التنويري اليهودي: فكر
Haskalah Thought
انطلق دعاة حركة التنوير اليهودية من المنطلقات نفسهاالتي انطلقت منها حركة الاستنارة الغربية بكل محاسنها ومساوئها وبكل تعميماتهاوتناقضاتها (وأهم هذه التناقضات التناقض الحاد بين الاتجاه نحو العام والمجرد منجهة والاتجاه نحو الخاص والمحسوس من جهة أخرى ثم تصفية الثاني لحساب الأول). ولكن،حركة التنوير اليهودية كان لها طابعها الخاص وموضوعاتها المتميِّزة، نظراً للخصوصيةالنسبية للجماعات اليهودية في المجتمع الغربي.

ومن الموضوعات الأساسية التيطرحها الفكر التنويري اليهودي مسألة الشخصية اليهودية وخصوصيتها المفرطة وطفيليتها. فقد رأى دعاة التنوير أنها شخصية جيتوية متمسكة بتراثها وهويتها بشكل يفرض عليهاالعزلة. وقد تبنَّى دعاة التنوير الصورة النمطية الاختزالية التي ترسمها أدبياتمعاداة اليهود لليهودي (وهي الصورة التي تبناها الصهاينة فيما بعد).

كمابيَّن دعاة التنوير ما تصوروه طفيلية اليهود وهامشيتهم، وهي سمات مرتبطة بالوظائفالتقليدية لليهود ومسألة التجارة والربا (أي دور الجماعات اليهودية كجماعة وظيفية)،فطالب دعاة التنوير بضرورة تغيير ذلك حتى يمكن تحويل اليهود من عناصر هامشية منعزلةإلى عناصر منتجة مندمجة، أي تحويل اليهود إلى قطاع اقتصادي منتج بحيث يمكنهم التكيفمع الوضع الاقتصادي الجديد. كما طالبوا بضرورة تشجيع اليهود على الاشتغال بالزراعةوالحرف اليدوية. ولم يكن للدعوة إلى تحديث وظائف اليهود وحرفهم ومهنهم مضموناقتصادي وحسب وإنما كان لها مضمون ثقافي ونفسي عميق، إذ كانت دعوة إلى أن يتحركأعضاء الجماعة من مسام المجتمع كجماعة وظيفية وسيطة منعزلة لها ثقافتها الخاصة إلىنخاعه أو صلبه. فيصبحون مثل بقية أعضاء المجتمع، يتحدثون بلغته ويرتدون أزياءهوينتمون إليه ويدينون له وحده بالولاء. ولذا، كان من القضايا الأساسية التي طرحتهاحركة التنوير إشكالية اللغة إذ كانت الجماعات اليهودية في شرق أوربا تتحدثاليديشية. ولذا، شجع دعاة التنوير الاندماج اللغوي، فنادوا بما سموه «النقاءاللغوي». ذلك أن تنقية اللغة التي كان يتحدث بها اليهود كفيلة، حسب تصوُّرهم، برفعمستواهم الحضاري. ولذلك، طالبوا بألا يستعمل اليهود اليديشية، وأن يتعلموا بدلاً منذلك اللغة الأم سواء كانت الروسية أو الألمانية أو البولندية. كما دعوا إلى إحياءاللغة العبرية باعتبارها لغة التراث اليهودي الأصلي. ومع هذا، كان هناك من دعاةالتنوير في روسيا وبولندا من كتب أدبياته باليديشية وطالب بأن تصبح اليديشية اللغةالقومية ليهود شرق أوربا.

وكانت قضية التربية القضية الأساسية بالنسبة إلىدعاة التنوير بسبب ما تصوروه من استغراق الجماعات اليهودية في التخلف والخصوصية. فقد كان ما تصوروه من الاعتقاد السائد بين أعضاء الجماعات اليهودية أن التلمود هوالكتاب الوحيد الجدير بالدراسة، وأن الدراسة العلمية غير الدينية لابد أن تبقىثانوية وتوظَّف في خدمة الدراسة الدينية. ونادى دعاة التنوير اليهودي بأن تكونالمدارس التلمودية العليا (يشيفا) مدارس لإعداد الحاخامات وحدهم، وطالبوا اليهودبأن تتم العملية التعليمية خارج الإطار الديني وأن تشمل الجماهير كلها وليسالأرستقراطية الفكرية وحدها من الحاخامات وغيرهم. كما طالبوا إخوانهم في الدين بأنيرسلوا أولادهم إلى المدارس غير اليهودية حتى يتقنوا كل الفنون العلمانية، مثلالهندسة والزراعة، وشجعوا ممارسة الأعمال اليدوية، كما دافعوا عن تعليم المرأة. وبالفعل، بدأت المدارس اليهودية العلمانية تظهر، لأول مرة في تاريخ الجماعاتاليهودية الأوربية، مع منتصف القرن التاسع عشر الميلادي، وافتُتحت أول مدرسة يهوديةلتعليم المرأة في روسيا عام 1836. وكان دعاة التنوير يرون أن التعليم العلماني هوالسـبيل إلى تحـديث اليهود ودمجهم وعلمنتهم.

ومن القضايا الأساسية التيطرحها دعاة حركة التنوير كذلك، قضية ما يُسمَّى «التاريخ اليهودي»، فظهر مؤرخونيهود عديدون مثل هاينريش جرايتز ونحمان كروكمال، كما ظهر علم اليهودية الذي يُعَدُّموريتز ستاينشنايدر وسولومون ستاينهايم من أهم أعلامه.

وقد حاول دعاةالتنوير إعادة تنظيم الجماعة اليهودية من الداخل، فطالبوا بإلغاء القهال وأشكالالإدارة الذاتية التقليدية، وكانوا في هذا يسـتجيبون لدعوة الدولة المركزية إلى أنيدين المواطـنون لها وحدها بالولاء. ولكن، مع تغيير حياة اليهود الاجتماعيةوالاقتصادية، أي بعد تحديثهم، كان ضرورياً أن يتم تحديث الديانة نفسها حتى لا ينصرفعنها الشباب اليهودي الذي كان قد بدأ يتساءل عن مدى جدوى وجدية مصطلحات مثل «المنفى» أو «صهيون» أو «العودة». وقد وجه دعاة التنوير سهام نقدهم إلى التراثالقومي الديني اليهودي، فهاجموا فكرة الماشيَّح وأسطورة العودة، وحولوا فكرة جبلصهيون إلى مفهوم روحي أو إلى اسم المدينة الفاضلة التي لا وجود لها إلا بوصفها فكرةمثالية في قلب الإنسان. وأصبح الخلاص هو انتشار العقل والعدالة بين الشعوب غيراليهودية، ولم يَعُد مرهوناً بالعودة إلى أرض الميعاد. وهاجم دعاة التنوير التراثاليهودي الشفوي أو الشريعة الشفوية وكُتبها الدينية مثل التلمود والشولحان عاروخ،وأبقوا على التراث اليهودي المكتوب وحده. وذهبوا إلى أن من حقهم العودة إلى التراثالأصلي نفسه بدون التقيد باليهودية الحاخامية، كما هاجموا الحركات والكتب الصوفيةالعديدة التي أفرزها التراث اليهودي، مثل الحسيدية وكتب القبَّالاه. وحاولوا أنيُدخلوا نزعة عقلانية على اليهودية، فأحيوا كتابات المفكر العربي (الإسلامي) المؤمنباليهودية موسى بن ميمون الذي كان يطالب منذ العصور الوسطى بإدخال التعليم غيرالديني على الدراسات الدينية اليهودية. ويُعَدُّ المفكر الألماني موسى مندلسون،الذي تأثر بأعمال موسى بن ميمون، أباً للتنوير اليهودي. ولكن من الأهمية بمكانتبيان أن حركة الإصلاح الديني التي حققت نجاحاً فائقاً في ألمانيا وانتقلت منها إلىالولايات المتحدة، حيث يشكل اليهود الإصلاحيون والمحافظون الأغلبية الساحقة، فشلتتماماً في شرق أوربا. ولذا، وبدلاً من حركة الإصلاح الديني، نجد أن ما انتشر بينشباب اليهود هو النزعتان الإلحادية والثورية.

وقد زعزع هذا كيان السلطةالدينية التي كانت تتحكم في اليهـود، الأمر الذي جـعل هـذه السـلطة تقاوم التياراتالتنويرية وتحاول إفشالها. وهو ما كان يضطر دعاة التنوير إلى اللجوء أحياناً إلىالسلطات الحكومية لتساعدهم في فرض القيم العصرية على اليهود. وقد نجح الحسيديون، ثمالصهاينة في نهاية الأمر، في السيطرة على الجماهير اليهودية.

ورغم فشل حركةالتنوير اليهودي في إنجاز كل أهدافها، فإنها تركت أثاراً عميقة في اليهودية. ولعلأهم هذه الآثار هو ظهور اليهودية الإصلاحية ودعاة الاندماج من الليبراليينوالثوريين اليهود الذين طالبوا بحل مشاكل اليهود، أي المسألة اليهودية، عن طريقالثورة الديموقراطية البورجوازية أو الثورة الاجتماعية الاشتراكية. غير أن حركةالتنوير مسئولة أيضاً بشكل ما عن ظهور الصهيونية. وقد هاجم دعاة التنوير فكرةانتظار الماشيَّح الذي سيأتي بالخلاص، ونادوا بأن على اليهود الحصول على الخلاصبأنفسهم. وقد أزالت هذه الدعوة الحاجز الوجداني الذي كان يقف بين اليهود (المتدينينوغير المتدينين) والصهيونية، إذ أصبحت العودة إلى فلسطين ممكنة دون انتظار مقدمالماشيَّح. كما هاجم دعاة التنوير مفاهيم أخرى، مثل العودة والشعب المقدَّس، بحيثأسقطوا البعد الديني المجازي، وكان هذا تمهيداً لتحويلها إلى مفاهيم ذات طابع دنيويوضعي حرفي فتحوَّلت صهيون إلى موقع للاستيطان وتحوَّل الشعب المقدَّس إلى شعببالمعنى العرْقي أو الإثني. كما أن فكر حركة التنوير كان يهدف إلى تطبيع اليهود، أيأن تكون الشخصية اليهودية شخصية طبيعية، ويصبح اليهود أمة مثل كل الأمم، وتطوَّرهذا المفهوم ليصبح الدعوة إلى تأسيس الدولة الصهيونية حتى يكون للشعب اليهودي دولتهالمستقلة شأنه في هذا شأن كل الشعوب.

وخلقت حركة التنوير في شرق أوربا طبقةوسطى يهودية متشربة ببعض الأشكال الثقافية اليهودية الخاصة ولها ولاء كامل لتراثهاالديني الغربي، ولكنها كانت في الوقت نفسه مُشبَّعة بالأفكار السياسية والاجتماعيةالغربية من قومية إلى إشتراكية. وهذا الازدواج الفكري، أو التعايش بين نقيضين، هوالذي أفرز القيادات والزعامات الصهيونية القادرة على التحرك في إطار معتقداتهاالتقليدية المتكلسة، والتي تجيد في الوقت نفسه استخدام المصطلحات والوسائلالعلمانية. وقد عمَّق التناقض الأساسي الكامن في فكر حركة الاستنارة الغربية (الاتجاه نحو العام والمجرد والآلي مقـابل الاتجـاه نحـو الخاـص والحــسي والعضوي) هذا التناقض. فعلى حين أن النزعة الأولى نحو العام تطالب بدمج اليهود وبتخليهم عنخصوصيتهم، تتجه النزعة الحسية (والرومانسية) نحو تأكيدها والمطالبة بتقوية الوعيالقومي. وهذا التناقض يظهر حتى عند مندلسون نفسه، أهم دعاة التنوير. فاليهودية هيدين العقل (العام)، ولكن شعائرها مُرسَلة ومُوحىبها (الخاص). ولذا، فإن العقائدالأساسية عامة ومُرسَلة لكل البشر، أما الشعائر فهي مقصورة على اليهودية وهي مصدرهويتهم وعلى اليهود الحفاظ عليها. وقد اتبع صموئيل لوتساتو الإستراتيجية نفسها فيفلسفته. وأخذت رقعة العام في الانكماش في كتابات المفكرين اليهود (كما حدث فيالحضارة الغربية نفسها) حتى نصل إلى علم اليهودية، وهو علم كان من ناحية يتكون مندراسات علمية نقدية عقلانية تهدف إلى الكشف العلمي عن الحقيقة التاريخية أوالاجتماعية أو الأنثروبولوجية الكامنة وراء القصص الديني، ولكنه كان، من ناحيةأخرى، علماً يهدف إلى اكتشاف ماضي اليهود وإنجازاتهم الحضارية المتميِّزة والمنفردةحتى يكتشفوا خصوصيتهم ويقووا وعيهم القومي بها.

ويظهر هذا التناقض فيالتأرجح بشأن قضية اللغة، فقد بدأت حركة التنوير بمهاجمة اليديشية باعتبارها لغةغير طبيعية شاذة، وألمانية منحطة وغير عقلانية، وطالبوا بالعودة إلى العبريةباعتبارها لغة طبيعية وربما عقلانية. ولكن العبرية هي عودة للماضي، وهي بعث رومانسيللغة لم يَعُد يتحدث بها أحد، فأُسقطت العبرية، وتم تبنِّي الألمانية أو اللغةالقومية سواء الروسية أو البولندية. ثم ظهرت الدعوة إلى اليديشية نفسها باعتبارهااللغة العضوية والمحلية والجماهيرية. وتظهر الازدواجية في الآداب المكتوبة بالعبريةفهو دعوة إلى الانفتاح على الآداب الغربية وتبنِّي أشكالها الحديثة، ولكن لغة هذهالآداب العبرية لغة ميتة تم بعثها. كما يظهر التناقض في حركة الإصلاح الدينياليهودي، إذ كان من ثمراته اليهودية الإصلاحية التي تدعو للاندماج وإسقاط العزلة،والتمسك بالعقلانية. ولكن من ثمراته أيضاً اليهودية المحافظة التي رفضت الشريعةاليهودية التقليدية وكثيراً من الأشكال التقليدية، ولكنها حوَّلت هذه الأشكال نفسهاإلى تراث شعبي عضوي يشبه المطلق. ومن ثم، فهي تهاجم اليهودية الحاخامية التقليدية،والعقيدة اليهودية بكل مطلقاتها، ولكنها تتمسك بالتراث العضوي اليهودي بوصفه مطلقاًلا يمكن التساؤل عنه. ومن هنا، كان الهجوم العقلاني على أنبياء اليهود وعلى التراثالديني اليهودي باعتباره تراثاً غيبياً معادياً للإنسان. ثم يتبع ذلك البعثالرومانسي للبطولات العبرية لفترة ما قبل اليهودية، مثل شمشون وشاؤول، وهي بطولاتتجسِّد عناصر لا عقلانية خارقة. ويظهر التناقض كذلك في الدعوة إلى العودة إلىالطبيعة والاندماج بها، فهي تعني أن يترك اليهودي الجيتو المظلم ويترك مغارتهاليهودية ليختلط بعالم الأغيار ويقوم بالعمل اليدوي والأعمال الزراعية والإنتاجيةالمختلفة التي حُرم منها. ولكن هذه الدعوة تصبح، كذلك، دعوة إلى العودة إلى الطابعالمحلي وإلى التراث القومي العضوي الطبيعي.

ويتضح التناقض نفسه، في موقفالحركة الصهيونية من الغيبيات الدينية. فقد نظرت الحركة الصهيونية للمفاهيم الدينيةباعتبارها مفاهيم لا عقلانية متجاوزة للمادة، ولذا دعت اليهود لأن يكونوا طبيعيينلا يختلفون عن البشر ولا يتحدثون إلا عن القانون الطبيعي (المادي) العام ولا يدورونإلا في إطاره. وانطلاقاً من هذا تم رفض الدين والماشيَّح وكل الغيبيات. ولكن تمتبنِّي بعض هذه الأفكار والغيبيات المرفوضة (مثل الشعب اليهودي والأرض) بعد أنأُفرغت من مضمونها الديني وتم إضفاء المطلقية عليها، أي أنه تمت استعادة القداسة منداخل المادة ومن ثم تم تشجيع الخصوصية والتفرُّد. فالشعب اليهودي شعب مثل كلالشعوب، ولكنه شعب ذو رسالة خاصة وحقوق مطلقة. وهو يؤسس دولة ديموقراطية مثل كلالدول الأخرى، ولكن هذه الدولة تتمتع بقداسة لا نظير لها حتى أنها تحل محل الرب فيوجدان اليهود. والمستوطن الصهيوني سيعود إلى الطبيعة يلتصق بها، ويعمل بيديه فيالأرض، ويتحرر من الاستغلال والملكية الخاصة ومن كل ما يميِّز الإنسان عن أخيهالإنسان. ولكننا نكتشف أن الأرض ليست الأرض بشكل عام بل الأرض المقدَّسة الخاصةالمقصورة عليه. ومن ثم نجد أن هذا الداعي إلى الإخاء الإنساني والعالمي يقتل العربويرفض السماح لهم بأن يزرعوا الأرض معه. ولعل هذا الجانب في الصهيونية هو سرجاذبيتها للعالم الغربي، فهي محاولة ماهرة لحسم التناقض الكامن في الفكر العلماني. وهذا التناقض هو الذي جعل بوسع الصهيونية التوصل للخطاب الصهيوني المراوغ، بمقدرتهالتعبوية الهائلة والذي جعل من الممكن استيعاب يهود الغرب من دعاة الاندماج ويهودالشرق من دعاة الانعزال والهجرة الاستيطانية.