دمــــج اليــــــهود
Forcible Assimilation of the Jews
«دمج اليهود» هو جزء من عملية تحديث أعضاء الجماعات اليهودية وتحويلهم من جماعة وظيفية وسيطة إلى جزء لا يتجزأ من طبقات المجتمع الحديث، الذي ظهر بعد الانقلاب الصناعي الرأسمالي في الغرب. وهي عملية تَحوُّل اجتماعي ضخمة لم يكن أعضاء الجماعات اليهودية هم المسئولين عنها، ولم يكونوا الوحيدين الذين خاضوها، ويُشار إليها أحياناً بأنها «عملية تحويل اليهود إلى قطاع منتج».

وفي معظم الأحوال، كانت عملية الدمج تأخذ شكل القسر. والواقع أن عملية الدمج تتضمن نوعاً من الجهد الواعي والمُخطَّط، وهي بهذا المعنى مختلفة عن عملية الاندماج أو الانصهار التي تتم عادةً من خلال حركيات المجتمع وآلياته الكامنة التي ربما لا يدركها لا أعضاء الجماعة اليهودية ولا أعضاء مجتمع الأغلبية. ومع هذا، فإن عملية الدمج، بعد المراحل الأولى القسرية الواعية، تتحول عادةً إلى اندماج تلقائي غير واع. كما حدث في كثير من بلاد أوربا، ذلك لأن أعضاء الجماعة اليهودية عادةً ما يستبطنون المُثُل المفروضة عليهم، وتضبط سلوكهم من الداخل، وما كان قسرياً برانياً يصبح بعد قليل تلقائياً جوانياً.

الاندمـــاج : الموقـــف الصهيــــوني
Assimilation: The Zionist Position
يتفق الصهاينة والمعادون لليهود على رفض الاندماج قولاً وفعلاً. أما المعادون لليهود، فيرون اليهودي شخصية عضوية لا يمكن استيعابها في المجتمع، ولو تم استيعابها فإنها تصبح مثل البكتريا التي تسـبب تَآكُله وتَخـثُّره. واليهـود الذين يَّدعون أنهم اندمجوا في المجتمع هـم، بحسب هذه النظرة، أخطر العناصر اليهودية، لأنهم يصبحون اسمياً جزءاً من المجتمع يستقرون داخله، ولكنهم فعلياً (عن وعي أو عن غير وعي) يظلون جسماً غريباً عنه يشبه الخلية السرطانية التي تسبب انحلاله وتآكُله. ولذا، فإن الحل الوحيد للمسألة اليهودية، وفقاً لهذه الرؤية، هو الحل الصهيوني، أي استبعاد اليهود إلى رقعة خاصة بهم.

والموقف الصهيوني من الاندماج لا يختلف عن ذلك كثيراً، فالصهاينة يرون أن الاندماج أمر مستحيل لأن الهوية اليهودية العضوية لا يمكنها أن تحقق ذاتها إلا في تربة يهودية وفي وطن قومي يهودي. وبالتالي، فاليهودي الذي يدَّعي أنه اندمج هو شخصية كاذبة ومريضة نفسياً، منقسمة على نفسها كارهة لها مثله مثل المتسول الباحث عن انتماء قومي. واليهودي المندمج يعاني ازدواج الولاء، إذ ليس بإمكانه أن يَدين بالولاء إلا لوطنه اليهودي الذي تربطه به وشائج عضوية قوية. ويُشار إلى اليهود المندمجين في الأدبيات الصهيونية بوصفهم عبدة بعل إله الأغيار أو محبي بابل (أي المنفى).

ويسوي الصهاينة بين الاندماج والذوبان الكامل، أي الانصهار، إذ يرون أن كلاًّ منهما يؤدي بالضرورة إلى الآخر. رغم أن الاندماج هو أن يصبح الإنسان جزءاً من كل دون أن يفقد بالضرورة بعض صفاته الخاصة، أما الانصهار والذوبان فيفترضان فقدان الجزء لقسماته الخاصة. ولذا، يُشار إلى الاندماج في الأدبيات الصهيونية بأنه خطر يتهدد الحياة اليهودية، وجريمة وخطيئة وعار يحط من كرامة اليهود، ووصمة في جبينهم. ويتم الربط بين الاندماج والإبادة إذ يُشار إلى الانـدماج باعتــباره الإبادة الصامتة، مع أن الإبادة هنا روحية نفسية، وليست جسدية فعلية. ومع هذا، فإن الإبادة تؤدي في نهاية الأمر إلى اختفاء اليهودي المندمج فعلياً في مجتمع الأغيار، وهي الوظيفة نفسها التي تؤديها أفران الغاز. ومؤخراً صرح يوسي بيلين (نائب وزير خارجية إسرائيل) بأن الاندماج (والزواج المُختلَط) يهددان يهود أمريكا أكثر من تهديد العرب ليهود إسرائيل.

ومع هذا، تظهر فكرة الاندماج في الفكر الصهيوني ذاته بشكل آخر، إذ يُطالب الصهاينة بتطبيع الشخصية اليهودية، أي جعلها طبيعية مثل الشخصية غير اليهودية، وفي هذا تَقبُّل لمعايير مجتمعات الأغيار. كما أن الصهيونية تطمح إلى خلق دولة يهودية تندمج في المجتمـع الدولي حتى يصبح اليهود شعباً مثل كل الشعوب. لكن الاندماج، كما يظهر في الفكر الصهيوني، يُفترَض إمكانية تَحقُّقه على المستوى القومي وحسب، واستحالته في ذات الوقت على المستوى الفردي. وقد أثبت الواقع التاريخي أن كلا الافتراضين خاطئ. فأعضاء الأقليات آخذون في الاندماج، ولا تزال الدولة اليهودية مرفوضة من العرب.

ومن المفارقات التي يشير إليها دارسو الصهيونية أنها بدأت باعتبارها حركة تهدف إلى الحفاظ على الهوية اليهودية والخصوصية اليهودية، ولكنها في نهاية الأمر أدَّت إلى زيادة معدلات الاندماج. فقد ساهمت الصهيونية، ابتداءً، في زيادة معدلات العلمنة بين اليهود حين طرحـت تعريفـاً قومياً أو عرْقياً لليهودي ليحل محل التعريف الديني الإثني، وحين جعلت التزام اليهودي ينصبُّ على إثنيته أساساً، بينما جعلت الالتزام الديني مسـألة ثانوية مكملة للانتمـاء الإثني أو يُمثِّل تجلياً لـه. وقد أدَّى هذا بكثير من اليهود إلى التخلي عن عقيدتهم وعن كثير من شعائرها، وكانت هذه مصدراً أساسياً لخصوصيتهم. وقد تساءل الحاخام موريتز جوديمان، كبير حاخامات فيينا، في رده على تيودور هرتزل وعلى الدعوة القومية فقال: «من هو أكثر ذوباناً وانصهاراً: اليهودي القومي الذي يتجاهل الشعائر الخاصة بيوم السبت وبالطعام أم اليهودي المؤمن الذي يؤدي الشعائر الدينية ويكون في الوقت نفسه مواطناً كاملاً مخلصاً لبلاده؟». وتبلغ معدلات العلمنة ذروتها بين أعضاء الجماعات اليهودية الذين توجد أغلبيتهم الساحقة في مجتمعات علمانية، وهي تؤدي إلى مزيد من الاندماج والزواج المُختلَط، وفي نهاية الأمر إلى الانصهار.

وقد ذكر أحد المفكرين اليهود أن الصهيونية وإسرائيل تريان أن بإمكان يهود فرنسا أن يصبحوا أكثر فرنسية (أي أكثر اندماجاً في مجتمعهم). وهو يفسر عبارته هذه فيقول إن اليهودي بدأ بعد تحطيم الهيكل الثاني يحمل معه ما سماه فرويد «المبنى غير المنظور»، وهو عبء الشك والإحساس بالنقص وعدم الانتماء، فأينما ذهب اليهود وعملوا، مثلهم مثل بقية البشر، كانوا يشعرون بأن ثمة شيئاً ما ينقصـهم. فجميع الشـعوب الأخرى لها أرضها وقراها وشرطتها وجيشها، أما اليهود فكانوا يعيشون دائماً في شك. ولأن ثمة مبنى جديداً منظوراً يراه الجميع وهو إسرائيل، فقد اختفى الشك والإحساس بالنقص، ومن ثم يستطيع كل اليهود الآن أن يشعروا بالهدوء ويمكنهم الاندماج في مجتمعاتهم. وبرغم عدم اتفاقنا مع مقدمات الكاتب، فيُلاحَظ من الناحية الفعلية أن انتشار الصهيونية هو غطاء براق يخفي معدلات الاندماج العالية. بل إن الصهيونية أصبحت هي الوسيلة التي يريح بها اليهودي المندمج ضميره، إذ يمكنه أن يُجزل العطاء للدولة اليهودية ويحقق بذلك إحساساً زائفاً ومتضخماً بالهوية والانتماء ثم ينصرف بعد ذلك لحياته العلمانية الأمريكية اللذيذة بكل جوارحه. وقد لاحظ بن جوريون هذه الظاهرة وحَذَّر منها.

ويُعَدُّ الاندماج من أهم الأسباب التي تؤدي إلى ما يُسمَّى في علم الاجتماع في الغرب ظاهرة «موت الشعب اليهودي»، أي تَناقُص أعداد اليهود بشكل ملحوظ الأمر الذي يؤدي إلى اختفاء بعض الجماعات اليهودية. وقد شُكِّلت في إسرائيل لجنة صهيونية تهدف إلى مكافحة الاندماج بين أعضاء الجماعات اليهودية.