الطريقة الخامسة والعشرون :
( الفقراء والمساكين )
إن الإحصائيات المتداولة تثبت أن نسبة الفقراء في العالم الإسلامي تزيد عن النصف من تعداد السكان ، مما ينبئ بالخلل العظيم في تبادل الحقوق والواجبات .

ومن المعلوم أن ثروات العالم الإسلامي تكفي لإطعام العالم كله ، كيف لا ، وقد كانت مصر وحدها تطعم إمبراطورية روما من محصول قمحها .
فوجب التضافر حينئذ لتدارك هذا الخلل بين الأغنياء والفقراء . والدعوة الإسلامية بدعاتها ورجالها مأمورون أن يكون لهم قصب السبق في تحمل مسئولية الفقراء والمساكين في كل مجتمع ، من باب الديانة والتقرب إلى الله أولا ، ثم من باب الدعوة إلى الدين ونشر الحق بين كل شرائح المجتمع .
وما من شك أن الدور الذي يضطلع به الدعاة الآن في توزيع الصدقات وأعمال البر يحتاج إلى الترشيد والتدريب لتحقيق أعلى قدر من الاستفادة .
فإذا تحملنا إطعام الفقراء لسد خلتهم وإشباع جوعتهم فأولى بنا أن نرتفق لأرواحهم من زاد الإيمان ما ينجون به يوم القيامة ، وهذا لعمر الله أولى بالاهتمام .
وطريق الدعاة إلى قلوب الناس مع الإحسان أيسر وأمضى ، فالقلوب جبلت على حب من أحسن إليها ، فلزم أن نعرف كيف يمكن أن نجعل المساعدات التي تقدم للفقراء والمساكين وسيلة لجذب قلوبهم لدين الله تبارك وتعالى .
وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم العطاء والصدقات سبيلا لتأليف القلوب ، فألف قلوب الكثير من مشركي العرب بما كان يعطيهم من الأنعام والهدايا ، وكان وجهه صلى الله عليه وسلم يتمعر إذا رأى من المسلمين من ظهرت عليه بوادر الجوع والمخمصة .
ونصوص الشرع المطهر تجعل الإطعام والدعوة إليه من آكد الواجبات الاجتماعية المحققة لمقصود الإيمان ، والمستجلبة لمرضاة الله ، والمؤدية للنجاة يوم القيامة .
يقول الله تبارك وتعالى : { كل نفس بما كسبت رهينة إلا أصحاب اليمين . في جنات يتساءلون . عن المجرمين . ما سلككم في سقر . قالوا لم نك من المصلين . ولم نك نطعـم المسـكين ..}
وقال عز وجل : { فلا اقتحم العقبة . فك رقبة . أو إطعام في يوم ذي مسغبة } ، ومدح المؤمنين المخلصين فقال : { ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا . إنما نطعمكم لوجه الله ، لا نريد منكم جزاء ولا شكورا } ، وذم من خصال المشركين بخلهم فقال : { أرأيت الذي يكذب بالدين . فذلك الذي يدع اليتيم . ولا يحض على طعام المسكين } ، وذم المتعلقين بالدنيا فقال : { كلا بل لا تكرمون اليتيم . ولا تحاضون على طعام المسكين . وتأكلون التراث أكلا لما . وتحبون المال حبا جما }.

وعن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أيها الناس ، أفشوا السلام ، وأطعموا الطعام ، وصلوا بالليل والناس نيام ، تدخلوا الجنة بسلام ) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح وابن ماجه والحاكم وقال صحيح على شرط الشيخين .
فإطعام الطعام من شعار الدين التي يجب أن يحييها الدعاة ، ويعملوا على حض الناس عليها ، ويتعاونوا فيما بينهم على القيام بها كفرض كفائي لرفع المأثم عن الأمة .
ومن أول ما يجب أن يعتني به الدعاة للاستفادة من مساعدات الفقراء والمساكين في الدعوة إلى الله أن يكون القائمين على البحث الاجتماعي وتوزيع النفقات والمساعدات والصدقات مدربون على المعاملة الحسنة والصبر على إلحاح بعض الفقراء ، وعلى امتثال آداب الصدقة من السماحة والتبسم في الوجه وعدم نهر السائل واستعمال طيب الكلام عند انعدام النفقة .
ومن شأن تصرفات بعض القائمين على الصدقات أن يصد الناس عن دين الله تبارك وتعالى ، كأن يتعامل مع الفقراء من منطلق أنهم لصوص أو مستغلون ، وإغلاظ الكلام لهم ونهرهم ، والتطاول عليهم بالسباب ، والتكبر والتعالي عليهم ، وإتباع الصدقات بالمن والأذى ، وكل ذلك من شأنه أن يشوه صورة الدعاة عند الناس ، وخاصة لو كانت الصدقات توزع عبر المساجد وعن طريق الدعاة .
وقد ضرب لنا السلف أروع الأمثلة في آداب التصدق ، وقد يطول المقام بذكر تلك الأمثلة ، ولكننا نشير إلى أن المنصرين استخدموا الآداب الإسلامية في الإحسان إلى الناس ، وجعلوا الإحسان وسيلة لتنصير الفقراء والسذج من الخلق ، وهاهي ذي أصقاع العالم تشهد مستشفيات ومراكز رعاية الفقراء واليتامى والمرضى والعجزة والمشردين ، ورأينا كيف هرعت منظمات التنصير إلى الصومال وإلى البوسنة لرفع المعاناة والآلام عن المسلمين بزعم أن يسوع المسيح جاء لينقذهم .
ثم إن الأصل في الدعاة أن ينفقوا بسخاء مما في أيديهم ، وألا يخشوا الفقر والإملاق ، ولا يليق أن تدخر أموال الزكاة والصدقة بزعم الإنفاق منها عند قلة المتصدقين والممولين لمشروعات الإحسان والبر . وإقتار بعض الدعاة في الإحسان إلى الفقراء من شأنه أن يؤدي إلى نتيجة عكسية .
ولا نريد أن يأتي اليوم الذي يستقر في قلوب الناس أن الدعاة إلى الله من أبخل الناس ، فليس على الإنسان من بأس أن يعطي بسخاء مما في يده ، فإذا انعدمت النفقة اعتذر للناس ، وهذا أرجى مما لو رأى الناس ما في يديه ثم لاحظوا بخله وإقتاره .
وقد رجع أعرابي إلى باديته بعد أن أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم غنما بين جبلين فقال لقومه : يا قوم أسلموا ! فإن محمدا يعطي عطاء من لا يخشى الفقر .
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لبلال : ( أنفق بلال ، ولا تخش من ذي العرش إقلالا ) رواه البزار والطبراني في الكبير وصححه الشيخ الألباني في صحيح الترغيب والترهيب .
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدخر شيئا لغد . رواه ابن حبان وصححه الشيخ الألباني في صحيح الترغيب والترهيب .
كما يجب على القائمين على الصدقات أن يبحثوا عما يسد خلة الفقير ويعملوا على تحصيلها عبر المتصدقين ، وليس بالضرورة أن يكون طعاما ، فقد يحتاج الفقير إلى الملبس ، وقد يحتاج إلى مصروفات تعليم أبنائه في المدارس وتجهيز ما يحتاجون إليه ، وقد يحتاج مصروفات علاج باهظة .
وهناك الكثير من الأساليب والطرق في رعاية الفقراء واليتامى والمساكين ، ولكن المقصود هنا أن نوفر لهم فرصة لتعلم أحكام الدين ، وأن نأمرهم بالمعروف ونعينهم على أدائه ، وننهاهم عن المنكر ونعينهم على تركه ، بل إن الدعاة يستطيعون أن يقوموا بدور في دعوة الطلبة الفقراء عن طريق تنظيم مجموعات تقوية ، ودروس دينية خاصة ، مع الاهتمام بالأطفال ، وتنشئتهم نشأة إسلامية صحيحة .
ولن يغيب عنا أن ننبه أن كل ما يقوم به الدعاة في سبيل هؤلاء الفقراء إن هو إلا حق مكتسب ، وواجب يجب ألا يشعروا فيه بمنة على أحد لئلا تحبط أعمالهم وهم لا يشعرون .
وقد قال الله تعالى : { وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل } ، وقال صلى الله عليه وسلم في وصيته لمعاذ بن جبل لما أوفده إلى اليمن : ( ثم أعلمهم أن الله قد أفترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد إلى فقرائهم ) ، وكأن الصدقة سترد إلى أصحابها الحقيقين بها والجديرين بنوالها .
وعلى الصعيد الفردي ، فكل متصدق يستطيع أن يبذل مع الصدقة نصيحة ، فيأمر الفقير بتقوى الله والمحافظة على الصلاة ، ويحذره من أن يستخدم المال فيما يغضب الله كشرب الدخان ونحو ذلك ، وليس علينا أن قبل منا الناس أو أبوا ، ولكن المقصود أن تتكامل أعمالنا الدعوية ، فلا ندع بابا إلا ولجناه ، ولا جادة إلا سلكناها ، وتلكم هي الدعوة الصادقة التي تجعل حياة الداعية كلها دعوة إلى الله تبارك وتعالى .
وقد يعجز بعض الفقراء عن تحصيل العلم الشرعي ، وسماع الموعظة ، فمن حقه على الدعاة أن يوفروا له الكتب ومصروفات المواصلات وأشرطة الدروس والمواعظ ، ولربما كان النفع والرجاء فيه أعظم من غيره ، وقد قال تبارك وتعالى : { أما من استغنى فأنت له تصدى . وما عليك ألا يزكى . وأما من جاءك يسعى . وهو يخشى . فأنت عنه تلهى . كلا ، إنها تذكره } .
وليعلم الدعاة والناس أجمعون أن السعي على الفقراء والمساكين من أرجى القربات عند الله تعالى ، فقد جعله الرسول صلى الله عليه وسلم عِدْل قيام الليل وصيام النهار ، ثم إن لهم يوم القيامة دولة ووجاهة عند الله ، ويسبقون الخلائق إلى الجنة بخمسمائة عام .
فأجدر به من سبيل خير ، وأخلق بالدعاة أن يكونوا أول السالكين فيه ، وليكن شعارهـم : { إنما نطعمكم لوجه الله ، لا نريد منكم جزاء ولا شكورا . إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا } .



الطريقة السادسة والعشرون
( إيجاد الداعية الميداني )
إنه الداعية المتحرك في كل صوب ، المتقن لدعوته في كل ثوب ، إن كان في بيته فنعم العائل والمربي ، فإن نزل الشارع وخالط الناس وَسِعَهُم بدعوته ، فإن ركب وسيلة مواصلات تناثرت بركات دعوته على من حوله من الركب ، إذا دخل مصلحة لم يخرج منها إلا بغنيمة دعوية ، نصيحة يسار بها موظفا ، أو موعظة يسمعها لسافرة ، أو كلمة معروف يذكر بها من يقف معه في الطابور ، إنه المبارك في حله وترحاله ، كالغيث أينما وَقَعَ نَفَعَ :

فلا مُزْنةٌ وَدَقَتْ وَدْقَهَا ولا أرضُ أَبْقَلَتِ ابْقَالَها
قلبٌ عامرٌ وعقلٌ يثابرُ ، وعزمُ مُغامرٍ وإيمانٌ يجاهرُ ، تقيّ حفيّ ، نقيّ أبيّ ، جبهته شَمَّاء ، كبرياءُ دينه بلغَ عَنَانَ السماء ، ونفعُه مُتَعَدّ ، وخيرُه عامٌّ ، يَتَجَذَّرُ هُدَاهُ في كل أرض أقام فيها ، ويَيْنَعُ غَرْسُه حتى في الأرض القاحلة ، تَنْدَاحُ جَحَافِلُ وعظِه كالسَّيْلِ العَرِمِ تذهب بكل سد منيع جَاثِمٍ على قلوب الغافين ، إذا قال أَسْمَع وإذا وعظ أَخْضَع ، دؤوبُ الخَطْوِ بَدَهِيُّ التصرف ، إذا اعترضته العوائق نظر إليها شَزْرَاً وقال : أَقْبِلِي يا صِعَابُ أو لاتَكُوني ، محمّدي الخُلُق ، صِدِّيقِيُّ الإيمان ، عُمَرِيُّ الشَّكِيمَة ، عُثْمَانيُّ الحياء ، عَلَوِيُّ الصلابة ، فُضَيْلِيُّ العَبْرَة ، حَنْبَلِي الإمامة ، تَيْمَوِيُّ الثبات .
إنه الداعية الذي لا تعوقه عوائق الكون عن القيام بواجب الدعوة أينما كان ، إذا حيل بينه وبين الدعوة فكأنما أخرجت سمكا من ماء ، أو أسكنت بشرا في الصحراء ، حركي كالنمـل والنحل لا يعرف القرار .
إنه الداعية الفصيح ، جنانه حاضر ، وبديهته كالبرق الخاطف ، ولسانه لا يفتر عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الخير ، وما عدا ذلك فذاكر شاكر ، أو صامت صابر .
إن مظهره متناسق مع وظيفته السرمدية ، هندام نظيف ومتواضع ، وهيئة تقية ، وإخبات غير متكلف ، إذا رآه الخلق ذكروا الله تعالى .
وهو داعية متعال على السفاسف ، لا يستنكف عن فعل الخير وإن استهجنه الناس ، إنه لا يساوم الباعة ويلح في خفض الأسعار ، ولا يأنف من إماطة الأذى عن الطريق ، يسلم على من عرف ومن لم يعرف ، يبتسم في وجوه الناس أجمعين ، ويحفظ حشمته من نزق الطائشين وسمود العـابثين .
مستعد للدعوة في كل ميدان ، إذا فتشت حقيبته وجدتها مليئة بالحلوى والكتيبات والهدايا الصغيرة غير المكلفة . يصطحب معه في سيره أشرطة الدعاة والخطباء والوعاظ بل وأشرطة القرآن الكريم لمشاهير القراء . يحمل معه العطر والطيب دوما . إنها أسلحة الداعية الميداني .
يستخدم الحلوى في التعارف ، والكتيبات في التأليف والوعظ والإرشاد ، والهدايا مع دعوة لحضور محاضرة أو خطبة ، والأشرطة لتكون البديل عن شريط غناء أقنع صاحبه بهجره ، والطيب لإزالة حزازات النفوس ، وتوجس الخائفين من مظهر الدعاة .
حتى إذا ما ألقى السلام فكأنك تسمع ترنيمة كونية تطرب لها أذناك ، ذاك صوت الداعية الشجي ، فإذا ما رأيته أقبل بوجهه الضحوك وسلامه المرونق ( ألفيت كل تميمة لا تنفع ) .
لقد وقع القلب في شَرَك هذا الداعية ، واشتبكت القلوب المؤمنة وائتلفت ، والتقت العيون والمقل ، فإذا أَدْمُعُ الخوف من الله تتعرف على نفسها ، حتى إذا ما سكب ذلك الداعية الميداني كلمات الود والمحبة في الله والتقت إرادةَ الله بالهداية أبصرتَ الهوى صريعا في ساحته ، والقلب تتهاوى شهواته وغرائزه أمام هذا السيل الدافق من فيض الإيمان والتُّقَى ، وكأنك بالشيطان رابض ثمةَّ ينادي بالويل والثبور : ويلي ويلي قد اختطفه فلان الصالح مني !
إن الداعية الميداني متحرك لدينه ، سواء كان مدرسا أو طالبا ، مهندسا أو طبيبا ، عالما أو متعلما ، سائقا أو راكبا ، حالا أو مرتحلا ، أميرا أو مأمورا ، رئيسا أو مرؤوسا ، زوجا كان أو عزبا ، فقيرا كان أو غنيا ، صحيحا كان أو سقيما ، مبصرا كان أو أعمى ، سليم الأعضاء أو معوقا ، في الشارع أو في البيت أو في الجامعة أو في المدرسة ، أو في الدكان أو في الحافلة أو في الشارع أو في أي مصلحة حكومية ، بلسانه ويده ، بنفسه وماله ، بكله يتحرك للدين وينافح عنه ، لسان حاله : { إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين ، لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين } ، وشعاره : { هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني ، وسبحان الله وما أنا من المشركين } .
ولْنحاول صياغة بعض وظائف هذا الداعية الميداني واستعداداته وصفاته في نقاط مركزة فيما يلي :

(1) داعية مخلص يمحص النية قبل العمل ، ولا يعتذر عن أي جهد يستطيع القيام به بزعم العجز أو خوف الرياء ، بل يتعلم ويعالج الهوى ويخوض غمار التكليف مملوء الثقة بمعونة الله وكلاءتـه .
(2) لا يبخل على الدعوة بأي مجهود أو طاقة ، فأينما دعاه داعي البذل شمر ، لا يدخر وقتا خاصا للدعوة ، بل أصل عمره موقوف للدعوة إلى الله تبارك وتعالى .
(3) يهتم بالمظهر الذي له دور في التأثير على الناس ، هندامه محترم ، منظم الخطوات ، رشيق العبارة ( ينتقي الألفاظ ولا يلقيها خبط عشواء ) ، يخلب اللب إذا تحدث أو وعظ أو حاضر أو نصح ، طيب الرائحة ، حلو المعشر ، طلق الوجه متبسمه .
(4) مستعد لكل موقف ، فلدية الحلوى والكتيبات والأوراق الإرشادية ، ولديه الأساليب الجاهزة لغزو القلوب ، والطرق المنمقة لاستمالتها ، والأسلحة الفتاكة في محاربة هوى النفوس ، والمغريات الشرعية في جذب الشاردين .
(5) إنه لا يجعل مقصوده الأساسي في الدعوة أن يتنسك كل الناس وينخرطوا في سلك الدعوة إلى الله وإن كان يتمنى حصول ذلك ، بل يتفانى في تقديم كل معونة للرقي بحال المدعوين إلى أي مستوى ينقذهم من نفوسهم الأمارة بالسوء وشياطينهم الغوية أو أعداء مِلَّتِهِم المتربصين بهم .
(6) إن الداعية الميداني يترقب الفرص ويسعى إليها ولا ينتظر مجيئها إليه ، يباغت المواقف ولا يكون هو رد فعل لها ، لا يترك فرصة لما يسميه الناس الصدف أو الفجأة ، بل تراه بدهيا مستعدا لكل موقف بما يناسبه .
(7) إن الداعية الميداني يتجاوب مع المشكلات التي تهدد المجتمع المسلم ، ولا يشغل نفسه بتوافه الأمور وسفسافها ، يقيم لأولويات الدين قسطاسا مستقيما يضبط اهتماماتـه ، ويوجه تحركاته . يتعامى عن أذية المغرضين وسفه المستهزئين ، يمضي إلى هدفه غير ملتفت ، قد أرقه حال الإسلام والمسلمين ، وأفزعه طرق العدو لأبواب الحصون ، فكأنه في رباط ينافح عن ثغر مثلوم يرد العدو من قبله .
(8) يعتمد الداعية الميداني على كل الإمكانيات المتاحة ، ويستغل الظروف لصالحة ، لا يلعن الظلام ولكنه يشارك في إيقاد شمعة ، إذا قصرت به وسيلة نزل إلى التي دونها ، حتى لو لم يجد إلا لسانة أو الإشارة باليدين لاستعملهما متوكلا على الله الهادي إلى صراط مستقيم .
(9) الداعية الميداني متحرك في كل الجهات ، يشارك في كل مجالات الدعوة ، بالقدر الذي يتقن به دوره ، ولكنه عنصر حيوي في كل عمل ، فالدعوة تعتمد على حركيته الواسعة وعلاقاته المتشعبة وقبوله لدى قلوب الناس وتمكنه من الانخراط في أي عمل يسند إليه .
(10) من أكثر سمات الداعية الميداني جدية أنه يعمل في صمت ، ويؤثر العمل الدؤوب على الثرثرة والتفيهق ، ليس بالمنان ولا بالمعجب ، شعاره بعد سماع الأمر من القادة : علم وسينفذ إن شاء الله ، وإذا سئل عن تكليف أنيط به قال : جار التنفيذ بعون الله ، فإذا أتم مهامه أبلغ المسئول في صمت : تم التنفيذ والحمد لله . إنها الجندية في أرقى صورها .
وبهذه الصفة الأخيرة نختم ناقلين قول الراشد حفظه الله : قال بعض السلف : ما ادعى أحد قط إلا لخلوه عن الحقائق ، ولو تحقق في شيء نطقت عنه الحقيقة وأغنته الدعوى .
فكما أن الفرد إذا امتلأ سكت ونطق عنه حاله ، ولم تكن به حاجة إلى دعاية نفسه ، فكذلك جماعة المؤمنين ، إذا اتصفت بما تدعو إليه ، وانبثت وأحكمت صفوفها ووفرت أسباب القوة ، أغنتها هذه الحقائق عن الدعوى والمقال ، وكان فعلها مغنيا لها عن الوصف أو التهديد ، ولست ترى جماعة كثيرة الكلام إلا كان كلامها دليلا على ضعف رصيدها العملي .
إنها حقائق معبرة تتمثل في كل جزء من مفردات الأخلاق تحوزه ، وفي كل لبنة من البناء التنظيمي ، وفي كل فن من فنون التخصص والخبرة العملية ، وتعبيرها يكفي ويغني ، وإنما يطيل اللسان ويذكر الأمنيات من لا يملك الشيء وأما من يملك فإن ملكه يفصح عنه والناس تشعر بالقوة الحقيقية تلقائيا ، ويأسرها النظر وتتبع الأثر . أهـ .


الطريقة السابعة والعشرون :
( العمل الجماعي )

إن من سمات أية حركة اجتماعية وليدة أن تكون ضعيفة تتلمس أسباب القوة وتنفر من عوامل الضعف ، وهكذا كانت دعوات الأنبياء ، مصداقه قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( بدأ الدين غريبا وسيعود غريبا كما بدأ ، فطوبى للغرباء ) .
ومن البداهة أن نقول : إن أية دعوة ربانية يجب أن تتخذ من أسباب القوة ما بها تعلو على عروش الباطل وتدكه دكا . فقوة الحق بدون حق القوة ضعف ، والدين بدون سيف ينصره : هضيمٌ عزه مهيضٌ جناحه ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( بعثت بين يدي الساعة بالسيف ) .
وتحتاج الصحوة الإسلامية أكثر ما تحتاج إلى أن تُبَصَّر بأسباب القوة فتتخذها وبمواطن الضعف لتجتنبه . ويعوزنا مع هذا الاحتياج تجرّد وموضوعية في تناول القضايا وسموا في استيعاب روح الشريعة والبعد عن الحرفية والظاهرية المحضة ، والمماحكة في تحكيم ظواهر نصوص قليلة في مسألة ضخمة عظيمة بُعْدٌ عن حقيقة الاجتهاد والاستنباط .
ومن الأسباب التي تبث القوة في أوصال الصحوة فكر الحركة وحركة الفكر ، فقعود العقول عن فهم الواقع والتكيف مع متطلباته من أعظك الشؤم الذي أصاب واقع الصحوة الإسلامية .
فالحق الذي نبذله للناس ونناضل دونه لابد أن يكون له رجال فقهوا واقع أمتهم واستطاعوا أن يهضموا من المعارف والفنون ما يجابهون به واقعا مدنيا معقدا لم يعد ينفع معه مجرد حفظ المتون وقراءة الشروح .
إننا نحتاج إلى كوادر تفهم واجبها وتتقنه أيضا ، تلم بواقع العصر ولا تغيب عن التراث وتتجاهله .
وإن أخطر قضية شغلت شباب الصحوة وتوقف على حسمها سريان روح النشاط في أجسادهم قضية العمل الجماعي ومشروعيته . ونحتاج - ونحن بصدد الكلام عن خدمة الدين - أن نتحدث عن هذه القضية متعرضين لمفهومها الحركي وحكمها الشرعي ، متعرضين للأدلة الشرعية التي تفيد في هذا الباب ، مع مناقشة أهم الشبهات التي تطرح حول هذا الموضوع .
ولجلالة هذا الموضوع في نظري وارتباط نشاط كثير من الدعاة بمعرفة المحك الشرعي لهذه القضية رأيت أن أوليه شيئا من الاهتمام . وسأحاول طرحه عن طريق عناوين ذات مقدمات متسلسلة تسوق إلى النتيجة الصحيحة آملا أن يُنـزّل الكلام منـزله وألا تحمل العبارات أكثر مما تحتمل .
(تحرير محل النـزاع في المسألة )
نعني بقضية العمل الجماعي : أي تعاون مثمر بناء مستطاع يدخل في حيز القدرة الشرعية ويؤدي إلى تنشيط واقع الدعوة الإسلامية ويسهم في إعزاز الدين ونصرته والتمكين للشرع المطهر ، ويؤدي إلى النكاية في الكافرين بالضوابط الشرعية المعتبرة عند العلماء المعتبرين وبما لا يترتب على هذا التعاون مفسدة راجحة تمنع من الإقدام عليه ) .

وكل قيد في هذا التعريف مقصود به إخراج ما يخالفه فليعتبر . ولا التفات بعد ذلك إلى أي إيرادات على غير محل النـزاع كأن يقال : إن العمل الجماعي يؤدي إلى مفسدة وذلك بما توجهه قوى العدوان والبغي ضد الدعاة ، فهذا لا يكون العمل الجماعي في حقهم ضروريا فليفهم وليقس الغائب على الشاهد .
ثم إن المقصود بالضوابط الشرعية كل القواعد العامة والأصول العلمية التي اعتبرها أئمتنا في فقه السياسة الشرعية ، ومنها عدم التعاون مع الكافر والمبتدع إلا بشروط ، وعدم تولية الفساق وأهل البدعة لولاية عمل إلا بشروط أيضا . فكل هذا يسري فيما نحن فيه بل أجدر .
والمقصود بالعمـل ما يشمل القول والفعل ، كالدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد باللسان والأموال والأبدان .
والمراد بالجماعية هنا محض التعاون المشترك بين أكثر من فرد ، فالجماعة المقصودة هنا : الجماعة الخاصة ، لا الجماعة المسلمة العامة التي تنضوي تحت إمرة حاكم شرعي ، فأن العمل بالنسبة لهم على حسب قانون دولتهم المسلمة وأمر حاكمهم الشرعي وبالضوابط والأصول المعتبرة أيضا .
فكلامنا إذا في جماعة الدعوة التي تنشد عزة الدين والتمكين له في بلدان لا تتمتع بحكم إسلامي شرعي ولا بوجود حاكم يرعى حمى الدين ( ولا نقول مسلما ) فمجرد وجود الحاكم المسلم مع غشه وظلمه وفسقه ليس سببا للقعود عن نصرة الدين بل والقيام بما تأخر عنه ذلك الحاكم المسلم ، فليتنبه .
(شبهات القائلين ببدعية العمل الجماعي )
لاشك أن كثيرا من المسائل التي يتداولها الدعاة تكون الحقيقة فيها تائهة بين اختلاف العبارات وتباين المصطلحات وعم تلاقي المقاصد من الكلمات ، فكان من الأهمية بمكان أن نحرر محل النـزاع فيما نحن بصدده لنقلل مساحة الاختلاف ما استطعنا إلى ذلك سبيلا .

ولكننا سنجد من تبقى لديه بعض الشبهات التي حالت بينه وبين إدراك مقصد شرعي أو واقع دعوي ، فمن الإنصاف أن نتعرض لأشهر ما يتداوله الدعاة من شبهات في هذا الباب لنوفي المقام حقه من التمحيص والدرس .
الشبهة الأولى : يقول الذاهبون إلى بدعية العمل الجماعي إن الأدلة العامة التي أمرت بالاجتماع ونهت عن الفرقة تنص على عدم شرعية التجمعات الدعوية التي تمزق كيان الأمة .
ومنها قوله تعالى : { ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم .. } يقولون : إن العمل الجماعي يؤدي إلى التحزب والفرقة بين الجماعة وهذا منهي عنه ، فما كان كذلك لا يكون مشروعا .
وهذا الاستدلال غير مستقيم ، لأنه يقال : هل مجرد وجود الجماعة وتعاون الأفراد فيما بينهم هو النـزاع والافتراق ؟ أم أن النـزاع أمر خارج وطارئ ؟ فإن قلنا بالأول : لزم اطّراح كل النصوص التي تأمر بالاجتماع ، وإن قلنا بالثاني : فيقال : لو كانت الطاعة تؤدي إلى مفسدة من قبل البعض فهل هذا يسوغ أن نقول ببدعية الطاعة وعدم مشروعيتها ؟!
إننا يجب أن نتبرأ من كل التصرفات التي تتنافى مع الاجتماع والتعاون كالعصبية والحزبية وعقد الولاء والبراء على غير الإسلام ، وإذا حدث هذا من بعض الجماعات بل من كل الجماعات فليس هذا دليلا على حرمة الاجتماع وبدعيته ، بل يُنهى عن المحرم ويُقَرُّ الصالح على صلاحه ،     : { ولا تزو وازرة وزر أخرى } وقال : { ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا ، اعدلوا هو أقرب للتقوى } .
الشبهة الثانية : ( الأدلة الخاصة ) التي تنهى عن التحزب ، والصريح في هذا الباب حديث حذيفة بن اليمان الذي رواه البخاري وبوب له في الصحيح فقال : باب : كيف يكون الأمر إذا لم تكن جماعة . ثم روى حديث حذيفة قال : كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير ، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني ، فقلت يا رسول الله ! إنا كنا في جاهلية وشر ، فجاءنا الله بهذا الخير ، فهل بعد هذا الخير من شر ؟ قال : ( نعم ) . قلت : وهل بعد ذلك الشر من خير ؟ قال : ( نعم ، وفيه دخن ) قلت : وما دخنه ؟ قال : ( قوم يهدون بغير هديي ، تعرف منهم وتنكر ) قلت : فهل بعد ذلك الخير من شر ؟ قال : ( نعم ، دعاة على أبواب جهنم ، من أجابهم إليها قذفوه فيها ) قلت : يا رسول الله صفهم لنا . قال : ( هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا ) قلت : فما تأمرني إن أدركني ذلك ؟ قال : ( تلزم جماعة المسلمين وإمامهم ) قلت : فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام ؟ قال : ( فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك ) . الحديث .
قالوا : فهذا أمر نبوي صريح باعتزال كل تلك الفرق والجماعات المتناحرة المختلفة حال كون المسلمين فاقدين للإمام الشرعي والجماعة المسلمة الكبرى المنضوية تحت لواء شرع إسلامي وحاكم مسلم .
والجواب عن هذه الشبهة أن قوله صلى الله عليه وسلم : ( اعتزل تلك الفرق كلها ) يعود إلى أقرب مذكور وهم الدعاة على أبواب جهنم ، ولو عاد إلى أبعد منه فهم القوم الذين يهدون بغير هدي النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا شك أن كليهما يجب اعتزالهما ، كما لا شك أن الجماعات الإسلامية العاملة في حقل الدعوة والمنضوية تحت لواء أهل السنة والجماعة والمستظلة بظل الصحوة الدينية المباركة ، والساعية في سبيل إعلاء كلمة الله ليست من الدعاة على أبواب جهنم ، وليسوا أيضا ممن يهتدون بغير هدي النبي صلى الله عليه وسلم . ولا يجوز أن يقال إن ( أل ) في كلمة ( الفرق ) للعهد الذهني ، لأن اسم الإشارة ( تلك ) المنوه بما سبق قرينة على تعيين المراد . هذا وجه .
الوجه الثاني : أن الاعتزال لا يكون إلا بعد انعدام الجماعة والإمام ، والواقع ليس كذلك ، فإن الإمام إذا كان معدوما فلم تنعدم الجماعة المسلمة ، فإن زعم زاعم أن الجماعة المسلمة أيضا منعدمة فإننا نحيله على :
الوجه الثالث : قال الحافظ في الفتح : ( 13/41) قال الطبري : والصواب أن المراد من الخبر لزوم الجماعة الذين في طاعة من اجتمعوا على تأميره ، فمن نكث بيعته خرج عن الجماعة . أهـ
تنبيه : قال الطبري بعد النقل السابق : وفي الحديث أنه متى لم يكن للناس إمام فافترق الناس أحزابا فلا يتبع أحدا من الفرق ويعتزل الجميع إن استطاع ذلك خشية من الوقوع في الشر . أهـ
اتكأ على هذا النقل القائلون ببدعية العمل الجماعي وقالوا بوجوب مفارقة الجماعات العاملة في حقل الدعوة . وليس لهم مستند فيه ، لأن مراد الطبري رحمه الله الأحزاب التي تتنافس على الإمارة والإمامة والحكم ، ولذلك قال عقبه : خشية من الوقوع في الشر . وهو شر التنافس على الدنيا ، لأن السعي إلى الإمامة مذموم شرعا . أما الأحزاب العاملة للدين ولا تتنافس على الإمارة بل تسعى لنصرة الدين والتمكين له فليست على شر ، بل هي ساعية في دفعه ، وفي جلب الخير المحض ، ولا تدخل في النهي عن الاعتزال جزما .
ولسر بديع أعقب البخاري الباب الفائت وهو : كيف الأمر إذا لم تكن جماعة . بباب آخر قال فيه : باب من كره أن يكثر سواد الفتن والظلم . وساق فيه حديث ابن عباس أن أناسا من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سواد المشركين على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيأتي السهم فيرمى به فيصيب أحدهم فيقتله أو يضربه فيقتله ، فأنزل الله تعالى : { إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم .. } وهذا السر البديع هو أن الأمر بالاعتزال السابق في الباب قبله مشروط بألا يؤدي إلى تكثير سواد المشركين والظالمين وأهل الفتنة والظلم ، ولا شك أن تفرق الدعاة وعدم تعاونهم يؤدي إلى تقوية الظالمين ونكايتهم للمؤمنين .
وما أشبه أولئك القائلين باعتزال الجماعات العاملة في حقل الدعوة بأولئك المسلمين الذي بقوا في ديار الكفر وكثروا سواد المشركين . ففي الوقت الذي نرى ملل الكفر تتلاقى على هدم الإسلام وتتناسى خلافاتها لتتفق على مناوأة المسلمين نرى المسلمين عاجزين - حتى - عن التعاون في تكتلات ذات أثر .
الشبهة الثالثة : استدلوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا حلف في الإسلام ) رواه البخاري ومسلم . قالوا : لا يجوز الانتماء إلى التجمعات الدعوية ولا التعاون معها لأنها أحلاف نهى عنها الشرع ونفى اعتبارها في الإسلام .
والجواب عن هذه الشبهة من وجوه :
أولها : أن الوقوف عن ظواهر النصوص والتقيد بحرفيتها وإهدار روحها لا يخدم المسألة بل ينحرف بها عن فهم المقصد الشرعي الذي هو أساس الاجتهاد في مسائل النوازل .
ثانيها : أن المراد بالحلف ما كان يتحالف عليه أهل الجاهلية من إيصال الحقوق إلى أربابها ، وكان المتحالفون يجمع بينهم آصرة الحلف ويترتب عليها من الحقوق في الإرث والقرابة والزيجة والالتزامات ونحوها ما يتعارض مع الشرع ، ويدل لذلك رواية مسلم حيث قال صلى الله عليه وسلم : ( لا حلف في الإسلام ، وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة ) وهو من رواية جبير بن مطعم رضي الله عنه .
قال الطبري فيما نقله عنه الحافظ في الفتح : ما استدل به أنس على إثبات الحلف لا ينافي حديث جبير بن مطعم في نفيه ، فإن الإخاء المذكور كان في أول الهجرة وكانوا يتوارثون به ثم نسخ من ذلك الميراث وبقي ما لم يبطله القرآن وهو التعاون على الحق والنصر والأخذ على يد الظالم كما قال ابن عباس : إلا النصر والنصيحة والرفادة ويوصى له ، وقد ذهب الميراث . ثم نقل عن الخطابي قوله : قال ابن عيينة : حالف بينهم أي آخى بينهم . يريد أن معنى الحلف في الجاهلية معنى الأخوة في الإسلام لكنه في الإسلام جار على أحكام الدين وحدوده ، وحلف الجاهلية جرى على ما كانوا يتواضعونه بينهم بآرائهم فبطل منه ما خالف الإسلام وبقي ما عدا ذلك . أهـ
وخلاصة القول أنه قد ورد إثبات الحلف ونفيه ، ولا شك أن فهم الصحابي أجدر بالتأسي ، وما جمع به الطبري يجري وفق طرق الترجيح ويأتي على نسق قاعدة : الجمع بين الدليلين أولى من إهمال أحدهما . ( الإعمال أولى من الإهمال ) .
ثالث الوجوه : أن الحلف كلمة مجملة يرجى ممن استدل بها على بدعية العمل الجماعي أن يحد هو معناها ، فإن أراد العموم لزم تحريم أي حلف حتى لو كان ذلك الحلف بيعة الإمام الشرعي ، وهو معلوم البطلان ، وإذا كان التخصيص قد ثبت بالقطع علمنا جواز التخصيص بغيره ، والمزعوم : أن عموم النهي أو النفي في حديث ( لا حلف في الإسلام ) مخصص بآيات حفظ العهود والوفاء بالوعود والعقود ، كما أن ( لا حلف في الإسلام ) قضية مهملة سالبة ، والتحقيق أنها لا تفيد سورا معينا ، بل قد يراد بها الجزئية وقد يراد بها الكلية ، ومع هذا الأجمال في السور نلجأ إلى التخصيص بدليل آخر وهو ما فعله أنس بن مالك رحمه الله ، فقد فهم الراوي أن ( لا حلف في الإسلام ) بقوة : كل حلف في الإسلام منهي عنه ، فصحح له أنس سور القضية قائلا : قد حالف رسول الله صلى الله عليه وسلم بين قريش والأنصار في داري ، وكأن أنسا رضي الله عنه أراد أن يصحح مدلول الحديث كالآتي : بعض الحلف في الإسلام منهي عنه . وهو ما أكده الطبري رحمه الله في جمعه بين حديث النفي والإثبات .
ولا مجال لادعاء أن (لا) نافية للجنس وهي تفيد القطع في نفي كل مفردات اللفظ ، وهي عند الأصوليين تفيد العموم ولا ريب ، بيد أن عموم النفي مسلط على الجنس المعهود ( وهو الحلف المذموم ) فلا يشمل الحلف المحمود ، ودليله ورود التخصيص بعد عموم النفي في رواية جبير بن مطعم ، فأفادت تلك الرواية نفي العموم لا عموم النفي .
وقد زعم الطحاوي رحمه الله في شرح مشكل الآثار أن حديث أنس في إثبات الحلف منسوخ بحديث النفي لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قاله في فتح مكة . وإذا سلمنا بصحة النسخ فإن البحث سيظل دائرا حول مورد النفي ، وقد ثبت بالدليل الصحيح وتفسير الصحابي المعتبر كابن عباس وأنس رضي الله عنهما ثبوت الحلف بمعنى النصرة والمؤاخاة بشروطها المعتبرة ، فيكون النسخ واردا على ما منعته النصوص الأخرى كالتوراث والعصبية والنصرة حتى بالباطل ويبقى ما أقرته النصوص ولم تمنعه .
الشبهة الرابعة : يحتج المبدعون للعمل الجماعي بأن جماعية العمل تورث البغضاء والشحناء والتحزب والولاء والبراء على الاسم ، على حساب المسمى .
والجواب على جزأين : الأول : في شرعية التسمي بأسماء لقبية غير اسم الإسلام وأن ذلك لا حرج فيه ، بل قد يكون واجبا إذا احتيج إليه شرعا .والثاني : أن كل الآفات المترتبة على العمل الجماعي نتبرأ منها ونحذر منها وننهى عنها ، كما لا نعترف أنها ناشئة عن مشروعية العمل الجماعي منهجا ، بل هي في الغالب بسبب أخطاء شخصية وانحرافات تطبيقية أو مساوئ خلقية وتربوية ناتجة عن عدم فهم منهج العمل الجماعي والتحلي بآدابه . وسبب ذلك أمور :
(1) أن الأمة عاشت دهورا لم تستظل فيها بظل الدولة المسلمة ، ولم تستنشق عبير الحكم الإسلامي الذي من أركانه السمع والطاعة لأولي الأمر ومراعاة مصالح الأمة . بل نشأت في الأمة جماعات على نسق النظريات الغربية التي تعتمد الحرية المطلقة طريقة حياة ( ليبرالية ) والفردية منهجا للتعامل مع الآخرين ، والنسبية نظرية للحكم على الأشياء ، فلم يأنس الناس حب الاجتماع على أساس ديني ، ولا البذل للدين والتضحية له من منطلق جهادي .
(2) جهل الكثير بأدب الخلاف وفقهه ، حتى أضحت المسائل التي تتبناها أي حركة وإن كانت فروعية لا تقبل النقض أو المناقشة من أحد .
(3) شيوع الروح الاتهامية وتلاشي مبدأ المناصحة والتواصي بالحق الذي أمر به القرآن .
(4) غلبة الهوى عند البعض ( دون تعيين ) ، والهوى هو منشأ الظلم ، والظلم هو منشأ الاختلاف والتناحر بين الناس .
وتلافي ذلك يكون بأضداده لا بنقض مبدأ الاجتماع من أصله وأساسه ، فالعمل الجماعي نسق فطري لأية حركة اجتماعية تنشد التغيير الصحيح .
هذا وليس من الإنصاف أن نؤاخذ التجمعات الدعوية بجريرة بعض الأفراد ، وننسى أو نتناسى حسناتها وأثرها في واقع الأمة ، وأنها التي حفظت على الناس عقيدة الإسلام وآدابه وأحكامه . وكم رأينا من دعاة كانوا يتحركون فرادى بيد أن أثرهم لا يتجاوز مساجدهم وإقليمهم ، وآخرون اجتمعوا ونسقوا فكانت شجرتهم الباسقة تظل أرجاء الدنيا .
الشبهة الخامسة : يقولون : إن كل ما ذكر عن ضرورة الاجتماع والعمل النظامي والسمع والطاعة للمسئولين عن العمل الدعوي ، كل ذلك لا يكون إلا في ظل دولة إسلامية وتحت إمرة خليفة شرعي ، والنصوص الشرعية التي استدللتم بها إنما هي في حق الإمامة العظمى وفي ظل الخلافة المسلمة .
والجواب : بعدم التسليم أن النصوص الشرعية الآمرة بالاجتماع والسمع والطاعة في حق الإمامة العظمى فقط ، بل هي عامة ، كقوله تعالى : { وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } وقوله : { ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم ..} وقوله صلى الله عليه وسلم : ( من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية ) . رواه البخاري .
فلا بد للمسلمين من جماعة ولا بد لهم من إمام ، فإن لم يستطيعوا تكوين الجماعة العامة التي تنتظم الأمة تحتها والإمام الذي يحكم الجميع عدلوا إلى القدر الذي يستطيعونه ، ريثما يتيسر لهم إقامة الخلافة العظمى ، لأن الميسور لا يسقط بالمعسور ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : ( إذا أمرتك بأمر فأتوا منه ما استطعتم ) وعندما تولى أبو بكر الصديق رضي الله عنه الخلافة لم يتولها إلا على مكة والمدينة والبحرين ، أما بقية الجزيرة فقد ارتدت عن بكرة أبيها ، ولا ولاء لها للمدينة ولا لأحد من الصحابة ، فلم يثنهم ذلك عن السعي للإمامة والاجتماع حتى تنتظم حياتهم .
ثم إننا نتساءل عن الفرق بين التجمعات الدعوية في ظل الحكم الإسلامي وفي غيره ! أوليس مفروضا في الدولة الإسلامية أن تكون لها هيئات ترعى شئون المسلمين في كل المجالات ؟ فما الفرق بين تلك الهيئات التي تعمل في ظل الأنظمة الوضعية ساعية لإقامة الحكم الإسلامي واسترجاع الحياة الإسلامية وبين تلك التي تعمل بالفعل تحت نظام حكم إسلامي ؟!! اللهم إنه لا فرق إلا أن يقال إن تلك تعمل تحت إمرة حاكم شرعي ، والأخرى ليست كذلك ، وهذا ليس بوصف مؤثر في الحكم ، للإجماع على أن جل التكاليف الشرعية لا يشترط فيها وجود الإمام ، ومن ثم اتفق العلماء في العصور المتأخرة على عدم اشتراط وجود الإمام في الجمعة مع أن بعض المذاهب اشترطت ذلك ، ولم يقل أحد الآن بلزوم وجود الإمام حتى نؤدي الجمع .
وثمة أمر ينبغي أن يتنبه له الجميع : وهي أن التجمعات الدعوية التي نقصد ضروريتها لا يمكن تصور الدعاة الآن بدونها ، حتى أولئك الذين يبدعون العمل الجماعي ، فهم يقومون بمقتضاه ، شاءوا أم أبوا .
فتنظيم محاضرة عمل جماعي ، وتنظيم دورة علمية عمل جماعي ، وطبع كتاب إسلامي وتوزيعه في أي خانة ندرجه ؟! ولا يقال إن هذا الأخير لا يندرج تحت العبادات ! إذا خاب سعي كل من يطبع كتابا إسلاميا حتى لو قصد مع ذلك التربح ، لا أيها الإخوان .. إن الأمر أيسر من أن نتناوله بهذه الطريقة ، وأخطر من أن نعالجه بهذا النحو ، فدين الله ينادي علينا بالبذل ، وخطاب القرآن يخترق الآذان قائلا : { انفروا خفافا وثقالا ..} ويقول : { خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا } .
فكيف نتشاغل عن هذا النفير بقضايا من قبيل : نعمل فرادى أو جماعات ، نتعاون أو نعتـزل ؟!!
ونختم بهذه الومضات :
(1) إن قضية العمل للدين يجب أن يتناسب فيها الجانب التطبيقي مع الاستدلال الشرعي ، فلزوم الدعة والخمول وترك الجهاد بالمال والنفس بحجة الوقوف عند النصوص موقف سيسأل عنه أمام الله عز وجل يوم القيامة .
(2) الملاحظ أن المبدعين للعمل الجماعي لم يطرحوا البدائل لموجهة طغيان الظالمين والمحاربين لدين الله رب العالمين ، وأن مجهوداته قاصرة على إلقاء الدروس العلمية ، مع أن نظرة بسيطة إلى شرائح المجتمع تخبرك بهول المهمة .
(3) الاجتماع على عمل معين والتسمي باسم معين لا يعني احتكار العمل واحتكار الاسم ، فمنهج الحق مشاع بين أهله { ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون } .
(4) لقد استطاع الرافضة أن يقيموا دولة تناطح أمريكا وترهب إسرائيل ، وما زال أهل السنة ( وهم نقاوة المسلمين كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ) يتجادلون في شرعية العمل الجماعي !!!
أيها الدعاة : إن الإسلام تنقض عراه عروة عروة والمسلمون يتخطفون من حولكم فقوموا لله قومة صدق { ومن نكث فإنما ينكث على نفسه } ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .

نتابع بأذن الله