تدنيس خبز القربان المقدَّس
Desecration of the Host
«تدنيس خبز القربان المقدَّس» عبارة تعني اتهام اليهود بأنهم لم يندموا على قيامهم بصلب المسيح (عيسى بن مريم) بل ويدنسون خبز القربان (الذي يتحول إلى جسد المسيح في القداس المسيحي) فيدوسونه بأقدامهم ثم يضربونه بوخزه وطعنه حتى يجددوا عذاب المسيح. كما تعني اتهام اليهود بالحصول على هذا الخبز عن طريق سرقته. وقد شاع هذا الاتهام في أوائل القرن الثالث عشر بعد أن اعترف المجمع اللاتراني الرابع عام 1215 بمبدأ تحوُّل خبز القربان وخمره إلى جسد المسيح ودمه. والاتهام مضحك وسخيف، فهو يفترض أن اليهود يؤمنون بمبدأ تحوُّل خبز القربان، وهو أمر بطبيعة الحال مستحيل. ولكن من منظور عنصري، لا يُعَدُّ عدم الاتساق أمراً مهماً، بل إن عدم الاتساق ذاته قد يُوظَّف لتأكيد صورة اليهودي لا من حيث هو منكر للمسيح وإنما من حيث هو شخص يؤمن فعلاً بالمسيح بل ويرى بنفسه ألوهيته ولكنه، مع هذا، ينكره ويتمادى في تعذيبه بعد أن قام بصلبه.

وتهمة تدنيس خبز القربان، مثل تهمة الدم والتهم الأخرى التي تعبِّر عن معاداة اليهود، هي نتاج الوجدان الشعبي في لحظات إحباطه وحيرته. فالجماهير البائسة لم تكن تفهم مصدر بؤسها، فكانت تفسره على أساس أنه من صنع اليهود الأشرار أعداء المسيح، خصوصاً وأن هؤلاء الأشرار كانوا أيضاً يشتغلون بالتجارة والربا، كما كانوا قريبين من النخبة الحاكمة التي تستخدمها كأدوات لها.

تهمـة الــدم
Blood Libel
«تهمة الدم» هي اتهام اليهود بأنهم يقتلون صبياً مسيحياً في عيد الفصح سخرية واستهزاء من صلب المسيح. ونظراً لأن عيدي الفصح المسيحي واليهودي قريبان، فقد تطورت التهمة وأصبح الاعتقاد أن اليهود يستعملون دماء ضحيتهم في شعائرهم الدينية وفي أعيادهم، وبخاصة في عيد الفصح اليهودي، حيث أُشيع أن خبز الفطير غير المخمر (ماتزوت) الذي يُؤكل فيه يُعجَن بهـذه الدمـاء. وقد تطـورت الإشاعة، فكان يُقال إن اليهود يُصَفّون دم ضحاياهم لأسباب طبية أو لاستخدامه في علاج الجروح الناجمة عن عملية الختان، بل و لاستخدامه كمنشط جنسي.

وتمتد جذور تهمة الدم إلى عصر اليونان والرومان، أي إلى ما قبل العصور المسيحية، فقد أتى في كتابات كلٍّ من الكاتبين اليونانيين آبيون (السكندري) وديموقريطس إشارة إلى أن اليهود يقدمون ضحايا بشرية إلى آلهتهم. ولكن هذا الادعاء لم يصبح جزءاً من الصورة الإدراكية العامة في الوجدان الغربي لليهود، ولم تُوجَّه هذه التهمة إليهم بشكل متكرر إلا في العصور الوسطى.

وقد وُجِّهت أول تهمة دم لأعضاء الجماعات اليهودية في إنجلترا في القرن الثاني عشر، في وقت كانوا يمارسون فيه نشاطهم التجاري والمالي والربوي، وهو ما كان يعني أن هناك أفراداً كثيرين اقترضوا أمولاً من المرابي اليهودي ولم ينجحوا في تسديدها وأن ملكية بعض أراضيهم أو ربما منازلهم قد آلت إليه. ففي عام 1144، اتُهم أعضاء الجماعة اليهودية في نورويتش بأنهم ذبحوا طفلاً يُدعَى ويليام عمره أربعة أعوام ونصف في الجمعة الحزينة (وقد نُصِّب قديساً فيما بعد). كما ذكر أحد اليهود المتنصرين أن من المعتاد أن تقوم إحدى الجماعات اليهودية في إحدى مدن أوربا بذبح طفل مسيحي في يوم عيد الفصح المسيحي (إيستر) الذي يقع عادةً في التاريخ نفسه الذي يقع فيه عيد الفصح اليهودي (بيساح). ثم وُجِّهت تهم دم أخرى في مناطق مختلفة من إنجلترا بين عامي 1168 و1192. أما في فرنسا، فقد وُجِّهت التهمة إلى الجماعة اليهودية في بلوا عام 1171. كما وُجِّهت خمس عشرة مرة في القرن الثالث عشر، ومن بينها حالة هيو من بلدة لنكولن عام 1255 والتي يذكرها تشوسر في حكايات كانتربري. وقد استمر توجيه التهمة حتى منتصف القرن العشرين، ومن أشهرها حادثة دمشق عام 1840، وقضية بيليس عام 1911. وتُعَدُّ حادثة دمشق التي حدثت في العالم الإسلامي استثناءً، إذ أن الظاهرة تكاد تكون مقصورة على العالم المسيحي.

وكانت تهمة الدم تأخذ الشكل التالي: يختفي شخص مسيحي (في العادة طفل)، أو يوجد مقتولاً، فيتذكر أحد الأشخاص أن هذا الطفل أو الشخص شُوهد آخر مرة بجوار الحي اليهودي، أو أن هناك عيداً يهودياً (عادةً عيد الفصح) تتطلب شعائره دم نصراني، ومن ثم، كانت تُوجَّه لأعضاء الجماعة اليهودية تهمة قتله ويُقبَض على بعضهم، ويتم تعذيبهم ثم يُشنَق عدد منهم أحياناً.

ويُشير الصهاينة إلى تهمة الدم باعتبارها أكبر دليل على أن عالم الأغيـار يرفض اليهود ويفتك بهم، وبالتالي لابد أن يكون لهم وطن قومي. ولكننا لو وضعنا هذه الوقائع في سياقها التاريخي، فإنها ستكتسب دلالة جديدة وسيمكننا فهمها بشكل أعمق.

لقد ظهرت تهمة الدم بعد تحوُّل اليهود في العالم الغربي إلى جماعة وظيفية وسيطة تشتغل بالتجارة والربا. وكانوا يُشبَّهون آنذاك بالإسفنجة التي تمتص نقود الطبقات كافة، والطبقات الشعبية على وجه الخصوص، ثم يقوم الإمبراطور أو الأمير أو الحاكم باعتصارهم لحسابه بعد ذلك (وهو الأمر الذي لم تكن تدركه هذه الطبقات الشعبية بطبيعة الحال). ومن هنا، كانت الإشارة إلى اليهود (كجماعة وظيفية وسيطة لا كيهود) على أنهم مصاصو دماء، ولم يكن من الصعب على الوجـدان الشـعبي أن يسـقط في الحرفية ويحـوِّل المجاز إلى حقيقة واقعـة.

وكان توجيه تهمة الدم يعني، في واقع الأمر، شنق بعض اليهود من بينهم عدد كبير من المرابين، حيث كان الربا من أهم الوظائف التي اضطلع بها اليهود في التشكيل الحضاري الغربي. وكان هذا يعني، في كثير من الأحيان، إسقاط الديون، أي أن توجيه تهمة الدم يشبه، من بعض الوجوه، التخطيط لسرقة بنك من البنوك على يد عصابة شعبية، وكان شنق اليهود بمثابة النجاح في هذه العملية، وهي عملية تشبه أيضاً عمليات روبين هود الذي كان يسرق من الأثرياء ليعطي الفقراء، وهو ما جعل جرائمه تحظى بشعبية كبيرة، بل وكانت الجماهير تحيطه بحمايتها.

وكانت الخزانة الملكية ذاتها تستفيد أحياناً من تهمة الدم حيث ترث ديون المرابي الذي يُشنَق أو يُطرَد، كما أن النخبة الحاكمة كانت تنتهز مثل هذه الفرصة لتعرض على اليهود تجديد المواثيق الممنوحة لهم والتي تتضمن حمايتهم وتكفل لهم المزايا نظير مبالغ جديدة يدفعونها.

ويبدو أن تهمة الدم صورة نمطية تتكرر في الوجدان الشعبي حينما يدرك «الآخر»، وهي عادةً اتهام يستخدمه فريق ضد أعدائه ليسقط عنهم إنسانيتهم. فقد اتُهم الغجر بأنهم يخطفون الأطفال ويمصون دمهم. كما وجَّه اليهود التهمة نفسها إلى المسيحيين الأوائل (حسبما جاء في كتابات أوريجين). وجاء في أحد كتب المدراش أن فرعون مصر حاول أن يحصل على الشفاء من البرص بذبح مائة وخمسين طفلاً يهودياً كل صباح وكل ظهر ليستحم في دمهم. كما أن بعض كتب الهاجاداه محلاة بصور لتهمة الدم الموجهة إلى فرعون مصر. وقد وُجِّهت التهمة كذلك إلى الغنوصيين من قبَل المسيحيين، وإلى إحدى الفرق الدينية الإيطالية عام 1466 من قبل الجماهير. واتُهِم المبشرون المسيحيون في الصين عام 1870 بأنهم يسرقون الأطفال الصينيين ليصنعوا من دمهم دواء سحرياً. واتُهم الأجانب في مدغشقر عام 1891 بابتلاع قلوب بعض السكان المحليين. أما الرهبان الدومينكان، فقد اتهمهم خصومهم من الرهبان الفرنسيسكان باستخدام دم وحواجب طفل يهودي في بعض شعائرهم السرية! ومعنى هذا كله أن تهمة الدم لم تكن مقصورة على اليهود. وإذا كان مرابون آخرون، مثل اللومبارد والكوهارسين (وهم مسيحيون)، لم تُوجَّه إليهم (بحسب علمنا) تهمة الدم، فقد وُجِّهت إليهم تهم أخرى لا تقل عنها سوءاً، كما أنهم كانوا أيضاً عرضة للطرد والمصادرة والشنق.

وساعد تكرار تصوير الدم والقتل في العهد القديم على إلصاق التهمة باليهود دون المرابين المسيحيين. كما أن شعائر اليهود الدينية، وخصوصاً شعائر عيد الفصح، كانت تثير الريبة في نفوس أعضاء الأغلبية، الأمر الذي كان يجعلهم يبحثون عن تفسير لها. هذا، مع العلم بأن قوانين الطعام اليهودية تمنع شرب الدم كما تمنع أكل اللحم قبل تصفية الدم منه. ويبدو أن ممارسة الختان والذبح الشرعي غذيا هذه الأوهام، حتى سُمِّي اليهود «أهل السكين».

ولم يكن اليهود يقفون في مجابهة مع كل الأغيار كما يدَّعي الصهاينة، فقد كانت النخبة الحاكمة ######### والإمبراطور والملوك) تدافع عن أعضاء الجماعة ضد هذه التهم التي كان يوجهها إليهم عامة الشعب. فبيَّن البابا إنوسنت الرابع، في مرسوم صدر عام 1245، أن التهمة باطلة وحرم على المسيحيين توجيهها إلى اليهود. ودافع البابا جريجوري العاشر، في مرسوم صدر عام 1274، عن اليهود، كما فعل بابوات آخرون الشيء نفسه. وفي عام 1758، أصدر الكاردينال لورنز جانجانلي (البابا كليمنت الرابع عشر فيما بعد) مذكرة يدين فيها تهمة الدم. وقد أصدر التحريم نفسه الإمبراطور الألماني فريدريك الثاني (1194 ـ 1250)، وإمبراطور النمسا رودولف من أسرة الهابسبرج عام 1275. وحاول الكثير من المسيحيين والعلماء تفنيد التهمة وإقناع الناس ببطلانها، ولكنهم فشلوا في مسعاهم واستمرت تهمة الدم مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بصورة اليهودي حتى عهد قريب.

أما في حادثة دمشق، فقد كانت تهمة الدم مرتبطة بالصراع بين الاستعمارين الإنجليزي والفرنسي اللذين كانا يتنافسان على مد نفوذهما عن طريق حماية أعضاء الأقليات الدينية. فكان الفرنسيون يحمون الكاثوليك والمارونيين الذين وجهوا تهمة الدم. أما الإنجليز، فإنهم نظراً لعدم وجود مسيحيين بروتستانت بأعداد كبيرة في العالم العربي كانوا يقومون بحماية اليهود! خصوصاً وأن روسيا، وهي بلدهم الأصلي، لم تكن مهتمة بهم كثيراً بسبب وجود المسيحيين الأرثوذكس، كما أن روسيا لم يكن لها أطماع في الشرق الأوسط إذ أن مشروعها الاستعماري كان موجَّهاً إلى مناطق أخرى. وقد أصدر السلطان العثماني فرماناً جرَّم فيه تهمة الدم.