نعــوم تشومســكي (1928 - ) والثـورة التوليــدية
Naom Chomsky and the Generative Revolution
عالم لغويات أمريكي يهودي منأصل يديشي، ويُعَدُّ من أهم المفكرين اللغويين والسياسيين النشيطين في العالم فيالنصف الأخير من القرن العشرين. ويضعه البعض في مصاف كبار المفكرين مثل جان بياجيهوكلود ليفي شتراوس (وربما ماركس وفرويد) بالنظر إلى ما أحدثه من ثورة في علماللغويات والعلوم الإنسانية ككل، فهو جزء مما يُسمَّى «الانقلاب البنيوي التوليدي» (وما يُسمَّى أيضاً «الثورة الإدراكية أو المعرفية») الذي تصدى للاتجاه التجريبيالوضعي. وتشير بعض الدراسات إلى «الثورة التشومسكية» في ميدان علم اللغةوالإنسانيات. وقد قورن بفرديناند دي سوسير عالم اللغويات السويسري الذي بدأ هووبروب، عالم الأساطير الروسي، هذه الثورة البنيوية (لا يعترف تشومسكي نفسه بفضلسوسير في مجال اللغويات(.

وُلد تشومسكي في الولايات المتحدة الأمريكيةلأبوين من يهود اليديشية (من أوكرانيا). وكان أبوه لغوياً متخصصاً في العبريةالأندلسية وله كتاب عن أحد نحاة العبرية في الأندلس، والتي كانت دراستها تدور فيإطار الأنساق المنهجية التحليلية عند نحاة العربية. ولهذا، فإن ثمة عناصر منالنظرية العربية في التحليل النحوي تَعرَّف عليها تشومسكي في مقتبل حياته الفكريةمن خلال أبيه. وكانت رسالة تشومسكي للدكتوراه بعنوان « التحليل التحويلي أوالتوليدي » والتي نُشرت فيما بعد في كتابه الأول الأبنية التركيبية (1957). ويُعدُّهذا مجرد جزء من عمل أشمل وأكثر تفصيلاً هو كتاب البنية المنطقية للنظرية اللغوية (1975).

قضى تشومسكي فترة في إسرائيل حيث كان يؤمن بأن الكيبوتس تجربةاشتراكية مثالية، لكنه سرعان ما عاد إلى الولايات المتحدة الأمريكية حيث عمل بعضالوقت في هارفارد، ثم انتقل إلى معهد ماساشوستس للتكنولوجيا ومازال يعمل به حتىالآن.

ومن الصعب تلخيص فكر تشومسكي اللغوي والسياسي، أو تلخيص سماتهالأساسية وتناقضاته الحادة، والأكثر صعوبة محاولة توضيح العلاقة بينهما. ويمكننا أننقول إن فكر تشومسكي ينطلق من الثنائية الأساسية (ثنائية الإنسان والطبيعة) التيتُشكِّل جوهر الرؤية الإنسانية (الهيومانية) للعالم وللفكر العقلاني المادي (المتمركز حول الإنسان). ولكن، هذا الفكر، صدوراً عن ماديته الصارمة وحلوليتهالكامنة المادية، يحاول إنكار هذه الثنائية ومحوها وتأكيد الواحدية العلميةالمادية. ومن هنا التأرجح الشديد لفكر تشومسكي بين التمركز الكامل حول الذاتوالتمركز الكامل أيضاً حول الموضوع، بين الحرية المطلقة، والحتمية المطلقة، وبينالإبداع الإنساني والحتمية البيولوجية.

ولنبدأ بإحدى الأفكار المحورية فيالنسق الفكري لدى تشومسكي وهي فكرة البنية السطحية والبنية العميقة. يرى تشومسكي أنأية ظاهرة مكوَّنة من مستويين: سطحي ظاهر، وعميق كامن. فوراء كل البنَى السطحيةالظاهرة تُوجَد بنية أكثر عمقاً وتركيباً. ولكن البنية السطحية رغم انفصالها عنالبنية العميقة، إلا أنها على علاقة وثيقة بها، ومن خلال تحليل المكونات الشكليةللبنية السطحية (الملموسة) وطريقة تنظيمها وتفاعلها، يمكن الوصول إلى البنيةالعميقة. المهم هو أن ندرك أن البنية السطحية مُكوَّنة من مجموعة من العلاقاتتحكمها شفرة إن توصلنا إليها أمكننا أن نفهم البنية العميقة. ويمكن أن يتم هذا منخلال تحويل تركيب إلى تركيب آخر. وهذه الفكرة فكرة محورية في العلوم الإنسانيةالغربية منذ عصر النهضة يحاول عن طريقها الفكر الغربي في عصر العقلانية الماديةتَجاوُز ثنائية الروح والمادة. فالروح هنا هي البناء الفوقي (عالم الأفكاروالأشكال) ورغم استقلاليته الظاهرة إلا أنه (في التحليل الأخير وفي نهاية الأمر) إنهو إلا تعبير عن البناء التحتي (المادة ـ علاقات الإنتاج ـ الدوافع الغريزية)،وحينما يُردُّ الأول للثاني نصل إلى عالم المادة والواحدية المادية وتُصفَّىالثنائية الظاهرية. ولعل إبداع تشومسكي (والثورة البنيوية التوليدية ككل) يكمن فيأنه لم يجعل البناء التحتي مادياً وإنما علاقات وأفكاراً كامنة في العقل ذاته تعبّرعن نفسها من خلال أشكال وظواهر كثيرة، أي أن عالم الأشكال الإنسانية الظاهر يُردُّلا إلى حركة المادة اللاإنسانية وإنما إلى عالم العقل والعلاقات الكامنة فيه (التيتستعصى على الدراسة التجريبية الكمية(.

العقل الإنساني، إذن، هو أعمقالبنَى عند تشومسكي. وهذا العقل ليس عقلاً سلبياً ولا صفحة بيضاء، كما يرىالسلوكيون والتجريبيون، وهو لا يكتسب أفكاره تدريجياً (بشكل تراكمي) من البنيةالمحيطة به ويدور في إطار أنساق مغلقة مصمتة اختزالية، وإنما هو عقل نشط فعال إذتوجد فيه إمكانات إبداعية وملكات مفطورة كامنة فيه هي أشكال وبنَى قَبْلية تتبعقواعد معيَّنة ذات مقدرة توليدية وتلعب دوراً أساسياً في عملية اكتساب المعرفة. وهذا يعني أن الإنسان لا تتحكم فيه الدوافع الخارجية أو البيئية وأن قدراتهالإبداعية التوليدية تمنحه قدراً كبيراً من الاستقلال والحرية. وهذا يعني أنالإنسان يدور في إطار أنساق مركبة مفتوحة.

لهذا نجد أن نقطة الانطلاق عندتشومسكي عقلانية جوانية استدلالية، وليست تجريبية برانية استقرائية، فهو يبدأ منالعام والبنية والنمط ومن المعطيات القَبْلية الكامنة في عقل الإنسان ولا يدع العقليقف على عتبات البيانات والمعطيات الحسية والبراهين الجزئية والبيئة المادية وكأنهشحاذ فقير عاجز، بل يقف كالأمير القوي الذي يعطي أكثر مما يأخذ. ولذا، فإن صياغةالفروض العلمية والنماذج التفسيرية ـ حسب تصوُّر تشومسكي ـ أمر منوط بالعقلوالخيال، وليس أمراً خاضعاً للحواس. لكن هذا لا يعني بطبيعة الحال أن الحواس قد تمإلغاؤها، فهي مسألة أسبقية، ونحن هنا أمام ثنائية هرمية يسبق الإنسان فيها الطبيعة،ويسبق العقل فيها الحواس، ويسبق الخيال الفعال فيها التلقي السلبي للمعطيات الحسية.

ويرى تشومسكي أن أهم الإمكانات الكامنة في عقل الإنسان هي مقدرته اللغوية. فاللغة تمثل لحظة فارقة في تاريخ الكون، فهي ما يُميِّز الإنسان عن الكائنات الأخرىالتي تعيش معه في هذه الأرض، ولكنها ليس لها الفطرة اللغوية. ولغة البشر مختلفةبشكل جوهري عن لغات الحيوانات وطرق التواصل بينها. ولذا، فإن تشومسكي يتحدث عن «معجزة اللغة»، فبها يُكوَّن المجتمع وتتقدم الحضارة ويظهر الفكر (وتشومسكي في هذاينهج منهج سابير الذي كان يذهب إلى أن اللغة تستحق الدراسة لأنها ظاهرة إنسانيةفريدة ولا يستطيع الإنسان التفكير بدونها). وإن أردنا استخدام مُصطلَحنا لقلنا إنظهور اللغة يعني تَراجُع الإنسان الطبيعي (المادي) وظهور الإنسان الإنسان أوالإنسان الرباني.

ويُعرِّف تشومسكي اللغة بأنها المقدرة التي يمتلكها كلالمتحدثين بلغة ما لإنتاج وفهم عدد لا محدود من الجُمل المفهومة، لكلٍّ منها بناؤهاالصحيح وذلك من خلال النحو، وهو مجموعة من القواعد والمبادئ الكامنة يربط من خلالهاالإنسان بين الأصوات والمعاني بطريقة محددة (نحو تحويلي توليدي). وهذه المقدرة ليستمجرد عادة يكتسبها الإنسان من العالم الخارجي وإنما هي ملكة فطرية موروثة يُولَدبها (والقدرة الموروثة سمة لا يمكن دراستها تجريبياً، إذ لا يمكننا عزل فرد ومراقبةنمو هذه الفعالية عنده(.

وكدليل على رؤيته (الثورية التوليدية) للغةباعتبارها مفطورة في العقل، يشير تشومسكي إلى الزمن الذي يقضيه الطفل البشري (الذكور منهم والإناث، الأذكياء منهم والأغبياء) لتعلم لغته الإنسانية، فهذا الطفليتعلم لغته بسرعة وبلا جهد وبكفاءة عالية، رغم أنه محاط بكم كبير من الكبار الذينكثيراً ما يكسرون قواعد اللغة ويُصدرون أصواتاً لا معنى لها ظناً منهم أنهم بذلكيقلدون لغة الطفل ويتواصلون معه. ورغم كل هذا، يتعلم الطفل الإنساني أسس لغتهبيُسْر من خلال هذه العينات العشوائية غير المثالية خلال عام (وهو وقت أقصر منالوقت الذي يستغرقه بعض الرجال في تعلُّم قيادة سيارة) مع أن وصف قواعد أية لغة قديستغرق عدة سنوات من الباحثين. ويصل الطفل إلى مرحلة امتلاك ناصية اللغة بين سنالخامسة والسادسة، أي أنه يتملك ناصية نظام لغوي متكامل، مُكوَّن من مجموعة هائلةومركبة من القواعد ويتطلب استخدامه كثيراً من قواعد المنطق (الاستقراء والقياس) وقواعد التحويل وقواعد الترتيب التي لو تعلمها الطفل لاستغرق في ذلك عشرات السنين.

ويضرب تشومسكي مثلاً بإحدى قواعد التحويل التي يتعلمها الطفـل في اللغـةالإنجليزية. فصيـاغة السـؤال في اللغـة الإنجليزية يكـون عن طـريق وضع فعل الكينونة (تو بي to be) في أول الجملة. فمثـلاً عبـارة « ذا مان إز تول The man is tall" تصبح « إز ذا مان تول؟ Is the man tall ?". ولكن في جملة أخرى مثل "ذا مان هو إزهير إز تول The man who is here is tall" تصبح "إز ذا مان هو إز هير تول؟ Is the man who is here tall? ". ولو الأمر كان آلياً ومكتسباً لقام الطفل بتحريك «إز is» الأولى ولأصبح السؤال "إز ذا مان هو هير إز تول؟ Is the man who here is tall?" وهيصيغة سليمة من الناحية الميكانيكية ولكنها خطأ من الناحية اللغوية. ويُفسِّرتشومسـكي بأن عقـل الطـفل بإمكاناته الكامنة فيه يعــرف أن عـبارة "who is here" مرتبطة باسم الفاعل في وحدة واحدة لا يجوز أن تُقسَّم عند الإتيان بصيغة السؤال عنالجملة كلها. ولذلك فهو ينقل is الثانية في هذه الجملة وليس is الأولى إلى بدايةالجملة.

واللغات البشرية كافة، رغم تنوعها وتعددها، تشترك في بنيانهاالعميق. فهي كلها تعبير عن القوالب أو البنَى اللغوية أو الأشكال الثابتة والعالميةنفسها. ونقط التشابه بين اللغات أكثر أهمية من مواطن الاختلاف. ولا يمكن تفسيرالعناصر العالمية للغة (بالإنجليزية: لنجوستيك يونيفرسالز linguistic universals) إلا بالقول بأن العقل يُوجَد كامناً فيها (يستخدم تشومسكي أحياناً تعبيرات مثل: «مُبرمَج فيه» أو «مُشفَّر فيه»، وثمة اختلاف عميق بين الكامن والمُشفَّر)، وأنهناك برنامجاً محدداً موروثاً يحوي البنَى كافة. وهذا يُذكِّرنا بموقف كانط منالصفات المجردة المنطقية لأنماط الفكر، وهي أنماط حادثة ولكنها مستقلة عن التجربة. ورغم الصلة الواضحة بينه وبين كانط، إلا أن تشومسكي نفسه يشير إلى كل من ديكارتوروسو وفلهلم فون هومبولت باعتبارهم أسلافه الفكريين. ومع هذا، تجب الإشارة إلى أنكانط لم يستخدم كلمات مثل «مُبرمَج» أو «مُشفَّر»، فالمقولات القَبْلية عنده محاطةبالأسرار. ولعل هذا سر إنكار تشومسكي كون كانط سلفه الحقيقي وإصراره على ديكارت،بسبب النزعة الرياضية المنطقية عند الأخير، أي الشكلية الصارمة التي تنتهي إلىالواحدية الصارمة، والبحث المحموم عن تفسيرات بيولوجية (الغدة الصنوبرية) حتى لايكون هناك أيُّ مجال للميتافيزيقا!

ويتحدث تشومسكي عما يسميه «النحوالعالمي» وهو تعبير عن الثوابت اللغوية العالمية، ولذا يُنكر تشومسكي وجود لغاتبدائية، تماماً كما يُنكر كلود ليفي شتراوس وجود نظم معرفية بدائية أو ما يُسمَّى «قبل المنطقي».

واللغة الإنسانية أفضل مرآة تعكس العقل، فثمة تَماثُل بينبنيتي العقل واللغة، أي أن اللغة هي بمنزلة البناء السطحي لبنية أكثر عمقاً هيالعقل الإنساني. وهذا، في الواقع، هو منهج البنيويين والتوليديين كافـة: أن يـروابنـية ظاهرة مـا (الأساطير ـ طريقة الطهي ـ اللغة ـ الرموز) ويحاولون من خلالدراستها أن يدرسوا بنية العقل البشري. وهم في هذا يدافعون عن العقل البشري وإبداعهضد هجوم دعاة وحدة العلوم والنماذج التجريبية الطبيعية المادية.

في إطارهذا تتحدد وظيفة علم اللغة بأنها « دراسة النحو » أو بمعنى أدق « دراسة أبنيةالجملة » (بناء الجملة هو ترتيب كلمات الجملة في أشكالها وعلاقاتها الصحيحة، وكذلكتركيب واستعمال الكلمة أو العبارة في جملة). ومهمة اللغوي كشف مجموعة القواعدوالمبادئ التي يمكن أن تُفسِّر الجُمل الممكنة (grammatical-permssible) كافة للغةما، أي أنه يحاول الوصول إلى البنية الكامنة للغة بكل علاقاتها وتحويلاتهاالمتشابكة. وهو جهد أقرب إلى البحث المنطقي الرياضي وأبعد ما يكون عن المهمةالتقليدية عند اللغوي في إعداد المعاجم وتعريف المعاني وتَطوُّرها التاريخي. ولكنعلم اللغة، بذلك، وبسبب تماثل بنية اللغة مع بنية العقل، يصبح « علم اكتشاف قدرةالإنسان على الإدراك ونمو هذه القدرة من خلال اللغة » و« علم إدراك خصائص العقلالإنساني وتركيبه والسلوك الإنساني الحر الذي تحكمه القواعد وإمكانيات العقل الحروالمبدع داخل إطار نسق من القواعد التي تعكس الخواص الداخلية لعقل الإنسان ». وهذههي النقطة التي يلتقي فيها علم اللغة بعلم السياسة بالفنون، أي أن هذه هي النقطةالتي تشكل القاعدة الأساسية في فكر تشومسكي وهي مصدر الثنائية لديه. ومشروعتشومسـكي لعلم اللـغة هو تأسـيس نظـرية عامة عن بنية اللغة الإنسانية، نظرية تتسمبالعمومية بالقدر الذي يكفي لأن تنطبق على جميع اللغات، ولكنها ليسـت من العمـومبحيث تنطبق (أي النظرية) على أي نظام اتصالي، أي أن علم اللغة يجب أن يحدد الصفاتالعامة والأساسية للغة الإنسان بطريقة تُبقي الإنسان وتستبعد الكائنات الأخرى.

وكما أن نظرية تشومسكي في اللغة تؤكد الوحدة، فإن هناك التنوع فيها والذييجب أن تُفسِّره أية نظرية لغوية. ولإنجاز هذا، يُقدِّم تشومسكي ثنائية أخرى: الكفاءة المثالية أو المقدرة الموروثة (البنية العميقة)، وهي مقدرة الفرد على إنتاجوفهم عدد غير محدد من الجُمل وتحديد الخطأ وتَلمُّـس الغمـوض من جهة، والأداءالفعلي (البنية الظـاهرة)، أي عملية استخدام هذه القدرة في نسق محدد، من جهة أخرى. والمقدرة « المثالية » تتحقق في كل لغة بشكل جزئي (يرى تشومسكي أن دور الجماعةيقتصر على تشخيص النظام اللغوي إذ تقوم الجماعة بتحديد المقدرة اللغوية عن طريقاستبعاد بعض الإمكانات اللغوية، أي فرض حدود على المقدرة اللغوية الكامنة التي تحويالثوابت اللغوية العالمية كافة).

ورغم أهمية الأداء اللغوي الفعلي، فإنعلم اللغة لابد أن يُركز على الكفاءة المثالية وحسب، وعلى الثوابت اللغوية التيتتمثل في قواعد وتراكيب اللغة. هذا لأن دراسة الأداء الفعلي والاستخدامات المختلفةللغة بكل ما يكتنف ذلك من المصاعب والتفاصيل والتعقيدات الفعلية للواقع، يَصعُبالتعامل معه على نحو رياضي علمي صارم (وهنا يبدأ الجانب الآخر الخاص بالبرمجةوالتشفير في منظومة تشومسكي يُطل برأسه). وقد اكتشف كثير من علماء الإنسانياتوالاجتماع إمكانية تطبيق منهج تشومسكي التوليدي البنيوي على العـلوم الإنسـانيةكافة، بل وعلى الإبداع الفني.

إن النظام المعرفي (الكلي والنهائي) عندتشومسكي يستند إلى ثنائية الإنسان والطبيعة وإلى الإيمان بأن البشر مختلفون عن كلمن الحيوانات (النموذج العضوي) والآلات (النموذج الآلي)، وأن هذا الاختلاف لابد أنيُحترَم، فهذا هو أساس كرامة الإنسان وإخوة البشر. هذا الإيمان باستقلالية العقل عنالبيئة المحيطة به وإبداعه، هو أساس هجومه على الفلسفة الوضعية والتجريبية، فهيفلسفات لا تكترث بالبنَى العميقة، أي ما يُميِّز الإنسان عن بقية الكائنات. فالمدرسة السلوكية تكتفي بوصف البنية السطحية في أشكالها المادية المنطوقة (المسموعة) والمكتوبة ولم تتجاوز ذلك إلى التعرف على البنية العميقة.

ويرىالسلوكيون أن الإنسان يجب أن يبتعد عن دراسة ما يُسمَّى «الأفكار» (بالإنجليزية: أيدياز ideas أو ثوتس thoughts) وأن يركز على المثيرات والاستجابات، أي على العناصرالبرانية التي يمكن وَصفُها كمياً. كما أن السلوكيين ركزوا على مبادئ أنماط السلوكالتي تنطبق على الأنواع كافة (الإنسان والحيوان) وعلى أنواع السلوك كافة (منالاكتشاف إلى التواصل إلى كسب الرزق). أي أن السلوكيين ركزوا على البراني والعامواللاشخصي (وهذه هي صفات الطبيعي/المادي) وأنكروا الجواني والخاص والفريد. ومن ثم،قضى السلوكيون عشرات السنين يدرسون سلوك الفئران وغيرها من الحيوانات ويُعمِّمونالنتائج على الكائنات الأخرى بما في ذلك الإنسان ـ بل وخصوصاً الإنسان ـ (سمَّىتشومسكي هذا «بلاي آكتنج آت ساينس play-acting at science» أي «اللعب بالعلم»).

وقد ركز اللغويون الوصفيون على وصف البنية السطحية للغة أو لهجة ما مع عدمتَجاوُز ذلك إلى ما وراء المستوى السطحي الظاهر. ويركز علماء المقارنات على مقارنةظواهر جزئية مثل مقارنة الصوت الواحد أو الصيغة الواحدة أو النمط الواحد في اللغات. واهتم علم اللغة التاريخي بمتابعة التغيرات اللغوية في اللغة الواحدة وربطها بتاريخالحضارة. كما اهتم علم اللغة الاجتماعي بعلاقة اللغة بالتغيرات في المجتمع. لقداهتمت هذه المدارس كافة بعملية رصد البيانات كمياً دون تقديم نموذج تفسيري يُفسِّرقدرة المتكلم وحدسه اللغوي. فكل هذه المدارس والاتجاهات ترى الإنسان آلةً صماءتُخزَّن فيها الأنماط التحويلية، وهي غير قادرة على إدراك الكل بشكل مبدع. ولذا،فإن العقل اللغوي ـ بالنسبة للسلوكيين على سبيل المثال ـ يقوم على أساس استدعاءالنمط اللغوي المُختزَن بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. وعلى هذا، يرى تشومسكي وجوبتأسيس علوم اجتماعية تدرس الطبيعة البشرية باعتبارها كياناً مستقلاً عنالطبيعة/المادة لضمان حرية الإنسان وتعميقها، وهذه العلوم لابد أن تكون ذات أسسراسخة في الطبيعة البشرية ذاتها. ولابد أن ينبع العمل الاجتماعي من تَصوُّر لطبيعةالمجتمع في المسـتقبل وأن يسـتند إلى بعض الأحكام الواضحة بشأنه، وهي أحكام تستندبدورها إلى رؤية للطبيعة البشرية. فمفهوم الطبيعة البشرية مفهوم محوري عند تشومسكي،وهو يشير إلى كيفية التوصل إليها من خلال الدراسة الإمبريقية إذ أن هذه الطبيعةتتبدَّى في سلوك الإنسان وإبداعاته المادية والفكرية والاجتماعية.

ولكنمفهوم الطبيعة البشرية بالنسبة لتشومسكي ليس مفهوماً إمبريقياً محضاً، ففي حوار لهمع بيل مويرز طرح عليه هذا الأخير الإشكالية الهوبزية بطريقة ماكرة إذ سأله: « هلتعتقد أن البشر يحنون بطبيعتهم للحرية... أم أنهم على استعداد لأن يخضعوا للنظاممقابل الأمن والأمان؟ »فكان رد تشومسكي قاطعاً: « هذه مسائل خاصة بالإيمان لاالمعرفة، تُوجِّه آمالك نحو ما تؤمن به.. وأنا أحب أن أؤمن بأن الناس قد وُلدواأحراراً، ولكنك إن طلبت مني دليلاً على ذلك لما أمكنني أن أعطيك إياه ». فسألهمويرز في دهشة: "أنت تتحدث عن الإيمان، فهل «تؤمن» بالحرية؟" فأجابه تشومسكي: "أحاول ألا يكون إيماني غير عقلاني، فنحن يجب أن نسلك على أساس معرفتنا وفهمنا معتمام العلم بأن معرفتنا محدودة... ولكنه، على أية حال، إيمان خاضع لاعتباراتالحقائق والعقل". وتشومسكي، بهذا، قد طبَّق على الطبيعة البشرية نفسها المنهجالعقلاني الذي طبقه على البحث اللغوي، وهو أمر منطقي أن نبدأ بما نتصوره المقدرةالمثالية ثم ندرس الأداء الفعلي: المثالي قبل المادي، والعقلي قبل الحسي، والإنسانيقبل الطبيعي.

وفي ضوء هذه الأولويات يمكننا أن نتوصل إلى أن المنظومةالأخلاقية عند تشومسكي تستند إلى الثنائية المبدئية (ثنائية الإنسان والطبيعة) وتتفرع عنها ثنائيات أخلاقية الشق الأول منها هو الإنساني الإيجابي والثاني هوالسلبي (ويمكـن أن نقـول بشيء من التحـفظ «الطبيعي »)، وفيما يلي بعض هذهالثنائيات: حرية/تَحكُّم ـ إبداع/تنميط ـ تضامن وجماعية/تعظيم الربح وأنانية وطمع ـمبدئي/برجماتي ـ تَوازُن بيئي/استغلال بيئي ـ تلقائية/اتجاه نحو الترشيد والتحكم ـمساواة/هرمية ـ الديموقراطية/الشمولية ـ الاشتراكية/الرأسمالية ـ الفوضوية/هيمنةالدولة ـ الإمبريالية/التحرر ـ البقاء بطريقة جديرة بالاحترام/البقاء بأي ثمن (يستخدم تشومسكي كلمة «ديسنت decent» الإنجليزية فيقول " ديسنت سيرفايفال decent survival» وكلمة «سيرفايفال survival» في الإنجليزية تستدعي إلى الذهن مباشرةًالعبارة الداروينية القبيحة «سيرفايفال أوف ذا فيتسيت survival of the fittest» أي «البقـاء للأصلـح». والأصلـح هـنا هو الأقوى، ومن ثم فهو بقاء يمكن أن نسميه «إنديسنت indecent» أي «بطريقة غير لائقة» (ومن الواضح أن استخدام تشومسكي لهذه الكلمةالضعيفة في هذا السياق، وهو عالم اللغة، يدل على محاولته تحاشي كلمات أشد قوة. ويمكن ترجمة كلمة «ديسنت decent» بكلمات مثل: مهذب ـ لائق ـ مُرضي ـ مقبول ـ جديربالاحترام. وكلها كلمات تشير إلى وجود معيارية ما ومرجعية ما دون الإفصاح عنها، فهيكلمات تشي بالثنائية وتتحاشاها في آن واحد).

في هذا الإطار، يعارضتشومسكي الرؤية الهوبزية الداروينية النيتشوية ومنطق القوة الصماء، فالتضامنالإنساني (خلافاً للصراع المادي) هو آلية البقاء الجديرة بالاحترام. وهو، لهذا،يرفض التفسيرات الآلية (مثل تفسيرات السلوكيين) لأنها تفشل في تفسير طبيعة البشرالتي تميل نحو الحرية والإبداع وتفشل في تفسير وعي الإنسان. وهي تفسيرات تُلغيثنائية الإنسان والطبيعة، فالإنسان، من منظور سلوكي، شأنه شأن الكائنات الأخرى،ليست عنده مقدرة توليدية تضمن حريته، وإنما هو مجموعة من العادات المكتسبة من خلالعملية تطويع (وتكييف). ولذا يكون هدف المجتمع، من منظور سلوكي، زيادة التحكم فيالفرد وتطويعه، فالسلوكية والإمبريقية مرتبطتان تماماً بعملية التحكم. وكل هذا يؤديإلى ظهور « الخبراء » الذين يدَّعون أنهم خبراء في حقل لا تُوجد فيه بالضرورة خبرةعلمية إذ يجب أن تسود فيه الاعتبارات الخلقية الإنسانية العامة.

وانطلاقاًمن هذه الثنائية، يطرح تشومسكي صورة المجتمع الإنساني المثالية، فهو مجتمع يتكون منتجمعات طوعية تلقائية تقضي على البنَى الهرمية القمعية. وهو يذكر باستحسان كبيرمقولة ماركس عن العمل في المجتمع المثالي، حيث يصبح العمل لا مجرد وسيلة للحياةوإنما تعبيراً عن حاجة إنسانية كبرى، فيصبح العامل مدفوعاً للعمل بنزعته الجوانيةالتلقائية (لا القسر الخارجي البراني). ورغم مثالية هذه الصورة، إلا أن تشومسكييبيِّن أن هناك دلائل إمبريقية عليها. فالأسرة، على سبيل المثال، كيان اجتماعييعبِّر بشكل جيد عن الإمكانات الكامنة عند الإنسان إذ لا يحاول أفراد الأسرة تعظيمالربح وإنما يتعاملون مع بعضهم البعض داخل إطار من التضامن والتعاون.

وينادي تشومسكي بما يسميه «الاشتراكية التحررية». وهي نزعة فوضوية (بالمعنىالفلسفي) معادية لا للرأسمالية وحسب وإنما معادية أيضاً للتنظيم المركزي للدولةالاشتراكية. كما ينادي بما يُسمَّى «النزعة النقابية الفوضوية» (« ارتباطات حرةلمنتجين أحرار») وهو يرى أن الكيبوتس في الدولة الصهيونية من أهم التجارب التييتحقق فيها هذا المثل.

ورغم هذه الفوضوية والنزوع الشديد نحو الحريةوالتلقائية، لا يجد تشومسكي أية غضاضة في أن يُمجِّد دور العلم الحديث والتكنولوجياباعتبار أنها آليات يمكنها أن تريح الإنسان من ضرورات العمل وتُحقّق له أساساًلنظام اجتماعي يستند إلى الترابط الحر والتحكم الديموقراطي ( « إن كان لديناالإرادة في أن نفعل ذلك»)

في مقابل هذهالصورة الوردية، يضع تشومسكيالنظام الرأسمالي الذي يستند إلى مفهوم الإنسان الطماع التنافسي الذي يُعظّم الثروةوالقوة، الخاضع لعلاقات السوق، وهو مفهوم معاد للطبيعة البشرية كما يراها تشومسكي (وفي سياق آخر، يقول « معاد لقوانين الطبيعة » دون أن يبيِّن ما المقصود: الطبيعةالبشرية أم الطبيعة المادية بعامة؟ وهو غموض له مدلوله العميق الذي يشبه التأرجحبين الكمون والبرمجة كما سنبين فيما بعد). فحفنة من الرجال يُتخَمون بالسلعالاستهلاكية التي لا حاجة لهم بها، بينما الملايين الجائعة تحتاج الضروريات. والرأسمالية، بحكم بنيتها، لا يمكنها أن تفي باحتياجات البشر، لاستحالة الوفاء بهاإلا من خلال قنوات اجتماعية. ولا يمكن أن يحل محل الرأسمالية التقليدية رأسماليةالدولة الشمولية أو رأسمالية الدولة المسلحة (التي بدأت تظهر في الولايات المتحدة) أو دولة الرفاه البيروقراطية المركزية ولا حتى الدولة الاشتراكية المركزية. فالدولةآلية كبرى للتحكم والهيمنة، بنية قوة وليست كياناً إنسانياً أخلاقياً. وتشومسكييعارض، بطبيعة الحال، السوق الحر ويرى أنه من أهم آليات التحكم والهيمنة.

ويُلاحظ تشومسكي أن عملية الهيمنة لم تَعُد تتم من خلال القمع وإنما تتم منخلال الإغواء، ومن هنا يلعب الإعلام دوراً أكثر خطورة من دور الدولة، كما أنللشركات التجارية الضخمة دوراً يفوق دور الدولة، كما يلعب الخبراء دوراً مهماً فيعملية القمع من خلال الإغواء (والخبراء هم أشخاص يعتقدون أن عندهم إجابات علميةتستند إلى خبرتهم العلمية في مجالات لا تحتاج، في واقع الأمر، إلا للرؤيةالأخلاقية. وقد عرَّف كيسنجر الخبير بأنه الشخص القادر على الإفصاح بوضوح ودقة عنإجماع أهل القوة) فيتكاتف كل هؤلاء لتخليق الإجماع والرأي العام الحر. ومن هناتأكيد تشومسكي دور اللغة والمفردات والأسلوب، فهي آلية أساسية لتخليق الإجماع ومنثم كَبْت الإبداع والحرية. فيُلاحظ تشومسكي أن المُصطلَحات في اللغة السياسيةتُستخدَم بشكل مختلف ومعكوس تماماً بحيث تُظهر الكلمات نقائض ما يُضمر القائلون،بحيث تُعطي الكلمات مدلولات تختلف عن مقصودها اللغوي وتُجرِّدها من معناها الأصلي. ففي القرن التاسـع عـشر سُمِّي الاحتلال «حماية»، والهيمنة « انتداباً »، والنهبالاستعماري « عبء الرجل الأبيض ورسالته »، ثم استُبدلت بهذه التسميات المضللةتسميات أخرى لا تقل عنها ضلالاً وتضليلاً إنما تتفق مع ما يُسمَّى «روح العصر». فدخلت إلى المعجم السياسي المتداول كلمات جديدة مثل: «المعونات الدولية » ـ « القروض » ـ « نقل التكنولوجيا » ـ « الاعتماد المُتبادَل »، وكل هذه المُصطلَحات لاتخرج عن مضمون الاحتلال والتبعية والاستنزاف بصور جديدة.

ومن بين هذهالكلمات ذات المدلول المضلل في الاستعمال السياسي الدولي كلمة « الإرهاب » بحيثأصبحت القوى الاستعمارية والمنظمات الدوليـة الخادمــة لها تسـتخدم الكلمة «الإرهـاب الدولي » كمرادف لتعبير « الحرب المشروعة » التي هي حرب الضعفاء ضدالأقوياء بحيث أصبح من يقذف حجراً أو يُطلق رصاصة على من يحتل أرضه ويسلبه كرامةالمواطن « إرهابياً مدفوعاً»، على عكس المحتل الذي يبدو وكأنه بالاحتلال يؤدي حقاًتُقِّره الأعراف، فقد تبلور كل هذا في اتجاهين أساسيين:

1
ـ أصبح القتلوالنهب بالجملة يُسمَّى «حرباً مشروعة» ويُسمَّى من يمارسها «إمبراطوراً»، أماالقتل والنهب بالتجزئة فتُسمَّى «إرهاباً» ويُسمَّى من يمارسها «لصًّآ أو قرصاناً».

2
ـ ما تمارسه الولايات المتحدة يُسمَّى «حرباً» وما يُمارَس ضدها «إرهاب».

فمُصطلَح «إرهابي» مثلاً تستخدمه كلٌّ من إسرائيل وأمريكا والإعلام « العالمي » للإشارة إلى الفدائيين الفلسطينيين أو أي شخص يقف ضد مصالحهم مع أنهماأكبر دولتين إرهابيتين في العالم. وكلمة «توازن» هي الأخرى أصبحت تعني « حمايةالمصالح الأمريكية »، فحينما تظهر قوة قومية محلية تحاول الدفاع عن مصالحها تُوصَفبأنها تخل بالتوازن، بينما كل ما فعلته هو محاولة فرض توازن جديد يفي بمصالح الشعبعلى عكس التوازن القديم.

كما أن عملية تخليق الإجماع التي تقوم بهاالمؤسسات الحكومية وغير الحكومية قد حققت نجاحاً منقطع النظير، إذ تَحوَّل المواطنالعادي في الغرب إلى إنسان مُنمَّط مُدجَّن مطوَّع لا توجد في عقله أية بنَى داخليةثابتة ولا حاجات جوانية ذات صفة ثقافية أو اجتماعية، ولذا فهو إنسان مرن طيِّعتماماً؛ قادر على التَحوُّل والتلون يسهل تشكيل سلوكه من خلال سلطة الدولة أو مديرالشركة أو التكنوقراطية أو اللجنة المركزية (إنسان يذكرنا بالإنسان ذي البُعدالواحد عند ماركوز وغيره من فلاسفة مدرسة فرانكفورت)، وبذا يتم تهميش الجماهيروتبقى السلطة في يد الدولة والشركات والخبراء.

ويؤمن تشومسكي، شأنه شأنفلاسفة مدرسة فرانكفورت، بنظرية التلاقي. فهو يرى أنه لا يوجد فارق كبير بينالاتحاد السوفيتي (سابقاً) والولايات المتحدة الأمريكية. فالخلاف الوحيد بينهما أنالإمبريالية السوفيتية كانت تمارس نشاطها داخل حدودها (فالاتحاد السوفيتي كان دولةمترامية الأطراف)، بينما ذراع الولايات المتحدة تمتد خارج حدودها في أرجاء العالمكافة. وفي إطار هذا التلاقي، يشير تشومسكي إلى النظام الذي نشأ في العالم الغربيبعد عصر النهضة باعتبـاره « نظـام ما بعـد كولومبـوس» (مكتشف أمريكا) أي أنه نظامواحد، ويصفه بأنه نظام مبني على القرصنة والنهب.

وبعد أن عرضنا المنظوماتالمختلفة عند تشومسكي (المعرفية واللغوية والأخلاقية والسياسية)، وقبل أن نعرضلآرائه في الأداء السياسي في أنحاء العالم، قد يكون من المفيد أن نتوقف عند بعضالتناقضات العميقة التي تسم فكره. فتشومسكي فوضوي ملتزم بالعلم والتكنولوجيا (ولهمامنطقهما الرياضي الحتمي الصارم الذي يتجاوز حرية الأفراد وأغراضهم). وهو يؤمن بأنعقل الإنسان حر بسبب الأنساق الكامنة فيه ولكنه يعود ويسميها « برنامج » و«شفرة». وهو يقف بشدة ضد الرأسمالية والسوق الحر باسم الدفاع عن الحرية، ويتعاطف مع التخطيطالعقلاني الذي يعني ضرورة اكتشاف القواعد وتطبيعها كما يعني المزيد من الترشيد. وهويرى أن الأسرة مؤسسة يتم فيها تلاقي الإنسان بأخيه الإنسان في إطار من التراحم،ولكنه يرى أن الكيبوتس (المبني على تصفية الأسرة لصالح التنظيم الجماعي) أكثرالمؤسسات مثالية. وهو فوضـوي يؤمن بالتلقـائية الكاملة وبصوت الشعب، ولكن حين سألتهماذا لو أخطأ الشعب، رد قائلاً: "لابد إذن من توجيهه" (فقلت له: "من أي منظور؟ ومنيعطينا هذا الحق؟").

هذا التناقض يضرب بجذوره في تَناقُض عميق في فكرتشومسكي. وأثناء زيارته للقاهرة عام 1994 طرحت عليه قضية العلم النازي والتجريبالنازي وقضية الطبيعة، وهو مُصطلَح يستخدمه كما أسلفنا بشكل مبهم أحياناً. سألتتشومسكي: ما الطبيعة؟ وهل هناك داخل البشر ما يُميِّزهم عن الطبيعة أم أنهم جزء لايتجزأ منها لا يتجاوزها قط؟ وأشرت إلى بعض آرائه التي عرضت لها من قبل، ولعبارة « معجزة اللغة » على وجه التحديد وسألته ألا تعني هذه العبارة خرقاً لقوانين الطبيعةوالمادة في حالة الإنسان، أو على الأقل انقطاعاً وعدم استمرار. ومضمون سؤالي كان،في واقع الأمر، عن الثنائية العميقة التي تسم رؤيته وعن التمركز حول الذات في نسقهالمعرفي. ولكن تشومسكي، شأنه شأن كل الفلاسفة الغربيين العلمانيين، يحاول أن يُنكرأية ثنائية حينما يُواجَه بالتضمينات الفلسفية لنسقه المعرفي. ولذا ضاق تشومسكيذرعاً بسؤالي وأجاب إجابة تنم عن الضيق وقال: الطبيعة هي كل ما هناك، والطبيعة لاتُردُّ إلى شيء خارجها (نيتشر إز إرديوسابل Nature is irreducible). وقد عُدت إلىكتاباته أبحث عن إجابة أكثر تفصيلاً وإفاضة، فوجدت أن تشومسكي الذي يؤكد كمونيةالأفكار يرى أنها في نهاية الأمر وفي التحليل الأخير إن هي إلا جزء من بيولوجياالإنسان (شأنها في هذا شأن الجوانب الفسيولوجية التشريحية). ولذا، لا يتردد تشومسكيفي أن يصف مَلَكة اللغة (معجزة اللغة) في مُصطلَح بيولوجي مادي حتمي صرف. فاكتسابالطفل للغة لا يختلف عن تغييره أسنانه من الأسنان اللبنية إلى الأسنان الناضجة،وكالمراهق حين تتغيَّر خصائصه التشريحية. فاللغة تنمو فسيولوجياً، تماماً مثل أيةصفات تشريحية أخرى، من تلقاء نفسها، أي أن كلمة «كامن» تصبح «فسيولوجي» أو «فيزيائي»، والبنَى العقلية الكامنة هي بنَى فيزيائية. والكمون لا يعني في واقعالأمر سوى البرمجة البيولوجية أو التشفير (بالإنجليزية: بروجرام program وكود code)، وهي كلمات تشير إلى نظم مغلقة حتمية. ولا يتردد تشومسكي في أن يصف نظمناالعقيـدية بأنهـا النـظم التي يقـوم العقل (باعتباره بنية بيولوجية) بإنتاجها. ويرىتشومسـكي أن العقل قد « صُمم » لتوليدها (بالإنجليزية: ديزاينيد designed] وهي كلمةتعني « تصميم » ولكنه تصميم هندسي لآلة، أي أن الكلمة التي تشير إلى الإبداع تستدعيفي الوقت نفسه نظاماً مغلقاً حتمياً). ويبدو أن هذه ليست مجرد صور مجازية لوصف شيءيصعب وصفه باللغة المباشرة وإنما هو وصف حرفي إذ أن تشومسكي يشير إلى العقلباعتباره عضو التفكير (بالإنجليزية: منتال أورجـان mental organ) أو وحـدة قياسية (بالإنجليزية: موديول module)؛ فالعبارة الأولى وصف عضوي للعقل، والثانية وصف آلي،وكلاهما مغلق وحتمي. وكل النظريات العلمية التي تم تطويرها عبر تاريخ البشريةمستمدة من حصيلة محدودة من النظريات الممكنة وفرتها لنا الجينات (النظام البيولوجي) وتتناقلها الأجيال. وهكذا توارى الإبداع وحلت محله الحتمية البيئية والاجتماعية (التي نادى بها السلوكيون والتي هاجمها تشومسكي) وهي حتمية بيولوجية.

إنتشومسكي قد رفضفي إحدى المناظرات العامة (عام 1975) أية مفاهيم برانية مثل «سياق» و «تَفاعُل»، فبينما كان بياجيه يرى أن تَطوُّر الطفل يتم من خلال تفاعله مع سياقه،أصر تشومسكي في تفسيره تَطوُّر لغة الطفل على عدم وجود أي مبرر لتَبنِّي مفاهيمالتعليم التدريجي عن طريق الاكتساب، ورفض استيعاب اللغة في أيٍّ من نظم التمثيلالإدراكي الأخرى مثل تصنيف الأشياء وتَخيُّل الصور حتى تحتفظ اللغة بتفرُّدها كلحظةفارقة. وهو، بذلك، يصل إلى قمة تمجيد الحرية والإبداع. ولكنه يُفسِّر اللغة بعد ذلكعلى أساس برنامج شفرة كامنة في نظام الإنسان البيولوجي، وأن ما هو بيولوجي هو حتميصارم مطلق. بل ويرى البعض أن الحتمية البيولوجية (المسوغ النظري للنظريات العرْقيةوالهيمنة الإمبريالية) أشد ضراوة ولا إنسانية من الحتميات البيئية والاجتماعـية. فبإمكان البشر التحكم في البيئة وتغيـيرها، ولكنهـم يعجزون (حتى الآن على الأقل) عنالتحكم في الجينات وتغييرها.

ولكن تشومسكي يرى العكس، فالحتمية البيئيةوالاجتماعية مرتبطة في نظره باستغلال الإنسان لأخيه الإنسان، على عكس الحتميةالبيولوجية، فهي مصدر الحرية لأنها نابعة من داخل الإنسان كامنة في عقله لا تحدهاحدود برانية، ولذا فإن الحتمية البيولوجية تُولِّد في نفسه قدراً كبيراً من التفاؤلوالالتزام بالقيم الأخلاقية والإيمان بالمستقبل. ورغم تفاؤله بشأن الحرية، إلا أننسقه الحتمي البيولوجي يؤدي به (من حيث لا يشعر) إلى العداء للتاريخ ثم إعلاننهايته. ويمكن القول بأن ثمة عداء للتاريخ في منظومة تشومسكي يتبدَّى في موقفه مناللغويات الاجتماعية والمقارنة، وفي تبجيله المتطرف للعلم والتكنولوجيا وعقيدةالتقدم (والعداء للتاريخ إحدى سمات الموقف البنيوي الأساسية وكذلك تفسيراتهالكمونية العقلية التوليدية). أما فيما يتصل بنهاية التاريخ، فإن تشومسكي ـ كماأسلفنا ـ يرى أن النظريات العلمية والرؤى الإنسانية مستمدة من حصيلة محددة من الرؤى (البرامج الوراثية) وفرتها لنا الجينات ويتناقلها البشر عبر الأجيال من خلالها. ولكن هذه النظريات (الشفرات ـ البرامج) العلمية قاربت على النضوب لأن العصر الحديثيضم أناساً كثيرين يُوفِّر لهم المجتمع وقت الفراغ اللازم والتسهيلات اللازمةلعملية البحث العلمي وكشف البرامج الكامنة. وما تبقى من موضوعات ليس بإمكان العقلإدراكها، فهي قد تبقى كذلك إلى نهاية الزمان لأنها تقع خارج نطاق النظريات (البرامج) المتاحة للإنسان بيولوجياً (أي أن تشومسكي قد أحل البيولوجوس محلاللوجوس).

هنا سألت تشومسكي مجموعة من الأسئلة: ما الفرق إذن بينه وبينالسلوكيين إذا كان كل شيء بيولوجياً فيزيائياً مُشفَّراً في الجينات؟ وإذا كانعلينا أن نتبع الطبيعة (البرامج الطبيعية التي صُـمِّمت مسبقاً) أفلا يمكن إذندراسة الإنسان كما تُدرَس الفئران (وهذه خطيئة السلوكيين الكبرى)؟ ألا يمكن لهؤلاءالخبراء أن يوفروا علينا الكثير من العناء ويدرسوا الموضوع (الإنساني) بآلاتهمالعلمية الدقيقة؟ ثم دفعت السؤال إلى ناحية حساسة وسألته: كيف يمكن التصدي لمجموعةمن العلماء (النازيين) الذين يرون أن بإمكانهم إسعاد البشر إن قَبل البشر أن يخضعواللتجريب ويُذعنوا للنتائج العلمية، فهؤلاء الخبراء بوسعهم أن يستخلصوا لنا قوانينالطبيعة التي يمكن على أساسها تأسيس المجتمع وتحديد ما هو خير وما هو شر وما هونافع وما هو ضار؟ وماذا لو قال هؤلاء الخبراء إن المسنين والمعوقين واليهود يقفونضد قوانين الطبيعة (الإنتاجية - السعادة المادية)؟ ماذا يمكن أن نقول لهؤلاءالخبراء؟ أي أنني ألمحت إلى أن هذه العقلانية المادية تؤدي إلى الواحدية والعقلانيةالتكنولوجية والتي تؤدي بدورها إلى التجريبية والوضعية والسلوكية والهيمنة والتحكم. فبيَّن تشومسكي أن كلمة «فيزيائي» (أي مادي) حسب تَصوُّره قد تم توسيع مدلولهاتدريجياً لتغطي أي شيء يمكن فهمه، ولذا فالكلمة لا تُعرَّف بمعزل عن العقل. ومضمونالكلمة سيتسع ليغطي كل الخصائص التي يكتشفها العقل، فأشرت إلى أن المرجعية النهائيةفي هذه الحالة ستظل هي العالم المادي والفيزيائي، أي أن الإنسان يُستوعب في الطبيعةوذكَّرته بالعبارة التي استخدمها «الطبيعة لا يمكن أن تُردُّ لأي شيء خارجها »،وهذا هو الافتراض السلوكي الأساسي، ثم أشرت إلى أحد أهم الأنماط الفكرية العامة فيالحضارة الغربية: محاولة التجاوز من خلال المادة. ثم أشرت إلى أن الأفكار الكامنةيمكن أن تكون إيجابية أو سلبية، وأنه في إطار الحتمية البيولوجية التي يتحرك فيإطارها لا يوجد مجال لقبول البعض ورفض البعض الآخر، فالطبيعة هي كل ما هناك وعليناقبولها والإذعان لها! وقد طلبت من تشومسكي أن يُفسِّر لي ظاهرة ما بعد الحداثة فيالغرب، وهي فلسفة تقف على طرف النقيض من فلسفته، فهو يؤمن بمعجزة اللغة ومقدرةالإنسان على توليد نظم اتصالية تستند إلى إنسانية مشتركة، أما ما بعد الحداثة فتؤديإلى انفصال الدال عن المدلول وإلى عطب اللغة واستحالة التواصل ومن ثم إلى انسحابالعقل واستحالة إقامة العدل. وكان الهدف من السؤال أن أُبيِّن له أن النظم الفلسفيةالمادية يمكن أن تؤدي إلى أي شيء، وأن إيمانه بالإنسان، النابع من إيمانه بمعجزةاللغة، هو إيمان نابع من شيء كامن في الإنسان، ولكنه مُتجاوز للنظام الطبيعي (أينابع من ثنائية مبدئية). فكان رده هذه المرة جافاً وصارماً إذ قال: إن ما بعدالحداثة نتاج ثرثرة المثقفين الفرنسيين الذين يجلسون على المقاهي يضيِّعون وقتهمفيما لا يفيد!

وأخيراً، أثرت مع تشومسكي قضية الدين والأدب والفن، وأنه رغمحديثه المستمر عن الإبداع لا يعالج إلا السياسة (وبشكل مباشر) في كتاباته السياسية،أما كتاباته اللغوية فهي لا تتعرض أبداً لأية نصوص أدبية، والنص الأدبي نص لغويمكثف يبيِّن معجزة اللغة عن حق. فقال إنه قد سمع هذا النقد من قبل ولعل انشغالهبالسياسة هو السبب (وهو تفسير غير كاف في تصوري). أما فيما يتصل بالدين فقد قال إنهلم يمكنه قط أن يتعامل مع فكرة الإله أو ما وراء الطبيعة ولا يمكنه أن يفهمها، وأنمناقشة مثل هذه الأمور أمر لا طائل من ورائه. وأعتقد أن إهماله الدين والأدب والفننابع من حتميته البيولوجية الواحدية، ولذا فهو يؤثر الابتعاد عن الحقول المعرفيةالتي يمكن أن تثير له أسئلة تقع خارج نطاق نموذجه المعرفي.

ويمكن أن نعرضالآن لآراء تشومسكي في بعض القضايا السياسية المعاصرة. أهم إسهامات تشومسكي هوتسليطه الضوء على دور الولايات المتحدة في إدارة العالم الحديث وإفساده والهيمنةعليه، وهو دور مرتبط تمام الارتباط ببنية الولايات المتحدة السياسية. فهو يذهب إلىأن الولايات المتحدة هي الدولة التي يصل فيها نظام ما بعد كولومبوس (المبني علىالنهب والقرصنة) إلى الذروة، وتتبلور حقيقة هذا النظام مع ظهور المركَّب الصناعيالعسـكري. ولهذا النظــام ضحاياه داخل الولايات المتحدة وخارجها. أما في الداخل،فإن مؤسساته تتجه نحو المزيد من السيطرة والهيمنة والمركزية حتى نجح النظام السياسيفي الولايات المتحدة في أن يخلق جواً غير سياسي (يلائم الإنسان المرن ذا البُعدالواحد المفرغ من الداخل). فعلى سبيل المثال، اختفى الوعي الطبقي تماماً حيث لايُوفِّر مكتب الإحصاءات الاتحادي البيانات عن الطبقات الاجتماعية. والصحافة بدورهاتعطي انطباعاً بأن معظم أعضاء الشعب الأمريكي ينتمون إلى الطبقة الوسطى. هذا علىعكس الطبقة الرأسمالية التي تتسم بوعي طبقي حاد وتخوض حرباً طبقية صريحـة. ولكنالإشـارة إلى هـذا الأمر تقتصر على الصحافة الاقتصادية.

ويبيِّن تشومسكي أنالفرد في المجتمع الأمريكي يتمتع بقدر عال من الحرية لا مثيل له في العالم. ولكنالشرائح الاجتماعية الرأسمالية قد سيطرت على ذهن الجمهور من خلال الإعلام الذييتمتع بميزانيات ضخمة ليس لها نظير في العالم. وقد تم استيعاب المثقفين تماماً داخلهذا النظام. ويتميَّز النظام الأمريكي، إلى جانب كل هذا، بغياب مؤسسات الرفاهالاجتماعي ووهن المنظمات النقابية. ونظام ما بعد كولومبوس (في حالة الولاياتالمتحدة) لا يبقى داخل حدوده وإنما يمتد ليشمل العالم بأسره. وعدو الولايات المتحدةالأساسي هو النظم القومية الراديكالية التي تستجيب للجماهير المطالبة بتحسين مستوىالمعيشة وتنويع الاقتصاد وما يُسمَّى «الوطنية الاقتصادية» (أي العمل على تنميةالبلاد ضمن إطار من الاستقلالية)، فهذا يتناقض مع مصالح الولايات المتحدة ورغبتهافي الحصول على المواد الخـام وفي توسـيع نطـاق اقتصاديات السـوق الحرة. والمفترض فيالعالم الثالث أن تكون مصدراً للمواد الخام ومنطقة تصريف وخدمات وحسب. وللتغلب علىمثل هذه الحكومات، تلجأ الولايات المتحـدة لعـدد من الإستراتيجيات، فوكالةالاستخبارات الأمريكية، على سبيل المثال، قامت ضمن النشاط التخريبي للولاياتالمتحدة بترويج المخدرات، إذ قامت هذه الوكالة بإعادة تأسيس نشاط مافيا الهيروين فيفرنسا بعد الحرب العالمية الثانية حتى يتم تقويض الحركة العمالية والنقابية وحركةمقاومة الفاشية. والشيء نفسه حدث في أفغانستان إذ قامت المخابرات الأمريكية بتمويلحكمتيار من خلال المخدرات (يُقال إن محصول الأفيون في أفغانستان الآن أكبر محصولشهده العالم).

ويشير تشومسكي كذلك إلى الانقلابات العسكرية المباشرة كماحدث في حكومة مصدق التي كانت حكومة قومية صرفة ذات أهداف قومية محددة. وهناك، كذلك،التدخل العسكري المباشر كما حدث في فيتنام وفي أرجاء العالم المختلفة.

ولكنالولايات المتحدة بدأت تتخلى عن أشكال المواجهة المباشرة وتلجأ إلى الهيمنة من خلالآليات جديدة من أهمها عمليات ما يُسمَّى «التكامل الاقتصادي»، وهو تكامل يتم فيواقع الأمر بين المصالح الأمريكية وبعض النخب الحاكمة، وبالتالي فهي تؤدي إلى مزيدمن إفقار الجماهير وتؤدي إلى الهيمنة الأمريكية كما يحدث في أمريكا اللاتينية. وفيهذا الإطار،يمكن فهم السوق الشرق أوسطية،فهي أساساً محاولة لإنشاء حلف بين عملاءالولايات المتحدة (إسرائيل ـ تركيا ـ مصرـ بلاد الخليج) على حساب المنطقة ككل (وهذاما فشلت الولايات المتحدة في تحقيقه قبل حرب الخليج). وهدف السوق الشرق أوسطيةالأخير هو إلغاء القضية الفلسطينية تماماً.

ويرى تشومسكي أن الولاياتالمتحدة، في الوقت الحاضر، تعتبر الشرق الأوسط منطقة نفوذ أمريكية، حكر عليها،ومحظوراً على الدول الأخرى، بما في ذلك حلفاء الولايات المتحدة، التدخل فيها. وهيلا تحتاج لبترول العرب كمصدر طاقة وإنما كمصدر قوة للضغط على اليابان وأوربا، وهذسر عداء الولايات المتحدة للحركات الإسلامية، فهذه الحركات قد أصبحت أصدق تعبير عنالحركة الوطنية المستقلة والوطنية (الاقتصادية) في العالم الثالث، وهي لا تزالتتصدى للولايات المتحدة وعملائها. وقد أشار تشومسكي في أحد تصريحاته أنه قابلمجموعة من المفكرين الإسلاميين أثناء زيارته للقاهرة حيث ذكَّره هؤلاء بأعضاء النخبالمستقلة في العالم الثالث الذين يؤمنون بنماذج التنمية المحليةالمستقلة.


وقد وجَّه البعض النقد لتشومسكي باعتبار أنه حتمي يتجاهلعديداً من التغيرات، وبخاصة في العالم الثالث، وأنه أطلق من التنبؤات ما ثبت عدمدقته. ولكن تشومسكي، رغم أنه يبيِّن شراسة الولايات المتحدة وقوتها، لا يرى أنالقضية منتهية. فثمة أمل يتبدَّى في التقلص المستمر لقوة الولايات المتحدة، فقدأصبحت مقيدة بالسوق العالمية، كما أن ثمة 14 تريليون دولار من الأموال غير خاضعةللسلطات الحكومية في العالم اليوم، وهذا يجعل دفاع الدول الأوربية والولاياتالمتحدة عن عملاتها عقيماً. كما أن الولايات المتحدة لم تتمكن من تحقيق المكاسب فيكثير من المناطق (في الشرق الأوسط وغيره) وهذا دليل آخر على أن قدرتها محدودة.

ويُلاحظ تشومسكي كذلك أن هناك من المؤشرات ما يدل على أن النظـام الأمريكيلم ينـجح تماماً في إحكام قبضـته على الشـعب الأمريكي، وعلى أن هناك تزايداً للسخطفي صفوف الجماهير غير المُسيَّسة المُدجنَّة عن طريق وسائل الإعلام. ففي استطلاعاتالرأي العام عادةً ما يذهب 50% إلى أن الحكومة يديرها رجال الأعمال لصالحهم وليسلصالح الشعب، كما يُلاحَظ أن 50% من الشعب الأمريكي لا يذهبون للانتخابات، وهو مايعني أن الانسحاب هنا هو احتجاج على ما اكتشفه الناخبون.

ويرى تشومسكي أنثمة انفصاماً شبه كامل بين الجماهير الأمريكية والحكومة الأمريكية منذ بدايةالثمانينيات، كما أن كل استطلاعات الرأي تثبت هذه الفكرة حيث تعارض الجماهيرالمغامرات العسكرية والإنفاق على التسلح وتطالب بمزيد من الإنفاق الاجتماعي. وهويرى أن الرأي العام يجبر الحكومة على اتخاذ خطواتها في السر أو بمعزل عن الرأيالعام. ورغم سقوط الاتحاد السوفيتي، إلا أن الولايات المتحدة كثيراً ما تتردد فيالتدخل في مختلف أرجاء العالم لتعاظم المعارضة الداخلية في الولايات المتحدة.

وتشومسكي يؤمن بعقيدة التقدم: فإطار الحرية والعدالة يتسع دائماً، وهذه صفةنماذجية عامة تنطبق على عموم الحقب التاريخية. فالاتجاه العام هو نحو التقدم (وإنكان الأمر لا يخلو من بعض الانتكاسات!). ويضرب تشومسكي أمثلة على انتصار التقدم (والعدالة والحرية)، فالاسترقاق لم يعد مقبولاً والتجارب المعملية على البشر أصبحتتُعتبَر أمراً وحشياً (بعد أن كانت أمراً مقبولاً) وبدأت النساء يحصلن على مزيد منحقوقهن.

وفيما يتصل بالقضية الفلسطينية، فمن المُلاحَظ أن تشومسكي ليست لهآراء معلنة في اليهودية واليهود، ولكن موقفه من الصهيونية يتسم بنوع من الازدواجيةواللاتاريخية. فهو يرى أن الصهيونية حركة قومية ذات وجه إنساني لكن لها وجهاً آخر،فهي أيديولوجيا يتنازعها عنصران: أحدهما إيجابي والآخر سلبي. أما الجانب الإيجابيفهو مؤسسة الكيبوتس وهي الجانب الاشتراكي العالمي. وقد طوَّر المُستوطَن الصهيوني (يشير له تشومسكي بالمُصطلَح العبري «يشوف» وهو أمر له دلالته وينم عن النزعةاللاتاريخية) أكثر المؤسسات الاشتراكية نقاءً في العالم. وتُعدُّ نموذجاً مصغراً (مايكروكوزم) للبقاء الإنساني الذي يستحق الاحترام. ولكن الصهيونية لها أيضاًجانبها السلبي، وهو الجانب القومي الاستبعادي الرجعي الذي يُنكر وحدة البشر، ويؤكدبدلاً من ذلك وحدة الأمة وضرورة فصل اليهود عن بقية العالم بدلاً من دمجهم. وفي هذاالإطار يرى تشومسكي أن ثمة حقاً صهيونياً وأن الصراع العربي الإسرائيلي هو صراع حقفي مواجهة حق آخر، وأن إسرائيل (في حدود ما قبل 1967) تُجسِّد الحق المشروع لليهودالإسرائيليين في تقرير المصير. ولذا، فإن قيام الدولة الصهيونية الاستيطانيةوحروبها عام 1948 هي "حرب استقلال"، وهو يصف سياسات الدولة الصهيونية بأنها عنصريةشديدة التعصب، إلا أنه عارض قرار الأمم المتحدة بإدانة الصهيونية كشكل من أشكالالعنصرية. ويمكن القول بأن تشومسكي لا يعارض المثال الصهيوني (الإمكانية الكامنة) وإنما الأداء الصهيوني وحسب، وهي رؤية أقل ما توصف به أنها ساذجة لأن الإمكانيةالمثالية لابد أن تتحقق بشكل جزئي. والأداء الصهيوني عبر تاريخه الطويل (منذ عام 1882) عنصري استبعادي إحلالي بشكل واضح، ونقطة البدء الصهيونية ذاتها (أي الاستيطانوإعلان الدولة) مبنية على اغتصاب الآخر.. أفلا يدل هذا على أن طبيعة الصهيونيةهوبزية داروينية نيتشوية وأن الصهيونية لا يمكنها أن تحقق البقاء إلا بطريقة غيرجديرة بالاحترام؟ أو لا يدل هذا على أن المثل الصهيوني الكامن قد يكون في واقعالأمر أكثر عنصرية وشراسة من الأداء الصهيوني؟

مهما يكن الأمر، فإن موقفتشومسكي من إسرائيل يتسم بالرؤية النقدية الصارمة، فهو يقبل حق تقرير المصيرللفلسطينيين في الضفة والقطاع ويبذل جهداً غير عادي في كشف السياسات العدوانيةوالتوسعية والعنصرية من جانب إسرائيل وعمالتها للولايات المتحدة. وقد وقف تشومسكيضد اتفاق أسلو ووصفه بأنه استمرار طبيعي لمشروع آلون (وهو مشروع يوافق عليه كلاالحزبين الأساسيين في إسرائيل ويدور في إطار عدم الإقرار بالحقوق الوطنيةللفلسطينيين وألا تُرغَم إسرائيل على الانسحاب إلى حدود 1967، كما أنه يعطي إسرائيلالفرصة في الوقت نفسه كي لا تدير بنفسها المناطق ذات الكثافة السكانية الفلسطينية). وكان المطروح في الماضي أن تقوم السلطة الأردنية بذلك، والتعديل الوحيد هو إحلالالسلطة الفلسطينية محل السلطة الأردنية. وكل هذا يعني في واقع الأمر تقليل الاحتكاكبين الفلسطينيين وقوات الاحتلال دون الإخلال بالأساس القمعي الإسرائيلي.

ولتشومسكي مؤلفات عديدة تغطي علم اللغة وعلم السياسة ومن أهم كتاباتهاللغوية: علم اللغة الديكارتي (1966)، و موضوعات في نظرية النحو التوليدي (1966)، واللغة والعقل (1968)، و دراسات سيمانطيقية دلالية في النحو التوليدي (1972)، ومقالات عن الشكل والتفسير (1977)، و اللغة والمسئولية (1979)، و القواعد والتمثيلات (1980)، و اللغة ومشاكل المعرفة (1987)، و اللغة والسياسة (1989).

أمادراساته السياسية فيمكن تقسيمها إلى قسمين: القسم الأول يُعنَى بشئون الشرق الأوسط،من بينها: السلام في الشرق الأوسط (1974)، و الثالوث الخطر: أمريكا وإسرائيلوالفلسطينيون (1983)، و قراصنة وأباطرة (1986)، و ثقافة الإرهاب (1988)، و أوهامضرورية (1989)، و الديموقراطية المعوقة (1991). أما القسم الثاني من دراساتهفيعبِّر عن موقف نقدي جذري للولايات المتحدة، ومن أهمها: القوة الأمريكية والســادةالجــدد (1965)، و إعـلان الحرب على آسـيا (1970)، و من أجل صالح الدولة (1973)، وحقوق الإنسان والسياسة الخارجية الأمريكية (1978)، و الاقتصاد السياسي لحقوقالإنسان (1979)، و نحو حرب باردة جديدة (1982).

ومما يجدر ذكره أن تشومسكي،رغم أصوله اليهودية الإثنية الواضحة، إلا أنه نادراً ما يُذكَر في الموسوعاتوالمراجع الصهيونية باعتباره فيلسوفاً أو عالماً لغوياً يهودياً. وتشير له بعضالمراجع الصهيونية باعتباره يهودياً كارهاً لنفسه. ولعل هذا يعود لمواقفه المعاديةللصهيونية وإسرائيل. وهذا يثير تساؤلاً: هل اتخاذ مفكر يهودي موقفاً معادياً منالصهيونية (أو بعض جوانبها) أو إسرائيل يُسقط يهوديته؟