العلمانية الشاملة والجماعات الوظيفية
ظاهرة الجماعات الوظيفية، في شكلها المتبلور، هي ظاهرة خاصة بالمجتمعات التقليدية (التراحمية). والظاهرة ككل تعبير عن محاولة المجتمع التقليدي الحفاظ على تراحمه وطُهره وقداسته عن طريق تركيز التعاقد والحوسلة في مجموعة بشرية صغيرة، فكأن الجماعات الوظيفية هي جماعة تم نزع القداسة عنها تماماً وتمت حوسلتها وعلمنتها، فهي جيب أو جيتو تعاقدي (جيسيلشافت) في المجتمع التقليدي التراحمي (جماينشافت).

ولعل جيتو البغايا حالة متطرفة من الجيتوا الوظيفية التعاقدية، إذ كانت البغايا يُعزلن ليمارسن فيه نشاطهن التعاقدي المادي الذي لا يتخلله حب أو محبة (فهو نشاط اقتصادي عضلي مادي محض)، فتتحوَّل الأنثى إلى بغي (إنسان وظيفي اقتصادي وجسماني) والذكر إلى عميل (إنسان وظيفي جسماني واقتصادي)، ويُحوسل كل واحد منهما الآخر ويحاول أن يُعظِّم منفعته أو لذته أو كلتيهما. ولهذا السبب (ولأسباب أخرى)، لاحظنا أن أعضاء الجماعات الوظيفية يتبنون رؤية حلولية كمونية للعالم.

ويجدر بنا أن نؤكد أن وحدة الوجود الروحية هي نفسها وحدة الوجود المادية (العلمانية)، فكلاهما يَرُد الكون إلى مبدأ واحد ويظهر إنسان وظيفي ذو بُعد واحد يمكن تفسيره في ضوء هذا المبدأ الواحد الكامن. لهذا، نجد أن أعضاء الجماعات الوظيفية إما من حملة الفكر العلماني أو ممن عندهم قابلية عالية للعلمنة. ويمكن أن نذكر سمات الجماعة الوظيفية وعلاقتها بالرؤية المعرفية العلمانية الإمبريالية على النحو التالي:

1 ـ التعاقد (والنفعية والحيادية والترشيد والحَوْسَلة):

يدخل عضو الجماعة الوظيفية في علاقة تعاقدية مع مجتمع الأغلبية الذي يرده إلى مبدأ واحد (الواحدية الوظيفية) ويعرِّفه في إطار وظيفته ويحتفظ به المجتمع بمقدار نفعه ويدخل معه في علاقة رشيدة تماماً خاضعة لحسابات الربح والخسارة، فهو (من وجهة نظرهم) ليس إنساناً متعيِّناً مركباً ذا دوافع إنسانية مركبة كثيرة، وإنما هو إنسان وظيفي ذو بُعد واحد تم تجريده في ضوء نفعه ووظيفته الواحدة، فيصبح إنسان العلمانية الطبيعي/ المادي. وهو يمكن أن يكون الإنسان العلماني الاقتصادي، المنتج والمستهلك، الذي يدخل في علاقات اقتصادية إنتاجية لا شخصية، أو الإنسان العلماني الجسماني الذي يُكرِّس نفسه لملذاته. وعضو الجماعة الوظيفية ليس ضحيةً لعملية التجريد التي تُطبَّق عليه، إذ يقوم هو نفسه بتجريد المجتمع في ضوء العائد الاقتصادي الذي يحصل عليه منه، كما يقوم بتجريد ذاته وتحييدها حين يدخل في علاقة مع هذا المجتمع في رقعة الحياة العامة. ولكنه، مع هذا، يمارس إنسانيته المُتعيِّنة المركبة في رقعة ضيقة من الجيتو وهي رقعة الحياة الخاصة. ويقوم عضو الجماعة الوظيفية بترشيد حياته (العامة) تماماً في ضوء الوظيفة التي يضطلع بها، فيكبح جماح أية عواطف إنسانية مركبة ويُطبِّق على نفسه نماذج رياضية رشيدة ويتقبل أهدافاً مادية لا إنسانية حتى يتسنى له القيام بوظيفته. وإذا كانت العلمنة والترشيد هما عملية فرض الواحدية المادية على المجتمـع والفـرد، فإن عضـو الجماعة الوظيفية، من خـلال إخضاع ذاته للواحدية الوظيفية ومن خلال استبطانه لها، ومن خلال رؤيته لأعضاء المجتمع المضيف باعتبارهم وسائل لا غايات ومصدراً للنفع، يصبح قادراً تماماً على حوسلة نفسه وتوظيفها وترشيدها دون أية مشاكل أخلاقية أو نفسية، ولذا فهو يرى نفسه شيئاً بين أشياء، مجرد علاقة إنتاج أو ربما أداة من أدوات الإنتاج والإدارة.

وحينما يُقسِّم عضو الجماعة الوظيفية حياته إلى حياة عامة رشيدة متحوسلة، وحياة خاصة مركبة، فهذا لا يختلف كثيراً عن تقسيم المجتمعات العلمانية لحياة الإنسان إلى رقعة الحياة العامة (الخاضعة تماماً للترشيد والتنميط) ورقعة الحياة الخاصة (التي تشكل مجال الحرية الشخصية).