اختفاء وموت الشعب اليهودي بعد الحرب العالمية الأولى
Disappearance and Death of the Jewish People after the First World War
يروج المدافعون عن الرؤية الصهيونية للإبادة النازية لرقم ستة ملايين، كجزء من عملية الأيقنة وتحويل الإبادة إلى لغز من الألغاز وسر من الأسرار المقدَّسة. وقد أهمل هؤلاء تماماً بعض العناصر التي أدَّت إلى اختفاء اليهود من خلال عناصر طبيعية مختلفة سنتناولها في هذا القسم.

فمن المعروف أن الفترة ما بين عامي 1967 و 1982 شهدت تَناقُص عدد يهود العالم مليوناً، فانخفض من 13.837.500 إلى 12.988.600، دون حدوث إبادة بل دون حالة حرب أو أوبئة. وقد تناقص عددهم لمركب من الأسباب أدَّى إلى ما يُسمَّى «موت الشعب اليهودي». ومن الواضح أن يهود أوربا، أي أغلبية يهود العالم آنذاك، بدأوا يدخلون في مرحلة التناقص ابتداءً من القرن العشرين، للأسباب التالية:

1 ـ أسباب تؤدي إلى العزوف عن الإنجاب وإلى تناقص الخصوبة ومعدلات التكاثر:

أ ) أدَّت الهجرة اليهودية الكبرى في نهاية القرن التاسع عشر إلى انتقال أعداد كبيرة من اليهود إلى الولايات المتحدة الأمريكية. ويُقال إن هجرة اليهود قضت تقريباً على اليهود في المرحلة العمرية من عشرين إلى أربعين عاماً، وهي مرحلة الخصوبة التي تجعل بإمكان الجماعة أن تُعيد إنتاج نفسها.

ب) كان أعضاء الجماعات اليهودية في الغرب يضطلعون بدور الجماعة الوظيفية الوسيطة، أي بأعمال التجارة والمال. وكانوا، لهذا، مركزين إما في المدن أو المناطق شبه الحضرية. ومع منتصف القرن التاسع عشر، تصاعد هذا الاتجاه وتزايد تركزهم في المدن بحيث أصبحت أغلبيتهم الساحقة تسكن في المدن عشية الحرب العالمية الثانية، فقد كان ثلث يهود روسيا يوجدون في خمس مدن وبقيتهم تعيش في مدن صغيرة. وكان أربعة وثمانون في المائة من يهود الولايات المتحدة يعيشون في ثماني عشرة مدينة كبيرة ونصفهم في نيويورك. كما كان معظم يهود النمسا في فيينا، ومعظم يهود فرنسا في باريس، وهكذا. ومن المعروف أن سكان المدن من أقل القطاعات البشرية خصوبة.

جـ) كان اليهود، حتى عشية الحرب العالمية الثانية، جماعة بشرية مهاجرة، ومن المعروف أن أعضاء مثل هذه الجماعات يعزفون عن الإنجاب لعدم استقرارهم.

د ) كانت هناك عناصر أخرى أدَّت إلى عزوف اليهود عن الإنجاب، من بينها تحسن مستواهم المعيشي، والقلق الذي كان يعيشه أعضاء الجماعات اليهودية في الفترة بين الحربين وإبَّان الحرب العالمية الثانية، وكذلك تزايد معـدلات العلـمنة وبالتالي زيادة التوجه نحو اللذة وتحقيق الذات، الأمر الذي يقوض من الرغبة في إنجاب الأطفال.

وبالفعل، يُلاحَظ تناقص أعداد اليهود وضمنهم يهود اليديشية. فبعد أن كانوا يتمتعون بأعلى نسبة خصوبة وتَكاثُر بين شعوب الإمبراطورية القيصرية في منتصف القرن التاسع عشر، انخفضت النسبة إلى أقل النسب على الإطلاق في عام 1926. فبعد أن كانت 35.9 في الألف، انخفضت إلى 24.8 في الألف. وفي بولندا، انخفضت النسبة من 28.6 في الألف عام 1900 إلى 12.3 في الألف عام 1925 في وارسو، وإلى 11.6 في الألف في لودز عام 1925. أما يهود المجر، فقد انخفضت النسبة بينهم من 33.91 في الألف في بداية القرن الحالي إلى 10.5 في الألف، أي أنها انخفضت نحو 23.4 في الألف. وكانت نسبة المواليد في بروسيا (ألمانيا) 5.2 في الألف عام 1935 و2 في الألف في لندن عام 1932. وقد حدا هذا الوضع بالكُتَّاب اليهود إلى التحذير من أن يهود أوربا قد يختفون تماماً لأن معدلات المواليد لا تعوض الوفيات. وعلى مستوى العالم، كانت النسبة 5.53 في الألف في الفترة 1822 ـ 1840، انخفضت إلى 19.7 في الألف في الفترة 1898 ـ 1902، ثم إلى 9.1 في الألف عام 1929. كما أنها انخفضت إلى ما دون ذلك لمدة عشرين عاماً (1929 ـ 1949). وكان معدل نسبة المواليد في الفترة 1906 ـ 1910 هو 32 في الألف، ونسبة الوفيات 15 في الألف، والزيادة الطبيعية هي 17 في الألف. ثم انخفضت إلى نحو النصف في نحو خمسة وعشرين عاماً، ففي الفترة 1926 ـ 1930 كانت نسبة المواليد هي 21 في الألف والوفيات 12 في الألف، والزيادة الطبيعية 9 في الألف (انخفضت إلى 8 في الألف عام 1932). ولا توجد إحصاءات عن الفترة 1935 ـ 1949 لأنها كانت فترة الحرب، كما أنها أصبحت موضوعاً يحجم كثير من الباحثين عن الخوض فيه.

2 ـ عوامل تؤدي إلى الاختفاء:

أ ) ابتداء من منتصف القرن التاسع عشر كان يتم تجنيد أعضاء الجماعات اليهودية، وهو أمر جديد كل الجدة، إذ كانوا يتمتعون بالإعفاء من الخدمة العسكرية قبل ذلك، كما سقط منهم ضحايا بأعداد كبيرة في الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية. لكن هذا العنصر لا يؤدي إلى انقاص عدد اليهود مباشرة عن طريق سقوطهم قتلى وحسب وإنما بشكل غير مباشر أيضاً عن طريق زيادة معدل العزوف عن الإنجاب. كما أن العناصر القادرة على القتال هي عادةً من الذكور في سن الخصوبة.

ب) تزايد نسبة الزواج المُختلَط بدرجة عالية كانت تصل إلى أكثر من 50% في بعض العواصم الأوربية.

جـ) تَنصُّر أعداد كبيرة من اليهود، وهو شكل من الأشكال الحادة للاندماج. وقد تزايد المعدل عشية الحرب العالمية الثانية لأسباب عملية منها الهرب من بطش النازي. كما حصل كثير من اليهود على شهادات تعميد من الكنيسة الكاثوليكية حتى يتيسر لهم دخول أمريكا اللاتينية. وآثرت أعداد كبيرة منهم عدم الإفصاح عن هويتهم اليهودية حتى بعد زوال الخطر.

د ) ينطبق الشيء نفسه على مئات الألوف من الذين هاجروا إلى روسيا السوفيتية هرباً من النازي.فكثير منهم لم يفصح عن انتمائه اليهودي،خصوصاً وأن الاتحاد السوفيتي (سابقاً) كان يترك لكل شخص أن يحدد انتـماءه، فلو كان الشـخص يهودياً وعرَّف نفسه بأنه «روسي» أو «أوكراني» فإن الأمر متروك له. ومع تآكل الهوية اليهودية،لم يعد هناك دافع قوي لدى كثير من اليهود للإفصاح عن هويتهم.

وقد أشار عالم الاجتماع اليهودي لوريا أنجلمان، عشية الحرب العالمية الثانية، إلى ما سماه «العملية ذات الأبعاد الثلاثة» (تناقص المواليد، وتزايد الوفيات، وتزايد معدلات الاندماج) باعتبارها العملية التي ستؤدي إلى الاختفاء الكامل لليهود.

3 ـ ظروف الحرب العالمية الثانية:

لابد أن نضيف إلى كل ذلك ظروف الحرب العالمية الثانية التي صعَّدت من كل العناصر السابقة وزادتها حدة، ولابد أن نأخذ في الاعتبار انتشار الأوبئة وسوء التغذية في نفس الفترة. كما ينبغي الإشـارة إلى بعـض طرق الإبادة البطيئة غير أفـران الغاز، مثل أعمال السخرة وعزل اليهود في الجيتو بمناطق مستقلة مزدحمة يعملون ويعيشون فيها تحت حد الكفاف، وهو ما كان يعني المزيد من الجوع والمرض. ويُقال إن نحو ثلث سكان جيتو وارسو قضوا نحبهم بهذه الطريقة، وإنه كان من المتوقع لهم جميعاً أن يُبادوا تماماً خلال عدة أعوام. (وهذا العنصر هو ولا شك عملية إبادة، إذ لا يهم أن يموت الضحية بأفران الغاز أو عن طريق التجويع. ولكننا نذكر هذا العنصر أيضاً حتى تكتمل الصورة لدينا). كما هلك الآلاف بسبب حالة الحرب ابتداءً من عدم توفر الرعاية الصحية، وانتهاءً بالغارات على المدن، مروراً بأحكام الإعدام التي كان النازيون يصدرونها على اليهود وغيرهم.

وإذا أخذنا في الاعتبار كل هذه العناصر يصبح من الصعب أن نعزو اختفاء الستة ملايين يهودي (أو حتى الأربعة ملايين حسب بعض الإحصاءات) إلى أفران الغاز وحدها أو عمليات الإبادة كتصفية جسدية متعمدة فحسب.