وبذلت حكومة ألمانيا قصارى جهدها لإصلاح هذا الوضع. وبالفعل، تم تحديد ديون ألمانيا وطريقة دفعها، وبدأت قوات الحلفاء في الانسحاب مع أوائل الثلاثينيات، ثم عقدت الجمهورية بعض القروض لاستثمارها في الاقتصاد الألماني حتى ظهرت بعض علامات التحسن والاستقرار. ولكن هـذا الاسـتقرار كان يعتمـد بالدرجـة الأولى على القروض الخارجية، ومن ثم، أدَّت أزمة الرأسمالية العالمية عام 1929 وانهيار البورصة في نيويورك إلى انهيار الوضع في ألمانيا، فوصل عدد العاطلين فيها عن العمل إلى ما يزيد على ستة ملايين (أي نحو ثلث مجموع القوى العاملة في الفترة 1930 ـ 1932)، وانخفض الدخل بنسبة 43%، وفقدت الطبقة الوسطى ما تبقى لديها من مدخرات.

هذا هو السياق الاجتماعي والسياسي العام الذي أدَّى إلى احتدام التناقضات والثورات داخل المجتمع الألماني والذي أدَّى في نهاية الأمر إلى تَفجُّر الوضع الداخلي وظهور الأفكار الشمولية الاستبعادية وإلى ظهور إمبريالية تتجه نحو « الداخل» الأوربي بعد أن حُرمت من "الخارج" الآسيوي والإفريقي " العالمي". فقد اتجه المشروع الاستعماري الألماني بكل قوته، حينما استعادها، نحو الداخل، أي نحو الشعوب السلافية المجاورة والأقليات المختلفة مثل الغجر واليهود، حيث اعتبر المناطق التي تعيش فيها مجاله الحيوي، الذي لابد من تفريغه من تلك العناصر التي لا تنتمي إلى الفولك والتي تعوق تحقيقه لمصلحته وأهدافه.

السـياق السـياسي والاجتماعي الألمانـي اليهـودي للإبادة
Jewish-German Political and Social Con#### of the Extermination
ولكن إلى جانب هذه الظروف الألمانية العامة، كانت هناك ظروف خاصة بأعضاء الجماعة اليهودية في ألمانيا ساهمت في تحويل الموقف المتفجر إلى وضع مدمر بالنسبة لهم ولغيرهم من الأقليات، وهو ما سنتناوله في هذا الجزء.

لم يكن للجماعة اليهودية في ألمانيا وزن عددي يذكر. فمن الناحية الكمية المحضة، لم يكن أعضاؤها يُشكلون أي تحدٍّ خاص للأغلبية الألمانية الساحقة كما يبيِّن الجدول التالي:


السنة / عدد اليهود / النسبة الى عدد السكان

1871 / 512150 / 1.22%

1880 /512612 / 1.24%

1890 /567884 / 1.15%

1900 /586833 / 1.04%

1910 /615.021 / 0.95%

ويُلاحَظ من الجدول السابق أن الجماعة اليهودية لم تكن آخذة في التزايد برغم الانفجار السكاني في أوربا في القرن التاسع عشر (زاد عدد يهود شرق أوربا بين عامي 1800 و1935 بنحو ستة أضعاف). كما أن نسبة يهود ألمانيا إلى عدد السكان كانت آخذة في التناقص، وقد تزايد هذا الاتجاه عام 1910 بسبب التنصُّر والزواج المختلط الذي بلغت نسبته بين عامي 1921 و1927 نحو 44.5% من جملة الزيجات اليهودية.

ولذا، لم تكن المسألة اليهودية في ألمانيا كامنة في الكم كما كان الوضع (إلى حدٍّ ما) في شرق أوربا، وإنما في الكيف، وعلى وجه التحديد في الوضع الوظيفي المتميِّز لأعضاء الجماعة اليهودية الذي تأثر تأثراً عميقاً بعملية التحديث في ألمانيا. فقد كان أعضاء الجماعة، حتى نهاية القرن الثامن عشر، يعيشون أساساً في الريف والمدن الصغيرة. ولكن، مع بدايات القرن التاسع عشر وظهور الاقتصاد الجديد، هاجرت أعداد هائلة منهم إلى المدن الكبرى. ومع نهاية القرن، كانت أغلبيتهم تقيم في المدن الكبرى مثل براسـلاو وليبزج وكولونيا، بالإضـافة إلى هامبـورج وفرانكفورت، وكانت برلين تضم ثُلث يهود ألمانيا.

وأدَّى تركز يهود ألمانيا في المدن إلى وضوح تمايزهم الوظيفي والمهني، وهي ظاهرة موغلة في القدم في دول وسط أوربا، وخصوصاً في ألمانيا. فلقد كان أعضاء الجماعة اليهودية في الإمارات الألمانية يُشكِّلون، في العصور الوسطى، جماعة وظيفية وسيطة تضطلع بدور التاجر والصيرفي والمرابي، ثم تم طردهم من عدة مدن وإمارات ألمانية، فهاجروا منها إلى مدن وإمارات ألمانية أخرى. ولكن، مع حلول القرن السادس عشر، سُمح لليهود بالاستقرار في كثير من المدن والإمارات التي كانوا قد طُردوا منها، وتم استقدامهم كعنصر تجاري نشط لديه رأس المال اللازم والاتصالات الدولية. وكان يهـود المارانـو (الذين طُردوا من شبه جزيرة أيبريا) من أهم هذه العناصر. وعادةً ما كان يتم استقدام اليهود، سواء في العصور الوسطى أو في القرن السادس عشر، بأمر من الإمبراطور أو الأمير أو النخبة الحاكمة، فكان أعضاء الجماعات اليهودية يتبعون النخبة الحاكمة (أو أحد أعضائها) بشكل مباشر ويُشكِّلون مصدر دخل كبير لها، وكان الممولون اليهود يقومون باعتصار الجماهير من خلال الفوائد الضخمة التي يُحصِّلونها على قروضهم. ولكن النخبة الحاكمة كانت تستولي على نسبة ضخمة من الأرباح في نهاية الأمر عن طريق الضرائب التي تفرضها على أعضاء الجماعات اليهودية. وفي القرن السادس عشر ظهرت مهنة يهودي البلاط الذي يدير الخزانة الملكية ويعقد الصفقات والقروض بالنيابة عن الأمراء ويمول الحروب ويدير الاتصالات التجارية اللازمة، أي أن أعضاء الجماعة اليهودية في ألمانيا كانوا مرتبطين بالحاكم ملتصقين به ومتميِّزين طبقياً ومهنياً عن بقية أفراد الشعب، وهو وضع ازداد تبلوراً في القرن التاسع عشر، كما يبيِّن الجدول التالي الخاص بتوزيع أعضاء الجماعة اليهودية في المهن والحرف المختلفة:


المهنة أو الحرفة / 1895 / 1903

الزراعة / 1.4% / 1.3%

الصناعة / 19.3% / 22.03%

التجارة والنقل / 56.0% / 50.6%

عمال أجراء / 0.4% / 0.6%

مهن حرة / 6.1% / 6.5%

أعمال حرة / 16.7% / 19.0%


وكان وجود بعض أعضاء الجماعة اليهودية كوسطاء أمراً واضحاً جداً، فقد تركزوا في صناعة الأثاث والملابس الجاهزة وارتبطوا بالصيرفة والمحال التجارية، الأمر الذي حولهم إلى شخصيات مكروهة من الطبقة الوسطى، خصوصاً في ظروف الأزمة. واتضح كذلك وجود اليهود في مهنة الإقراض وتحصيل ريع الملكيات الزراعية (بالنيابة عن أصحاب الأمـلاك)، كما عملـوا تجار مواش، الأمر الذي جعلهم مكروهين من الفلاحين. وقبل الحرب العالمية الثانية، كان عدد يهود ألمانيا لا يزيد على 1% وكان يهود برلين يُشكِّلون 5% من سكانها، ومع هذا كانوا يُشكِّلون النسب التالية في بعض القطاعات الاقتصادية في برلين:


النسبة / القطاع الاقتصادي

70% / من مجموع أصحاب الحوانيت

30% / من مجموع تجار الملابس

25% / في تجارة الأثاث

17% / من مجموع العاملين في المصارف

10% / من الأطباء

16% / من المحامين


ومن الإحصاءات الأخرى ذات الدلالة أن يهود برلين الذين كانوا يشكلون ـ كما أسلفنا ـ 5% من سكانها كانوا يدفعون 30% من جملة الضرائب، وكان يهود فرانكفورت الذين يشكلون 7% من سكانها يدفعون 28% من ضرائبها، كما بلغت نسبة أصحاب الأعمال ومديري البنوك من اليهود في برلين 55.15% في عام 1882، ثم هبطت إلى 32.6% في عام 1925 (وهي أيضاً نسبة عالية). وتقول الموسوعة اليهودية العالمية إن الهبوط في النسبة المئوية لم يصاحبه هبوط في النفوذ، إذ كان اليهود، في بعـض السـنوات، يُديرون أهـم ثلاثة بنوك تتحكم في 60% من نسبة الإقراض في بعض السنوات، وكانوا يديرون نحو ثلاثة أرباع القروض الأجنبية التي مُنحت لألمانيا من عام 1924 إلى عام 1929. كما سيطر اليهود على 57.32% من صناعة المعادن في عام 1930. وهكذا، ارتبط اليهود في العقل الألماني بالمشروع الحر والمضاربات والسياسات الليبرالية. ومن جهة أخرى، كان والتر راتناو (وزير التعمير ثم وزير الخزانة في حكومة وايمار) يهودياً، كما كان واضـع دسـتور هـذه الجمـهورية (التي استمرت فترة قصيرة) يهودياً أيضاً.

وكانت هذه الجمهورية ترمز في العقل الألماني لليبرالية المتخاذلة المتهالكة أمام هجوم أعداء ألمانيا. ومن قبيل المفارقات أن أعضاء الجماعة اليهودية ارتبطوا بالمثل الليبرالية في وقت كان فيه المجتمع الألماني (ككل) يتخلى، بعد تَعثُّر التحديث، عن هذه المُثٌل ليبحث عن طرق أخرى شمولية لحل مشاكله. ولعل في هذا الارتباط الوثيق بين الرأسمالية الألمانية ويهود ألمانيا ما يُفسِّر النقد الاشتراكي الثوري العنيف لليهود باعتبارهم ممثلين للرأسمالية، ولليهودية باعتبارها دين الاقتصاد الجديد. ولعل هذا يُفسِّر أيضاً السبب في أن ماركس يَقرن اليهودية بروح التجـارة ويُوحِّد بينهما، ويرى أن إله إسرائيل الطماع هو المال. وهذا التراث الاشتراكي في نقد الشخصية اليهودية نابع من تربة ألمانية أساساً، حيث كان اليهود ممثلين بشكل واضح في الطبقات الرأسمالية. ولا ينطبق هذا، بأية حال، على شرق أوربا حيث تحوَّلت البورجوازية الصغيرة والجماعات اليهودية إلى بروليتاريا تعاني من ويلات الفقر.

وبرغم هذا الربط بين الجماعات اليهودية والرأسمالية في ألمانيا، فقد انضم عدد كبير من المثقفين اليهود إلى الحركات الثورية فيها، وكان ارتباطهم بها على المستوى الفردي واضحاً وضوح الارتباط الجماعي لليهود بالرأسمالية. فكان رئيس حكومة بافاريا الثورية (البلشفية) يهودياً، وكان كثير من قيادات الحركة الثورية المتطرفة (مثل روزا لوكسمبرج) من اليهود، وكان هناك شبح ماركس يرفرف على الجميع. ثم اتضح عام 1917 الوجود اليهودي الملحوظ في الثورة البلشفية (التي كان يُطلَق عليها في بعض الأوساط «الثورة اليهودية»).

وهكذا، ارتبط اليهودي بالصناعة والاستغلال والمشروع الحر، وكذلك بالثورة الاشتراكية المتطرفة والحركات الثورية، أي أن اليهودي أصبح رمزاً جيـداً لهذا المجتمـع الحديث (جيسيلشافت) المبني على التعاقد والتنافـس، والذي قوض دعائم المجتمع الألماني المترابط (جماينشافت)، وأصبح بؤرة تتجمع فيها مخاوف الطبقة الوسطى التي كانت آخذة في التدهور الاجتماعي والطبقي بسبب التضخم والبطالة. بل أصبح رمزاً لكل تلك القوى، من اليمين واليسار، التي أودت بألمانيا وفرضت عليها أن تذعن للحلفاء.

وحينما استأنفت ألمانيا عملية التحديث بعد الحرب، تمت هذه العملية بقروض أجنبية وتحت رعاية الدولة، أي أن النمط الاقتصادي السائد في ألمانيـا لم يكن فيه مجـال للرأسـمال الحـر تماماً ولا للنمط الاشتراكي الجمعي. وارتطمت الدولة النازية بكل من الرأسمال الحر الذي ارتبط به اليهود واليسار المتطرف الذي وُجد فيه اليهود بشكل ملحوظ.

وساهمت العوامل السابقة جميعاً، بشكلٍّ أو بآخر، في عزل أعضـاء الجماعة اليهوديـة عن بقية التشـكيل السياسي الحضاري الألماني. ولكن العنصرين التاليين كانا حاسمين في فصلهما عن سواد الشعب الألماني، وفي تهميشهما تماماً. والعنصران هما:

1ـ العلاقة الخاصة بين أعضاء الجماعة اليهودية والمشروع الاستعماري الألماني:

تعود العلاقة الخاصة بين أعضاء الجماعة اليهودية والمشروع الاستعماري الألماني إلى منتصف القرن التاسع عشر، وتُعتبَر امتداداً لظاهرة يهود البلاط ولارتباط أعضاء الجماعة بالحاكم. (تُعَدُّ عائلة روتشـيلد مثلاً جيـداً على ذلك، حيث كانت آخر أسرة من أسر يهود البلاط وهي أيضاً أول أسرة يهودية ثرية تتولى مشاريع الاستيطان الصهيوني).

والجدير بالذكر أن وضع اليهود تحسن كثيراً في منتصف القرن التاسع عشر مع توحيد ألمانيا، فقد كان ثلاثة من أهم مستشاري بسمارك من اليهود. ويُقال إن اليهودي المتنصِّر فريدريك ستاهل هو مُنظِّر الدعوة إلى العسكرية البروسية. والواقع أن بسمارك كان يفكر، حسب تقاليد النخبة الحاكمة الألمانية، في استخدام اليهود دائماً في مشاريعه. ويظهر ذلك الاتجاه بشكل أوضح في تفكير إمبراطور ألمانيا (ويلهلم الثاني) الذي كان يرى إمكان استخدام اليهود في مشروعه الاستعماري، كما كان واعياً بالقدرات المالية لليهود وحجم اتصالاتهم الدولية. وكانت مفاوضات هرتزل، مع إمبراطور ألمانيا، تدور داخل هذا الإطار وتنطلق من هذا التفاهم الضمني. وفي الوقت نفسه، كانت المنظمة الصهيونية في ألمانيا لا تكف عن الحديث عن نفع اليهود وإمكان استخدامهم في المشاريع الاستعمارية الألمانية، وتوطينهم في فلسطين أو في غيرها تحت راية الاستعمار الألماني. وقامت جمعية الغوث الألمانية اليهودية بالمساهمة في النشاط الاستطاني الصهيوني باسم الاستعمار الألماني، كما كان يُنظَر إلى العنصر اليهودي من شرق أوربا (المتحدث باليديشية) باعتباره عنصراً ألمانياً، يمكن تسخيره في صالح المشروع الألماني الاستيطاني.

وكما هو معروف، صدر وعد بلفور الذي ينطوي، بشكل ضمني، على إمكان تحويل اليهود إلى عناصر تدين بالولاء للاستعمار الإنجليزي. ورغم هذا، استمرت رئاسة المنظمة الصهيونية الموجودة آنذاك في ألمانيا في التقرب إلى النظام الحاكم، واستمرت في بذل المحاولات لاستصدار وعد بلفوري ألماني. ولكن هذه الجهود لم تُثمر، بسبب علاقة ألمانيا الخاصة بالدولة العثمانية ورفض الخليفة العثماني الموافقة على المشـروع الصهيـوني حتى ولـو تم في إطار المشروع الاستعماري الألماني. ومع هذا، أصدرت الحكومة الألمانية (بعد صدور وعد بلفور) تصريحاً مبهماً يشبه وعد بلفور من بعض الوجوه، تَعد فيه بمساعدة المشروع الصهـيوني عـلى أمل أن تجند يهود العالم لصالحها وتكسبهم إلى صفها. وقد جاء هذا التصريح متأخراً، ولم يؤد في النهاية إلى شيء يُذكر. ولكن ما يهمنا في هذا السياق هو أن التعامل مع اليهود (باعتبارهم جزءاً من المشروع الاستعماري الألماني) يُعتبَر (في جوهره) تهميشاً لهم من منظور المشروع القومي الألماني، فهو يعطيهم حقوقاً للاستيطان في فلسـطين، كما يمنحـهم الحـق في التمـتع برعاية الحكومـة الألمانيـة « خارج » ألمانيـا، الأمر الذي يعني ضمناً إنـكار حقـوقهم « داخلها ». فقد كان الاستعمار الاستيطاني هو الإطار الذي يتم من خلاله تصدير الفائض البشري غير المرغوب فيه إلى الشرق. ولكن القيادة الصهيونية، بقبولها هذا الإطار، رضيت بالتعريف الضمني الكامن لليهود كعنصر غريب غير منتم يجب أن يتم تصديره عن طريق التهجير. وهذا، على كل حال، هو التعريف الصهيوني (الواضح) لليهود.

2 ـ تهميش اليهود من خلال هجرة يهود شرق أوربا:

تسبَّبت الهجرة الكثيفة ليهود اليديشية في أعقاب تعثُّر التحديث في شرق أوربا في تهميش اليهود وفصلهم عن التشكيل القومي الألماني العضوي. ومن الجدير بالذكر أن الهجرة اليهودية الحديثة اتسمت بأنها هجرة داخلية في أوربا (أي من بلد أوربي إلى آخر) حتى عام 1880. ولم تبدأ الهجرة عبر الأطلنطي بشكل مكثف إلا بعد ذلك التاريخ. وقد هاجر، في المرحلة الأولى بصفة خاصة، مئات الألوف، ووصلت أعداد كبيرة منهم إلى إنجلترا وتسببوا في استصدار وعد بلفور لتحويل سيل الهجرة عنها، كما وصلت أعداد لا بأس بها إلى ألمانيا.

ومما زاد الأمور سوءاً أن ألمانيا قامت، في نهاية القرن الثامن عشر، بضم بولندا التي كانت تضم يهوداً من المتحدثين باليديشية (أوست يودين، أي يهود شرق أوربا)، وهو ما كان يعني أن يهاجر هؤلاء إلى المدن الألمانية الكبرى. وبالفعل، انتقل معظم يهود بوزنان إلى ألمانيا، وكذا أعداد كبيرة من يهود جاليشيا. ولا شك في أن ظهور هذه الكتلة الضخمة من يهود شرق أوربا ذوي الطابع الجيتوي المنغلق، والذين لا يوجد لديهم (كغرباء مُقتَلعين) التزام قوي بالمعايير الأخلاقية المحلية أو بالقيم الغربية، كما يفتقرون إلى الكفاءات المطلوبة في التعامل مع أوربا الحديثة والاقتصاد الجديد، كان يمثل تهديداً للموقع الطبقي لليهود ولمكانتهم الاجتماعية. وقد شهدت سنوات العشرينيات من هذا القرن هجرة يهودية ضخمة من بولندا بسبب الأزمة الاقتصادية. وقد أشـرنا من قبل إلى النسبة المرتفعة من الزيجات المُختلَطة بين يهود ألمانيا، ويمكن أن نضيف هنا أننا نعتقد أن النسبة كانت عالية للغاية بين اليهود من أصل ألماني، ولكن الإحصاءات لا تذكر سوى المتوسط العام دون أن تُفرِّق بين يهود شرق أوربا المقيمين في ألمانيا واليهود من أصل ألماني. وبوجه عام كان يهود ألمانيا يختفون، بينما كان يهود الشرق يحلون محلهم، أي أن الطابع العام للجماعة اليهودية كان آخذاً في التغير وفي اكتساب طابع غير ألماني (كانت نسبة اليهود الأجانب بين يهود ألمانيا هي 2.7 % عام 1880، ارتفعت إلى 12.8% عام 1910، ولا شك أنها استمرت في التزايد بعد هذا التاريخ).

وتحوَّلت ألمانيا، بعد الحرب العالمية الأولى، إلى مركز للثقافة العبرية نتيجـةً لهرب عديد من الكتاب اليهود من روسـيا، فتم تأسـيس دار نشر عبرية، كما أسست الحركة الصهيونية كثيراً من المدارس لتعليم العبرية. (وهو اتجاه أيده النازيون فيما بعد ودعموه لأنهم كانوا يرون ضرورة عبرنة اليهود باعتبارهم شعباً عضوياً مستقلاً عن الشعب العضوي الألماني. ولنا أن نلاحظ أن الدولة النازية سبقت الدولة الصهيونية في تبنِّي كثير من مشارع العبرنة). وكان من شأن هذا كله أن أصبح العنصر اليهودي مرة أخرى عنصراً عضوياً متماسكاً غريباً يقف خارج المجتمع أو على هامشه. ولذا، كان أحد المطالب الأساسية لأعداء اليهود وقف الهجرة من شرق أوربا لأنها تأتي بالغرباء. وكانت حقوق اليهود الأجانب مثار نقاش حتى في عهد جمهورية وايمار الليبرالي، ولهذا نجد بعض الألمان، ممن لا يمكن اتهامهم بمعادة اليهود، يطالبون بعدم السماح ليهود الشرق بامتلاك عقارات باعتبارهم أجانب لا باعتبارهم يهوداً.

بل لقد طُرحت القضية نفسها داخل المنظمات اليهودية ذاتها: هل يُمنح اليهود الأجانب، الذين كانوا يشكلون أحياناً الأغلبية في بعض المجتمعات، حق التصويت في الانتخابات؟ وبالفعل، قرر كثير من هذه التجمعات السماح ليهود الشرق بالانضمام إليها بدون ممارسة حق التصويت. ولعل تأسيس جمعية الغوث كان يهدف إلى إبعاد يهود الشرق عن ألمانيا حتى لا يتأثر وضع اليهود داخلها، كما هو الحال مع جمعيات الغوث الأخرى (التوطينية) التي أنشأها أثرياء اليهود في الغرب (أمثال هيرش وروتشيلد).

وظهرت في هذه المرحلة جمعيات يهودية، مثل: التنظيم المركزي للمواطنين الألمان من أتباع العقيدة اليهودية (وهي جمعية يهودية تدعو إلى الاندماج)، وجمعية غوث يهود ألمانيا (وهي جمعية خيرية قامت بنشاط استيطاني في فلسطين كما أشرنا)، وغير ذلك من جمعيات دينية وثقافية. وتم تأسيس اتحاد عام لهذه الجمعيات في أواخر العشرينيات. ولكن الأمر الذي يجدر ذكره، من وجهة نظر هذه الدراسة، هو تأسيس فرع للمنظمة الصهيونية في ألمانيا (بل أصبح المقر الرئيسي داخل ألمانيا منذ عام 1904). وترأس فرع ألمانيا رجل ألماني متزوج من يهودية من شرق أوربا (كورت بلومنفلد) طرح شعارات قومية عضوية كانت تسبب الكثير من الحرج لأعضاء الجماعة الذين كانوا يحاولون الاندماج. وتُوِّجت جهوده باستصدار قرار بوزنان الصهيوني عام 1912 الذي جعل من الهجرة إلى فلسطين هدفاً أساسياً لكل يهودي. وظل الصهاينة، ومعظمهم من أصل شرق أوربي، يتقبلون مختلف المنطلقات القومية العضوية. فدافع مارتن بوبر عن علاقـة التربة بالدم، كما دافـع عن أن اليهود شـعب آسـيوي أساساً. وتحدث ناحوم جولدمان عن اليهود كعنصر هدام في كل المجتمعات لأنهم غرباء، وتحدث جيكوب كلاتسكين عن ازدواج الولاء عند اليهود، وتحدث حاييم وايزمان عن اليهود باعتبارهم عنصراً فائضاً يقف في حلق الأمة الألمانية، وهي شعارات تعود كلها لتيودور هرتزل وماكس نوردو اللذين وضعا أساس الصهيونية الألمانية. وأشاعت هذه الدعاية صورة سلبية للغاية عن أعضاء الجماعة اليهودية وعن عدم إمكان دمجهم في الشعب العضوي الألماني. وفي هذا المناخ، ظهر هتلر وظهرت النازية. وأثناء محاكمات نورمبرج، أصر الزعماء النازيون، الواحد تلو الآخر، على أنهم تعلمـوا ما تعلمـوه عن المسألة اليهودية من أدبيات الصهاينة.

ورغم هذا الجو الهستيري الصهيوني النازي، ظلت الجماعة اليهودية رافضة للمنطق الصهيوني واستمرت في مقاومة المنطق النازي. ومع وصول هتلر للحكم، استولى الصهاينة على قيادة الجماعة اليهودية وطرحوا برنامجاً عام 1933 لإعادة صياغة الجماعة اليهودية في ألمانيا وتعليم اليهود ما يتفق مع التقاليد الصهيونية، وذلك عن طريق مزج القومية بالدين بهدف تهجيرهم خارج ألمانيا.

وقد وَصفت جمعية التنظيم المركزي للمواطنين الألمان هذا الموقف من قبل الصهاينة بأنه طعنة في الخلف. أما النازيون، فوافقوا على الطرح الصهيوني للقضية وقدَّموا التأييد والدعم للأنشطة والمؤسسات الصهيونية.

وكانت كل هذه الأسباب النابعة من الملابسات التاريخية والسياسية والحضارية العامة (أي المرتبطة بالمجتمع الألماني ككل)، والخاصة (أي المرتبطة بالجماعة اليهودية على وجه التحديد)، هي التي أدَّت إلى ارتطامهم بالنظام النازي وإلى إبادة أعداد كبيرة منهم (بالمعنيين العام والخاص اللذين نطرحهما، أي الإبادة من خلال التجويع والسخرة والتهجير والإبادة من خلال التصفية الجسدية).