله التي لن تجد لها تبديلا .
فسنة الله لا تحابي أحدا ، حتى الأنبياء والمرسلين ، اجترفتهم أقدار الإله لما حصل التقصير من بعض أتباعهم . أخذت الرجفة موسى ومن اختاره لميقات ربه بفعل بعض السفهاء ، ويهزم جيش فيه خير البشر وخيرة الله من العالمين محمد صلى الله عليه وسلم لأن من جنده من كان يريد الدنيا .
إن المسلمين قد عاشوا للأسف قرونا في ظل ثقافة تواكلية ، وتحت سقف سلبية مقننة ، وقد وجد من علماء المسلمين للأسف أيضا من يقعد مبدأ السياحة في الأرض والخلوة في الفيافي في وقت كان التتار يدكون حصون الشام والصليبيون يدكون حصون مصر .
إن في بعض الأدبيات الصوفية جنوح لما يمكن أن نسميه دعوة للكسل والخمول ، ولن نعجب أن يستقر في أذهان العامة أن الصوفية أو رواد المساجد في الجملة أصحاب بطون ، أو أنهم عشاق الفَتَّة .
إن هذه الثقافة التواكلية سرت في وجدان الأمة حتى أضحت عقيدة يُعْتدُّ بها ومَهْيَعا يرتاده كل من أراد التدين . ولا أغالي إذا قلت إن شيئا من هذه التواكلية سرى إلى أوصال الصحوة المباركة بفعل التجاور والمعاشرة .
ورأينا من يقنن لهذا الكسل ، ويقعد لما اصطلح عليه العوام اسم ( البركة ) ، أي أن كل شيء يمشي بالبركة أي بدون اتخاذ الأسباب وبدون اكتساب المهارة اللازمة لأدائه .
وسمعت بعض الدعاة ينفر من التخطيط السليم لإدارة الدعوة ، وأن الخير في عدم تعقيد الأمور ، وآخر يبدع العمل الجماعي ، وثالث يحرم ابتكار الوسائل الدعوية ، في نمط من السذاجة لا يتناسب مع مقامهم في العلم والفضل .


الطريقة السادسة
( الدعاء )
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره ) . رواه البخاري ومسلم .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ألا أنبئكم بأهل الجنة كل ضعيف متضعِّف لو أقسم على الله لأبره ألا أنبئكم بأهل النار كل عتل جوّاظ متكبر ) رواه البخاري ومسلم .
وعن محمد بن المنكدر قال : كنت في المسجد ، فإذا أنا برجل عند المنبر يدعو بالمطر فجاء المطر بصوت ورعد ، فقال : يا رب ليس هكذا ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍. قال :فمطرت ، فتبعته حتى دخل دار حزم أو آل عمر ، فعرفت مكانه ، فجئت من الغد فعرضت عليه شيئا ، فأبى وقال : لا حاجة لي بهذا . فقلت : فحج معي . فقال : هذا شيء لك فيه أجر ، فأكره أن أنافسك عليه ، وأما شيء آخذه فلا .

وقال الأصمعي : لما صافَّ قتيبةُ بن مسلم للتُرْك وهَالَهُ أمرُهم ؛ سأل عن محمد بن واسع ، فقيل : هو ذاك في الميمنة جامح على قوسه يبصبص بأصبعه نحو السماء . قال : تلك الأصبع أحب إلي من مائة ألف سيف ، شهير وشاب طرير .
إن المتتبع لنصوص الشرع ليجد بدون فكر أو تأمل أن قضية الدعاء تحتل أهمية قصوى في سياق ما وصى به الشرع ، كما تجد مساحة واسعة في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم تنبيك بالقطع أن القوم كانوا يعولون على هذا الأمر جل مشكلاتهم .
لا جرم قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( الدعاء هو العبادة ) رواه أبو داود والنسائي والترمذي وقال : حسن صحيح .
وهو سلاح ماض ، وعدة عتيدة ، ووسيلة موصلة ، ودرب نافذ ، وسالكه مفلح ورابح في كل الأحوال . وقد علم سلفنا الصالح قوة هذا السلاح فاستعملوه في كل شئون حياتهم ، حتى روي عن أحدهم أنه كان يدعو في دعائه قائلا : اللهم ارزقني طبيخا اللهم ارزقني كذا وكذا .
وعن بعضهم أنه يسأل ربه كل شيء حتى الملح . وهذا هو المذهب السديد في الباب ، أن يلح العبد في المسألة ولو في الصغير من الشأن إذا أظهر الفقر إلى الله في ذلك الحقير ، وأنه غير مقضي إلا بإذن ربه ذي النعم والآلاء . وما ورد عن بعض السلف من أنه يستحيي من الله أن يسأله شيئا من أمور الدنيا ، فذلك محمول على أنه جازم بفقره إلى الله في تلك الأمور وفضل الاجتهاد في الدعاء والتضرع والسؤال للغايات الكبرى كالفوز بالجنة والنجاة من النار . ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات .
وفي سياق موضوعنا حول البذل للدين ، فإننا نلاحظ أن طائفة كبيرة من المسلمين ، ومنهم كثير من الدعاة في كثير من بقاع العالم عجزوا عن كثير من أوجه البذل التي ذكرناها وسنذكرها ، ولم يبق لهم من شيء يقدموه أو جهد ليبذلوه إلا أن يبسطوا الأكف ويتضرعوا إلى القوي العزيز بنصرة الدين .
فليكن الدعاء إذا تخصصا من التخصصات التي ينبري لها الغيورون على دين الله ، ولتكن تلك الأيدي الضارعة سيوفا مصلتة على هام أعداء الدين ، ولتكن تضرعاتها صرخات نذير في وجوه الكافرين .
والذي يجب أن نحشد له اعتقاد الناس : وثاقة اليقين بالله تبارك وتعالى ، وحسن الظن به ، والتعويل على نصرته ، فيدعوا الناس حال كونهم على يقين أن دعاءهم ينفع كما ينفع المال والسلاح وكل مئونة محسوسة .
وقد نطق بذلك الوحي كتابا وسنة ، فقد     : { وقال ربكم ادعوني أستجب لكم } وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا يرد القضاء إلا الدعاء ، ولا يزيد في العمر إلا البر ) رواه الترمذي والحاكم وحسنه الشيخ الألباني في صحيح الجامع .
وما أحوج الدعوة إلى مثل أصبع محمد بن واسع رحمه الله تشكو إلى الله غربة الدين ، وتستنـزل نصره ومدده . وما أحوجنا إلى ذاك الخفي النقي التقي الضعيف المتضعف الذي لو أقسم على الله لأبره .
إن جهود هؤلاء الداعين ليست بأقل من جهود من ينكر المنكر بكل جوارحه ، أو من يواجه صناديد الكفر والنفاق في كل ميدان ، وليست بأقل من جهود الخطباء والوعاظ وكل داعية في كل ميدان ، بل هم الجنود الأخفياء الذين علامة صدقهم خفاؤهم ، وحري بغيور أن يجتهد ليصل إلى مثل ما وصل القوم ، من باب البذل لدين الله تبارك وتعالى .
ولا مجال أن نعدد ههنا ما ورد في استجابة الله لعباده ، حتى ما ظهر من الكرامات في هذا العصر ، فهو مما لا يخفى على أحد ، وذلك أننا وكل مؤمن حق لا يربط الاستمرار في الدعاء بحصول الإجابة ، فهذا شأن المنافقين أو الكافرين الجاحدين لقدرة الله تبارك وتعالى ، بل قد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا من موانع الإجابة ، فقال صلى الله عليه وسلم : ( يستجاب لأحدكم ما لم يعجل ، يقول : دعوت فلم يستجب لي ) رواه البخاري ومسلم .
كما أن الإلحاح في الإجابة يجب أن يكون دأب كل الدعاة إلى الله تعالى ، وهو شأن علاقتهم بالله القائمة على دوام المناجاة والاجتهاد والتضرع .
وقال الأوزاعي يقال : أفضل الدعاء الإلحاح على الله والتضرع إليه . رواه البيهقي في شعب الإيمان .
وعن عبدا لله بن عكيم قال : خطبنا أبو بكر رضي الله عنه فقال : أما بعد أوصيكم بتقوى الله ، وأن تثنوا عليه بما هو له أهل ، وتخلطوا الرغبة بالرهبة ، وتجمعوا الإلحاح بالمسألة ، فإن الله أثنى على زكريا وأهل بيته ، فقال : { إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين } .
ويستلزم لمن صدر نفسه لخدمة الدين عن طريق الدعاء أن يحصل أسباب وشروط الإجابة بأن يطعم من الحلال وأن يتحرى المكان والزمان الأحرى بالقبول ، وكل ذلك مسطور في كتب أهل السنة بما لا مزيد عليه .
الطريقة السابعة
( تربية أفراد الأسرة )
يقول الله تبارك وتعالى : { يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون } .
عن علي رضي الله عنه في قوله تعالى :{ قوا أنفسكم وأهليكم نارا } ، يقول : أدبوهم وعلموهم ، وقال علي بن أبي طلحة عن ابـن عبـاس : { قوا أنفسكم وأهليكم نارا } يقول : اعملوا بطاعة الله واتقوا معاصي الله وأمروا أهلكم بالذكر ينجيكم الله من النار . وقال مجاهد : { قوا أنفسكم وأهليكم نارا } قال : اتقوا الله وأوصوا أهليكم بتقوى الله . وقال قتادة : تأمرهم بطاعة الله وتنهاهم عن معصية الله وأن تقوم عليهم بأمر الله وتأمرهم به وتساعدهم عليه فإذا رأيت لله معصية قذعتهم عنها وزجرتهم عنها . وهكذا قال الضحاك ومقاتل : حق المسلم أن يعلم أهله من قرابته وإمائه وعبيده ما فرض الله عليهم وما نهاهم الله عنه . وفي معنى هذه الآية الحديث الذي رواه أحمد 3/210 وأبو داود 494 والترمذي 407 من حديث عبد الملك بن الربيع بن سبرة عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( مروا الصبي بالصلاة إذا بلغ سبع سنين فإذا بلغ عشر سنين فاضربوه عليها ) هذا لفظ أبي داود ، وقال الترمذي : هذا حديث حسن . وروى أبو داود 495 من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ذلك .
قال الفقهاء : وهكذا في الصوم ليكون ذلك تمرينا له على العبادة لكي يبلغ وهو مستمر على العبادة والطاعة ومجانبة المعاصي وترك المنكر . والله الموفق .

وقال الله تبارك وتعالى مادحا إسماعيل عليه السلام : { وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضيا } . قال ابن كثير رحمه الله - : هذا أيضا من الثناء الجميل والصفة الحميدة والخلة السديدة حيث كان صابرا على طاعة ربه عز وجل آمرا بها لأهله كما     لرسوله : { وأمر أهلك بالصلاة وأصطبر عليها } الآية . وقال : { يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمـرون } أي مروهم بالمعروف وانهوهم عن المنكر ولا تدعوهم هملا فتأكلهم النار يوم القيامة .
وقد جاء في الحديث عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( رحم الله رجلا قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته فإن أبت نضح في وجهها الماء ، ورحم الله امرأة قامت من الليل فصلت وأيقظت زوجها فإن أبى نضحت في وجهه الماء ) أخرجه أبو داود وابن ماجه وقال الشيخ الألباني في صحيح أبي داود : حسن صحيح .
وعن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا استيقظ الرجل من الليل وأيقظ امرأته فصليا ركعتين كتبا من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات ) رواه أبو داود والنسائي كبرى وابن ماجه واللفظ له وقال الشيخ الألباني في صحيح أبي داود : صحيح .
وهكذا حال من وقف نفسه على إصلاح الناس ودعوتهم إلى الخير ، فإن أول من يبتدئ بهم أهله الأدنون كما قال تبارك وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : { وأنذر عشيرتك الأقربين } ، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته ) ، وقال صلى الله عليه وسلم : ( كفى بالمرء إثما أن يضيع من يعول ) ، وتضييعهم بعدم التربية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتجافي بهم عن موارد الهلكة أعظم ضررا من تضييعهم بعدم الإنفاق والإطعام .
إن انشغال الداعية أو أي مسلم بإصلاح أسرته من أعظم طرق التمكين لدين الله تبارك وتعالى ، ومن أيسر الوسائل لأسلمة المجتمع بصورة أفقية ورأسية ، بل هو أيسر من المعتركات التي يخوضها الدعاة في مواقع المجتمع المختلفة دون أن يكون لديهم الظن الغالب في النصرة والغلبة ، هذا من حيث الكم ، أما من حيث الكيف فإن اعتناء المسلم بأسرته أعظم أثرا من إصلاحه لفرد خارج الأسرة ، فهو يتمتع بولاية شرعية تتيح له ممارسة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بكل مراتبه ، وتفرغه للعناية بالمشكلات داخل الأسرة وعلاجها أكثر من تفرغه خارجها بل إن تأثر أفراد الأسرة به كقدوة تفوق تأثر غيرهم ، وما ذلك إلا لطول العشرة والمعاينة والمعاملة .
ولكن الذي يجب الاعتناء به تلك المناهج الكفيلة بتحقيق أعلى قدر من الثمرة التربوية المرجوة ، إذ المسببات تبع لأسبابها ، والنهج التربوي الذي يجب أن يلاحظه كل عائل يقوم على دعائم أساسية هي بمثابة الأهداف أو الاستراتيجيات التي تنبني عليها الوسائل والمعالجات .
أما تلك الدعائم فهي :
(1) تأسيس حياة إسلامية في المنزل قوامها الخضوع التام لأحكام الشرع والاستجابة السريعة لأوامر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم .
(2) العمل على ازدياد الإيمان عبر رحلة الحياة ، والاجتهاد في الطاعات والعبادات .
(3) بناء أسرة قوية إيمانيا وعلميا ونفسيا وأخلاقيا .
(4) تأسيس العلاقة بين أفراد الأسرة على الحب والإيثار والشفقة والنصح .
(5) تحصين أفراد الأسرة بمناعة إيمانية ضد ابتلاءات الدنيا كالأمراض والفقر ونحو ذلك .
(6) الاهتمام بالجوانب المتممة للضروريات مثل النظام والنظافة والذوق العالي والآداب الرفيعة .
(7) العمل على تحصين أفراد الأسرة ضد فتن العصر المختلفة الهادمة لبناء الدين .
(8) إعلاء الحس الجهادي ، والتعويد على البذل في سبيل الدين .
(9) الاهتمام باللغة العربية ، والعلوم الشرعية ، والثقافة العامة .
(10) تأسيس مبدأ التنافس على الفضائل والتسابق إلى الخيرات .
وعلى ضوء هذه الأسس والمفردات العامة الملاحظة في العملية التربوية طوال عمر هذه الأسرة يتم وضع المناهج التربوية العملية التي تتجه لتحقيق تلك الأهداف .
وليس هذا الدور التربوي مقصورا على رب الأسرة وقيمها وهو الأب ، بل كل منتم إلى أسرة وإن قل قدره وضعف شأنه لكن علت همته في جانب الإصلاح والرغبة في معالجة الخلل .
فكل من انتمى للصحوة المباركة مدعو أن يمارس دوره التربوي داخل أسرته مساهمة في نشر نور الدين ، وإشاعة الخير والهدى بين أفراد المجتمع .
وساطر هذه الكلمات على يقين أن لو كان في كل أسرة فرد منتصب للقيام بحق الله في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الهدى وإصلاح العوج فالتمكين لدين الله عز وجل يكون من باب تحصيل الحاصل .
ولا شك أن من أهداف الصحوة في المرحلة المقبلة تفعيل دور كل منتم إليها ، والرقي بمستواه العلمي والتربوي ، فيصبح في كل ميدان صوت حق ينادى على الخلائق ، ويتدخل لإصلاح العوج ، وتعميق الانتماء للدين الحنيف .


الطريقة الثامنة
( المناصب المؤثرة )
يقول الأستاذ محمد محمد حسين في كتابه ( حصوننا مهددة من داخلها ) بعد أن استعرض جهود الدول الغربية الكبرى كأمريكا في تغريب المناهج التعليمية والتربوية والاجتماعية السائدة في العالم الإسلامي ، وعقدها لمؤتمرات حاشدة تدعو فيها مسئولي التعليم في الدول الإسلامية منفقة على هذه المؤتمرات ببذخ شديد ، يقول رحمه الله - : ثم إن هذه المؤتمرات هي من ناحية أخرى وسيلة للاتصال القريب المباشر بالمسئولين ، يعجمون عودهم ، ويدرسونهم عن قرب ، ويختبرون مدى مناعتهم ومدى استعدادهم للتجارب مع الأهداف الخفية للسياسة الاستعمارية ، كما يختبرون مواطن القوة ومواطن الضعف في كل واحد منهم لمعرفة أنجح الوسائل للاتصال بهم والتأثر عليهم …… ثم يقول : وهدف آخر من هذه الأهداف الواضحة هو السيطرة على توجيه المجتمع ، عن طريق هؤلاء الأصدقاء من أصحاب النفوذ . أهـ
وفي مجلة سان دياجو عدد شهر أغسطس 1985م يقول جيمس ميلز الرئيس السابق لمجلس الشيوخ : إن الرئيس ريجان ( رونالد ريجان ) أظهر بصورة دائمة التزامه القيام بواجباته تمشيا مع إرادة الله ، وذلك كأي مواطن آخر يحتل منصبا عاليا ، وقال ميلز أيضا في المقال : إن ريجان كان يشعر بهذا الالتزام خصيصا وهو يعمل على بناء القدرة العسكرية للولايات المتحدة ولحلفائها . وقال : إذا كان ريجان يؤمن بما قاله لي في عام 1971 وسواء كان أو لم يكن موضع تخمينات معلقي الصحف في السنوات القليلة الأخيرة ، لا يخامرني شك في أنه ينظر إلى مسؤولياته كقائد للعالم الغربي ، ويبدو لي أن معظم قراراته السياسية متأثرة بهذا المفهوم . وقال أيضا : إن سياسات الرئيس ريجان الداخلية والمالية منسجمة مع التفسير اللفظي للنبوءات التوراتية الإنجيلية . أهـ
وقال ابن كثير في تفسير قوله تعالى : {واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا ..} : وفي الحديث إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن أي ليمنع بالسلطان عن ارتكاب الفواحش والآثام ما لا يمتنع كثير من الناس بالقرآن وما فيه من الوعيد الأكيد والتهديد الشديد وهذا هو الواقع أهـ
إن مناصب الحكم قد جعل الله تبارك وتعالى فيها من التسلط والقهر بحكم عرف الناس ومواثيقهم التي جبلوا عليها ما لم يجعل في غيرها من المناصب . وإذعان الناس لرأي السلطان والقوة أعم وأفشى من إذعانهم لرأي ذي الحجة والبينة .
ولما أراد الله تبارك وتعالى انقياد القلوب إليه بالرسالة الخاتمة لم يرسل رسولا مَلِكا بل عبدا رسولا متواضعا ، يأمر من موقع رساليته ، ويوجه من منطلق إبوته البشرية العامة ، وما ذلك إلا ليكون إقبال الناس بقلوبهم لا بأبدانهم .
ولكن ذلك لم يمنع النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذ بأسباب القوة ويقيم قواعد الحكم والسياسة الشرعية التي ألزم الناس أن ينضووا تحت لوائها ، ولم يترك لأحد الاختيار في شأن الطاعة المطلقة له كرسول وحاكم يحكم بما أنزل الله تبارك وتعالى .
ومجتمعاتنا الإسلامية في الغالب ما زالت تحافظ على الشعائر الظاهرة أو تحترمها في الجملة ، كالصلاة والحج ونحو ذلك ، ولا بد أن يستغل الدعاة هذه العقيدة الاجتماعية في إحياء شعائر الإسلام ليصطبغ المجتمع بصبغة الدين ، وتعلو كلمة الله على الدين كله .
وأقوم ما يمكن سلوكه لبث هذه الشعائر في ميادين المجتمع أن نستعين بأولياء الأمور من ذوي المناصب الرفيعة والنافذة ، ونحفز غيرتهم على الدين ، ونستنفر شعورهم الإسلامي الدفين ، مطالبينهم القيام بأمر الله تبارك وتعالى في حق الممكنين في الأرض حيث قال عز من قائل : { الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ، ولله عاقبة الأمور } . قال الحسن وأبو العالية : هم هذه الأمة إذا فتح الله عيهم أقاموا الصلاة وقال ابن أبي نجيح : يعني الولاة وقال الضحاك : هو شرط شرطه الله عز وجل على من آتاه الملك ، وهذا حسن ، قال سهل بن عبد الله : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على السلطان وعلى العلماء الذين يأتونه وليس على الناس أن يأمروا السلطان لأن ذلك لازم له واجب عليه ولا يأمر العلماء فإن الحجة قد وجبت عليهم .
وقد خبرت عن كثير من الدعاة أخذهم بمبدأ مجانبة السلطان وعدم الدخول عليه ، ولا شك أن هذا منهج السلف ، ولكنه ليس مطردا في كل الأحوال ، بل كان السلف لا يدخلون على السلاطين في أمور الدنيا زهدا فيما في أيديهم ، إما إن كان ألم بالمسلمين رزيئة أو حدث منكر متعاظم فتكاسل السلطان عن إنكاره نصحه العلماء سرا فإن أبى أعلنوا وقاموا هم بالأمر دونه .
كما أنه ليس صحيحا أن الأصل في نصيحة ولاة الأمر أن تكون في السر ، بل قد يحتاج الأمر إلى المناصحة في الجهر كما لو جحد الحاكم حكم الشرع وأبى تطبيقه ، أو علم جهله وعمايته عن النصيحة بالتفاف بطانة السوء حوله .
وفي سيرة النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين نماذج تبيح مبدأ المناصحة من قبل المتأهل لها ، وأنها الأصل فيما بين الحاكم والمحكوم ، وأن الحاكم لو جحد هذا الأصل جاز للناصح بل استحب وربما وجب أن يناصحه رغما عنه ما دام قد رآه على منكر لا يجوز السكوت عليه .
ومن أقل أحوال المناصحة أن نحض أولي الأمر على التمسك بشرع الله ، والمبادأة بهذه النصيحة لا تحتاج إلى وجود سبب أو مناسبة ، فكيف لو كانت هناك أسباب كثيرة تدعونا إلى الإكثار من مناصحة أولي الأمر حول هذا الفرض المهجور ( أعني تطبيق شرع الله والتمسك به ) .

الطريقة التاسعة
( المال المبارك )
جاء في جريدة الشرق الأوسط عدد الاثنين 20 ربيع الآخر 1420 هـ 2 أغسطس 1999 م الصفحة الأولى ما يلي : العنوان بالخط العريض ( بيل غيتس يعتزم التبرع بـ 100 مليار ( مائة ألف مليون ) دولار للأعمال الخيرية . ثم تفاصيل الخبر كما يلي : يخطط الملياردير بيل غيتس رئيس شركة مايكروسوفت العملاقة لمنح ثروته التي تقدر بأكثر من مائة مليار دولار ، للمساهمة في القضاء على أمراض قاتلة مثل الإيدز والملاريا من خلال المؤسسة الخيرية التي يرعاها والتي تحمل اسمه ، بحيث يحتل المرتبة الأولى في قائمة المانحين من الأفراد في العالم . وقال والد بيل غيتس : إن ابنه الذي أصيب بصدمة قاسية من جراء المناظر المروعة التي شاهدها أثناء زيارة للهند وجنوب أفريقيا ينوي بذل جهود للمساعدة في تخليص العالم من الأمراض الخطيرة ، وأنه سيعلن خلال الأيام المقبلة الخطوات العملية في هذا الاتجاه . وكشف والد غيتس ، الذي يرأس مؤسسة غيتس الخيرية في مقابلة مع صحيفة صنداي تايمز البريطانية أمس أن ابنه سيعلن خلال ثلاثة أشهر عدة مشروعات مالية تجعل من مؤسسته الأكبر في العالم في المجالات الخيرية . وأشار إلى أن ابنه بيل غيتس وزوجته ميليندا ينويان تقديم الثروة التي جمعها بيل من تأسيسه لشركة مايكروسوفت إلى المؤسسة الخيرية خلال حياتهما وليس بعد وفاتهما ولكنه لم يحدد تاريخا معينا . وتعد مؤسسة ( وليام غيتس فاونديشن ) الخامسة في الترتيب العالمي من حيث الأموال المستثمرة فيها ، وقد شاركت أخيرا في تقديم الدعم للعديد من المؤسسات التعليمية في بريطانيا ، مثل جامعة كيمبردج ( 18 مليون دولار ) . أهـ الخبر .
ليس هذا هو المال المبارك ، وإنما جئت بهذا الخبر وصدرت به هذه الطريقة لأشعل الغيرة في قلوب أهل الإيمان ، ولا أقول في قلوب أهل الثروات والمال ، والعظة واضحة جلية : ثروة تعادل احتياطي العملة الأجنبية الموجود في كل البنوك المصرية قاطبة أو يزيد ، يتبرع بها صاحبها - الكافر لمؤسسة خيرية باسمه ، شفقة على مرضى الإيدز والملاريا ، فكيف بنا ونحن مسلمون ، والبذل في سبيل الدين واسع ، ولو كان بالقليل من المال .
وأبو بكر الصديق رضي الله عنه خرج من ماله كله ، والعظة فيه أقوم ، ولكن الناس إذا سمعوا من يستخدم فئة المليار في التبرعات تعجبوا ، وإذا كان كافرا زاد العجب ، وإلا فإن خروج أبي بكر من ماله كله أوقع أثرا في القلب ، وقد قال في ذلك الموقف لما سأله الرسول صلى الله عليه وسلم : ( ماذا تركت لأهلك يا أبا بكر ؟ ) قال : تركـت لهم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم - .
ولعمري فإن هذا هو المال المبارك : ما أنفقه صاحبه في سبيل الله ، ولو كان به خصاصة ، لا يرجو من الناس جزاء ولا شكورا ، { وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى } ، ثم لا يتبع ما أنفق منا ولا أذى ، أولئك { لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون } .
إن استثمار المال في كل مجال دنيوي محفوف بمخاطر الإفلاس والسرقة وإتلاف الجوائح واختلاس الخونة وكساد السلع وإعراض المشتري ومنافسة السوق ، أما التجارة واستثمار المال في الدعوة إلى الله ونصرة الدين فمن أضمن الاستثمارات ، فأصحاب هذا المال { يرجون تجارة لن تبور } وأصحاب هذا الاستثمار هم الآمنون يوم الخوف الأكبر ، ولنتعظ ببذل أبي بكر الصديق للدين ، ولنعتبر بقول النبي صلى الله عليه وسلم : (ما نفعني مال قط إلا مال أبي بكر ) قال أبو هريرة : فبكى أبو بكر ، وقال : وهل نفعني الله إلا بك ، وهل نفعني الله إلا بك ، وهل نفعني الله إلا بك . رواه أحمد والترمذي وابن حبان وغيرهم .
والبذل الذاتي للدين سيظل هو المورد الأساسي الذي تنفق منه الدعوة ، وقد تبتكر الدعوة أساليب ( سنتحدث عنها ) في تحصيل المال الكافي للإنفاق على أوجه النشاط الدعوي المختلفة ، وقد يكون لها أملاك خاصة تدر عليها أرباحا ، ولكن العطاء الذي يمنحه الأفراد لدينهم يبقى هو الأصل والباقي كله فرع .
فالدعوة تحتاج أفرادا كأبي بكر وعثمان وعبد الرحمن بن عوف وأضرابهم من أثرياء الصحابة ممن أوقفوا أموالهم وأَعْتُدَهُمْ في سبيل الله ، فلم يقدموا على البذل للدين زوجا ولا ولدا .
وذلك لأن الأصل أن المسلمين ما وجدوا إلى ليكون الإسلام مصدر عزهم في هذه الدنيا ، فهم يبذلون في سبيل رفعته ونصرته ، ويعلمون أن أي مال ينفق في سبيل الدين فهو في سبيل إعزازهم هم .
ولذلك كثرت النصوص الآمرة بالإنفاق ، الداعية إلى البذل ، لأن الإنفاق في حد ذاته عبادة مقصودة لكل مسلم ،     : { والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم } .
ونحن لن نعول كثيرا على إنفاق الحكومات ، وإن كان مهما في ذات الأمر ، وذلك لما يصحبه من مداخلات ومعوقات تقلل من فائدته ، وتحول بينه وبين الانتفاع المثمر .
ومن أهم الأسس التي يجب أن تعول عليها الدعوة الإسلامية في توفير النفقة اللازمة للمشروعات الدعوية أساس المبادأة في تحصيل النفقة والتبرع ، لا الانتظار لما يفيض به المحسنون على الدعوة من فضول أموالهم .
فيجب أن يلتزم كل الدعاة والمنتمون للصحوة بمبلغ مالي معتبر يقدمونه للدعوة كمورد ثابت ، كل حسب استطاعته ، كما يجب أن يسعى الدعاة لدى المحسنون من ذوي الكرم والمروءات والنجدة والديانة ليمدوا مشروعات الدعوة بما تحتاجه ، ومن الأفضل أن تكون مشروعات الدعوة مدروسة ومنظمة ومعروضة على شكل بيان مكتوب ، يمكن تقديمه للمحسنين ليقتنعوا بوجود مشروعات حقيقية تقوم بها الدعوة ، والسيء أن بعض الساعين في الأعمال الخيرية ضربوا مثلا غير لائقة في جمع التبرعات حتى احتاط أهل الإحسان في أموالهم فلم يعد البذل كما كان في الماضي لتغير الزمان وكثرة المتسلقين واللصوص الذي اقتحموا الميدان ، فإلى الله المشتكى .
كما يجب أن تقوم الدعوة بدور فاعل في جمع زكاة المال من المسلمين ، إذا تيسر دون مشكلات أو مضايقات ، وكذلك حث الناس على أبواب الخير الأخرى ، كالصدقات المطلقة والصدقة الجارية والوصية قبل الموت والوقف على أعمال البر وكفارات الأيمان والنذور ، ورعاية طلبة العلم وبناء المساجد وحفر الآبار ونحو ذلك من أوجه الإنفاق وأضعاف ذلك ولا ريب .
وإذا تصدرت الدعوة لمثل هذا النشاط فلا بد أن يكون لديها جهاز إداري ذو كفاءة وقدرة على عملية جمع النفقة وإدارتها وكيفية إنفاقها أو استثمارها على حسب الضوابط الشرعية التي أقرتها الشريعة؟؟؟ .
كما أنه من الأهمية بمكان أن يكون لهذا الجهاز الإداري لجنة شرعية تراقب تعاملاته ، أو أن يستعين ذاك الجهاز بالعلماء ويستفتونهم في المسائل المتعلقة بعملهم .
إن المال المبارك الذي ينفقه أي مسلم على الدعوة جزء من الجهاد في سبيل الله ، بل ركن عظيم منه ، وجُلُّ الآيات التي تحدثت عن الجهاد في سبيل الله قرنت الإنفاق بالقتال .
وليست العبرة بالكثرة ، بل العبرة بفعل النفقة نفسها ، وقد قال صلى الله عليه وســلم : ( سبق درهم مائة ألف درهم : رجل له درهمان أخذ أحدهما فتصدق به ، ورجل له مال كثير فأخذ من عرضه مائة ألف فتصدق بها ) . رواه النسائي وحسنه الشيخ الألباني في صحيح الجامع .
ويغيب عن كثير من الدعاة والغيورين على الصحوة حديث النبي صلى الله عليه وسلم : ( أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل ) .
فما داوم الناس في إنفاقه على الدعوة وإن قل أكثر بركة وأعظم نفعا من الكثير المنقطع ، فالله عز وجل إذا أحب عملا من ابن آدم باركه له وأعانه عليه كما     : { إن رحمت الله قريب من المحسنين } وكما     : { وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد } ، وكما قال صلى الله عليه وسلم : ( إن الله قال لي : أَنْفق أُنْفق عليك ) رواه مسلم في الصحيح .
وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينـزلان ، فيقول أحدهما اللهم أعط منفقا خلفا ، ويقول الآخر اللهم أعط ممسكا تلفا ) رواه البخاري ومسلم .
وعن أبي هريرة أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( ما نقصت صدقة من مال وما زاد الله بعفو إلا عز أو ما تواضع أحد لله إلا رفعه ) رواه مسلم أيضا .

وهذه القلة في المال والإمكانيات ما ينبغي أن تفت من عضد الدعاة وتيأِّسهم من نصرة الله ومعونته ، فالعقيدة الصامدة الشامخة مع بذل المستطاع يستجلب معونة الله على حسب موعود الله تبارك وتعالى ، كما قال عز وجل : { كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله ، والله مع الصابرين } وقال عز وجل : { ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون } ،وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن المعونة تأتي من الله على قدر المؤونة ، وإن الصبر يأتي من الله على قدر البلاء ) .
ويمكننا أن نمثل بكرامات معاصرة لإمكانيات قليلة تيسرت للدعاة واستطاعوا بها أن يفتحوا أبواب بلاد وقلوب عباد ، ولكننا نمثل بنموذج واضح بين ، وهو نموذج الصحوة الإسلامية في العالم كله ، حيث تقل الإمكانيات الدعوية أو تنعدم ، بل وتحارب من كل قوى الاستكبار العالمي ، ويطارد الدعاة ويشردون ، وتحمل عليهم وسائل الإعلام بحملات تشويه مسعورة ، إضافة إلى ما يعانيه صف الدعاة من فرقة وتشرذم أيضا ، ولكنهم يخرجون بعافية أكثر من ذي قبل ونصر أعلى من السابق ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، وما إخال ذلك إلا من بقية إخلاص وقليل من البذل المبارك وعدد من الدعوات الصادقة الخالصة ، فكيف بنا نحن معاشر الدعاة لو تمحض صدقنا وإخلاصنا ولو تكاتفت سواعدنا في التعاون والنفقة والبذل لدين الله تبارك وتعالى .
وعلى صعيد المجهود الفردي ، فالمال وسيلة مهمة لكل نشاط ، ويستطيع كل داعية إلى الله بل كل غيور أن يكون صندوقا للدعوة في كل منطقة ينادي الغيورين على الدين للبذل ولو بالقليل ، وقد أخبرني بعض الدعاة أنه يلزم إخوانه ببذل قروش ( بمعنى القروش الحقيقي ) كل يوم ، فتعاظم عنده من المال ما قام به بمشروعات كثيرة .
وإذا تعسر مثل هذا النظام فليجعلها كل داعية في خاصة نفسه ، يُسِرُّ إلى إخوانه بمشروعات الدعوة ولو كانت صغيرة كعيادة مرضى أو تأليف قلب عاص بهدية ونحو ذلك ويجمع منهم ما يستطيع به تنفيذ ذلك المشروع .
وما إخال الأمر عسيرا على أحد : أن يدخر الداعية من حر ماله هو ما ينفق به على الدعوة ، ولا خير في داعية لا يحتوش من طعامه وشرابه ولباسه في سبيل دينه وأمته إن اتخاذ الأسباب عقيدة كما أن التوكل نفسه من العبادات القلبية الأصيلة ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين الاثنين في أسلوب بليغ حين قال : ( لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير ، تغدو خماصا وتروح بطانا ) . أي تذهب في الصباح المبكر خالية الحواصل ، فإذا عادت في المساء كانت ممتلئة البطون . ولو كان التوكل في ترك الأسباب ، لَقَرَّت الطير في وُكُنَاتِها وأوكارها تنتظر رزقها رغدا يأتيها من كل مكان . ولكنها خرجت وطارت وسعت في أرجاء الحقول تبحث عن الحب والدود ، والفقيه من اعتبر .
إنني استحيي والله من نفسي حين أرى المنافق أو الفاسق يتقن من حرفة الدعاية لنحلته ومنهجه مالا أتقن ، وأتوارى خجلا وأذوب كمدا حينما أرى جحافل الكفر تغير على موقع من مواقع المجتمع والدعاة يقفون في دهشة واجمين .
إن هذه الثقافة الغبية ، يجب أن تُسْتَأْصل من وجداننا ، ويحل محلها الإيمان بأهمية السبب ، والاستعداد به لمواجهة الباطل ، والبحث عنه ( أعني السبب ) واستفراغ الوسع في طلبه والحصول عليه ، وإعمال سبيل الدربة لاستعماله وتطبيقه واكتساب المهارة فيه .
وقادة الصحوة الإسلامية إذا أرادوا أن تخطوا الصحوة خطوات واثقة نحو العالمية التي تتناسب مع رسالتها وضخامة تبعتها فيجب عليهم أن يتدارسوا بجدية مبدأ تدريب الدعاة على المهارات الدعوية ، وتثقيفهم بالثقافات التي يحتاجونها في مسيرتهم .
إنه ما من هيئة إدارية أو شركة تجارية إلا وتعقد لموظفيها دورات تدريبية في كل المناحي التي يحتاجها قطاع أعمالهم ، بحيث يترقى الموظفون في درجات المهارة ولا يبقون أسرى المعلومات العتيقة والأساليب البالية .
إذن ..فليس على الدعوة من بأس أن تعقد دورات تدريبية لتنمية مهارات الدعاة في الخطابة والموعظة والتأثير على الناس ، أو دورات تدريبية في تحضير الموضوعات وتنسيقها ، أو دورات في إدارة الدعوة في المساجد أو في الجهات التي يكثر تواجد الدعاة فيها .
مثل هذه الاتجاه كفيل بتكثير سواد الدعاة عبر رفع كفاءة آحادهم ممن لم يشارك في الدعوة بفعالية من قبل ، ومن شأن هذه الطريقة أن ترفع مستوى أداء الداعية فيتحسن النشاط الدعوي بالتبع ولا ريب .
إن من العادي في الدول المتقدمة أن تعقد مؤتمرات بحثية على مستوى الجامعات والصحف والشركات في كل المجالات وفي المدارس على مستوى المدرسين والطلبة ، تعرف هذه المؤتمرات بجلسات ( السمنار ) يستضاف فيها متخصص في مجال معين ليتحدث عن تخصصه وكيفية الاستفادة منه في القطاع الذي يستمع إليه ، ثم يتم إتاحة فرصة المناقشة ثم يتم صياغة توصيات يُدلى بها إلى ذوي الاختصاص ليروا ما يمكن تنفيذه من عدمه .
ومن الأمور الطريفة التي علمتها مؤخرا أن شهادة الأيزو ( الجودة العالية العالمية ) تعدّى مجالها الجانب الإداري والصناعي ليشمل العملية التعليمية ، فصارت المدارس تمنح شهادة الجودة التي تثبت رقي مستوى مدرسيها وإدارتها وعمليتها التربوية والتعليمية وغير ذلك من الشروط الصارمة التي يجب أن تتوفر في المدرسة النموذجية .
ولا شك أن هذا الأمر يستدعي إسقاطا مباشرا على شأننا الدعوي ، حيث إن نشاطاتنا الدعوية تفتقر إلى الجودة ، بل تفتقر إلى معايير الجودة نفسها ، لدرجة أن بعض الجماعات العاملة في حقل الدعوة تستسيغ لأفرادها التصدر للخطابة والإفادة حال كونهم أميين لا يعلمون الكتاب إلا أماني ، ولا ريب أن هذه جرأة على الله تعالى ، واستهزاء بجناب الشرع الموقر ، واستخفاف بعظمة شعائر الله .
إنني أتصور قوة الدعوة في قوة دعاتها وثباتها في ثباتهم ، وقدرتها على غزو قلوب الناس من قدرة دعاتها على حل مشكلاتهم : كل مشكلاتهم ، ولا يمكن أن نرجو نصرا في معركة ما تخاذلت همتنا فيها عن استعمال نفس السلاح الذي يستعمله أعداؤنا أو استعمال ما هو أفضل منه .
إن معارك حامية الوطيس دارت بين شيخ الإسلام ابن تيمية وخصومه كان محك الغلبة فيها لمن أحاط بعلوم الشرع ، ولولا أن قيض الله لأهل السنة مثل شيخ الإسلام في ذلك الزمان لكانت السنة تعاني الآن غربة حالكة ، فكان في تصدي شيخ الإسلام للبدع الكلامية والانحرافات العقدية والسلوكية في المجتمع الإسلامي مع شهادة الخصوم له بطول الباع في علوم الشريعة ، كان ذلك له أعظم الأثر في رفعة شأن أهل السنة وعلو كعبهم بين الناس .
وكذلك كانت مجهودات العلامة المحدث الشيخ الألباني - يحفظه الله - في علوم السنة ، ومن قبله جهود الإمام ابن باز رحمه الله في الدعوة والفتوى ، فأعظم الله منـزلة أهل السنة بهما ، وجعل لهم بين الناس وجاهة وصيتا ، وأحسب أن الدعوة تحتاج إلى عشرات من مثل هؤلاء حتى تخوض المعركة بخطى واثقة .
وإذا أردنا أن نصوغ مهمات هذه الطريقة في عناصر عملية محددة فيمكننا أن نلخصها فيما يلي :
(1) تكوين مكاتب لتبادل الخبرات بين الدعاة مهمتها البحث عن كل جديد في تقنيات العصر مما له مسيس صلة بواقع الدعوة وتسخيره في خدمة الدين ، مع إيجاد الكوادر التي تستطيع التعامل مع تلك التقنيات الحديثة .
(2) أن تتواصى همم الجماعات والهيئات الإسلامية على تدريب أفرادها وصياغة مناهج علمية تدريبية ، مع الحرص على متابعة المستوى ومحاسبة المقصرين مع توليد القناعة في نفوس الأفراد والجماعات بأهمية اكتساب الخبرات والتخصصات المناسبة التي تحتاجها الدعوة ، وأن ذلك من صميم الإتقان والإحسان الذي أمر به الشرع المطهر .
(3) قد يعسر تنفيذ مثل هذه المناهج التدريبية بطريقة جماعية ، فلا أقل من أن توجد تلك المناهج في صورة مؤلفات متاحة لكل قطاعات الدعاة حتى يتمكنوا من النهوض بإمكانياتهم الدعوية بصفة ذاتية .
(4) ضرورة وجود متخصصين في المناهج التدريبية ، مهمتهم متابعة احتياجات الدعوة والدعاة وملاحقة هذه الاحتياجات على صورة كتب أو أشرطة سمعية أو برامج حاسب آلي .
(5) من الأهمية بمكان أن يعمل هؤلاء المتخصصين على متابعة الجديد مما تحتاجه الدعوة من المؤلفات الأجنبية وترجمتها وتيسير تداولها على مستوى الدعاة .
(6) الاهتمام بالجانب الإحصائي في الأنشطة الدعوية ، لأنها من أهم سمات الموضوعية في تقدير جدوى الوسائل ومدى نجاح التجارب ، وأرى أن القصور الحاد في إحصائيات الدعوة له دور كبير في الارتجالية في معالجة المشكلات .
(7) من أهم الجوانب التي يجب على الدعاة إتقانها أو الإلمام بها على أقل تقدير : تقنيات الحاسب الآلي وإمكانياته المتعاظمة وبخاصة في ثورة المعلومات التي أتاحها الحاسب الآلي ، حتى أضحت آلاف الكتب التي يجمعها طلبة العلم في عشرات السنين مخزنة في قرص من أقراص الحاسب الآلي .
(8) إصدار دوريات متخصصة في الجوانب التي يحتاجها الدعاة لاسيما الأخبار والقضايا الدعوية الملحة ، وحشد آراء أئمة الصحوة وقادتها فيها لضمان أعلى نسبة توحّد في الاتجاهات وردود الأفعال .
(10) عقد المؤتمرات واجتماعات البحث باستمرار على مستوى القادة والأفراد عند الإمكان لمناقشة أوضاع الصحوة ودراسة المشكلات واقتراح الحلول والعلاجات ، والتركيز على جانب المشروعات الدعوية العملاقة التي تتطلب مجهودات جماعية وإمكانيات متضافرة .

يتبع بأذن الله