الفاشـيةوالصهيونيـة
Fascism and Zionism
من أهم الأفكار الغربية التي نبتتالصهيونية في تربتها، الأفكار السياسية الخاصة بالقومية العضوية وبالدولة القوميةباعتبارها المرجعية الوحيدة والركيزة الأساسية للنسق، وهي الأفكار التي تصبحتقديساً للدولة وانصياعاً لزعيمها في الأنساق الشمـولية. وقـد تبنت الصهيونية كلهـذه الأفكـار وتحـركت في إطـارها، فأنشـأت علاقة مع النظام الفاشـي (في إيطاليا) والنظام النازي (في ألمانيا).

وقد أكد موسوليني منذ بداية حكمه أن الفاشيهلا علاقة لها بالعداء لليهود. وفي 30 أكتوبر 1930 أصدر قراراً بدمج كل التجمعاتاليهودية في إيطاليا في اتحاد فاشي يمثل كل يهود إيطاليا بغير استثناء، وأصبح هذاالاتحاد إحدى الوكالات الرسمية للحكومة الفاشية. حيث نصت المادة 35 من قانـونتأسـيس هـذا الاتحاد على أن اليهود هم سفراء الفاشية للعالم، وعلى ضرورة أن يشتركاتحاد التجمعات اليهودية في إيطاليا في النشاطات الدينية والاجتماعية ليهود العالم،وأن يحتفظ بعلاقاته الدينية والثقافية معهم.

وفي يناير 1923 قام حاييموايزمان بوصفه رئيس المنظمة الصهيونية بزيارة موسوليني، لمحاورته بشأن الصهيونيةوالدعم الفاشي الممكن تقديمه إلى الحركة. واكتشف الزعيم الصهيوني أن اعتراضموسوليني على الصهيونية مرده إحساسه بأن الصهيونية أداة لإضعاف الدول الإسلاميةلصالح الإمبراطورية البريطانية. فرد وايزمان عليه رداً مقنعاً بيَّن له فيه أنإضعاف الدول الإسلامية سيعود أيضاً على إيطاليا بالنفع، وأضاف أن شروط حكومةالانتداب ذاتها تفتح المجال أمام إيطاليا أو أية دولة أخرى للمشاركة في تطوير هذاالبلد (أي تصدير العمالة الفائضة والحصول على امتيازات تجارية، على حد قولوايزمان)، وأن في وسع إيطاليا أن تفعل ذلك إذ اعتمدت الميزانية اللازمة. وانتهىالاجتماع بتفاهم كامل بين الطرفين، سمح موسوليني على أثره بتعيين يهودي إيطالي فيالوكالة اليهودية.

وحينما دُعي وايزمان مرة أخرى إلى إيطاليا في سبتمبر 1926، عرض موسوليني أن يُقدم المساعدة للصهاينة كي يبنوا اقتصادهم، وقامت الصحافةالفاشـية بنشـر مقالات مؤيدة للصهاينة. كما قـام ناحوم سوكولوف، باعتباره رئيساللجنة التنفيذية في المنظمة الصهيونية، بزيارة إيطاليا عام 1927 وصرح بأنه أدركالطبيعة الحقة للفاشية، وأكد أن اليهود الحقيقيين لم يحاربوا قط ضدها. ولا شك في أنكلماته هذه تحمل معنى التأييد الكامل للنظام الفاشي، وقد تبعته في ذلك المنظمةالصهيونية في إيطاليا. ومن الزعماء الصهاينة الذين زاروا إيطاليا الفاشية، ناحومجولدمان الرئيس السابق للمؤتمر اليهودي العالمي الذي استمع إلى الزعيم الإيطالي وهويُعرب عن حماسه للمشروع الصهيوني وعن استعداده الكامل لمساندته.

وقد تعلمجابوتنسكي الكثير من الفاشية الغربية، وكان يُعبِّر عن إعجابه الشديد بالدوتشيوفكره، وبالتنظيمات الشبابية الفاشية التي حاولت المنظمات الشبابية التصحيحيةالتشبه بها في زيها الرسمي. وكال موسوليني المديح والتقريظ لجابوتنسكي حين قال مرةللحاخام ديفيد براتو الذي أصبح فيما بعد حاخام روما: «كي تنجح الصهيونية يجب أنتحصلوا على دولة يهودية لها علم يهودي ولغة يهودية، والشخص الذي يفهم ذلك حقاً هوالفاشي جابوتنسكي». كما نعت موسوليني نفسه ضمناً بأنه صهيوني يدافع عن فكرة الدولةاليهودية. ورغم أن جابوتنسكي لم يكن يرتاح أحياناً إلى وصفه بالفاشي، فإن موقفهبشكل عام كان موقف المؤيد للفاشية والمعجب بها.

النازية والصهيونية: الأصول الفكرية المشتركة والتمـاثل البنيوي
Nazism and Zionism (Common Intellectual Origins and Structural Parallelism)

رغم الدعاية الصهيونية الشرسة
وتأكيد احتكار اليهود لدور الضحية في عملية الإبادة التي قام بها النازيون ضد كثيرمن الشعوب والأقليات الإثنية والدينية والعرْقية، فإن ثمة علاقة وطيدة بينالصهيونية والنازية تستحق الدراسة. وقد يكون من المفيد ابتداءً أن نقرر أن النازيةوالصهيونية ليستا بأية حال انحرافاً عن الحضارة الغربية الحديثة بل يمثلان تيارينأساسيين فيها. ولعل أكبر دليل على أن الصهيونية جزء أصيل من الحضارة الغربية أنالغرب يحاول تعويض اليهود عما لحق بهم على يد النازيين بإنشاء الدولة الصهيونية علىجثث الفلسطينيين، وكأن جريمة أوشفيتس يمكن أن تُمحَى بارتكاب جريمة دير ياسين أومذبحة بيروت أو مذبحة قانا. وقد أنجزت الصهيونية ما أنجزت من اغتصاب للأرض وطردوإبادة للفلسطينيين من خلال التشكيل الإمبريالي الغربي، واستخدمت كل أدواته من غـزووقمع وترحيل وتهجير. والغرب، الذي أفرز هتلر وغزواته، هو نفسه الذي نظر بإعجاب إلىالغزو الإسرائيلي لجنوب لبنان وبيروت وأنحاء أخرى من العالم العربي. وهو الذي ينظربحياد وموضوعية داروينية للجريمة التي ارتكبت والتي تُرتكب يومياً ضد الشعبالفلسطيني.

ولابد أن نقرر أن الصهيونية لم تقم بعملية إبادة شاملة (بمعنىالتصفية الجسدية) للفلسطينيين، إلا أن هذا يرجع إلى اعتبارات عملية عديدة لا علاقةلها بالبنية الإبادية للأيديولوجية الصهيونية، من بينها تأخر التجربة الصهيونية إلىأواخر القرن التاسع عشر، وعدم إعلان الدولة الصهيونية إلا في منتصف القرن العشرين،وهو ما جعل الإبادة مسألة عسيرة بسبب وجود المنظمات الدولية والإعلام. كما كان شأنالكثافة السكانية العربية وتماسك العرب وانتمائهم إلى تشكيل حضاري مركب ومقدرتهمعلى التنظيم والمقاومة والانتفاضة أن أصبحت الإبادة حلاًّ مستحيلاً (ومع هذا لابدمن الإشارة إلى عمليات الإبادة الجسدية والتي تمت في صفد ودير ياسـين وكفر قاسم،وغيرها من مدن وقرى في فلسطين، حيث لم تكن الممارسة الصهيونية تهدف إلى تهجيرالفلسطينيين، بقدر ما كانت تهدف إلى قتلهم وإبادتهم. وبالمثل كانت عملية صابراوشاتيلا ذات طابع إبادي واضح). كما أن الإبادة بمعنى التهجير والتسخير والقمعوالاستغلال هي حدث يومي داخل الإطار الصهيوني.

إن الحضارة الغربية الحديثةهي التي أفرزت الإمبريالية والنفعية الداروينية والنازية والصهيونية، ولذا فليس منالمستغرب أن نجد مجموعة من الأفكار المشتركة بين الرؤيتين النازية والصهيونية التيتُشكِّل الإطار الحاكم لكل منهما:

1
ـ القومية العضوية والتأكيد على روابطالدم والتراب، وهو ما يؤدي إلى استبعاد الآخر (الشعب العضوي المنبوذ(.

2
ـالنظريات العرْقية.

3
ـ تقديس الدولة.

4
ـ النزعة الداروينيةالنيتشوية.

كما يظهر التماثل البنيوي بين النازية والصهيونية في خطابهما. فكلاهما يستخدم مصطلحات القومية العضوية مثل «الشعب العضوي (فولك)» و«الرابطةالأزلية بين الشعب وتراثه وأرضه» و«الشعب المختار». وقد سُئل هتلر عن سبب معاداتهلليهود، فكانت إجابته قصيرة بقدر ما كانت قاسية: "لا يمكن أن يكون هناك شعبانمختاران. ونحن وحدنا شعب الإله المختار. هل هذه إجابة شافية على السؤال؟". ويتحدثمارتن بوبر عن أن الرابطة بين اليهود وأرضهم هي رابطة الدم والتربة، ومن ثم يطالببضرورة العودة إلى فلسطين حيث توجد التربة التي يمكن للدم اليهودي أن يتفاعل معهاويبدع من خلالها، وهي مسألة أشار إليها كل من الكاتبين الصهيونيين ميخا بيرديشفكيوشاؤول تشرنحوفسكي، حيث تحدثا عن الشعب العضوي اليهودي بالعبارات نفسها ونسبا إليهالخصائص نفسها. كما استخدم الصهاينة مفهوم «الدم اليهودي» لتعريف الهوية اليهودية.

وأثناء محاكمات نورمبرج، كان الزعماء النازيون يؤكدون، الواحد تلو الآخر،أن الموقف النازي من اليهود تمت صياغته من خلال الأدبيات الصهيونية، خصوصاً كتاباتبوبر عن الدم والتربة. وقد أشار ألفريد روزنبرج، أهم المنظرين النازيين، إلى أن « بوبر على وجه الخصوص هو الذي أعلن أن اليهود يجب أن يعودوا إلى أرض آسيا، فهناك فقطيمكنهم العثور على جذور الدم اليهودي ». ولعله، بهذا، كان يشير إلى حديث بوبر عناليهود باعتبارهم آسيويين حيث يقول « لأنهم إذا كانوا قد طُردوا من فلسطين، ففلسطينلم تُطرد منهم».

ومن الموضوعات الأساسية المشتركة فكرة النقاء العرْقي. وكان سترايخر (المُنظر النازي) يؤكد أثناء محاكمته، أنه تعلم هذه الفكرة من النبيعزرا: لقد أكدت دائماً حقيقة أن اليهود يجب أن يكونوا النموذج الذي يجب أن تحتذيهكل الأجناس، فلقد خلقوا قانوناً عنصرياً لأنفسهم، قانون موسـى الـذي يقول: "إذادخلـت بلداً أجنبـياً فلـن تتزوج من نسـاء أجنبيـات". وكانت الأدبيات الصهيونيةالخاصة بنقاء اليهود العرْقي ثرية إلى أقصى حد في أوربا حتى نهاية الثلاثينيات.

ويستخدم النازيون والصهاينة على حد سواء الخطاب النيتشوي الدارويني نفسهالمبني على تمجيد القوة وإسقاط القيمة الأخلاقية. إذ يستخدم الصهاينة ـ شأنهم فيهذا شأن النازيين ـ مصطلحاً محايداً، فهم لا يتحدثون عن طرد الفلسطينيين وإنما عن "تهجيرهم" أو "دمجهم في المجتمعات العربية". وهم لا يتحدثون مطلقاً عن «تفتيتالعالم العربي » وإنما عن "المنطقة"، ولا يتحدثون عن «الاستيلاء» على القدس وإنماعن "توحيدها" ولا عن الاستيلاء على فلسطين أو «احتلالها» وإنما عن "اسـتقلال" إسـرائيل أو عن "عودة الشـعب اليهودي" إلى أرض أجداده.

ويتضح التطابق بينالنازيين والصهاينة بكل جلاء في واحد من أهم التنظيمات النازية. فقد كان النازيون ـشأنهم شأن أية عقيدة تدور في إطار القومية العضوية ـ يؤمنون بوجود دياسبورا ألمانيةأوسـلاندويتـش Auslandeutsch») تربطها روابط عضوية بالأرض الألمانية. وأعضاء هذاالشتات الألماني مثل أعضاء الشتات اليهودي يدينون بالولاء للوطن الأم ويجب أنيعملوا من أجله. وربما لأن العودة للوطن الأم أمر عسير، كما هو الحال مع الصهاينة،اقترح النازيون ما يشبه نازية الشتات (مثل صهيونية الشتات) عن طريق تشجيع الألمانفي الخارج على دراسة الحضارة واللغة الألمانيتين. وكان للنازيين ما يشبه المنظمةالنازية العالمـية التي كانت لها صـلاحيات تشـبه صلاحيات المنظمة الصهيونيةالعالمية، وكانت لها مكانة في ألمانيا تشبه من بعض الوجوه مكانة المنظمة الصهيونيةفي إسرائيل. وقد تعاون الألمان، في كل أنحاء العالم مع السفراء والقناصل الألمان،تماماً كما يتعاون اليهود والصهاينة مع سفراء وقناصل إسرائيل فيبلادهم.

ولنا أن نلاحظ الأصول الألمانية الراسخة للزعماء الصهاينة الذينصاغوا الأطروحات الصهيونية الأساسية. فتيودور هرتزل وماكس نوردو وألفريد نوسيجوأوتو ووربورج كانوا إما من ألمانيا أو النمسا يكتبون بالألمانية ويتحدثون بها، كماكانوا ملمين بالتقاليد الحضارية الألمانية ويكنون لها الإعجاب ولا يكنون احتراماًكبيراً للحضارات السلافية (وقد غيَّر هرتزل اسمه من «بنيامين» إلى «تيودور» حتىيؤلمن اسمه، وسمَّى ماكس نوردو نفسه بهذا الاسم لإعجابه الشديد بالنورديين). ولايختلف زعماء يهود اليديشـية عن ذلك، فلغتهم اليديشـية هي رطانة ألمانية أساساً. ومنجهة أخرى، كانت لغة المؤتمرات الصهيونية الأولى هي الألمانية، كما توجـه الزعماءالصهاينة أول ما توجهوا لقيصر ألمانيا لكي يتبنى المشـروع الصهيوني. وقد أكدجولدمان أن هرتزل قد وصل إلى فكـرته القومية (العضـوية) من خــلال معـرفته بالفـكروالحضــارة الألمانيــين. وكان كثير من المستوطنين الصهاينة يكنون الإعجاب للنازية،وأظهروا تفهماً عميقاً لها ولمُثُلها ولنجاحها في إنقاذ ألمانيا. بل عدوا النازيةحركة تحرر وطني. وقد سجل حاييم كابلان، وهـو صهـيوني كان موجــوداً في جيتـو وارسـو (حينمـا كـان تحت حكـم النـازي)، أنـه لا يوجد أي تناقض بين رؤية الصهاينةوالنازيين للعالم فيما يخص المسألة اليهودية، فكلتاهما تهدف إلى الهجرة، وكلتاهماترى أن اليهود لا مكان لهم في الحضارات الأجنبية.

وقد ظهرت في ألمانيا، فيالثلاثينيات، جماعة من المفكرين الدينيين اللوثريين الذين أدركوا العناصر الفكريةالمشتركة بين النازية الصهيونية وأبعادها العدمية. ومن هؤلاء هاينريش فريك الذي حذراليهود من فكرة الشعب العضوي التي يدافع عنها النازيون والصهاينة، كما عَرَّف كلاًمن النازية والصهيونية بأنهما حركتان حولتا النزعة الأرضية (الارتباط بالأرض) والدنيوية (الارتباط بالدنيا)، وهما من الأمور المادية، إلى كيانات ميتافيزيقية، أيإلى دين. وأشار إلى أن النازية والصهيونية تتبنيان الرأي القائل بأن ألمانيا لايمكنها أن تقبل اليهود أو تظهر التسامح تجاههم.

وفي عام 1926، حدد فيليستارك ما تصوره موقف المسيحية من مسألة الشعب العضوي. فأشار إلى نقط التشـابه بينالصهيونية والنازية، فكلتاهما تدور حول قيمة مطلقة تحيطها القداسة الدينية، الدموالتربة، وهي قيمة تضرب بجذورها في المشاعر الأسطورية الكونية، وفي ممالك الأرضبدلاً من مملكة السماء. ومن ثم، توصَّل فيلي ستارك إلى أنه لا يوجد أي مجال للتفاهمبين المسيحية وعبادة الشعب العضوي (فولك) الصهيونية أو النازية. كما توصل إلى أنكلاً من الصهيونية (التي تحاول أن تؤسس الهيكل الثالث أي الدولة الصهيونية) والنازية (التي أسست الرايخ الثالث أي الدولة النازية) تجسيد لعدم فهم البُعدالمجازي في العقيدة الألفية الاسترجاعية في المسيحية. وبالتالي، فإن كلتا الحركتينضرب من ضروب المشيحانية السياسية (الأخروية العلمانية) التي تحوِّل الدنيويالمدنَّس إلى مقدَّس، وبذلك يُمثل كل منهما تهديداً لليهودية والمسيحية، بل للجنسالبشري بأسره.