المجلد الثانى: الجماعات اليهودية.. إشكاليات



الجزء الأول: طبيعة اليهود في كل زمانومكان



الباب الأول: إشكالية الجوهراليهودي

الجوهـر اليهودي
Jewish Essence
«الجوهر» هو مجموعة الخصائص الثابتة في ظاهرة ما أو هو ما لا يتغيَّر بتَغيُّر المكان أو الزمان. وفكرة الجوهر اليهودي الخالص (الثابت) هي فكرة كامنة وراء عديد من المفاهيم والمصطلحات والنماذج التفسيرية المُستخدَمة في دراسة الجماعات والعقائد اليهودية، مثل: «التاريخ اليهودي»، و«الشخصية اليهودية»، و«العبقرية اليهودية»، و«الجريمة اليهودية»، و«الشعب اليهودي»، و«العرْق اليهودي»، و«الإثنية اليهودية». فكل هذه المصطلحات تفترض وجود هذا الجوهر اليهودي الخالص الثابت الذي يجعل من يهودية اليهودي النقطة المرجعية الأساسية لتفسير سلوكه. أما العناصر غير اليهودية، مثل السياق الحضاري الإنساني الذي يوجد فيه أعضاء الجماعات اليهودية، أو حركيات المجتمعات التي ينتمون إليها، أو تفاعلهم مع أعضاء الأغلبية، بل والعناصر الإنسانية المشتركة مع بقية البشر، فهي عناصر يُفترَض فيها أنها عَرَضية تنتمي إلى السطح ولا تفيدنا كثيراً في تفسير الظواهر اليهودية، حيث يتم تفسير هذه الظواهر من الداخل فقط.

ففي حالة دراسة تاريخ يهود بولندا، على سبيل المثال، يتم التركيز على ما جاء في التوراة والتلمود وعلى الحياة داخل الشتتل، ولا يظهر العالم الخارجي غير اليهودي إلا على هيئة هجمات ومذابح ضد اليهود أو تسامح معهم. ولكل هذا، تبدو حياة أعضاء الجماعات اليهودية وكأنها لا علاقة لها بحياة كل البشر، وتختلف تماماً عن حياة الأقليات الأخرى. ويَبرُز الجوهر اليهودي باعتباره محركاً أساسياً للأحداث. وغني عن الذكر أن المعادين لليهود يتبنون النموذج نفسه ويرددون، على سبيل المثال، أن عزلة اليهود هي تعبير عن جوهرهم الانعزالي، وأن اشتغالهم بالتجارة تعبير عن نزوعهم الطبيعي إلى الاشتغال بأمور المال، وأن اتجاههم نحو الصحافة الإباحية هو تعبير عن نزوعهم الأزلي نحو الشر.

وهذا النموذج التفسيري الذي يفترض وجود الجوهر اليهودي، هو نموذج صهيوني بشكل واع أو غير واع حيث إن كلاًّ من الصهاينة والمعادين لليهود يُسقطون عن اليهود إنسانيتهم ولا يرونهم بشراً يتسمون بالقدر نفسه من الخير والشر الذي تتسم به بقية البشر. لكن مفهوم الجوهر اليهودي هو تعبير عن نموذج اختزالي عنصري، مقدرته التفسيرية منخفضة للغاية، إذ أنه يستبعد كثيراً من تفاصيل الواقع ومستوياته وبنيته. فلا يمكن فهم وضع اليهود في بولندا إلا بالعودة إلى حركيات التاريخ البولندي ابتداءً من تَوسُّـع بولندا وضمها أوكرانيا، مروراً بظهور الإمبراطوريات الثلاث المجاورة لبولندا (روسيا وألمانيا والنمسا)، وانتهاءً بتقسيم بولندا. كما لا يمكن فهم الشتتل إلا في ضوء نظام الأرندا البولندي الذي كان يخدم مصالح طبقة النبلاء البولنديين (شلاختا). كما أن علاقة يهود بولندا بمجتمعهم لا تختلف كثيراً عن علاقة أية أقلية بالأغلبية التي تعيش بينها.

وقد يكون هناك بعض الأنماط المتكررة والسمات المشتركة التي تسم وجود كثير من الجماعات اليهودية. ولكن هـذه السمات ليست أساسية، وبالتالي فإن مقدرتها التفسيرية ضعيفة. وهذه السمات مرتبطة بعشرات التفاصيل والسمات الأخرى النابعة من البيئات المختلفة التي يوجد فيها أعضاء الجماعات اليهودية. وإذا كانت ثمة سمة أو سمات أسـاسـية متكررة في معظم الجماعات اليهودية، فهي اضطلاعهم بدور الجماعة الوظيفية وتَصاعُد الحلولية الكمونية داخل النسق الديني اليهودي. وهاتان السمتان ذاتهما تأخذان أشكالاً مختلفة. فهناك جماعة وظيفية قتالية استيطانية في جزيرة إلفنتاين في مصر الفرعونية، وهناك جماعة وظيفية استيطانية في قبرص العثمانية، وجماعة وظيفية وسيطة في أوربا حتى عصر النهضة. وهذه السمة بالذات ليست مقصورة على أعضاء الجماعات اليهودية وإنما هي سمة مشتركة تجمع بينها وبين أقليات أخرى (مثل الصينيين في جنوب شرق آسيا).

وفيما يتصل بتَصاعُد الحلولية الكمونية داخل النسق الديني اليهودي وهيمنتها عليه تماماً، حتى أصبحت اليهودية، في معظم أنحاء العالم، ديانة حلولية كمونية واحدية، فهذا بدوره ليس مقصوراً على اليهودية وإنما هو تعبير عن نمط أكثر عمقاً وكموناً، إذ يُلاحَظ أن العقيدة المسيحية أيضاً قد بدأت تهيمن عليها الحلولية الكمونية بعد حركة الإصلاح الديني. كما أن لاهوت موت الإله (وهو تعبير عن حلولية كمونية بدون إله) هو اتجاه ديني طالما ساد في المجتمعات العلمانية الغربية، وليس أمراً مقصوراً على اليهودية.