صفحة 4 من 6 الأولىالأولى 123456 الأخيرةالأخيرة
النتائج 31 إلى 40 من 55
 
  1. #31
    مراقبة أقسام رد الشبهات حول الإسلام
    الصورة الرمزية ساجدة لله
    ساجدة لله غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 317
    تاريخ التسجيل : 1 - 10 - 2007
    الدين : الإسلام
    الجنـس : أنثى
    المشاركات : 16,234
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 23
    البلد : مصر الإسلامية
    الاهتمام : منتدى البشارة
    الوظيفة : أمة الله
    معدل تقييم المستوى : 33

    افتراضي



    إذا افترضنا جدلاً وجود تاريخ يهودي مستقل، فما أحداث هذاالتاريخ؟ وهل تأتي الثورة الصناعية، مثلاً، ضمن أحداث هذا التاريخ، أم أنها حدثينتمي إلى التاريخ الغربي؟ والواقع أننا نجد أن الثورة الصناعية حدث ضخم في التاريخالغربي ترك أعمق الأثر في يهود العالم الغربي وأحدث انقلاباً في طرق حياتهم ورؤيتهمللكون في القرن التاسع عشر، أي بعد وقوعه بفترة وجيزة. لكننا نجد أيضاً أن هذاالانقلاب لم يحدث لهم باعتبارهم يهوداً وإنما باعتبارهم أقلية تُوجَد داخل التشكيلالحضاري الغربي. ومن هنا، فإننا نجد أن هذا الانقلاب في طرق الحياة والرؤية للعالمقد حدث أيضاً لأعضاء الأغلبية ولأعضاء الآليات الأخرى الموجودة داخل المجتمعاتالغربية. وفي الوقت نفسه، لم يتأثر يهود العالم العربي بالثورة الصناعية بالدرجةنفسها وفي الوقت نفسه، ذلك لأن التشكيل الحضاري العربي كان بمنأى عن هذه الثورةالصناعية في بداية الأمر. لكن هذا التشكيل بدأ بعد حوالي قرن من الزمان يتأثربالثورة الصناعية، وبالتالي فقد بدأ أثرها يمتد إلى معظم المجتمعات العربيةبأغلبيتها وآلياتها. أما يهود إثيوبيا، مثلاً، فلم يتأثروا إلا بشكل سطحي، ذلك لأنالتشكيلة الاجتماعية الاقتصادية التي كانوا يعيشون في إطارها ظلت بمنأى عن تلكالتحولات الكبرى التي ترتبت على أحداث الثورة الصناعية، بل بقيت هذه التشكيلة ذاتطابع قَبَلي حتى وقتنا الحاضر. وبعبارة أخرى فإن الآثار المترتبة للثورة الصناعيةفي أعضاء الجماعات اليهودية هي مسألة تتعلق بأثر الثورة الصناعية في كل جماعةيهودية على حدة، وترتبط أشد الارتباط بآثار هذه الثورة في المجتمعات التي تعيش فيكنفها هذه الجماعات اليهودية.

    وعلى هذا، فإن الإطار المرجعي للدراسة لايمكن أن يكون التاريخ اليهودي. ولو أن الباحث جعل هذا التاريخ اليهودي مرجعاته لعجزحتماً عن تفسير كثير من عناصر التفاوت وعدم التجانس في هذا التاريخ، ولاضطر إلى ليّعنق الحقائق ليفسر سبب تأثر يهود لندن بالثورة الصناعية فور حدوثها وعدم تأثر بعضيهود إثيوبيا بها حتى الآن! أو اضطر إلى تفسير أحداث هذا التاريخ اليهودي الوهمي منخلال عناصر ثانوية أو وهمية، مثل رغبات اليهود وتطلعاتهم وتماسكهم ومدى اضطهادالآخرين لهم أو عطفهم عليهم. وإذا تأملنا الدراسات التي تفترض استقلالية التاريخاليهودي فإننا سنجد عبارات مثل: « وكان بورش الأميني متسامحاً مع اليهود فأعادهمإلى بلادهم » أو « وتمت عـدة هجمات ومـذابح ضد اليهود عـام 1882 في روسيا القيصرية » أو « وبدأ اليهود يفكرون في تقليد الشعوب الأخرى لتصبح لهم حركتهم القومية ووطنهمالقومي في فلسطين »، وكل هذه العبارات تفترض أن الأحداث التي تقع لليهود تُفسَّربالعودة إلى تاريخهم المستقل الافتراضي، وإلى رغباتهم وأحلامهم التي يبررها هذاالتاريخ الافتراضي. ويتم تجاهل البناء الإداري للإمبراطورية الفارسية التي اعتمدتعلى الشعوب الموالية لها، أو أزمة الرأسمالية أو النظام القيصري في عام 1882، أوظهور الإمبريالية الغربية التي كانت تحل مشاكل أوربا عن طريق تصدير هذه المشاكل إلىالشرق، وبالتالي حاولت حل مسألتها اليهودية عن طريق إرسال إلى هود إلى الشرق. لكنعزل التجارب التاريخية للجماعات اليهودية عن سياقها التاريخي الإنساني العاميحوِّلها، في الحقيقة، إلى أجزاء من واقع يهودي عام واحد يمكن فرض أي معنى عليه. ولذا، فإن وقائع اضطهاد اليهود (كاضطهاد يهود فلسطين على يد الفرنجة أو اضطهاد يهودروسيا في أواخر القرن التاسع عشر بسبب التحديث المتعثر) بدلاً من أن تُدرَس من حيثهي وقائع يمكن تفسير كلٍّ منها في سياقها التاريخي المختلف، تصبح تعبيراً عن غربةشعب نُفيَ من بلده، ويصبح الاستيطان في فلسطين وطرد الفلسطينيين من بلادهم ليسجزءاً من التشكيل الاستعماري الغربي وإنما النهاية السعيدة لتجوال شعب بلا أرض ـشعب افتراضي تجوَّل بسبب اضطهاد الجنس البشري له في كل زمان ومكـان ـ وتصـبح الدولةالصهيونية الحل الحتمي والوحيد لهذه المأسـاة.

    وإذا ما تركنا الجانبالمعرفي، سواء من ناحية الرصد أو من ناحية التفسير، وانتقلنا إلى الجانب الأخلاقيوالإنساني، فإننا سنكتشف أن نموذج التاريخ اليهودي المستقل يفترض وجود جوهر يهوديكامن يشكل ما يشبه النمط الفكري الجاهز لكل الأشكال التاريخية التي عاش في إطارهاأعضاء الجماعات. حيث يتجاوز هذا الجوهر كل التحولات ويصبغها بصبغته ويتحدى جميعالقوانين التاريخية المعروفة ويتخذ اسم «الماضي اليهودي» أو «الاستمرار اليهودي» أو «روح اليهودية» أو «الشعب اليهودي الأزلي» أو «المستقبل اليهودي»، وهذه جميعاًمطلقات علمانية تحل محل الإله الذي يوجه التاريخ اليهودي حسب الرؤىة الدينيةالحلولية. ومن هنا، فإننا نذهب إلى القول بأن مفهوم التاريخ اليهودي (في إطارهالعلماني العلمي) تعبير عن حلولي بدون إله حيث يصبح مسار هذا التاريخ هو التحققالتدريجي لهذا الجوهر الكامن وللـروح اليهـودية الدينيـة القوميـة. ويتم تفسير كلشيء على هذا الأساس، وتصبح مهمة المؤرخ هي البحث عن الجوهر اليهودي والروح اليهوديةوكل ما يعبِّر عنهما، متجاهلاً كل التفاصيل الأخرى. كل هذا يجعل التاريخ اليهوديأمراً لا علاقة له بالواقع الإنساني الدنيوي: تاريخ يشبه البناء المصمت المنغلق علىنفسه ويعبِّر عن نمط أو أنماط محددة متكررة لا تتعدى حدود تَجلّي الجوهر اليهوديالمطلق. وهذا النمط يأخذ الشكل التالي: منفى ثم عودة؛ المنفى هو الحدث الذي يقعلليهود، والعودة هي الفعل الذي يأتون به، وهذا التاريخ يبدأ عادةً بالعبودية في مصرثم يتم التغلغل في كنعاة والاستيلاء عليها وتأسيس المملكة العبرانية. ثم يتكررالنمط بالتهجير الآشوري والبابلي، تليه العودة من بابل حسب مرسوم بورش (الذي يؤسسالهيكل)، ثم تأسيس الدولة الحشمونية. ثم يتكرر النمط مرة ثالثة بهدم الهيكل على يدتيتو وشتات اليهود وعجزهم بسبب عدم المشاركة في السلطة وغياب السيادة. وتصل حالةالمنفى إلى قمتها في الإبادة النازية (الحدث الأكبر)، ثم تبدأ العودة من خلال تأسيسالحركة الصهيونية ثم تأسيس الدولة الصهيونية (الفعل الأكبر). ويلي ذلك تجميعالمنفيين من كل البلاد، وهذا النمط يفترض دائماً نهاية (مشيحانية) للتاريخ تتوقفعندها الدورات ويختفي الجدل ويظهر الفردوس الأرضي.

    ومثل هذا التصورللتاريخ، بأنماطه الهندسية المتكررة الرتيبة ونهايته القاطعة، لا يتنافى فقط معالروح العلمية، وإنما يتنافى مع الروح الإنسانية كذلك. فهو يُسقط عن اليهودي صفةالإنسانية بإنكار تفاعله مع البيئة التي حوله، يتأثر بها ويؤثر فيها، شأنه في هذاشأن كل أعضاء الجماعات الآنية والدينية الأخرى. فالقوات الآشورية والبابلية لمتكتسح الدولتين العبرانيتين وحسب، بل اكتسحت معظم الطويلات الآرامية وغيرها. كما أنأزمة النظام القيصري لم تتسبب في مذابح لليهود وحسب، بل كانت لها آثار سلبية عميقةفي قطاعات كثيرة من البورجوازية الروسية وفي جماهير الشعوب الإسلامية وغيرها. فنموذج التاريخ اليهودي يُسقط إنسانية اليهودي، ويخلع عليه هالة أسطورية لا تاريخيةإذ تضعه خارج التاريخ الإنسانيالفعلي.

    لكل ماتقدَّم، استبعدنا تماماً مصطلحات مثل: «التاريخ اليهودي» و«الماضي اليهودي» و«القَدَر اليهودي» و«المصير اليهودي»، وكذلك سائر المصطلحات التي تفترض وحدةالتاريخ اليهودي بشكل مباشر مثل «الاستمرار اليهودي». كما استبعدنا كل المصطلحاتالتي تفترض هذه الوحدة بشكل غير مباشر مثل «العبقرية اليهودية» و«الجوهر اليهودي». واستبدلنا بكل هذا مصطلحات تفترض التنوع وعدم التجانس مثل «الجماعات اليهودية»، وهومصطلح يفترض أن الجماعات اليهودية خاضعة للآليات التاريخية التي يخضع لها أعضاءالمجتمعات التي يعيش في كنفها إلى هود. وقد فصلنا تماماً بين التاريخ المقدَّس الذيورد في العهد القديم والأحداث التاريخية التي وقعت للعبرانيين وللجماعات اليهوديةمن بعدهم، وفصلنا بين تاريخ اليهودية وتواريخ الجماعات اليهودية، ومن ثم فإننا لانستخدم مصطلحات مثل «مرحلة الهيكل الأول» أو «هدم الهيكل» أو «الكومنولث الأول» أو «العصر التلمود» إلا في سياق الحديث عن التطورات الدينية، إذ أن كل هذه العباراتتشير إلى أحداث ذات دلالة دينية بالنسبة إلى الجماعات اليهودية ولكنها لا تصلحلتفسير المسار العام للتاريخ الدنيوي والإنساني في كليته. ونحن، بهذا، نؤكد انتماءأعضاء الجماعات اليهودية إلى بنىً تاريخية متعددة حيث يتسنى للدارس فهم سلوك أعضاءالجماعات اليهودية فهما مركباً، أي باعتبارهم أشخاصاً حقيقيين وبشراً يتفاعلون معالعناصر التاريخية المتشابكة المختلفة التي تحدِّد سلوكهم.

    ومن الحقائقالتي تستوجب الذكر أن عدد المؤرخين من اليهود كان دائماً صغيراً محدوداً. وحينماتفاعل أعضاء الجماعة اليهودية مع الحضارة العربية الإسلامية، فإنهم تعلموا الكثيرمنها ولكنهم لم يتعلموا كتابة التاريخ. ولهذا، ظل إسهام المبدعين منهم مقصوراً علىالأدب والفلسفة والعلوم الطبيعية.

    ونحن نرى أن نموذج التاريخ اليهودي هوالنموذج الأساسي الكامن في موقف الحضارة الغربية تجاه « اليهود » أي الجماعاتاليهودية. فالنزعة الصهيونية في الحضارة الغربية، والتي تمنح اليهود مركزية وقداسة،نابعة من افتراض وجود تاريخ يهودي مستقل يختلط في الأذهان بالتاريخ المقدَّس. كماأن معاداة اليهود، هي الأخرى، تعبير عن أن اليهودي شخص له سماته الفريدة والمحددةوطبيعته الخاصة النابعة من انتمائه لتاريخ يهودي مستقل. ونقطة الانطلاق بالنسبة إلىكلٍّ من الصهيونية والنازية (في موقفهما من اليهود) هي افتراض وجود شعب يهودي لهشخصية مستقلة وتاريخ مستقل. وفي تصوُّر كلٍّ من بغفور وهتلر، فإن المسألة اليهوديةناجمة عن وجود هذا الكيان اليهودي العضوي المستقل داخل الحضارة الغربية، يدمرهاوتدمره. ولذا، لابد من التخلص منه إما عن طريق إرساله إلى فلسطين أو عن طريق إلقائهفي أفران الغاز، فاليهودي يجب أن يخرج من الحضارةالغربية.






  2. #32
    مراقبة أقسام رد الشبهات حول الإسلام
    الصورة الرمزية ساجدة لله
    ساجدة لله غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 317
    تاريخ التسجيل : 1 - 10 - 2007
    الدين : الإسلام
    الجنـس : أنثى
    المشاركات : 16,234
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 23
    البلد : مصر الإسلامية
    الاهتمام : منتدى البشارة
    الوظيفة : أمة الله
    معدل تقييم المستوى : 33

    افتراضي



    التاريخ المقدَّس أو التوراتي (الإنجيلي(
    Sacred or Biblical History
    «التاريخ المقدَّس أوالتوراتي (الإنجيلي)» هو القصصالتاريخي الذي يرد في العهد القديم. وتاريخ العـبرانيين، كمـا ورد في العهد القديم،يختلف عن التاريخ الفعلي ويتناقض معه أحياناً. ويصلح هذا التاريخ أحياناً مصدراًللمعلومات والفرضيات، ولكنه أحياناً أخرى لا يمكن دراسته إلا باعتباره جزءاً منالرؤية الدينية اليهودية وحسب. وهذا التاريخ المقدَّس هو جزء من العقيدة اليهوديةكما أنه تعبير عن الطبقة الحلولية الواحدية داخل التركيب الجيولوجي اليهودي. وفيتصوُّرنا، فإن هذا التاريخ يختلف تماماً عن ممارسات أعضاء الجماعة اليهوديةبتجاربهم التاريخية. فالنسق الديني اليهودي، بما يجسده من قيم مطلقة ومثاليات،يختلف عن الممارسات الدينية والدنيوية للعبرانيين واليهود، وهو ما يسجله العهدالقديم. وفي هذا، لا يختلف أعضاء الجماعات اليهودية عن كل الجماعات والشعوبالإنسانية الأخرى. فتاريخ الهند والأقوام الهندية ليس تاريخ الهندوكية، وتاريخالصين ليس تاريخ الكونفوشيوسية، وتاريخ أوربا في العصور الوسطى لا يمكن تفسيرهبأكمله وبكل تركيبيته بالعودة إلى النسق الديني المسيحي السائد في ذلك الوقت، رغمفعالية هذا النسق في صياغة وعي الناس ووجدانهم وتوجيه بعض جوانب سلوكهم.

    إنتاريخ المسيحية، ديناً وفلسفة وفكراً، لا يتطابق وتاريخ المسـيحيين بحـيث يكونانشـيئاً واحداً (وذلك برغم ارتباط أحدهما بالآخر). وربما يتجلى اختلاف تاريخالمسيحية عن تاريخ المسيحيين في حملات الفرنجة حيث قام الغرب الأوربي بالهجوم علىالشرق باسم المسيحية فنهب القسطنطينية عاصمة المسيحية الأرثوذكسية ثم قام بالهجومعلى فلسطين دون أن يُفرِّق (في معظم الأحيان) بين مسلم ومسيحي ويهودي.

    وكذلك تاريخ اليهودية، سواء أكانت اليهودية عقيدة أم كانت فكراً أم شيعاًوانقسامات، يختلف عن التجارب التاريخية التي خاضتها الجماعات اليهودية، برغمالارتباط الوثيق بينهما في بعض الأحيان. فتاريخ مملكة الخزر، وتَحوُّل الجماعاتاليهودية إلى جماعات وظيفية وسيطة في أوربا في العصور الوسطى، وتحالف الصهيونية معالاستعمار ثم مع النازية، هذه كلها ليست جزءاً من تاريخ اليهودية وإنما تنتمي إلىتواريخ الجماعات اليهودية. ويظل تاريخ اليهودية هو تاريخ العقيدة الدينية. ونحن حيننقر هذا التمييز بين التاريخين، فإننا نتبنى بذلك نموذجاً أكثر تفسيرية إذ يظلالتاريخ نتاج تفاعل عدة عناصر من بينها الدين.

    والتاريخ التوراتي المقدَّسالذي ورد في العهد القديم هو تاريخ ذو مغزى أخلاقي تُستخلص منه العبَر. بل إنالعبرة قد تكون، في كثير من الأحيان، أهم من الحدث نفسه. وهو تاريخ يتبع نسقاًدينياً محدداً؛ يختار من الحدث ما يخدم الهدف، ويلجأ إلى الصور المجازية والرموزوالمبالغة ليوصل الحكمة إلى المتلقي. وبالتالى، كثيراً ما تتناقض وقائع هذا التاريخووقائع التاريخ الدنيوي وإن كانت تتفق معها أحياناً. ولكن كثيراً من القصص التيوردت في العهد القديم، والتي تدَّعي لنفسها صفة التاريخية، لا يمكن إثباتها بالعودةإلى التاريخ الدنيوي. كما أن بعض المدونات الآشورية والبابلية والمصرية تعطيناأحياناً صورة مختلفة تماماً. فوقائع هجرة العبرانيين من مصر، كما وردت في سفرالخروج، تختلف في كثير من النواحي عن الشذرات المتناثرة التي وصلتنا عن هذا الخروج،إن لم تكن متناقضة معها. كما يأتي ذكر سليمان في التاريخ التوراتي المقدَّس كملكعظيم مهيب، وأن المملكة المتحدة قد ازدهرت تحت حكمه حقاً. ولكننا نعرف أيضًا أن هذاالازدهار كان مؤقتاً وناتجاً عن الفراغ السياسي المؤقت في الشرق الأدنى القديم، كمانعرف أن مملكته لم تكن تختلف كثيراً عن الدويلات الأخرى التي ازدهرت في تلك المنطقةبسبب غياب الإمبراطوريات العظمى التي اكتسحتها فيما بعد، وتقاسمتها فيما بينها بعدظهورها. وهذه كلها جوانب يُسقطها التاريخ المقدَّس ولا يُعنى بها. كما نعلم أنسليمان، حتى في أوج عظمته، لم يصل إلى تلك الأبعاد الأسطورية التي تتحدث عنهاالرواية التوراتية.

    وثمة مدارس عديدة تتباين آراؤها في قصص العهد القديم،إذ يرى البعض أن التاريخ الذي يرد في العهد القديم هو تاريخ رمزي. فإبراهيم، حسبهذا التصور، ليس شخصية تاريخية وإنما يمثل مرحلة تاريخية وحسب، وبالتالى فهو رمزأكثر أهمية ودلالة وعمقاً من الواقعة التاريخية. وهناك من يذهبون إلى النقيضويحاولون دراسة التاريخ من خلال المعلومات الواردة في العهد القديم. وثمة من يسلكونطريقاً وسطاً بين المدرستين. حيث يسترشد الباحث بالتاريخ المقدَّس في معرفة التاريخالفعلى دون أن يكون ذلك ملزماً له. وهنا، لابد أن نشير إلى أننا أضفنا أحياناًعبارة «حسب الرواية التوراتية»، أو عبارات مماثلة، وذلك حين استندنا إلى الوقائعالتي وردت في العهد القديم، وحين استخدمنا هذه الوقائع كمادة تاريخية.

    والفكر الغربي واليهودي والصهيوني يتجه دائماً نحو محاولة اكتشاف الأنماطالمتكررة في التاريخ المقدَّس كما تتبدَّى في تاريخ الجماعات اليهودية في العالموعبر التاريخ، بحيث تصبح حادثة مثل الإبادة النازية تكراراً للعبودية في مصروتكراراً للتهجير البابلي، كما أن إعلان دولة إسرائيل يشبه الخروج من مصر،والاستيطان في فلسطين يشبه التغلغل في كنعان، وهكذا. وهجرة اليهود السوفييت هي خروجاليهود من الاتحاد السوفيتي بعد عبوديتهم في روسيا القيصرية والسوفيتية. بل إنهميرون هذا التاريخ باعتباره تاريخاً له بداية ونهاية (وكأنه مسرحية إلهية لها حبكةواضحة) وبالتالي يشكل إعلان دولة إسرائيل نهاية التاريخ.

    الــرؤى اليهوديــة للتاريـخ
    Jewish Views of History
    في معظم الكتابات اليهودية أو الصهيونية التي تعالج القضايا المتصلة بالجماعاتاليهودية في العالم، يُلاحظ الدارس أنه لا توجد أية تفرقة بين تواريخ الجماعاتاليهودية من جهة وتاريخ اليهودية من جهة أخرى، أو بين التاريخ المقدَّس والتاريخالفعلى. فيتداخل التاريخ المقدَّس مع تاريخ العبرانيين، ويتداخل الاثنان مع تواريخالجماعات اليهودية، لتصبح المحصلة النهائية ما يُسمَّى «التاريخ اليهودي». وربمايعود هذا التداخل إلى التيار الحلول الواحد في العقيدة اليهودية. ففي تصورهمالحلولي الواحدي، يري اليهود أن تاريخهم مقدَّس ويعبِّر عن الإرادة الربانية، فإلهإسرائيل يتدخل دائماً في مسار التاريخ لصالح شعب إسرائيل. ولم تأت الأمة اليهوديةإلى الوجود إلا من خلال تَدخُّل إلهي مباشر، أي أن الإله قد حل في الشعب وتاريخه.

    لكن فكرة حلول الروح الإلهية في اليهود حولتهم إلى أمة من القديسين والكهنةوالأنبياء. ومن الملاحَظ أن زوال ثنائية الخالق والمخلوق التي تؤدي إلى التداخلالكامل بين المطلق والنسبي، أو بين الإله والشعب، أو بين الثابت والمتغيِّر، أو بينالتاريخ المقدَّس والتاريخ الإنساني سمة بنيوية أساسية في اليهودية. فكتاب اليهودالمقدَّس كتاب تاريخ الشعب، كما أن أعيادهم تحتفل بمناسبات كونية ثابتة مثل عودةالربيع وخلق العالم، وبمناسبات تاريخية متغيرة مثل الخروج من مصر. وتتركز الصلواتالدينية المختلفة حول المناسبات القومية التاريخية، كما تأخذ العلاقة مع الإله شكلحوار بين طرفين أحدهما مقدَّس مطلق، والآخر دنيوي نسبي، ومع هذا فالطرفان متساويان. والديانة اليهودية تتسم بوجود شريعتين: واحدة مكتوبة مُرسَلة من الإله، والأخرىشفوية يكتشفها حاخامات الشعب عبر تاريخهم. ومع هذا، فللشريعة الشفوية من الشرعيةوالصلاحية ما للشريعة المكتوبة، بل إنها تفوقها في الاتساع والشمول والدقة. وظاهرةتعدد الأنبياء في اليهودية تعبير عن حلول الإله في التاريخ، وهو حلول لا يتوقف عندنقطة ما بل يستمر من بداية التاريخ حتى نهايته. وقد كانت هذه الرؤية الحلوليةالواحدية كامنة في العصر القديم ثم ازدادت عمقاً في التلمود ـ كتاب اليهوديةالحاخامية الأساسي ـ ثم تبلورت وأخذت شكلاً حاداً ومتطرفاً في القبَّالاه التيسيطرت على الفكر الديني اليهودي وعلى المؤسسات الدينية اليهودية ابتداءً من القرنالسادس عشر، وورثها المفكرون العلمانيون اليهود ابتداءً من إسبينوزا.

    ويرىبعض فلاسفة التاريخ في الغرب أن اليهود أول من اكتشف فكرة التطور والتقدم التي هيعماد الوعي التاريخي الغربي الحديث، على عكس الإغريق القدامى، وغيرهم من الشعوبالقديمة، الذين كانوا يرون أن للتاريخ شكلاً فلسفياً هندسياً. كما رأى هؤلاءالفلاسفة أيضاً أن حلول الإله في التاريخ قد حوَّله إلى خطّ مستقيم يتحرك نحو هدفأعلى وغاية نهائية بدلاً من أن يكون مجرد شكل هندسي دائري يتحرك حول نفسه دون غاية.
    ومما لا شك فيه أن العبرانيين القدامى (حسبما ورد في الكتب المقدَّسة عنداليهود) كان لديهم إحساس قوي بما تصوروا أنه مغزى التاريخ الديني ومعناه المقدَّس. ولكن هذا الإحساس نفسه هو أحد أسباب ضعف حسهم التاريخي وضموره بل اختفائه. فالاهتمام اليهودي القديم بالتاريخ، هو اهتمام في صميمه معاد للتاريخ لأنه يَصدُرعن رؤية دينية حلولية واحدية تتجاهل أن الظواهر التاريخية لها منطقها الخاصوالمستقل عن رغبات الإنسان وأحلامه وأنها ليست تجلياً لإرادة إله يحابي شعباً، وهيرؤية تذهب إلى أن التاريخ بأجمعه إن هو إلا كشف الغطاء عن الغرض الإلهي الذي لايدور حول البشر كافة وإنما يدور حول الشعب المختار بالدرجة الأولى (باعتباره موضعالحلول الإلهي). وهذه الرؤية تُسطّح التاريخ وتفرغه من تركيبيته وإنسانيتهوعالميته، وهي السمات الأساسية التي تعطي التاريخ معناه الإنساني المتعارف عليه بينالناس. ويظهر هذا التسطيح الذي يختزل كل الوقائع ويردُّها جميعاً إلى مستوى واحد فيتَصوُّر الرؤية اليهودية الحلولية الواحدية (والصهيونية فيما بعد) للظواهرالتاريخية باعتبارها ظواهر مقدَّسة تقررت حركتها حسب خطة إلهية مسبقة وُضعت قبل بدءالتاريخ. بل إن التدخل المستمر والعلني للإله هو تأكيد للقول بأن التاريخ يتم دفعهوتحريكه من الخارج، وأن الإرادة البشرية لا مجال لها فيه، وأن التاريخ اليهودي (المقدَّس والإنساني) بدأ من مطلق لا يقبل النقاش أو التقييم (العهد مع إبراهيم) يقطعه المطلق من آونة إلى أخرى (العهد مع إسحق ثم مع يعقوب)، وينتهي بمطلق أخير (ظهور الماشيَّح المنتظر أو وصول العصر المشيحاني الذي يشكل نهاية التاريخ). والتدخل المستمر للإله في التاريخ، حسب التصور اليهودي الحلولي، هو ما يكسبه معنىويضفي على فوضاه اللامتناهية شكلاً.

    وترد الوقائع التاريخية في أسفار موسيالخمسة بمقدار ما تكشف الغرض الإلهي الذي يهدف إلى إعلاء جماعة ىسرائيل. وإذا كانتأسفار الأنبياء المختلفة تتحدث عن الإرادة وعن المستقبل القريب حين يتوب أعضاءجماعة يسرائيل ويعودون إلى الإله، فإن هذا الحديث قد اختفى تماماً في أسفار الرؤى (أبوكاليبس) التي تتحدث عن المستقبل البعيد وعن الخلاص العجائبي.

    وقدتبلورت كل هذه الأفكار الحلولية الواحدية النظرة التي تجعل الشعب اليهودي الغايةالنهائية وربما الوحيدة للتاريخ في عقيدة الماشيَّح. فمسار التاريخ ذو هدف واحدواضح محدد: يأتي الماشيَّح في آخر الأيام ويعود باليهود إلى أرض الميعاد ليؤسسحكومته العالمية في صهيون. وفكرة الماشيَّح قد تنطوي على فكرة التقدم نحو هدف أعلى،أي أنها تختلف عن الرؤية الهندسية الإغريقية، ولكنها مع هذا أسطورة لا تاريخية إلىأقصى حد، لأنها تفترض ثبات النقطة التي يتحرك نحوها التاريخ، كما تفترض الحتميةالمطلقة لهذه الحركة، وعدم جدوى الفعل الإنساني لأن نقطة النهاية الفردوسية ستأتيعن طريق التدخل المباشر والفجائي للإله في التاريخ. وهو تَدخُل يُلغي التاريختماماً باعتباره المجال الذي تركه الإله للإنسان ليتفاعل معه فيه وليختبره،ينتصر أوينكسر، يهتدي أو يضل.

    ويبدو أن هذه الرؤىة الدينية القومية الحلوليةللتاريخ هي التي شجعت النزعات المشيحانية التي اتسمت بها تواريخ أعضاء الجماعاتاليهودية منذ القرن الأول الميلادي، والتي تصاعدت حدتها ابتداءً من القرن السابععشر في الغرب. وقد أدَّى انتشار الجماعات اليهودية وتَحوُّلهم الى جماعات وظيفيةمنعزلة عن المجتمع إلى زيادة حدة النزعة المعادية للتاريخ بينهم. ويرجع هذا إلىالأسباب التالية:

    1
    ـ يميل الإنسان الذي يعيش في عزلة الى تجريد نفسه إذيرى ذاته مستقلة عن حركيات التاريخ العام، وخصوصاً أن أعضاء الجماعات الوظيفيةيظنون أنهم يتمتعون بقداسة خاصة.

    2
    ـ أعضاء الجماعات الوظيفية يتمتعونبحركية غير عادية، الأمر الذي يجعل من العسير عليهم رؤية تَراكُم الأحداث داخل إطارمحدد.

    3
    ـ يتعامل التاجر والمرابي مع مجردات ليست لها أية حدود (السلع ـالنقود ـ سعر الفائدة)، كما أن اليهود الذين اضطلعوا في العصور الوسطى بدور التجارةالدولية في المجتمعات الزراعية كانوا عناصر حركية متعددة الجنسيات عابرة للقاراتغير قادرة على استيعاب فكرة الحدود التي هي جوهر الوجدان التاريخي.

    4
    ـبالإضافة الى كل هذا، كانت التجارة البدائية والربا مهنتين ليست لهما علاقة فعليةبالعملية الإنتاجية ذاتها، فقد كانتا تنتميان إلى نوع من الاقتصاد المجرد داخل بناءمن الاقتصاد الطبيعي المبني على تَبادُل الخدمات وعلى الاكتفاء الذاتي.

    5
    ـيُركِّز أعضاء الجماعة الوظيفية على الوطن الأصلي، الحقيقي أو الوهمي، وهو بالنسبةإلى اليهود فلسطين، وهو تركيز يفقدهم الإحساس بالزمان والمكان.

    لكل هذا،ضمر الإحساس بالزمان وحل محله إحساس متطرف بالمكان وحسب، وتجسَّد هذا في فكرة الأرضالتي هيمنت على الوجدان اليهودي الحلولي. كل هذا، جعل أعضاء الجماعات اليهوديةطوائف مرشَّحة لأن تفقد حسها التاريخي، وأن تنغمس في التأملات الفردوسية والدراساتالتلمودية والحسابات القبَّالية الخاصة بآخر الأيام. وقد كان الجيتو التعبيرالحضاري والنفسي عن هذه العقلية التي تتصور أنها تقف خارج التاريخ. ولذلك، كان مثقفالجيتو، أو طالب المدرسة التلمودية، ينفق كل أيامه في دراسة الأساطير اليهوديةوالدين اليهودي وما يتصور أنه تاريخ اليهود المقدَّس، دون أي اهتمام بالدراساتالتاريخية الحقة، سواء كانت التواريخ الحقيقية للجماعات اليهودية في العالم، أمتاريخ الحضارة التي يعيش بين ظهرانيها. ولقد توقفت دراسة العهد القديم هي الأخرىكتاريخ مقدَّس، وحلَّت محلها الدراسات التلمودية الفقهية التي لا يدخل فيها عنصرالزمن بتاتاً، ثم حلت محل الدراسات التلمودية التفسيرات القبَّالىة ذات الطابعالغنوصي المتطرف التي تُسقط التاريخ تماماً وتأخذ شكل بنَى هندسية لا علاقة لها بأيواقع تاريخي أو إنساني متعين، والتي تهدف إلى تعويض اليهود عما يلاقونه من عذابحقيقي أو وهمي.

    لكل هذا، حينما بدأ علم التاريخ بمعناه الحديث في الغرب،ابتداءً من القرن السابع عشر، كان إسهام أعضاء الجماعات اليهودية فيه منعدماً. ولمتبدأ إسهاماتهم في الدراسات التاريخية إلا في مرحلة متأخرة من القرن التاسع عشر بعدأن تآكل الجيتو تماماً، وبعد أن بدأت تظهر شرائح من أعضاء الجماعات اليهودية ممنتلقوا ثقافة علمانية غربية مختلفة تماماً عن الثقافة اليهودية التقليدية.

    وقد قامت محاولتان داخل اليهودية لمكافحة النزعة المشيحانية المعاديةللتاريخ. أولاهما محاولة اليهودية الحاخامية النظر إلى الرموز والعقـائد اليهوديةالقـديمة المختلفة، مثل العودة وصهيون والماشـيَّح، باعتبارها أموراً ستتحقق بأمرالإله. ومن ثم ، فإن فعاليتها تكمن خارج حدود التاريخ، وهو ما يحول التاريخ ذاتهإلى رقعة يمارس فيها الإنسان حريته ويجعل اليهود بشراً ككل البشر الذين يعيشون فيالعالم التاريخي النسبي (رغم كل تطلعاتهم الدينية والروحية). وقد نجحت المؤسسةالحاخامية بالفعل في كبح النزعات المشيحانية المتفجرة، الناجمة عن الرؤية الحلوليةوتَوقُّع المعجزة الربانية ونهاية التاريخ في كل زمان ومكان. فقد تصدت لشبتاي تسفي،ولكل المشحاء الدجـالين. أما المحـاولة الثانيـة، فهي المحاولة التي تمت بعد إعتاقاليهود، والتي أخذت شكل فصل الدين عن القومية في اليهودية الإصلاحية، فهي محاولةجوهرها اعتراف بالوجـود التاريخي النسـبي لليهـود مــستقلاً عن مطلقاته الدينية. وقد أخذت هذه المحاولة أيضاً شكل الدراسات التاريخية اليهودية التي تحاول أن تصلإلى التاريخ الدنيوي الإنساني فيما يُسمَّى «علْم اليهودية».

    ولكن اليهوديةالمحافظة قامت بتوظيف الاتجاه التاريخي لحساب الأهداف الصهيونية، فالتراث التقليديالديني بكل حلوليته تمت علمنته بحيث تحوَّل إلى ميراث تاريخي إنساني دنيوي. ولكنه،مع هذا، لا يفقد شيئاً من قدسيته (فهي حلولية بدون إله). وأصبح الشعب اليهوديمقدَّساً، لا بسبب إلهه وإنما بسبب تاريخه المقدَّس. والواقع أن الصهيونية امتدادلهذه الرؤية الحلولية للتاريخ التي تحوله من تاريخ مركب يحوي داخله عناصر إيجابيةوسلبية، ومن كل متشابك يتجاوز الذات إلى أسطورة بسيطة يمكنتوظيفها.







  3. #33
    مراقبة أقسام رد الشبهات حول الإسلام
    الصورة الرمزية ساجدة لله
    ساجدة لله غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 317
    تاريخ التسجيل : 1 - 10 - 2007
    الدين : الإسلام
    الجنـس : أنثى
    المشاركات : 16,234
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 23
    البلد : مصر الإسلامية
    الاهتمام : منتدى البشارة
    الوظيفة : أمة الله
    معدل تقييم المستوى : 33

    افتراضي



    الرؤية الصهيونية للتاريخ
    Zionist View of History
    تنبع رؤية الصهاينة للتاريخ من عنصرين أساسيين، أحدهما عقائدي والآخر تاريخي،أولهما الحلولية اليهودية بكل ما تحوي من مزج بين العناصر المطلقة والنسبية، وبكلما تخلعه على الشعب اليهودي من مطلقية. وثانيهما التجربة التاريخية ليهود شرقيأوربا كجماعة وظيفية. فقد ساهمت هذه التجربة في إعطاء ما يشبه الأساس الواقعي أوالتاريخي للرؤية الصهيونية للتاريخ اليهودي، أي باعتباره كياناً مستقلاً. هذا كلهأوهم المفكرين الصهاينة بأن لليهود تاريخهم اليهودي المستقل عن التاريخ العام الذييحيط بهم، وأنساهم أن استقلالية اليهود نفسها إحدى سمات المجتمع الإقطاعي في كلٍّمن روسيا وبولندا، وأن الجيتو اليهودي المستقل هو في نهاية الأمر نتاج للبناءالتاريخي الأساسي الروسي أو البولندي، إذ أن الذي يحكم ظهور وسقوط الجيتو أوالأشكال الإدارية اليهودية المستقلة الأخرى ليس الإرادة اليهودية المستقلة وإنماحركة التاريخ الروسي أو البولندي ومجموعة من العناصر المركبة يشكل أعضاء الجماعةاليهودية جزءاً منها وحسب.

    ويمكن أن نقول إن الرؤية الصهيونية للتاريخ لاتختلف في بنيتها عن الرؤية الحلولية الواحدية اليهودية له، ولكن هناك فارقاً واحداًهو أن الرؤية الصهيونية هي الرؤية الحلولية نفسها بعد أن تمت علمنتها، أي أنهاحلولية بدون إله (أو وحدة وجود مادية). فتاريخ اليهود، حسب تصور مارتن بوبر، هوتاريخ يتدخل (أي يحل) فيه الرب بشكل مستمر، ولذا أصبحت جماعة إسرائيل أمة ومجتمعاًدينياً في آن واحد، ولا تزال جماعة إسرائيل شعباً ومجتمعاً دينيًا (قومياًومقدَّساً) حتى وقتنا هذا. ويفرق بوبر بين التاريخ، أي التجربة التي تعيشها الأمم،والوحي، وهي التجارب الخصوصية التي يعيشها الأعضاء الذين يُطلَق علىهم مصطلح «أنبياء». و حينما يتحول الوحي إلى أفكار تفهمها الجماهير وتؤمن بها، فإنه يصبحعقائد. هذا هو الوضع بالنسبة لسائر الأمم. أما بالنسبة لجماعة إسرائيل، فالأمر جدُّمختلف، إذ أن ثمة تطابقاً كاملاً بين الوحي والعقيدة والتاريخ. فجمـاعة إسرائيلتتلقـى تجربتهـا الدينية الحاسمة على مستـوى الشـعب كله، لا على مستوى الأنبياءوحسب (وهو ما يعـني في واقـع الأمر أن أعضاء جماعة إسرائيل كلهم أنبياء). ومن ثم،فإن مجتمع إسرائيل ككل يعيش التاريخ والوحي باعتبارهما ظاهرة واحدة: التاريخباعتباره وحياً، والوحي باعتباره تاريخاً.

    وهكذا يتحول اليهود، تماماً كماهو الحال مع الرؤى الدينية الحلولية الكمونية الواحدية القديمة، إلى شعب من الكهنةوالأنبياء، ويتحول تاريخهم إلى وحي مستمر. ولذا، فاليهود، حسب التصور الحلوليالواحدي عند بوبر، أمة تحمل وحياً إلهياً عبر تاريخها المقدَّس « الذي لم يكن سوىصراع لا ينتهي من أجل وضع مُثُل الأنبياء موضع التطبيق » كما يقول نحمان سيركينالزعيم الصهيوني العمالى. ومعنى هذا أن كلاًّ من الفيلسوف المتصوِّف والمفكرالاشتراكي يدوران في نطاق الحلولية الكمونية اليهودية ويتفقان على خصوصية وقدسيةواستقلالية ما يُسمَّى «التاريخ اليهودي». كما يتفقان على تَداخُل التاريخ المقدَّسوالتاريخ الإنساني. وعلى أية حال، فإن من الواضح أن هناك تداخلاً في البنىالتاريخية وعدم إلمام بحركة التاريخ ينعكسان بجلاء في الطريقة التي يقرأ بهاالصهاينة الواقع التاريخي. فهم حينما نظروا إلى فلسطين، في أواخر القرن الماضي، لميروها أرضاً فيها شعب، أي واقعاً إنسانياً تاريخياً، وإنما رأوا مفهوماً دينياًيُدعى «إرتس إسرائيل». ولذلك، وبدلاً من التعامل مع الواقع الحي، نجدهم يلفقونشعارات مثل: « أرض بلا شعب لشعب بلا أرض »، وهي شعارات جامـدة تقترب، في اتسـاقهاالهندسـي مع نفسها، من الحسابات القبَّالية.

    ويتبدَّى الرفض الصهيونيللتاريخ، بشكل واضح، في المصطلح الصهيوني. فالصهاينة حينما يستخدمون كلمة «تاريخ»،فإنهم لا يشيرون في العادة إلى التاريخ الحي المتعيِّن، وإنما إلى العهد القديم، أوإلى تراثهم الديني (المكتوب منه أو الشفوي)، أو إلى التاريخ المقدَّس. ولذا، تصبحالحدود التاريخية هي الحدود المقدَّسة المنصوص عليها في العهد القديم « من نهر مصرإلى الفرات »، وهي حدود لم يشغلها العبرانيون في أية لحظة من تاريخهم، ولا حتى أيامداود أو سليمان.

    والحقوق التاريخية هي أيضاً الحقوق المقدَّسة التـي وردتفي العهد القديم، والتي تؤكد أنهم شعب مقدَّس مختار، له حقوق تستمد شرعيتها منالعهد الإلهي الذي قطعه الإله على نفسه لإبراهيم، وهو عهد يعبِّر عن الحلول الإلهيفيهم.

    ويتبدَّى الرفض الصهيوني لتعيُّن التاريخ وتركيبيته على هيئة رؤيةاختزالية تبسيطية للواقع. فمن المعروف أنه، قبل حرب السادس من أكتوبر (العاشر منرمضان)، كان لدى الإسرائيليين من المؤشرات الملموسة ما يؤكد أن المصريين سيعبرونالقناة إلى سيناء. ولكن الدلالات الملموسة ظلت معلومات جامدة مبعثرة لم ينتظمهاإطار، ولم تكتسب اتجاهاً محدداً لأن نموذج الصهاينة التفسيري الاختزالي معادللتاريخ مُنكر لإمكانات الآخر. والصهاينة لا يمكنهم إلا التحرك داخل إطار هذاالنموذج لأنهم لو فعلوا غير ذلك لطرحوا على أنفسهم إمكانية استيقاظ العرب واحتمالاختفاء الكيان الصهيوني الشاذ المشتول. وقد تكرر هذا الوضع مع الانتفاضة، إذ كانلدى المخابرات الإسرائيلية من المعلومات ما يؤكد أن ثمة تحركاً فلسطينياً ورفضاًشعبياً للاحتلال. ومع هذا، فقد أنكرت أجهزة المخابرات وجود الانتفاضة، حتى بعداندلاعها بعدة أسابيع، وإنكارهم هذا هو إنكار لتركيبية التاريخ والإنسانولاحتوائهما على إمكانات غير مرئية تمنح الإنسان مركزيته في هذا الكون.

    ولكن الصهاينة يتصورون أن بإمكانهم اجتياز الهوَّة، التي تفصل بين رؤيتهمللتاريخ من جهة وبين الواقع التاريخي من جهة أخرى، عن طريق العنف. فالعنف هو عادةًالوسيلة الوحيدة لفرض الاتساق الهندسي على تعيُّن الواقع وتركيبيته، ولكن العنفالصهيوني حتى الآن لم يحقق إلا جزءاً صغيراً من المخطط الصهيوني اللاتاريخي.

    غير أن نموذج الصهاينة الاختزالي ليس مقصوراً على تعاملهم مع التاريخالعربي أو تاريخ الأغيار وإنما يمتد إلى رؤيتهم لتواريخ الجماعات اليهودية وإلى مايسمونه «التراث اليهودي» ككل. فقد كتبوا تواريخ الجماعات اليهودية بطريقة مأساويةفجَّة تختزل تلك التواريخ وتقسمها إلى قسمين اثنين لا ثالث لهما: فترات مظلمة عديدةوغير حقيقية فقدت فيها الذات اليهودية وعيها بنفسها وخرجت من الدائرة (الحلولية) اليهودية أو أخذت موقفاً سلبياً فلم تدافع عن ذاتها فوقعت ضحية سهلة للأغيار؛وفترات أخرى مضيئة وحقيقية تمركزت فيها الذات اليهودية على نفسها ودافع اليهود فيهاعن أنفسهم بضراوة وشراسة. وحسب هذا الفهم، تكون الأعوام القليلة التي قامت فيهادولة يهودية في فلسطين أكثر الفترات خصوبة فيما يُسمَّى «التاريخ اليهودي»، ويكونالتمرد الحشموني، حين دافع اليهود عن الوجود اليهودي في فلسطين، هو إحدى القممالقليلة بل النادرة في هذا التاريخ، وتكون الحركة الصهيونية التعبير الحقيقيوالأخير عن هذا التمركز اليهودي الذي يجسد روح التاريخ اليهودي ويشكل نهايتهالسعيدة.

    ولكن مشكلة التقسيم البسيط هي أن الصهيونية تكتسب شرعيتها منافتراض وجود هذا التاريخ اليهودي ومن تعبيرها عنه. ولكن التاريخ اليهودي هو أساساًنتاج انتشار اليهود في كثير من بلاد العالم، أي نتاج وجود الجماعات اليهودية فيالدياسبورا أو المنفى، أي وجودهم في أنحاء العالم خارج فلسطين. ومن يتقبل نموذجالتاريخ اليهودي يتقبل أيضا وجود اليهود في المنفى كحقيقة أساسية، لأن حالة المنفىجـزء لا يتـجزأ من البنـاء التاريخي اليهودي الذي يفترض الصهاينة وجوده. وتعبِّرالكتابات الصهيونية عن هذا التناقض العميق، فهي تارة تمجد هذا التاريخ اليهوديتمجيداً لا حد له، وتارة أخرى تدمغه باعتباره مجرد انحراف عن مسار التاريخ اليهوديالحقيقي. ولكن الصهاينة، سواء في تمجيدهم الدياسبورا أو هجومهم عليها، يفترضون، فيكل الأحوال، وجود تاريخ يهودي منفصل عن تاريخ الشعوب والحضارات الأخرى التي عاشاليهود بين ظهرانيها.

    والحديث عن التاريخ اليهودي، مثل الحديث عن «الأدباليهودي» و«الشخصية اليهودية» وغير ذلك، يفترض أن العنصر الأساسي الذي يحرك اليهوديويشكل شخصيته هو أساساً إيمانه بالدين اليهودي أو انتماؤه إلى التراث اليهودي. وفيهذا تقليل من شـأن اليهود، وتضـييق لإنسـانيتهم ومسـاهمتهم في الحضـارة البشرية. فاليهودي، مثله مثل أي إنسان آخر، ظاهرة مركبة، تحركه عناصر متشابكة، بعضها ملموسومحدَّد وبعضها غير ملموس وغير محدَّد، وليس مجرد عنصر واحد كما يتصور الصهاينة. وبالإضافة الى ذلك، فإن تَبَنِّي نموذج التاريخ اليهودي المسـتقل هو في نهايةالأمـر إيمان بأن اليهود موجـودون خارج التاريخ، أي أن تَبَنِّي نموذج التاريخاليهودي هو في جوهره عودة إلى الرؤية اليهودية القديمة الحلولية الواحدية التي فشلتفي رؤية الفارق بين المقدَّس والنسبي، وبين الإلهي والتاريخي، فألغت كل الثنائياتوسدت كل المسافات.

    وكما بيَّنا من قبل، لعب تراث الصهاينة الحلولي دوراًكبيراً في تشجيعهم على استخدام مثل هذه المصطلحات الأحادية النظرة، وعلى الخلط بينالمستويات والبنى المختلفة، وعلى إيمانهم بالوجود التاريخي اليهودي المنفصل. كما أنتجربة الصهاينة الضيقة ذاتها، والمستمدة أساساً من وجود يهود شرق أوربا كجماعةوظيفية، قد ساهمت هي الأخرى في إعطاء ما يشبه الأساس الواقعي أو التاريخي للتهويماتالصهيونية.






  4. #34
    مراقبة أقسام رد الشبهات حول الإسلام
    الصورة الرمزية ساجدة لله
    ساجدة لله غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 317
    تاريخ التسجيل : 1 - 10 - 2007
    الدين : الإسلام
    الجنـس : أنثى
    المشاركات : 16,234
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 23
    البلد : مصر الإسلامية
    الاهتمام : منتدى البشارة
    الوظيفة : أمة الله
    معدل تقييم المستوى : 33

    افتراضي



    انتفاضــة شـــميلنكي
    Chmielnicki Uprising
    «انتفاضة شميلنكي» انتفاضة شعبية في أوكرانيا ضد الاستعمار الاستيطاني البولنديوقوات الاحتلال التي كانت تحميه وكل المؤسسات التي تتبعه ######### الكاثوليكيةوالوكلاء اليهود). والانتفاضة من أهم الحوادث التاريخية التي أثرِّت في الجماعاتاليهودية في شرق أوربا، ولا تقل في أهميتها عن وعد بلفور أو الإبادة النازيةلليهود. وانتفاضة شميلنكي، شأنها شأن وعد بلفور أو الإبادة النازية، لا يمكن فهمهاإلا بالعودة إلى تاريخ العلاقة بين بولندا وأوكرانيا، وهو أمر لا علاقة له بمايُسمَّى «التاريخ اليهودي».

    وقائد الانتفاضة هو بوجدان شميلنكي (1593 ـ 1657) «أتمان» (أي قائد) القوزاق أو زعيمهم (الذي أصبح فيما بعد، قائداً لأوكرانيابعد حصولها على الاستقلال، وداعية لتوحيدها مع روسيا). درس في مدارس اليسوعيين،وتعلم فنون الحرب أثناء غارات القوزاق على الدولة العثمانية، وعمل في الحرس الملكيالخاص بملك بولندا، ثم اشترك في الحرب ضد العثمانيين وأُسر عام 1620 وعاش عدة سنواتفي تركيا. وكان شميلنكي نفسه ثرياً، فاستقر في ضيعته (في شيجيرين) تحت حماية أحدالنبلاء البولنديين (شلاختا). وحينما اختلف معه، هوجمت ضيعته بمساعدة الأرنداتور (الوكيل) اليهودي فقُتل ابنه وأُلقى القبض على زوجته.

    وتعود أسبابالانتفاضة إلى عدة أسباب من بينها تَزايُد الاستغلال الإقطاعي الواقع على الفلاحينالذين كانوا في واقع الأمر أقناناً تقترب حالتهم من العبودية الكاملة، وخصوصاً أنالنبلاء البولنديين لم تكن تربطهم علاقة إقطاعية حقيقية بهذه الأرض، فالإقطاعالبولندي في أوكرانيا كان إقطاعاً استيطانياً (وقد ضُمَّت أوكرانيا إلى بولندا فيمنتصف القرن السادس عشر)، وانصرف جل هم النبلاء البولنديين إلى تعميرها حتى تدرعائداً عليهم ويستولوا على ريعها. وكان اليهودي يقرض النبيل البولندي بضمان ضيعتهوريعـها، ثم يتولى هـو عملية إدارتها فيـما يعـرف باسم «نظام الأرندا»، الأمر الذيجعل كثيراً من اليهود يتحولون إلى ممثلين للنبلاء الإقطاعيين الغائبين في وارسو،فيقومون بتحصيل الضرائب الباهظة من الفلاحين ومنها ضريبة يدفعها الفلاحون الأرثوذكسلفتح باب الكنيسة لأداء الصلاة أو غيرها من العبادات. كما كانوا يقومون ببيع السلعالتي كان يحتكرها النبلاء، مثل الملح والخمور، بأسعار مرتفعة جداً. وقد كان اليهودمنتشرين بين الفلاحين القوزاق والأوكرانيين في مدن صغيرة (شتتلات)، لا يحملونالسلاح بل تقف إلى جوارهم فرق بولندية مسلحة لحمايتهم.

    ومن الأسباب الأخرىالتي أدَّت إلى توتر الأوضاع وترديها فترة جفاف دامت عشرة أعوام، ازداد فيهاالفلاحون فقراً وسخطاً. كما أن محاولات الكنيسة الكاثوليكية الدائبة، لفرض نفوذهاعلى شرق أوربا، زادت سخط الجماهير الأرثوذكسية. وقد بدأت تظهر عناصر تشد من أزرالعناصر الشعبية الرافضة في أوكرانيا من بينها ظهور القوة الروسية الأرثوذكسية فيهذه الآونة، والحرب المستمرة بين ملك بولندا والنبلاء والتي أضعفت الطرفين، كماكانت جيوش السويد تُهدِّد بولندا من الشمال. وتذكر الموسوعة اليهودية العالمية أنغرور اليهود وصلفهم كان عنصراً مساعداً على زيادة السخط والتوتر، وإن كان من الأفضلالحديث عن طبيعة وضع اليهود كجماعة وظيفية وسيطة بين مطرقة النبلاء وسندان الأقنان،ذلك أن صلف أداة الاستغلال وحده ليس كافياً لإضرام نيران ثورة شعبية مستمرة.

    ومما زاد من حدة الصراع وأوضح معالمه، ذلك التعارض الاجتماعي والدينيوالعرْقي الكامل بين وضع الجماهير القوزاقية والأوكرانية من جهة، ووضع النبلاءالبولنديين ووكلائهم من جهة أخرى. فهذه الجماهير كانت أساساً جماهير فلاحية تتحدثالأوكرانية وتنتمي إلى الكنيسة الأرثوذكسية. والمستغل الحقيقي كان النبيل الإقطاعيالبولندي الذي يتحدث البولندية ويتبع الكنيسة الرومانية الكاثوليكية، ولم يكنالوكيل اليهودي سوى أداته في الاستغلال وسوط عذابه. ولكنه مع هذا كان المستغلالمباشر المنعزل تماماً عن الجماهير، فهو يتحدث اليديشية ويدين باليهودية. وكانتالعناصر التي جرفتها الانتفاضة، هي القوة العسكرية البولندية والقساوسة الكاثوليكوالوكلاء اليهود من ناحية، ومن ناحية أخرى الأقنان القوزاق والأوكرانيون والتتر وكلالعناصر الأخرى التي انضمت لهم.

    وقد نجحت انتفاضة شميلنكي بسرعة خاطفةفوافقت بولندا عاـم 1649 على أن تتمـتع عدة مقـاطعات من أوكرانيا بالحــكم الذاتي. ومع هذا فقد استمر الصراع العسكري بين بولندا والدولة الجديدة واستعان شميلنكيبالروس، فتقدمت القوات الروسية والقوزاقية، وتم ضم أوكرانيا وسمولنسك إلى روسيا عام 1667

    وقد كانت انتفاضة شميلنكي في جوهرها شكلاً من أشكال الثورة الشعبية لاتختلف عن مثيلاتها من ثورات الفلاحين ضد الإقطاعيين ووكلائهم. وهي عادةً ثورات تأخذفي البداية شكل غضب شعبي عارم ورغبة شديدة في الانتقام، هو في جوهره رد فعل لا عقلله لعملية القمع القاسية اللاعقلانية التي كانت تُمارَس ضد الفلاحين. وعادةً ماينضم الفلاحون إلى جيوش الثورة الشعبية التي لا تلتزم بقوانين الحرب المختلفة (الخاصة بالأسرى وغيرها) لجهلهم بها، بل إن الثورة الشعبية بأسرها في مراحلهاالأولية تفتقر إلى البرنامج السياسي والرؤية. ولم تكن انتفاضة شميلنكي استثناءً منهذه القاعدة إذ اندلعت الثورة وعبَّر الفلاحون عن غضبهم بذبح كل من وجدوه في طريقهمممثلاً لمؤسسة القمع: نبلاء بولنديين وقساوسة كاثوليك ووكلاء يهود. ولعل عمليةالانتقام كانت أكثر سهولة ويسراً في حالة انتفاضة شميلنكي لأن العنصر المستغل (البولندي الكاثوليكي واليهودي اليديشي).كان عنصراً استيطانياً غريباً من السهلالتعرف عليه يعيش في الشتتلات. ومما يجدر ذكره أن انتفاضة شميلنكي لم تكن انتفاضةعنصرية موجهة ضد اليهود باعتبارهم يهوداً وإنما باعتبارهم ممثلين للإقطاع البولنديالاستيطاني. أي أنهم لم تكن لهم أية أهمية في حد ذاتهم، فقد كانوا مجرد أداة في يدأحد أطراف الصراع. ولذا فحينما كانت القوات البولندية تنتصر على المنتفضين كان هذايعني عادةً عودة أعضاء الجماعات اليهودية إلى الشتتلات وكان يُنَص على هذا فيالاتفاقيات المبرمة. وحينما كانت كفة المنتفضين ترجح كان أحد مطالبهم أن تُخلَىالمدن الأوكرانية من القوات البولندية والوكلاء اليهود. وحينما كتب شميلنكي رسالةإلى كرومويل، على أمل عقد تحالف بين القوتين الأرثوذكسية والبروتستانتية، فإنه لميذكر اليهود بخير أو شر.

    وحسبما جاء في المصادر اليهودية المعاصرة، فقدأُبيد نحو ثلث يهود أوكرانيا. ولكن المؤرخين يميلون الآن إلى القول بأن هذه الأرقاممُبالَغ فيها، كما يميلون إلى أن أعداداً كبيرة من اليهود فرَّت ثم عادت بعد أنهدأت الأحوال قليلاً. وربما يفسر هذا استمرار تزايد أعداد اليهود بعد الانتفاضة. ولكن أعضاء الجماعة اليهودية (أكبر جماعة يهودية في أوربا) الذين عادوا كانوايشكلون جماعة مذعورة لا تحس بالطمأنينة الزائفة التي كانت تشعر بها قبل اندلاعالثورة، إذ تم تقويض روحها المعنوية، وفقدت الثقة في نفسها وفي وضعها، الأمر الذيجعل منها تربة خصبة للحركات الشبتانية والمشيحانية (ابتداءً من شبتاي تسفي وانتهاءًبالحسيدية) وجعلهما مادة خاماً مهيأة لأن تُنقَل إلى أي مكان حتى يمكنها الاستمرارفي الاضطلاع بدورها كجماعة وسيطة (وهو الحل الذي طرحته الصهيونية ثم نفذته).

    وإذا نظرنا إلى انتفاضة شميلنكي من منظور التاريخ الإنساني العام فلابد أنتُصنَّف باعتبارها ثورة شعبية ضد شكل من أشكال الظلم لم تشهد له الإنسانية مثيلاً،فقائدها بطل شعبي نجح في تحرير شعبه، ولا شك في أن هذه الانتفاضة ارتكبت الكثير منأفعال القسوة التي لا يمكن إلا أن يدمغها الإنسان من الناحية الأخلاقية، مع علمناتمام العلم بأن هذا هو جزء من نمط الثورات الشعبية السائد، إلا أن عدالة الانتفاضةوأخلاقيتها وبطولة قائدها هي أمور لا يتطرق إليها الشك. وهكذا يحتفل بها شعبأوكرانيا، ولهذا السبب يقيم التماثيل الضخمة لقائدها ومحرر البلاد.

    ولكنالدراسات الصهيونية تنظر إلى هذه الحادثة في إطار التاريخ اليهودي الذي يضع اليهودفي مقابل الأغيار، فنجد أن صورة اليهود في مثل هذه الدراسات، صورة اختزاليةكوميدية، إذ تُصوِّر اليهود باعتبارهم أقلية صغيرة يعيش أعضاؤها آمنين في مدنهمالصغيرة يتحدثون اليديشية، لا علاقة لهم بعالم الأغيار، وفجأة يهب هذا العالم ويذبحآلاف اليهود (وتبدو الواقعة بأسرها وكأنها شيء فجائي ليس له سبب واضح لأننا لا ندركدور اليهود الوظيفي أو علاقتهم بالأغيار البولنديين). ومن ثم فإن انتفاضة شميلنكيتصبح «مذبحة شميلنكي» ويُقارَن شميلنكي بهتلر. وحينما تُصوِّت إحدى دول شرق أورباضد إسرائيل في هيئة الأمم فهذا جزء من «ميراث شميلنكي». وتَناول كتب ما يُسمَّى «التاريخ اليهودي» لانتفاضة شميلنكي يبيِّن انعدام القيمة التفسيرية لهذا النموذج.







  5. #35
    مراقبة أقسام رد الشبهات حول الإسلام
    الصورة الرمزية ساجدة لله
    ساجدة لله غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 317
    تاريخ التسجيل : 1 - 10 - 2007
    الدين : الإسلام
    الجنـس : أنثى
    المشاركات : 16,234
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 23
    البلد : مصر الإسلامية
    الاهتمام : منتدى البشارة
    الوظيفة : أمة الله
    معدل تقييم المستوى : 33

    افتراضي



    الماضي والمستقبل اليهوديان
    Jewish Past and Future
    «الماضي اليهودي» تعبير يفترض أن لأعضاء الجماعات اليهودية ماضياً واحداًمستقلاً، أي تاريخاً واحداً مستقلاً، فإن لم يكن لهم حاضر موحَّد فهذا نتيجة لحادثةهدم الهيكل وشتاتهم. والمشروع الصهيوني محاولة لأن يكون لليهود مستقبل موحَّد. ولكنالدراسة المتأنية تبين أن أعضاء الجماعات اليهودية ليس لهم ماض واحد. فماضيهم فيبولندا، أي تجربتهم التاريخية وموروثهم الحضاري والديني في بولندا، يختلف عن ماضييهود الفلاشاه، وتجربة هذين الفريقين تختلف عن تجربة الجماعة اليهودية في الولاياتالمتحدة. وليس لأعضاء الجماعات اليهودية حاضر واحد، فلكل جماعة يهودية مشكلاتهاونصيبها المختلف من الأفراح والأتراح. وتدل المؤشرات كافة على أن هذه الجماعات لنيكون لها مستقبل واحد. فيهود الولايات المتحدة (أكبر تجمُّع يهودي في العالم) يعتبرون أمريكا وطنهم القومي. وبرغم تعاطف أعداد كبيرة منهم مع إسرائيل والصهيونية،فإنهم لا ينوون الهجرة إليها، شأنهم في هذا شأن يهود أستراليا ونيوزلندا. أما يهودأمريكا اللاتينية وجنوب أفريقيا، على سبيل المثال، فهم يواجهون مشاكل في بلادهم قدتضطرهم إلى الهجرة ولكنهم لا يهاجرون إلى إسرائيل. بينما لا يمانع يهود الفلاشاه فيالهجرة إلى إسرائيل إذ يراودهم حلم الحراك الاجتماعي. ويدل كل هذا على أن لكل جماعةيهودية مستقبلاً مستقلاً.

    ومع هذا، تصر الكتابات الصهيونية على تأكيد وجودماض ومستقبل ومصير يهودي واحد منفصل عن ماضي ومستقبل ومصير المجتمعات التي يعيشفيها أعضاء الجماعات اليهودية. ولدعم هذا الرأي، تؤكد الكتابات الصهيوينة أهميةالنظر إلى الهجمات التي تحدث ضد اليهود، كالإبادة النازية ليهود أوربا، باعتبارهاجزءاً من ماض مشترك ونمط متكرر لا يمكن الخروج منه إلا بالحركة المشتركة فيالمستقبل.

    المصيـــر اليهــودي (الوحـدة والتشـابـك(
    Jewish Destiny (Unity and Entanglement)
    «المصير (أو القَدَر) اليهودي» عبارة تعني أن أعضاء الشعب اليهودي لهم مصير واحد، فريد ومشترك، وأنهم خاضعون لمسارواحد، ولهم تطلعات مشتركة، ويلقون نهاية واحدة. وفكرة المصير اليهودي مرتبطة بفكرةالشعب المختار، فهذا الشعب قد اختاره الإله وحلّ فيه ليكون محط عنايته واهتمامه (وأحياناً اضطهاده)، وهو بالتالى شعب ذو مصير خاص، مقرَّر مسبقاً، يبدأ تاريخهبالخروج من مصر وينتهي بعودة الماشيَّح. وبين البداية والنهاية، يلاقي اليهودمصيرهم الموعود من اضطهاد وطرد وتهجير وهجرة، فهم أداة خلاص العالم. وقد عمقتالقبَّالاه اللوريانية هذا المفهوم، وربطت بين مصير الإله ومصير الشعب.

    وقدتمت علمنة هذا المفهوم الديني ليكون مصير اليهود التاريخي المشـترك مفهوماًدنيوياً، وهـو مصير مسـتقل عن تواريخ الشعوب الأخرى، ولذا يُفسَّر ما يحدث لليهودبمعزل عن الظروف الحضارية والاجتماعية التي أدَّت إلى هذا الحدث، والتي لا تقعبالضرورة داخل حدود التاريخ اليهودي. فحادثة مثل الخروج من مصر، يُنظَر إلىها خارجحركيات التطور في الشرق الأدنى القديم. ولا يُنظَر إليها في علاقتها باكتشاف الحديدالذي أدَّى إلى تدهور الدولة المصرية، وكذلك طرد الهكسوس من مصر وتركهم موالىهم منالعبرانيين وراءهم، ثم ظهور شعوب البحر. ويصبح تهجير اليهود إلى بابل وكأنه عقاب منالإله لليهود على ما اقترفوه من آثام وجزء من مصيرهم. وتسقط من الصورة حركيات ظهورالإمبراطوريتين الآشورية والبابلية وصراعهما مع الدولة المصرية، كما تسقط من الصورةالأقوام الأخرى التي تم سبيها بحيث تظهر حادثة السبي وكأنها حدث فريد مقصور علىاليهود لا يمكن فهمه إلا في إطار المصير اليهودي الفريد.

    ومن أهم الوقائعالتي تفسَّر بهذه الطريقة، واقعة الإبادة النازية ليهود أوربا، إذ تصر الأدبياتاليهودية على عدم ذكر الملايين الأخرى التي أبيدت تحت نفس الظروف. كما أن هذهالأدبيات لا تتحدث أبداً عن سبب العداوة الشرسة من قبل النازيين لليهود وكأن ذلكأمر غير مرتبط بأزمة المجتمع الصناعي الغربي في الثلاثينيات والرؤية المعرفيةالإمبريالية.

    وتحاول هذه الأدبيات، انطلاقاً من النموذج نفسه، أن تؤكد بعضالسمات الأساسية التي تتسم بها بعض الجماعات اليهودية باعتبارها جزءاً من المصيراليهودي وتعبيراً عنه. فاليهودي مكتوب علىه الانعزال وعدم الاندماج، شاء أم أبى،وهو دائماً يعزل نفسه عن الآخرين بسبب تركيبية شخصيته اليهودية، وهي مقولة وجدتطريقها إلى الأدبيات العربية التي تتناول الشأن اليهودي. ولكن الدارس المدقق يعرفأنها مقولة لا أساس لها من الصحة، فلو لم يندمج اليهود ولم ينصهروا في مجتمعاتهملبلغ عددهم الآن مئات الملايين، فقد كان عددهم مع بداية العصر المسيحي (في بعضالتقديرات) يزيد على سبعة ملايين. كما أن تنوع اليهود الإثني والعرْقي والحضاري لايمكن فهمه إلا في إطار اندماجهم. فالفلاشاه يختلفون عن يهود الهند الذين يختلفونبدورهم عن يهود الولايات المتحدة. ومع هذا، تصر الأدبيات الصهيونية على أن مصيراليهودي وقدره هو العزلة وعدم الاندماج، وبالتالى تصبح الدولة الصهيونيـة نتيجـةحتمـية ومفهومة وأمراً طبيعياً، فهي الإطـار الذي يمكن لهذا المنعزل الأزلي أنيعبِّر عن شخصيته اليهودية من خلاله.

    ويظهر قصور المقدرة التفسيرية لنموذجالمصير اليهودي إذا ما درسنا السلوك الفعلي لأعضاء الجماعات اليهودية خارج إطار هذهالمقولات الأسطورية. فيهود الولايات المتحدة قد ربطوا مصيرهم كليةً بمصير بلدهم،برغم كل ادعاءاتهم الصهيونية. كما أن اليهود الأمريكيين الذين اشتركوا في الحربالعالمية الثانية بلغ عددهم خمسمائة وخمسين ألفاً، جرح منهم أربعة وعشرون ألفاً،وحصل ستة وثلاثون ألفاً على نياشين، وقتل منهم عشرة آلاف وخمسمائة من أجل وطنهم،وهو عدد يفوق عدد جملة اليهود الذين ماتوا دفاعاً عن الوطن القومي اليهودي. كذلك،فإن يهود الولايات المتحدة لا يهاجرون الى هذا الوطن القومي، علماً بأن عدد من يزورمنهم هذا الوطن للسياحة لا يزيد على 10% وابتداءً من العقود الأخيرة من القرنالتاسع عشر، أخذ المصير اليهودي (أو مصير الأغلبية العظمى من يهود العالم) يرتبطبالمصيرالأمريكى، إذ أن ملايين المهاجرين اتجهوا إلى الولايات المتحدة وتجاهلوا أرضالميعاد تماماً عدا أعداداً قليلة للغاية. ولا يزال هذا البلد الذهبي (جولدن مدينا) الغريم الأكبر للدولة الصهيونية حيث يهاجر مواطنوها بأعداد متزايدة إلى أرض الميعادالأمريكية التي تحقق للجميع قسطاً أكبر من الأمن. وكذلك يفعل يهود أمريكا اللاتينيةوجنوب أفريقيا. كما أن المهاجرين من روسيا وأوكرانيا يتجهون أساساً، هم أيضاً، إلىالولايات المتحدة متى سنحت لهم الفرصة. فإذا أضفنا إلى هذا الاتفاق الإستراتيجي بينالدولة الصهيونية والولايات المتحدة، والاعتماد شبه الكامل لهذه الدولة على الدعمالأمريكي بحيث أصبح مصيرها في يد راعيها الأكبر، فإننا نستطيع أن نقول بكثير منالإطمئنان إن المصير اليهودي، إن كان ثمة مصير مستقل، هو نفسه المصير الأمريكي. فالمصير اليهودي خاضع تماماً للإرادة الأمريكية. وهو، على كلٍّ، أمر متوقَّع بعد أنقامت المنظمة الصهيونية العالمية بتوقيع عقد صامت مع الحضارة الغربية يتحول بمقتضاهأعضاء الجماعات اليهودية إلى جماعة وظيفية استيطانية في فلسطين، أو إلى جماعاتتوطينية خارجها، تدافع عن المصالح الغربية نظير أن تضمن هذه الحضارة أمن وبقاءالدولة الصهيونية.

    وقد أصبحت مقولة «المصير اليهودي» مقولة أساسية فيالخطاب السياسي الإسرائيلي وتتبدَّى في عبارة مثل «إين بريرا»، أي «لا خيار»، وهيالعبارة التي يصف بها المستوطنون الصهاينة حالة الحرب الدائمة التي يعيشونها. وقدتعمق هذا المفهوم في أدبيات جوش إيمونيم، إذ يصبح المصير اليهودي جوهر حياةالمستوطنين، فهو تعبير عن عبء الميثاق بين الإله والشعب، وهو عبء لا يحمله كل الشعباليهودي، وإنما يحمله المستوطنون وحدهم، فيذهبون إلى الضفة الغربية، ويضربون خيامهمبجوار البركان. وهو أمر مكتوب عليهم، فقد جاء في العهد القديم: « هو ذا شعب وحدهوبين الشعوب لا يسكن ». ولذا، فالحرب الدائمة مع العرب جزء من المصير المحتوم.

    ولقد حوَّلت المحكمة العليا فكرة المصير اليهودي إلى معيار ارتضته أساساًلتعريف الهوية اليهودية. ومن هنا، رُفض طلب الأخ دانيال أن يُعترَف به يهودياً، رغمأنه وُلد لأم يهودية، وذلك لأنه تبنَّى ديناً آخر ولم يربط مصيره بمصير الشعباليهودي. ومع هذا، صرح شامير بأن الدولة الصهيونية لا يمكنها أن تدافع عن كل يهودالعالم، إذ أنها مشغولة بالدفاع عن نفسها، أي أنه رفض اشتباك مصير الشعب اليهوديبالدولة اليهودية.

    ويُلاحَظ أن الجماعات الوظيفية عادةً ما يكون لديهاإحساس متضخم بخصوصية مصيرها. فالساموراي، في شعر الهايكو، يتحدثون دائماً عن مصيرهمالموعود، كما تتحدث العاهرات عن نصيبهن المكتوب على الجبين. وهذه جميعاً محاولاتإنسانية لعقلنة وضع غير عقلاني وغير إنساني لا تمكن عقلنته إلا بهذه الطريقة. ولعلاضطلاع أعضاء الجماعات اليهودية بدور الجماعات الوظيفية في الحضارة الغربية،واضطلاع الدولة الصهيونية بدور الدولة الوظيفية، السبب الكامن وراء تضخُّم الحديثالصهيوني عن المصير اليهودي الفريد والمشترك.

    ونحن نفرِّق بين وحدة المصيراليهودي وبين تشابك المصائر، إذ أن أحوال إحدى الجماعات اليهودية تؤثر أحياناً علىجماعة يهودية أخرى، وذلك رغم وجودهما في مسارين تاريخيين مختلفين، وبرغم انتمائهماإلى حركيات تاريخية مختلفة. وعلى سبيل المثال، فإن حركيات التحديث المتعثر في شرقأوربا قذفت بملايين اليهود الفائضين إلى غربها، فاشتبك مصيرهم بمصير يهود هذهالبلاد دون أن يتَّحد المصيران بالضرورة، وبذل يهود غرب أوربا أقصى جهدهم للتخلص منالوافدين الجدد. وظهرت، في هذا الإطار، الصهيونية الخارجية التوطينية التي يُطلَقعليها مصطلح «صهيونية الدياسبورا»، وهي صهيونية لا تطلب من المؤمن بها الاستيطان،وإنما تطلب منه المساهمة في توطين الفائض البشري اليهودي الذي يهدِّد مكانتهبالخطر. وقد أثر المشروع الاستيطاني الصهيوني، وهو مشروع إشكنازي غربي بالدرجةالأولى، في الجماعات اليهودية في العالم العربي، إذ أن مصيرهم اشتبك مع مصيرالمستوطنين الإشكناز، الأمر الذي اضطرهم إلى الخروج من بلادهم العربية وإلى استيطانأعداد منهم فلسطين. ومع هذا، ظل الوضع الاقتصادي المتدني والهوية الحضارية المستقلةداخل المُستوطَن الصهيوني، وهو ما يعني أن مصيرهم ليس متوحداً بعد مع مصير الإشكنازوإن كان الوضع قد بدأ في التغير في الآونة الأخيرة (وقد يصبحون جزءاً من المُستوطَنالصهيوني لهم نفس مصيره). ومع هذا، فثمة عناصر تتفاعل داخل المُستوطَن الصهيونيوتوسِّع الهوة بين الإشكناز ويهود العالم الإسلامي، وتفرض على كلٍّ مصيراً مختلفاً.







  6. #36
    مراقبة أقسام رد الشبهات حول الإسلام
    الصورة الرمزية ساجدة لله
    ساجدة لله غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 317
    تاريخ التسجيل : 1 - 10 - 2007
    الدين : الإسلام
    الجنـس : أنثى
    المشاركات : 16,234
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 23
    البلد : مصر الإسلامية
    الاهتمام : منتدى البشارة
    الوظيفة : أمة الله
    معدل تقييم المستوى : 33

    افتراضي



    القدر اليهودي
    Jewish Fate
    عبارة مرادفة لعبارة»المصير اليهودي«


    الاسـتمرار اليهـودي
    Jewish Continuity
    «الاستمرار اليهودي» نموذج تفسيري يفترض أن الجماعات اليهودية تكوِّن في العصرالحديث كلاًّ متجانساً عل مستوى العالم، وأن ثمة استمرارية تاريخية وثقافية (بلأحياناً عرْقية) تسم ما يُسمَّى «التاريخ اليهودي»، ويُعَدُّ هذا النموذج عنصراًمحورياً في الفكر الصهيوني. وانطلاقاً منه، يذهب الصهاينة إلى أن اليهود المحدَثينهم ورثة العبرانيين القدامى، وأن حكومة إسرائيل الحالية في فلسطين المحتلة ما هيإلا الكومنولث اليهودي الثالث. ويرى بعض الصهاينة أن الصهيونية هي تعبير عن هذهالاستمرارية فأصولها تمتد بعيداً إلى أيام الأنبياء الأوائل وأن الدعوة الىالعودة شيء متصل منذ بداية التاريخ اليهودي إلى الآن من الأنبياء إلى هرتزل.
    وفكرة الاستمرار هذه فكرة حلولية ذات أصول إنجيلية، إذ أن الوجدان الغربيينظر إلى أعضاء الجماعات اليهودية من خلال الكتب المقدَّسة، فيرى العبرانيينالقدامى يدخلون كنعان، ثم يرى حكم القضاة فالملوك، فالسبي البابلي، فعودة عزراونحميا، وبعد ذلك ثورة الحشمونيين، ثم هدم الهيكل على يد تيتوس، وهو ما أدَّى إلىنفي اليهود. وهذا ما يعني أنهم في حالة انتظار، قابعون داخل تاريخهم المقدَّس الذيحلّ فيه الإله. وتُستأنَف الحلقة بعودة اليهود مرة أخرى إلى فلسطين. وبالتالى، فإنالاستيطان الصهيوني تعبير عن نمط متكرر ومستمر ومتوقع. كما أن دخول المستوطنينالصهاينة إلى فلسطين، وقيامهم بذبح الفلسطينيين، ليس إلا اسـتمراراً وتكـراراًلدخـول العبرانيين إلى أرض كنعان وإبادتهم لأهلها.

    ويُعبِّر نموذجالاستمرار هذا عن نفسه فيما يمكن تسميته القياس التاريخي الزائف الذي يفترض أنالظواهر المحيطة بيهود اليوم تشبه في كثير من الوجوه الظواهر التي واجهها اليهود فيماضيهم السحيق. فنجد، مثلاً، أن حاييم وايزمان يطالب العرب في خطابه أمام المؤتمرالصهيوني العشرين (1937) بالتفاوض مع اليهود مذكراً إياهم بأنه، في الفترات العظيمةمن التاريخ العربي، تعاون الشعبان معاً في بغداد وقرطبة على حفظ كنوز الثقافةالعربية. فالعرب في نظره ما زالوا كما كانوا، واليهود أيضاً لم يتغيروا، أما الظروفالتاريخية المتغيرة فهي أمر ثانوي يحسن التغاضي عنه كلية. ومن أطرف الأمثلة على هذاالإيمان باستمرار إسرائيل، وعلى القياس التاريخي الزائف، ما صرح به أستاذ للتاريخبالجامعة العبرية من أن جنود إسرائيل رأوا البحر الأحمر لأول مرة في يونيه عام 1967بعد غياب دام بضعة آلاف من السنين، أي بعد عبورهم إياه مع موسى حينما كان يطاردهمفرعون مصر! وقد كان من الشائع في الولايات المتحدة، بعد حرب 1967 مباشرة، أن يحاولبعض الحاخامات تفسير أسفار العهد القديم، مبينين أن معارك يونيه ليست إلا تكراراًلمعارك حدثت من قبل. ويحاول بن جوريون تبرير عسكرة المجتمع الإسرائيلي باللجوء إلىأسطورة الاستمرار، فيقول: « إن جنود موسى ويوشع وداود لم يكفُّوا عن القتال... وكذلك جنود صهيون [أي دولة إسرائيل] لن يتوقفوا عن القتال ». ويقوم بعض المعلقينالعسكريين الإسرائيليين بعقد المقارنات بين فرسان داود وسليمان ودبابات الجيشالإسرائيلي، كما يقيمون الندوات لبحث أوجه الشبه والخلاف بين أساليبب جدعونوتكتيكات ديان. بل إن الصراع العربي الإسرائيلي بأسره ينظر إليه على أنه استمرارلصراع العبرانيين مع الفراعنة والآشوريين والبابليين والفينيقيين. ويتبدَّى نموذجالاستمرار اليهودي في فكرة النقاء العرقي والحضاري لليهود، لأن فكرة الاندماجوالاختلاط بالآخرين تنسف فكرة الاستمرار من جذورها.

    وتذهب الرؤية الصهيونيةفي تفسير هذا الاستمرار اليهودي إلى أن الوجود اليهودي عبر التاريخ اتبع نمطاًواحداً، وعبَّر عن جوهر يهودي واحد، فهو أقرب إلى التكرار منه إلى الاستمرار ويأخذشكلاً هندسيٍّا متسقاً يشبه إلى حدٍّ كبير الأساطير البدائية التي تصل إلى درجةعالية من الاتساق العضوي مع نفسها. وعلى أية حال، فإن هذا الاتساق يجعل الصهيونيةنظاماً مغلقاً مكتفيًّا بذاته لا علاقة له بالواقع المتعيِّن الحي، وهي في هذا تشبهكثيراً من الأساطير الشمولية مثل الأسطورة النازية. ويجد الصهاينة نفس القدر منالاستمرارية في ظاهرة معاداة اليهود، إذ يرون أنها دائمة ما دام اليهود في المنفى.
    وكما هـو الحـال مع «البقاء اليهودي» وغيره من المفاهيـم الصهيونية، نجد أنمفهوم الاستمرار اليهودي يعطي اليهودي حقوقاً مطلقة مستمرة لا تنقطع، ويسقط الحقوقالقائمة للآخرين. فباسم هذا الاسـتمرار يدَّعـي الصهاينة لأنفسـهم شرعية احتلالفلسطين وطرد أهلها. فالدولة اليهودية، حسب رؤيتهم، هي وريثة الدويلات اليهودية التيقامت منذ آلاف السنين.

    الاســتمرار اليهـــودي: منظــــورإســلامي
    Jewish Continuity: An Islamic Perspective
    من المفاهيم الصهيونيةالمحورية مفهوم الاستمرار اليهودي، ويُقصَد به أن ثمة استمرارية في الصفات الأساسية (الثقافية والدينية بل والعرْقية أحياناً) التي تسم أعضاء الجماعات اليهوديةوتفصلهم عن غيرهم من الشعوب والجماعات. وانطلاقاً من هذه الاستمرارية يرى المؤمنونبها أن كلمة «يهودي» تشير إلى يهود العالم في الحاضر والماضي والمستقبل، وأن كلمة «يهودية» تشير إلى نظامهم العقدي، وكأن سمات اليهود الثقافية لم يطرأ عليها أيتَغيُّر جوهري، وكذلك موروثهم الديني.

    ونحن نرى أن مثل هذا التصور يتنافىتماماً مع الواقع التاريخي ومع الرؤية الإسلامية، ويمكن أن نسجل الملاحظات الآتية:

    1
    ـ لا يملك الدارس المتأني إلا أن يُلاحظ وجود تَنوُّع هائل بين أعضاءالجماعات اليهودية على المستوى العرْقي، فهناك يهود بيض ويهود سود ويهود صفر،وتختلف أحجام الرأس باختلاف انتماء اليهودي، كما يظهر الاختلاف والتباين علىالمستوى الثقافي/الإثني (انظر الباب المعنون «إشكالية العزلة والخصوصية اليهودية»).
    2
    ـ يُلاحَظ أن اليهودية ليست عقيدة متكاملة محددة المعالم بشكل معقول فهيأساساً تركيب جيولوجي تراكمي يحوي داخله طبقات عقيدية مختلفة ومتناقضة، بعضها يقتربمن الشرك الصريح وبعضها يصل إلى التوحيد الكامل، وهذه الطبقات جميعاً جزء مناليهودية. وإن آمن اليهودي بطبقة دون أخرى، فهو مع هذا يظل يهودياً من منظور الشرعاليهودي. وفي عهد الهيكل الثاني، كان الصدوقيون الذين لا يؤمنون باليوم الآخريجلسون في السنهدرين جنباً إلى جنب مع الفريسيين الذين يؤمنون بالبعث واليوم الآخر. وإلى جانب هؤلاء توجد بعض كتب الأنبياء في العهد القديم التي تقترب من التوحيدالخالص، بل تصل إليه أحياناً. وقد جاء في القرآن الكريم « قالت اليهود عزير ابنالله » (التوبة: 30) وبالفعل، هناك من اليهود من يستخدم مفهوم ابن الله باعتبارهمفهوماً محورياً (انظر: «ابن الله»)، ولكن هناك من يُهمِّش هـذا المفهـوم بل يرفضـهتماماً، ويـصر على قدر عال من التوحيد. وهناك العشرات من اليهود في العصور الوسطىفي الغرب ممن تقدموا إلى النار التي أُضرمت لإرغامهم على الرجوع عن التوحيد ولاقواحتفهم وهم يرددون أن الإله واحد.

    وقد جمع حاخامات اليهود تفسيراتهم للعهدالقديم في التلمود الذي يُسمَّى أيضاً «الشريعة الشفوية»، وجعلوا الإيمان بهذهالشريعة الشفوية أساساً للعقيدة اليهودية يفوق في الأهمية الإيمان بالتوراة (الشريعة المكتوبة). والتلمود يحوي آراء أقل ما تُوصَف به أنها تُناقض أية رؤيةتوحيدية. وقد ازداد الأمر سوءاً بظهور تراث القبَّالاه التي وصفها بعض الحاخاماتبأنها شرك صريح. وكان هناك إلى جوار هذا كله أشكال من اليهودية غير الحاخامية مثليهودية الفلاشاه في إثيوبيا ويهودية بني إسرائيل في الهند. وازدادت المسألةارتباكاً في العصر الحديث مع ظهور اليهودية الإصلاحية واليهودية التجديديةواليهودية المحافظة، وهي صيغ مخفَّفة من اليهودية بعضها لا يؤمن أتباعه بأن التوراةمُوحىً بها، وبعضها لا يؤمن بالبعث، وهكذا. ثم ظهر لاهوت موت الإله الذي ينطلق منفكرة أن الإله مات مع الإبادة النازية (ليهود الغرب)، وأن الدولة اليهودية حلت محلالإله! ثم ظهر أخيراً اليهود الملحدون والإثنيون الذين يرون أن يهوديتهم تكمن فيخواص عرْقية أو إثنية أو حتى نفسية لا علاقة لها بالدين.

    3 ـ كل هؤلاء يعتبرون أنفسهم « يهوداً » وهذا أمر يحدث في كثير من العقائد حين يرفض شخص ما معيارية عقيدة ما ويرفض الاحتكام لها (مثل الإيمان بالإله في الإسلام والمسيحية واليهودية) ومع هذا يستمر في ادعاء الانتماء لها. ويُلاحَظ أن المسيحية والإسلام لا يمكن أن يقبلا مثل هذا الشخص في حظيرة الدين. فرغم وجود قدر من الاختلاف والتنوع وعدم التجانس يسمح به النسق الديني الإسلامي والمسيحي إلا أن ثمة معيارية نهائية لابد من قبولها. هذا على عكس اليهودية التي تفتقر إلى مثل هذه المعيارية، فلم تتبن تعريفاً عقيدياً وحسب (اليهودي هو من يؤمن باليهودية)، ولكنها تبنت أيضاً تعريفاً بيولوجياً مادياً (اليهودي هو من وُلد لأم يهودية)، وفي الآونة الأخيرة تبنت تعريفاً نفسياً (اليهودي هو من يشعر بذلك في قرارة نفسه، ومن قَبل أن يربط مصيره بمصير الشعب اليهودي)، وهذه تعريفات تُسقط المعيارية وتفتح الباب على مصراعيه لكل من يريد أن يُسمِّي نفسه يهودياً. فالتعريفان الثاني والثالث لا علاقة لهما بأية معيارية عقيدية. ولذا يمكن الحديث عن «يهودي ملحد»، أي يهودي لا يؤمن بالإله، ولكن لا يمكن أن نتحدث عن «مسلم ملحد» أو عن «مسيحي ملحد».







  7. #37
    مراقبة أقسام رد الشبهات حول الإسلام
    الصورة الرمزية ساجدة لله
    ساجدة لله غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 317
    تاريخ التسجيل : 1 - 10 - 2007
    الدين : الإسلام
    الجنـس : أنثى
    المشاركات : 16,234
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 23
    البلد : مصر الإسلامية
    الاهتمام : منتدى البشارة
    الوظيفة : أمة الله
    معدل تقييم المستوى : 33

    افتراضي



    انطلاقاً من كل هذا سنطرح مجموعة من الإشكاليات وسنجتهد في الإجابة عليها لنبيِّن استحالة افتراض الاستمرار اليهودي (الثقافي أو البيولوجي) من منظور إسلامي:

    1 ـ إشكالية المجال الزمني لمصطلح «يهودي» (هل يشير إلى كل يهود العالم في كل زمان ومكان، في الماضي والحاضر والمستقبل، أو إلى يهود المدينة أيام البعثة المحمدية وحسب؟):

    لفظ «يهودي» في اللغة من «هاد» أي «تاب ورجع إلى الحق» و«التَهوُّد» هو «التوبة والعمل الصالح». ويُقال أيضاً «هاد» و «تهود» أي «صار يهودياً» بمعنى أنه يؤمن بالعقيدة اليهودية. ولكن كلمة «يهودي» ليست الكلمة الوحيدة التي تدل على اليهود في القرآن، فقد وردت عدة مصطلحات أخرى: بني إسرائيل [41 مرةٍ]، واليهود [8 مرات]، وهود [3 مرات]، والذين هادوا [9 مرات]، وأوتو الكتاب [12 مرة]، وأهل الكتاب [31 مرة].

    ومن الواضح أن القرآن الكريم لا يفترض وجود استمرارية بين يهود العالم، ولذا وردت هذه المصطلحات غير المترادفة ليعبِّر كل مصطلح عن وضع زماني ومكاني مختلف. فالقرآن يُفرِّق تفرقة واضحة بين اليهود الذين عاشوا في الجزيرة العربية وتعامل المسلمون معهم في فترة البعثة المحمدية من جهة وبين بني إسرائيل من جهة أخرى. فمصطلح «بني إسرائيل» جاء مخصصاً للحديث عن يهود عصر موسى وعيسى وأنبياء بني إسرائيل، ولم يُستخدَم هذا اللفظ تخصيصاً ليهود عصر البعثة المحمدية إلا في موضعين (من المواضع الإحدى والأربعين) وهما:

    ـ «سـل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة » (سورة البقرة ـ 211(

    ـ « إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون» (سورة النمل ـ 76(.

    وواضح أن في هذين الموضعين إحالة إلى موروثات قديمة يمكن أن يتناقلها اليهود، أياً كانت أصولهم العرْقية، عن بني إسرائيل، أي يهود عصر موسى، الأمر الذي يفتح الباب لإمكانية توجيه الخطاب العام (اليهودي) بصفة الخاص (بنو إسرائيل) الذي هو مسئول مسئولية مباشرة عن هذه الموروثات.

    وهذا التمييز مفهوم تماماً في إطار الواقع التاريخي. فيهود المدينة والجزيرة العربية كانوا يؤمنون بصياغة دينية يُقال إنها شبه توحيدية، فهم في أغلب الظن لم يكونوا يعرفون التلمود حتى مع احتمال أن يكون قد تم جمعه آنذاك. (ومع هذا، تجب الإشارة إلى أن الفكر السبئي [نسبة إلى عبد الله بن سبأ] يدل على تَصاعُد العنصر الحلولي في اليهودية). وقد كان يهود الجزيرة العربية منعزلين عن يهود العالـم، وعـن مراكـز الدراسـة التلمـودية والفقهية في فلسطين وبابل، بل ويُقال إن يهود العالم آنذاك لم يكونوا يعتبرونهم يهوداً.

    ومن هنا تكون التفرقة بين يهود عصر موسى ويهود المدينة، ومن هنا تكون ضرورة افتراض عدم وجود استمرار يهودي، فلابد من التفرقة بين يهود الماضي من جهة ويهود العالم الحديث في أيامنا هذه من جهة أخرى، فالمجالان الدلاليان لكلمتي «يهودي» و«بني إسرائيل» كما وردتا في القرآن محددان ولا ينطبقان بالضرورة على يهود العصر الحديث.

    وربما كان من المفروض أن تُولَد داخل المعجم العربي الإسلامي، من البداية، مجموعة ألفاظ للإشارة إلى المدلولات المختلفة: «بنو إسرائيل»، و«اليهود بالمعنى القرآني»، و«اليهود عبر التاريخ»، و«اليهود في العصر الحديث»، وهكذا. وقد حاولنا من جانبنا أن نولّد مبدئياً مجموعة من المصطلحات مثل: «العبرانيون» للإشارة إلى اليهود القدامى كجماعة عرْقية، و«جماعة إسرائيل» للإشارة إليهم كجماعة دينية، و«الجماعات اليهـودية» للإشـارة إلى الجماعات البـشرية ممن اتُفق عرفاً أنهم يهود، وهو حل مؤقت للمشكلة إلى حين بحثها فقهياً ولغوياً. ولعل الفقهاء لم يتوجهوا لهذه المشكلة بالحماس المطلوب، لأن اليهود لم يكونوا يمثلون إشكالية خاصة أو مستقلة داخل التشكيل الحضاري الإسلامي نظراً لعدم أهميتهم وبسبب استقرار وضعهم داخل الحضارة الإسلامية بعد استقرار مفهوم أهل الذمة. أما في القرن العشرين، بعد تَركُّز غالبية يهـود العـالم داخل الحضـارة الغربية العلـمانية أو في الدولـة الصهيونية، فإن الوضع جدُّ مختلف ويتطلب فتح باب الاجتهاد والنظر في هذه المسألة.

    2 ـ التناقض بين تعريف العقيدة اليهودية لليهودي والتعريف الإسلامي له:

    كلمة «يهود» في الإسلام تعني «أتباع الكتاب الذي جاء به موسى عليه السلام». ورغم أنهم قاموا بتحريفه أو أصروا على اتباع المحرَّف منه إلا أن ثمة مبادئ أساسية وردت فيه لم يتم تحريفها من بينها الإيمان بالله واليوم الآخر.

    هذا التعريف الإسلامي لو طُبِّق على يهود العالم الحديث لتم استبعاد ما يزيد عن 90% منهم، أو إذا توخينا الدقة لقلنا لاستُبعد 50% منهم (الملحدون واللاأدريون) ولتَعَذَر تَقبُّل 40% (الإصلاحيون والمحافظون والتجديديون) كيهود، ولربما قُبل الـ 10% الأرثوذكس (فقط) كيهود. وحتى هذا أمر خلافي بسبب تَزايُد النزعة الحلولية التي هيمنت على اليهودية الحاخامية. والمسلم لا يمكنه إلا أن يستبعد أولئك الذين لا ينطـبق عليهم التعـريف الإسـلامي لليهودي، حتى لو سـموا أنفسـهم «يهوداً»، وحتى لو قبلتهم الشريعة اليهودية كيهود.

    وقد تنبه الشهرستاني (صاحب الملل والنحل) إلى ظاهرة مماثلة إذ أشار إلى أن الجماعة التي تُسمَّى «الصابئة» في العراق ليسوا هم في حقيقة الأمر بالصابئة الذين يشير إليهم القرآن، فهؤلاء جماعة غنوصية تُدعَى «المندائية» اتخذت الاسم بغية أن يُعامَلوا معاملة أهل الكتاب، أي أن كلمة «صابئة» (كما عرَّفها القرآن) لا تنطبق في واقع الأمر على هؤلاء الذين يُسمون أنفسهم «صابئة».

    3 ـ التناقض بين مفهوم الاستمرار اليهودي ومفهوم الفطرة في الإسلام:

    افتراض الاستمرار اليهودي، البيولوجي والثقافي، يتناقض مع إحدى القيم الحاكمة الكبرى في الإسلام، ونقصد به مفهوم الفطرة. فالإنسان ـ حسب التصور الإسلامي ـ يُولَد على الفطرة، وإن كان ثمة صفة وراثية فهي الفطرة الإنسانية والاستعداد لعمل الخير، وهو مفهوم يضع على الفرد عبء المسئولية الخلقية ويطرح إمكانية التوبة الدائمة (من جانب المخلوق) وإمكانية المغفرة (إن شاء الخالق). ومن ثم فإن فكرة الاستمرار اليهودي تُشكّل سقوطاً في المنطق العنصري العلماني الشامل الذي يرى الإنسان محكوماً بموروثه البيولوجي أو الاقتصادي أو العرْقي أو مجموعة من الحتميات المادية الأخرى. ومن الواضح أن النص القرآني حذَّر من ذلك ففرَّق بين اليهود عموماً من ناحية وبين الصالحين والطالحين منهم من ناحية أخرى، وحكم على كل فريق منهم بما يستحقه من خير أو شر، مُلتزماً في ذلك طريقة العدالة والصدق.

    والإنسان المسلم مُلزَم أولاً وأخيراً بالتعامل مع اليهود والمسيحيين من خلال مفهوم أهل الذمة الذي حدد حقوقهم وواجباتهم وأكد المساواة الكاملة والمطلقة بينهم وبين المسلمين، ولم يطرح تصوراً لوجود استمرار بيولوجي أو ثقافي بينهم.












  8. #38
    مراقبة أقسام رد الشبهات حول الإسلام
    الصورة الرمزية ساجدة لله
    ساجدة لله غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 317
    تاريخ التسجيل : 1 - 10 - 2007
    الدين : الإسلام
    الجنـس : أنثى
    المشاركات : 16,234
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 23
    البلد : مصر الإسلامية
    الاهتمام : منتدى البشارة
    الوظيفة : أمة الله
    معدل تقييم المستوى : 33

    افتراضي



    4 ـ الفوائد العملية لافتراض الاستمرار اليهودي:

    رغم وضوح الموقف الإسلامي من فكرة الاستمرار اليهودي، هناك من يرى قيمة تعبوية عملية في التأكيد على النزوع اليهودي الأزلي والحتمي والطبيعي، في كل زمان ومكان، نحو الشر (وهو أمر مخالف لتعاليم الإسلام ـ كما أسلفنا). ومثل هؤلاء يرون أن أية عملية للتفرقة بين اليهود والصهاينة وبين اليهودية والصهيونية وبين يهود الماضي ويهود الحاضر هي عملية أكاديمية تضيع الوقت ولا جدوى من ورائها، وأن من الأفضل أن يتم التعامل مع الأمور على إطلاقها.

    وابتداءً، فإن هذا الموقف العملي المادي يتنافى مع القيم الأخلاقية المطلقة (المُرسَلة من الله). فالإنسان المؤمن يرفض التنازل عن قيمه بسبب نفع مادي. ولكن حتى على المستوى العملي، نجد أن تَبَنِّي هذا المنطق خطر لأقصى درجة للأسباب التالية:

    أ ) افتراض وحدة اليهود سيقلل مقدرتنا على رصد الظواهر اليهودية والصهيونية إذ سنكتفي برصد العموميات دون رصد المنحنى الخاص للظواهر، وسنبحث عن الدلائل والقرائن التي تدعم وجهة نظرنا دون النظر إلى خصوصيات الظواهر.

    ب) عادةً ما يذهب دعاة الاستمرار اليهودي إلى أن اليهود مسئولون عن الشرور كافة، الأمر الذي ينسب لهم قوى شيطانية خارقة تُولِّد الرعب في قلب المجاهد حتى قبل دخول الحرب.

    جـ) ينسب دعاة الاستمرار اليهودي أولوية سببية لليهود ويجعلهم المتحكمين في شئون العالم بأسره الأمر الذي يقلب الأولويات تماماً، وخصوصاً في زمن النظام العالمي الجديد. فالدولة الصهيونية، في واقع الأمر، إن هي إلا أداة في يد الاستعمار الأمريكي على وجه الخصوص، والغربي على وجه العموم، وهذا هو العدو الحقيقي الذي يحاول أن يفرض منظومته على العالم فيُحوِّله إلى سوق ومصنع، والدولة الصهيونية هي الوسيلة والجزء وليست الغاية والكل.

    د) مثل هذا المنطق الذي يرى مجموعة بشرية غير متجانسة كتلة بيولوجية واحدة يُكرِّس رؤية علمانية عنصرية تُقوض دعائم القيم الأخلاقية وضرورة الحكم الأخلاقي الفردي على الآخر. وفي منطقة مثل منطقتنا العربية الإسلامية، حيث تُوجَد أقليات عديدة (دينية وإثنية ولغوية) عاشت عبر مئات السنين داخل الفسيفساء الإسلامية الثرية، نجد أن مثل هذا المنطق يؤدي إلى تَفجُّرات عرْقية وإثنية ودينية وربما أدَّى إلى تآكُل العقد الاجتماعي الإسلامي.

    هـ) رؤية اليهود باعتبارهم كلاً لا يتجزأ تَصوُّر صهيوني يرى أن من الصعب تفتيتهم، ويرى أن من الصعب على العناصر اليهودية الرافضة للصهيونية (وللحلولية الوثنية) أن تنشط وتظهر وتعبِّر عن نفسها. ومثل هذا الطرح يتجاهل الحقيقة التاريخية، وهي أن الصهيونية حركة إلحادية معادية لليهودية وتطرح نفسها بديلاً لها. ولذلك، فإن الطرح المجرد والتعميمي، وقبول الأمور على إطلاقها، سيجعل الاستفادة من هذه التناقضات الداخلية أمراً صعباً، وسيؤدي إلى القضاء على العناصر الرافضة.

    و ) يُلاحَظ أن كثيراً من الحركات العلمانية الإلحادية في أوربا، في القرن الثامن عشر، كانت تخشى الهجوم على المسيحية ومؤسساتها نظراً لوجود قطاعات كبيرة في المجتمع الغربي كانت لا تزال تؤمن بالمسيحية.

    ولذا، بدلاً من الهجوم المباشر على المسيحية، كان يتم الهجوم على اليهود واليهودية. وكان بعض دعاة الخطاب الإلحادي يلمحون إلى أن اليهودية نموذج لأي دين وأي نظام عقيدي يستند إلى الغيب، وأصبح الهجوم على اليهود واليهودية أكبر دعاية إلحادية. ولم تتنبه الكنيسة لهذه الشفرة إلا في وقت متأخر. والهجوم على اليهود (والنصارى) يحمل حتماً تضمينات إلحادية، فهو هجوم غير واع على النموذج الإيماني ككل، طالما تضمن هجوماً على الوحي/الغيب.

    ز ) إذا كان الهدف هو شحذ الهمم للجهاد، فلابد أن يتم هذا من منطلقات إسلامية وبديباجات إسلامية، إذ أن تَقبُّل أطروحات الآخر وديباجاته (كل اليهود صهاينة ـ كل اليهود سواء ـ اليهودي هو من وُلد لأم يهودية) هو سقوط في منطقه وفقدان للهوية. والإسلام يدعو إلى الجهاد ضد أعدائه، وضد من يسلبون حقوق المسلمين دون السقوط في أية عنصرية « وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم، ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين » (البقرة: 190). ويقول تعالى « أُذنَ للذين يقاتلون بأنهم ُظلموا وإن الله على نصرهم لقدير» (الحج: 93).

    5 ـ اليهودية كنموذج عام:

    رغم ارتباط دال «يهودي» بأزمنة وأمكنة محدَّدة، ورغم أن دال «يهودية» يُشير إلى مجموعة من العقائد إلا أن بالإمكان القول بأن إحدى استخدامات كلمة «يهودي» في القرآن لها مجال دلالي عالمي متحرر من الزمان والمكان. واليهودي حسب هذا التعريف هو الشخص الذي تتوفر فيه مجموعة من السمات (بغض النظر عن انتمائه العقيدي). ويمكن هنا مقارنة استخدام الدال «يهودي» باستخدام الدال «فرعون» فهو دال يشير إلى شخص بعينه وإلى واقعة تاريخية محددة ومع هذا لم يُقصَر أمر استخدامه على هذا الشخص أو هذه الواقعة. كما لم يربط أيٍّ من المفسرين الدال «فرعون» بحكام مصر المحدثين (إلا من قبيل المجاز). ويبدو أن دوال مثل «مصري» أو «فرعون» دوال تشير إلى وقائع تاريخية محددة وإلى سمات وأنماط بشرية متكررة تنفصل عن سياقها التاريخي لتصبح ذات مدلول أخلاقي عام يصلح لكل زمان ومكان.

    وإن أخذنا بهذا الرأي فيمكن القول بأن اليهودي كنموذج واليهودية كنموذج يتسمان بالسمات الأساسية للجماعات والعقائد الحلولية الكمونية ويتضح هذا في عدة جوانب:

    أ ) يرى القرآن أن اليهود يصبغون دينهم بصبغة مادية، ويتضح هذا في ميلهم الشديد نحو التجسيد. « وإذ قُلتُم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرةً » (البقرة: 255). ويتضح هذا الاتجاه في اتخاذهم العجل إلهاً. والميل نحو التجسيد الذي يتحوَّل إلى عبادة للأوثان هو سمة أساسية في العقائد الحلولية.

    ب) تتضح الحلولية والنزوع نحو المادية والتجسيد في الفهم اليهودي للنصوص المقدَّسة فهو فهم يتسم بالظاهرية والحرفية، ولذا فقد فهموا دعوة القرآن للإنفـاق في سـبيل الله باعتباره قرضاً لله، إذ قالوا « إن الله فقير ونحن أغنياء » (آل عمران: 181).

    جـ) حينما يصبح الإنسان موضع الحلول في المنظومات الحلولية فإنه يتأله فينسب لنفسه الخلود. وقد وصف القرآن اليهود بأنهم أحرص الناس على الحياة وبأنهم يكرهون الموت ويخافونه ولا يتمنونه أبداً. (وهو ما يتناقض مع قولهم بأنهم أولياء الله وأنهم أبناء الله وأحباؤه)، وهم لهذا لا يقاتلون غيرهم إلا في قرى محصنة أو من وراء جُدُر. وحكى القرآن عنهم أنهم طالبوا أنبياءهم بالقتال في سبيل الله بعد إخراجهم من مصر فلما كُتب عليهم القتال تولوا، بل وعندما دعاهم موسى عليه السلام للقتال ودخول الأرض المقدَّسة قالوا لموسى عليه السلام اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون.

    د) تعبِّر المنظومة الحلولية عن نفسها في موقفين متناقضين الأول زيادة الحدود والطقوس والاهتمام الشديد بالتفاصيل، والثاني إلغاء الحدود والطقوس تماماً. ويظهر هذا في الوصف القرآني لليهود إذ يصفهم بالتشدد فقد قست قلوبهم حتى أصبحت أشد قسوة من الحجارة وهو ما جعلهم يتعنتون مع الأنبياء فرفضوا أن يؤمنوا بنبي ما لم يأتهم بقربان تأكله النار (آل عمران: 183)، وأكثروا من السؤال عن المحرمات بشكل أدى إلى تضييقهم على أنفسهم. فقد أحل الله لهم كل الطعام إلا ما حرَّم إسرائيل على نفسه فتشددوا جدالاً وسؤالاً حتى حرَّم عليهم كل ذي ظفر ومن الغنم والبقر الشحوم إلا ما حملت ظهورها أو الحوايا (الأنعام: 146)، وهو تشريع يؤكد إغراقهم في التفاصيل ويُبيِّن إلى أي حد أكثر اليهود من السؤال والاختلاف حتى حرَّم الله عليهم بعض ما أحل لهم عقاباً لهم. وفي خروجهم من مصر تشددوا مع موسى عليه السلام في مطالبهم فطلبوا منه أن يدعوا الله أن يخرج لهم نباتاً مختلفاً لأنهم لا يصبرون على طعام واحد (البقرة: 261)، وتعكس قصة البقرة التي رواها القرآن إلى أي حد عذبوا أنفسهم وضيقوا على أنفسهم بالسؤال مرات عديدة عن صفة البقرة وعندما ذبحوها أطاعوا الله بعد مشقة (البقرة: 67 ـ 71)

    هـ) أما الجانب الآخر للحلولية وهو إلغاء الحدود تماماً فيتضح في أن اليهود يحوّلون أنفسهم إلى مرجعية ذاتهم فهم يبحثون عن دين يجعلهم شعباً مختاراً. وبدلاً من طاعة الإله يطوعونه، ولذا فهم يستخدمون الدين استخداماً نفعياً. فلم يؤمن بنو إسرائيل لرسول ما لم يأت بما تهوى أنفسهم « أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقاً كذبتم وفريقاً تقتلون » (البقرة: 87). ونقضهم ينبع من عملية تَوثُّن الذات هذه فقد وصف القرآن اليهود في غير موضع بنقض العهود (« وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور... ثم توليتم من بعد ذلك » [البقرة: 63ـ 64] ـ « وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله... ثم توليتم إلا قليلاً » [البقرة: 83] و«أو كلما عاهدوا عهداً نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون » [البقرة: 100]). فقد نبذوا عهود الله وعهود الأنبياء وعهود الناس، وإن كان الوصف القرآني الدقيق ينسب نبذ العهد إلى فريق وعدم الإيمان إلى الأكثرية لا إلى كل اليهود.

    و ) وتتضح الحلولية وتحطيم الحدود في أن العقيدة اليهودية، كما يصفـها القرآن، ليـست لها معيارية ثابتـة وإنما تتداخل مع العقائد الأخرى. ولذا فاليهود يتأثرون بعقـائد وثقافـات الأمم التي يعيـشـون بينها أو يحتـكون بها " قالوا يا موسى إجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة " (الأعراف: 138) وهذا ما نعبِّر عنه بعبارة «اليهودية كتركيب جيولوجي تراكمي».

    إن وصف القرآن لليهود وللعقيدة اليهودية هو في واقع الأمر وصف لأتباع أية عقيدة حلولية. وقد لاحظ كثير من المفسرين تشابه وصف اليهود في القرآن مع بعض سمات الإنسان العلماني الشامل الحديث الذي يتوثن ويتأله ويصبح هو ذاته مرجعية ذاته، ويعيش في عالم الحواس الخمس يرفض تَجاوُزه. فكأن كلمة «يهودي» هنا تصف الإنسان الحلولي الكموني الذي يتصف بهذه الصفات، يهودياً كان أم مسيحياً أم مسلماً أم ملحداً. ولعل هذا التماثل هو الذي يجعل البعض يتصور أن اليهود مسئولون عن الشرور كافة، وما فاتهم أن وصف اليهودية في القرآن هو وصف لعقيدة حلولية وأن وصف اليهود هو وصف لأتباع عقيدة حلولية، وأن هذا الوصف لا ينطبق على اليهود ممن يدورون في إطار الحلولية وإنما ينطبق كذلك على كل أتباع العقائد الحلولية المختلفة، سواء كانوا من أتباع عقيدة الشنتو اليابانية، أو الفلسفة النيتشوية الألمانية، أو العلمانية الشاملة.







  9. #39
    مراقبة أقسام رد الشبهات حول الإسلام
    الصورة الرمزية ساجدة لله
    ساجدة لله غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 317
    تاريخ التسجيل : 1 - 10 - 2007
    الدين : الإسلام
    الجنـس : أنثى
    المشاركات : 16,234
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 23
    البلد : مصر الإسلامية
    الاهتمام : منتدى البشارة
    الوظيفة : أمة الله
    معدل تقييم المستوى : 33

    افتراضي



    البقــاء اليهـودي
    Jewish Survival
    «البقاء اليهودي» عبارة تتواتر في التواريخ المتأثرة بالرؤية الصهيونية، بل نجدها دائماً مقرونة بكلمة «معجزة». ومصطلح «البقاء اليهودي» مرتبط بمصطلحات صهيونية أخرى مثل «الاستمرار اليهودي» و«الشعب اليهودي» و«التاريخ اليهودي» و«الشخصية اليهودية»، وهي جميعاً تنبع من نموذج تفسيري واحد يفترض وجود جماعة متجانسة يُقال لها «اليهود» احتفظت بهويتها المستقلة، رغم انتقالها من مكان إلى آخر، ورغم تواجدها في أزمنة مختلفة. وعادةً ما يُقارَن هذا البقاء اليهودي باختفاء بعض الشعوب الأخرى مثل اختفاء الآراميين والبابليين، وحدوث بعض الشعوب الأخرى مثل العرب.

    وهذا المفهوم، مثل غيره من المفاهيم الصهيونية، يفترض نوعاً من الاستمرار والوحدة والتجانس لا وجود له لا على مستوى النسق الديني أو على مستوى الجماعات اليهودية. فبقاء اليهود لم يكن مطلقاً، فمن الوقائع الأساسية في التاريخ العبراني واقعة تهجير القبائل العبرانية العشر من سكان المملكة الشمالية إلى آشور، ثم لم يُسمَع بهم بعد ذلك،ولا يزال البحث عنهم جارياً.وقد أصدر حاخام السفارد الأكبر فتوى بأن الفلاشاه من قبيلة دان (إحدى هذه القبائل).والقول نفسه ينطبق على يهود الخزر الذين لا نعرف شيئاً عن مصيرهم إلا إذا كانت بقاياهم قد اتجهت إلى المجر ومنها إلى بولندا واستقرت هناك.كما أن نسبة كبيرة من اليهود تختفي من خلال الاندماج.ولذا، فرغم أن عدد اليهود في القرن الأول الميلادي كان يصل (حسب بعض الإحصاءات) إلى ما يقرب من سبعة ملايين، فإن عددهم في القرن السابع الميلادي لم يتجاوز المليون.

    ويمكننا أن ننظر إلى بعض آليات بقاء بعض الجماعات اليهودية، فيُلاحَظ مثلاً أنه بعد القضاء على المملكة الشمالية قُيِّض للمملكة الجنوبية البقاء بسبب انضوائها في كنف الإمبراطورية الآشورية ثم البابلية، وهو أمر مُتوقَّع إذ كيف تستطيع دولة صغيرة أن تضمن لنفسها البقاء إلا بهذه الطريقة؟ هذا أمر يذكره ديَّان في كتاباته، كما يدركه كل المفكرين والساسة الصهاينة الذين يُصرِّون على عقد تحالف مع دولة عظمى لحماية الكيان الصهيوني، والذين لا يقومون بأية عملية عسكرية إلا بعد الحصول على غطاء من دولة عظمى. وقد انتهى الوجود العبراني حينما وقفت المملكة الجنوبية في وجه القوة البابلية العظمى. والبقاء إشكالية أساسية في كتب الأنبياء، ولذا فإنهم يحاولون دائماً العثور على إستراتيجية ما لتحقيقه مع الاحتفاظ بهوية دينية توحيدية.

    ومع اختفاء دويلة يهودا الجنوبية، اختفى الوجود العبراني. فالعائدون من بابل كانوا قد نسوا العبرية ـ المصدر الأساسي لهويتهم الدينية ـ كما كانوا قد تأثروا تأثراً عميقاً بالتراث الديني في بابل. وبعودتهم تبدأ الجماعة اليهودية مرحلة جديدة في تاريخها، إذ يتحقق بقاؤها لا بسبب استقلالها وإنما نتيجة خضوعها لقوى عظمى أخرى مثل القوة الفارسية ومن بعدها القوة اليونانية. كما يتحقق هذا البقاء لا بسبب تمسُّك الجماعة اليهودية بهويتها، وإنما نتيجة تَغيُّر هذه الهوية من هوية ذات طابع ديني قومي تعبِّر عن نفسها من خلال الدولة إلى هوية دينية إثنية تعبِّر عن نفسها من خلال مؤسسات مختلفة خاضعة للقوة الإمبراطورية، مثل الكاهن الأعظم والسنهدرين وأمير اليهود (بطريرك). وحينما اصطدمت الجماهير اليهودية تحت قيادة الغيورين بالقوة الرومانية، تم القضاء على فلسطين باعتبارها مركزاً لليهود واليهودية. ومع هذا، لم يتم القضاء على اليهود بوصفهم قوماً (إثنوس)، لا بسبب معجزة البقاء ولكن لأن القضاء على اليهود لم يكن أحد أهداف الرومان الذين كانوا يعتبرون اليهود أصدقاء لهم، بدليل أن تيتوس كان يحارب إلى جانبه جيش يهودي بقيادة أجريبا الثاني. وقد حققت اليهودية البقاء لأن الرومان سمحوا ليوحنان بن زكاي بأن يؤسس مدرسة يفنة التي تم تطوير أسس اليهودية الحاخامية فيها.

    وقد ضمن أعضاء الجماعة اليهودية بقاءهم داخل التشكيلين الحضاريين الإسلامي والمسيحي لاضطلاعهم بدور الجماعة الوظيفية الوسيطة، وهو دور يتطلب عزلة أعضاء هذه الجماعة وبقاءهم بشخصيتهم المستقلة، وذلك حتى يمكنهم القيام بوظيفتهم هذه على أكمل وجه تحت حماية الطبقات الحاكمة التي تستخدمهم كأداة. وهناك أمثلة كثيرة على أقليات دينية إثنية أخرى تمتعت بما يُسمَّى «معجزة البقاء» هذه عبر عدة قرون، دون أن تنصهر في محيطها الثقافي، وذلك لقيامها بنشاط اقتصادي واجتماعي محدَّد كما تفعل الجماعات الصينية في جنوب شرقي آسيا.

    ومما ساعد على بقاء اليهود أن قوى المركزية وكذلك التوحيد الإداري لم تكن قوية لا في العالم المسيحي الغربي ولا في العالم الإسلامي، كما هو الحال في معظم المجتمعات التقليدية، الأمر الذي خلق المجال لوجود جيوب إثنية ولبقائها واستمرارها. كما أن العقائد الدينية السائدة في المجتمعات المسيحية سمحت ببقاء اليهود، بوصفهم الشعب الشاهد الذي يقف شاهداً على عظمة الكنيسة وصدق العقيدة المسيحية. ولذا، كانت الكنيسة الكاثوليكية تحمي بقاءهم وتدافع عنهم. أما في المجتمعات الإسلامية فقد صُنِّف اليهود باعتبارهم من أهل الكتاب في الإسلام، حيث حُدِّدت حقوقهم وواجباتهم منذ البداية، وأصبح من واجب الدولة الإسلامية حمايتهم. وقد حقق أعضاء الجماعات في العصر الحديث بقاءهم بالطريقة نفسها تقريباً، إذ أحرزوا البقاء بأن أصبحوا جزءاً من التشكيل الاستعماري الاستيطاني الغربي. ويحقق يهود جنوب أفريقيا بقاءهم بالعيش في سلام في كنف الجيب السكاني الأبيض، ولن يزولوا أبداً إلا بزواله. كما أن أعداداً كبيرة منهم تُحقّق البقاء في أمريكا اللاتينية بالابتعاد عن الحركات اليسارية والقومية، وبالتعاون مع النظم الشمولية. وقد حققوا قدراً كبيراً من البقاء في أمريكا الشمالية بتَقبُّل مُثُل المجتمع والتعامل مع الواقع من خلالها.

    ويأخذ البقاء اليهودي شكل التكيف مع المحيط الثقافي بحيث يصبح اليهودي جزءاً من كل، فيضمن لنفسه بذلك البقاء والاستمرار، ومن هنا تَنوُّع وعدم تجانس الجماعات اليهودية وسمتها الجيولوجية، فلا يوجد يهودي خالص ولا يهودي عالمي بل هناك يهود أمريكيون ويهود صينيون ويهود عرب، وهكذا.

    وقد أحرزت اليهودية نفسها البقاء عن طريق تغيير هويتها تغييراً جوهرياً، فقد بدأت عبادةً إسرائيلية، هي عبادة يهوه بعد أن دخلت عليها عناصر كنعانية، ثم انفتحت على التراث الديني البابلي بنزعته العالمية، وبمعتقداته الخاصة بيوم الحساب. وانفصلت هذه العبادة عن الدولة والملك لترتبط بالهيكل، ثم انفصلت عن الهيكل على يد الفريسيين. وفي الوقت نفسه، تعدلت الشريعة حيث لم تَعُد شريعة تغطي كل جوانب الحياة وإنما بعض جوانبها وحسب. وقبلت اليهودية قوانين الدولة التي يعيش اليهود في ظلالها انطلاقاً من أن شريعة الدولة هي الشريعة. وقد تعدلت اليهودية بشكل جوهري بعد حركة الإعتاق وتداعي أسوار الجيتو، فظهرت اليهودية الإصلاحية والمحافظة والاتجاهات اليهودية المختلفة، أي أن البقاء اليهودي الديني قد تحقق هو الآخر نتيجة التغيرات الجوهرية التي غيَّرت هوية اليهودية تغييراً شاملاً.

    وقد اختفى كثير من العناصر التي ضمنت بقاء اليهود في التشكيل الحضاري الغربي، وذلك بظهور الدولة الحديثة والطبقات والمؤسسات التي تضطلع بوظائف الجماعات الوظيفية وتحل محلها. وكان على اليهود أن يعيدوا صياغة هويتهم وشروط بقائهم بالشكل الذي يتفق مع الأوضاع الجديدة. وهنا يُطرَح السؤال التالي: هل سيتمكن أعضاء الجماعات اليهودية من البقاء بعد أن اختفى دورهم كجماعة وظيفية وسيطة يعملون بالتجارة والأعمال المالية مثل الربا وبعد ظهور نظام عالمي مصرفي وشركات متعددة الجنسيات؟ وإن هم ضمنوا البقاء لأنفسهم، فهل ستثمر هذه العملية يهوداً يُعدُّون استمراراً ليهود ما قبل عصر الانعتاق؟ يمكننا القول - في محاولة الإجابة على هذه الأسئلة - بأن حركتي اليهودية الإصلاحية والمحافظة، اللتين تضمان معظم يهود الولايات المتحدة المتدينين، قد نجحتا في ضمان بقاء اليهودية عن طريق إعادة صياغتها بطريقة تتفق مع المواصفات السائدة في المجتمع العلماني المعاصر في الغرب. وهنا يمكن أن نطرح سؤالاً آخر: هل توجد صلة قوية بين هؤلاء واليهودية الحاخامية التي سبقت حركة الإصلاح الديني؟ وإذا أردنا أن نجيب عن هذا السؤال من داخل النسق الديني اليهودي نفسه، فإن بوسعنا أن نشير فقط إلى حكم اليهود الأرثوذكس، الورثة الحقيقيين لليهودية الحاخامية، الذين يذهبون إلى أن هؤلاء ليسوا يهوداً ولا علاقة لهم باليهودية.

    إن ما حدث ليس معجزة بقاء وإنما هو استمرار وجمود لدال (اليهود واليهودية) مع تَغيُّر وتَبعثر في المدلولات. فكلمة «يهودية» التي كانت تشير إلى نسق ديني يتسم بحد أدنى من الوحدة أصبحت تشير إلى عدد هائل من الحركات الدينية التي لا يربطها رابط. وكذلك فإن مصطلح «يهودي» أصبح يشير إلى مجموعات غير متجانسة من البشر. إن بقاء اليهود بهذا المعنى لا يختلف مثلاً عن بقاء الدماهرة (أهل دمنهور)، وهي مدينة مصرية في دلتا النيل استمرت منذ بداية التاريخ البشري تحمل نفس الاسم وتوجد في نفس المكان، ومع هذا لا توجد علاقة كبيرة بين الدمنهوري العربي المسلم المعاصر والدمنهوري الذي عاش في نفس المدينة منذ آلاف السنين في المدينة التي سُمِّيت باسم الإله حوريس التي يُقال إنه وُلد فيها أو بالقرب منها وسُمِّيت باسمه، فكلمة «دمن» معناها «مدينة»، و كلمة «هور» من كلمة «حوريس»، فهي إذن مدينة الإله حوريس الذي لا يعرف أهل دمنهور عنه شيئاً!

    ولكن حتى لو أخذنا بالمقولة الصهيونية القائلة بمعجزة البقاء هذه، فإننا نجد أنها ليست حالة مقصورة على الجماعات اليهودية، فالبقاء الصيني مثلاً مستمر وثابت يهتز بجواره هذا البقاء اليهودي. وإذا نظرنا إلى التشكيل الحضاري السامي ككلٍّ آخذ في التشكل، فإننا سنجد أن المرحلة البابلية الآشورية وما يتبعها من مراحل وتشكيلات (مثل الفينيقيين والآراميين والكنعانيين وغيرهم) إنما هي مراحل وتشكيلات أولية وسديمية في التاريخ العربي أخذت في التبلور إلى أن عبَّرت عن نفسها من خلال التراث العربي الإسلامي الذي حافظ على سماته الأساسية منذ ذلك الحين. وبالتالي، فإن الشعوب المعاصرة للعبرانيين لم تختف وإنما استمرت وبقيت، وأخذ استمرارها وبقاؤها أشكالاً مختلفة متجانسة وغير متجانسة وصلت إلى تَحدُّدها الأخير في التشكيل الحضاري العربي.

    وحتى لو كان البقاء اليهودي معجزة وحقيقـة، فهو لا يعطي صاحبه أية حقوق ولا يفرض عليه أية واجبات. فالبقاء ليس فضيلة أو رذيلة، وإنما هو حقيقة تاريخية لا يقبلها المرء ولا يرفضها، بل يرصدها ويدرسها ويدركها فحسب. فبقاء اليهود لا يعطي يهود روسيا وأوكرانيا أية حقوق في الاستيطان في فلسطين، حتى إن أرادوا ذلك وأصروا عليه أو شعروا بحاجة نفسية جامحة إليه.

    وتتجلى مقولة البقاء في علاقة الدولة الصهيونية بالجماعات اليهودية، فالأطروحات الصهيونية الأولى تنادي بنفي الدياسبورا، أي تصفيتها وإنهاء بقائها تماماً لصالح المشروع الصهيوني. ولكن هذا الموقف تعدَّل، وأصبح الهدف هو استغلال الجماعات وتوظيفها لصالح المشروع الصهيوني. ويحاول الصهاينة في الوقت الحالي أن يربطوا بين بقاء الدولة الصهيونية والبقاء اليهودي خارج فلسطين، بحيث يُنظَر إلى الدولة الصهيونية باعتبارها الضمان الوحيد لاستمرار بقاء اليهود، فهي التي ستساعدهم على عدم الاندماج في الأغيار، وهي التي ستحمي هويتهم، كما أنها ستمد يد العون إلى أعضاء الجماعات اليهودية الذين قد يشعرون بأن وجودهم الجسدي نفسه مهدد بالفناء. ومع هذا، يمكن القول بأن الدولة الصهيونية لم تقم بدورها الذي حددته لنفسها. فمن ناحية الاندماج، لم تنجز الدولة الصهيونية شيئاً في هذا المضمار، فالثقافة السائدة فيها ثقافة غربية حديثة ذات طابع أمريكي. ومعدلات الاندماج بين يهود العالم لا تزال عالية، الأمر الذي يهدد بقاءهم من منظور صهيوني. كما أن الدولة الصهيونية لا تساعد حتى على بقاء اليهود جسدياً. فعلى سبيل المثال، لم تقم الحركة الصهيونية بجهد يذكر للحفاظ على بقاء أعضاء الجماعات في أوربا أثناء الحرب العالميـة الثانية، بل عـارضت الجهود الرامية إلى توطينهم خارج فلسـطين. وبعد إعلان الدولـة، دخلت الحكومة الصهيونية في علاقات تخدم مصالحها هي، بغض النظر عن مصالح أعضاء الجماعات، مثلما حدث مع الأرجنتين ومثلما يحدث الآن بالتحالف القائم بين حكومة إسرائيل والجمعيات الأصولية المسيحية في الولايات المتحدة (وهي جمعيات تمثل مجموعة من القيم لا تخدم صالح هذه الجماعات، بل تدعو بشكل ضمني إلى تصفيتها عن طريق تنصيرها). وحتى إن أرادت الدولة الصهيونية الحفاظ على بقاء إحدى الجماعات اليهودية، فهي لا تملك من القوة العسكرية ما يؤهلها لإنجاز ذلك. وحينما اقتربت القوات الألمانية من الإسكندرية أثناء الحرب العالمية الثانية، أعد بعض المستوطنين الصهاينة خطة للانتحار إن وصلت هذه القوات إلى فلسطين. بل إن المستوطنين في الدولة الصهيونية، وأعضاء الجماعة اليهودية في الولايات المتحدة، يدينون بأمنهم وبقائهم لدولة عظمى تمنحهم رضاها ورعايتها، وهذه قضية تعذب الوجدان الصهيوني الذي يزداد إدراكاً لاعتماده المتزايد على الولايات المتحدة.

    والكتابات الصهيونية التي تتباهى دائماً بمعجزة البقاء اليهودي، تشير دائماً إلى الإبادة النازية لليهود، وإلى خطر الفناء الذي يهدد اليهود إما من خلال الاندماج أو على يد المنظمات الإرهابية العربية، ثم تهيب باليهود للدفاع عن بقائهم، وهذه ديباجة مختلفة تماماً عن سابقتها. ومن الموضوعات الأساسية المطروحة في الأدبيات الخاصة بأعضاء الجماعات اليهودية «موت الشعب اليهودي»، أي تَناقُص أعضاء الجماعات اليهودية إلى درجة التلاشي تقريباً.

    ويجد بعض الدارسين أن هذا الاهتمام المرضي بموضوعات مثل البقاء والإبادة وغيرها، قد سبب خللاً نفسياً عميقاً لأعضاء الجماعات اليهودية، وخصوصاً الأجيال الناشئة التي تملأ الدعاية الصهيونية وجدانها بفخار البقاء اليهودي الأزلي الحتمي، وتشبعها رعباً من خطر الفناء الوشيك الذي ينتظر اليهود في كل زمان ومكان، فمثل هذه النظرة المتطرفة لا تساعد كثيراً لا على النضج ولا على الطمأنينة. وقد حوَّلت اليهودية التجديدية البقاء إلى مطلق، وأصبح معيار الإيمان مدى الالتزام ببقاء الشعب اليهودي. وقد ظهر في الفكر الديني اليهودي ما يُسمَّى «لاهوت البقاء» الذي يحوِّل البقاء إلى قيمة مطلقة وهدف نهائي، بحيث يصبح البقاء الغاية من الوجود اليهودي الديني، ويكون الشعب اليهودي ببقائه قد حقق الهدف الأخلاقي من وجوده. لكن البقاء ليس قيمة أخلاقية وإنما هو قيمة طبيعية، فكل الكائنات الحية تبذل جهداً كبيراً للبقاء وبأية شروط، متجاوزة قيم الخير والشر. وبالتالي، فلاهوت البقاء لاهوت غير أخلاقي نابع من النموذج الدارويني الذي يؤكد ضرورة « الصراع من أجل البقاء » و« البقاء للأصلح »، أي أنه خطاب علماني يستخدم ديباجات دينية.

    وهناك بعض المفكرين الصهاينة والإسرائيليين يرون أن رغبة يهود العالم الملحة في البقاء وتَمسُّكهم به هما السبب في تدني الشخصية اليهودية وطفيليتها، وأن الملايين التي ذهبت إلى أفران الغاز في معسكرات الاعتقال والإبادة دون مقاومة فعلت ذلك من أجل البقاء بأي ثمن وتحت أية شرط وأنهم فقدوا كرامتهم الإنسانية بذلك.

    ومقابل ذلك، يطرح الصهاينة عدة أساطير انتحارية، أهمها أسطورة ماسادا، حيث يقرر الإنسان اليهودي التخلي عن البقاء في سبيل الشرف، وأسطورة شمشون حيث يقرر تدمير ذاته وتدمير الآخر. وهذه الرؤية تقف على الطرف النقيض من واقع تكيُّف وبقاء يهود العالم.






  10. #40
    مراقبة أقسام رد الشبهات حول الإسلام
    الصورة الرمزية ساجدة لله
    ساجدة لله غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 317
    تاريخ التسجيل : 1 - 10 - 2007
    الدين : الإسلام
    الجنـس : أنثى
    المشاركات : 16,234
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 23
    البلد : مصر الإسلامية
    الاهتمام : منتدى البشارة
    الوظيفة : أمة الله
    معدل تقييم المستوى : 33

    افتراضي



    التمركـز اليهـودي
    Judeo-Centricity
    »التمركز اليهودي» مصطلح وُضع على منوال مصطلحات مماثلة مثل «إثنو سنترستي ethno-centricity» أي «التمركز حول الإثنية» أو «يورو سنترستي Euro-centricity»، أي «التمركز حول الأوربية». وهو يشير إلى المفهوم الكامن وراء كثير من الدراسات والتصريحات عن أعضاء الجماعات اليهودية، ذلك المفهوم الذي يتجه نحو رؤية الأمور والأحداث لا في تَعيُّنها، ولا في علاقتها بالقوى التي أدَّت إلى ظهورها أو التي تدخل في تركيبها أو في معناها العام، وإنما في مدى تأثيرها في اليهود وتأثرها بهم وبمغزاها بالنسبة إليهم. وبالتالي، فإن السؤال الذي يطرحه الشخص المتمركز تمركزاً يهودياً هو: هل هذا الأمر نافع لليهود أم ضار؟ وما معناه بالنسبة إليهم؟ ذلك بدلاً من: هل هو نافع للجنس البشري أم ضار؟ أو ما معناه بالنسبة للجنس البشري؟

    والتمركز اليهودي يؤدي إلى عزل اليهود عن مجرى الأحداث التاريخية العامة التي تتحكم بشكل أو بآخر في كل الجماعات البشرية الأخرى، وكأن لهم قوانينهم الخاصة التي تجعلهم سراً من الأسرار تحيطهم هالة من الغمـوض الميتافيزيقي. وترجع ظاهرة التمركز إلى عدة عناصر ثقافية واقتصادية، من بينها الحلولية اليهودية التي تسم النسق الديني اليهودي الذي يجعل اليهود مركز الكون ومحوره والهدف من وجوده. كما أن وجود الجماعات اليهودية على هيئة جماعات وظيفية في كثير من المجتمعات ـ والجماعة الوظيفية تكون أساساً جماعة غريبة متماسكة إثنياً ـ خلق لديها استعداداً للتمركز حول الذات من الناحية الإدراكية.

    والصهيونية، في رؤيتها لتواريخ الجماعات اليهودية وفي برنامجها السياسي، متمركزة تمركزاً يهودياً تاماًً. فهي في قراءتها هذه التواريخ تراها تاريخاً يهودياً واحداً ذا مركز يهودي واحد وحسب ويعبِّر عن نفسه من خلال حركيات يهودية. وبالتالي، فإن موسى بن ميمون ليس مفكراً عربياً يؤمن باليهودية، تفاعل مع التراث العربي الإسلامي وتأثر به، بل هو أحد العلماء الدينيين اليهود وحسب. ويُنظَر إليه لا في علاقته بمحيطه الحضاري وإنما في علاقته بالعلماء اليهود في البلاد الأخرى، مع أن بعضهم عارض النزعة العقلانية التي كان يمثلها، بل كفَّره بعض هؤلاء وطلبوا من محاكم التفتيش حرق أعماله.

    ومن أهم الأمثلة على ذلك واقعة ليو فرانك، وهو يهودي أمريكي عاش في جنوبي الولايات المتحدة وحوكم بتهمة اغتصاب فتاة مسيحية وقتلها، ولكنه بُرِّئ من تهمته فاختطفه بعض المتظاهرين وشنقوه وعلقوه من قدميه. وهذه العملية تُسمَّى في الإنجليزية الأمريكية «لينشينج lynching». ويأتي ذكر هذه الواقعة في الدراسات التي تتناول تاريخ الجماعة اليهودية في الولايات المتحدة بطريقة توحي بأنها نمط متكرر وبأن أعضاء الجماعة كانوا ضحايا القمع العنصري في الجنوب.

    ولكن الحقائق التاريخية العامة تقول إن أعضاء الجماعة اليهودية كانوا مندمجين تماماً في محيطهم الحضاري الأمريكي وأن عدد الزنوج الذين قُتلوا بطريقة اللينشينج في الفترة من 1889 إلى 1918 يبلغ ألفين وخمسمائة، بينما لا يزيد عدد الضحايا اليهود في الفترة نفسها على فرد واحد فقط هو ليو فرانك نفسه.

    ويُنظَر إلى الشتتل والجيتو من هذا المنظور، فهما من وجهة النظر اليهودية مؤسستان يهوديتان تعبِّران عن رغبة اليهود في الاستقلال القومي، ولا تُعتبران من المؤسسات الإقطاعية أو طريقتين من طرق الإدارة التي كانت تُطبَّق على أعضاء الجماعات اليهودية وغير اليهودية دون تمييز أو استثناء.

    ويَخلُص الصهاينة من قراءة التاريخ بهذه الطريقة المتمركزة تمركزاً يهودياً إلى الحديث عن اليهود باعتبارهم جماعة فريدة متميزة، ثم يتحدثون عن معجزة البقاء اليهودي، كما لو كان البقاء أمراً مقصوراً على اليهود وحدهم دون عشرات الطوائف والأقليات والشعوب الأخرى، مثل الأكراد أو الأرمن أو النوبيين!

    ويظهر التمركز اليهودي بشكل حاد في تناول كثير من المؤلفين الغربيين اليهود وغير اليهود لظاهرة الإبادة النازية، وهي أحد إفرازات الحضارة الغربية الحديثة التي أودت بحياة الملايين من اليهود وغير اليهـود داخـل وخـارج معســكرات الاعتـقال. ومـع هذا، لا حـديث إلا عن ضحايا النازية من اليهود، ويتم إهمال الإشارة إلى ملايين الضحايا الآخرين الذين يفوق عددهم عدد الضحايا اليهود.

    ومن الناحية السياسية، قامت الحركة الصهيونية بترجمة هذا التمركز اليهودي إلى سلوك سياسي، فعزلت اليهود عن الحركات القومية والثورية في أواخر القرن التاسع عشر، وأكدت ضرورة أن يعمل اليهود لصالح اليهود وحسب وألا يشاركوا الأغيار في أنشطتهم. وكان هرتزل ينطلق من هذه المقولة دائماً، ولذا فقد تعاون مع كبار الرجعيين في الغرب ومن بينهم ألد أعداء اليهود فون بليفيه وزير الداخلية الروسي. وبيَّن أن الحركة الصهيونية ستفصل الشباب اليهودي عن نشاط الأغيار الثوري من خلال تسريب طاقاتهم داخل قنوات يهودية صهيونية. وقد اتخذت الحركة الصهيونية موقفاً مماثلاً من النازية فلم تحاول تجنيد أعضاء الجماعة لينخرطوا في صفوف حركة المقاومة ضد النازية.

    ولا تزال هذه هي إستراتيجية الصهيونية في الوقت الحالي، فنجد أن الجماعة اليهودية في الولايات المتحدة تزداد محافظةً ورجعية وتتخلى عن ليبراليتها التقليدية وتتبنى سياسة الحرب الباردة وتضع نفسها في خدمة النظام العالمي لأن ذلك يخدم مصلحة اليهود وإسرائيل من وجهة نظرهم. ومن أكبر الأمثلة وضوحاً على التمركز اليهودي في الآونة الأخيرة عملية نقل الفلاشاه وإنقاذهم. فقد تجاهلت الدولة الصهيونية كل ضحايا المجاعة الآخرين، ولم تقدم لهم المعونة، بل قصرت مساعدتها على اليهود وحسب. وقد شجب القس جيسي جاكسون هذا السلوك لأنه يتنافى مع أبسط قواعد الإنسانية.

    ويمكن القـول بأن ثمـة تمركزاً صهيونياً مقـابل التمركز اليهودي، بمعنى أن الصهيونية تحكم على الواقع وعلى تواريخ الجماعات اليهودية لا في سياقها الإنساني أو حتى اليهودي العام، ولا من ناحية معناها الإنساني أو حتى اليهودي العام، وإنما في سياق صهيوني عقائدي ضيق. وانطلاقاً من هذا، طرح الصهاينة مفاهيم مثل نفي (الدياسبورا)، أي تصفية الجماعات اليهودية خارج فلسطين لحساب المستقبل الصهيوني، كما طرحوا مفهوم مركزية إسرائيل في حياة الجماعات. ومن هذا المنظور وقَّع الصهاينة معاهدة الهعفراه (التهجير) مع النازيين، وتعاون رودولف كاستنر مع أيخمان وسلَّم يهود المجر إلى النازيين مقابل أن يُسمَح لبعض الصهاينة بالهجرة إلى فلسطين.






 

صفحة 4 من 6 الأولىالأولى 123456 الأخيرةالأخيرة

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المواضيع المتشابهه

  1. اليهود واليهودية والصهاينة والصهيونية الجزء السابع
    بواسطة ساجدة لله في المنتدى منتدى التاريخ
    مشاركات: 60
    آخر مشاركة: 2010-10-27, 05:42 AM
  2. اليهود واليهودية والصهاينة والصهيونية الجزء السادس
    بواسطة ساجدة لله في المنتدى منتدى التاريخ
    مشاركات: 61
    آخر مشاركة: 2010-10-27, 05:20 AM
  3. اليهود واليهودية والصهاينة والصهيونية الجزء الخامس
    بواسطة ساجدة لله في المنتدى منتدى التاريخ
    مشاركات: 60
    آخر مشاركة: 2010-10-26, 05:58 AM
  4. اليهود واليهودية والصهاينة والصهيونية الجزء الرابع
    بواسطة ساجدة لله في المنتدى منتدى التاريخ
    مشاركات: 28
    آخر مشاركة: 2010-10-25, 05:39 AM

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
RSS RSS 2.0 XML MAP HTML