صفحة 6 من 6 الأولىالأولى ... 23456
النتائج 51 إلى 55 من 55
 

العرض المتطور

  1. #1
    مراقبة أقسام رد الشبهات حول الإسلام
    الصورة الرمزية ساجدة لله
    ساجدة لله غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 317
    تاريخ التسجيل : 1 - 10 - 2007
    الدين : الإسلام
    الجنـس : أنثى
    المشاركات : 16,234
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 23
    البلد : مصر الإسلامية
    الاهتمام : منتدى البشارة
    الوظيفة : أمة الله
    معدل تقييم المستوى : 33

    افتراضي





    2
    ـ فرنسا وإيطاليا:

    وجد دعاة التنويراليهودي حليفاً في الحكومة الفرنسية، حيث ركزت الثورة الفرنسية على التعليمومؤسساته بهدف دمج أعضاء الجماعات اليهودية. ولم تواجه عملية دمج السفارد أيةصعوبات ذات بال، لأن قيادات الجماعة اليهودية السفاردية كانوا من كبار المموِّلينالذين يحتاج المجتمع إلى خبراتهم واتصالاتهم الدولية، كما أن لغتهم (اللادينو) لغةلاتينية قريبة من الفرنسية وثقافتهم إسبانية قريبة من ثقافة فرنسا اللاتينيةالكاثوليكية. وقد كانت مؤسساتهم التربوية منفتحة للغاية ولا تستبعد العلومالعلمانية (وهذا ما بينه المفكر السفاردي دي بنتو في خطابه لفولتير). ولذا، يُلاحَظأن كل أطفال اليهود الذين بلغوا السن القانونية في عام 1808 كانوا يذهبون إلى مدارسحكومية في جنوب ووسط فرنسا، هذا على عكس يهود الألزاس واللورين الذين كانوا من يهوداليديشية، وكانت ثقافتهم ألمانية سلافية تفصلهم عن محيطهم الفرنسي اللاتينيالكاثوليكي. كما أنهم كانوا فقراء متخلفين، ولذا قاوموا المحاولات الرامية لدمجهم،ولم تَزد نسبة الأطفال اليهود الذين سجلوا في مدارس حكومية عن 10%. غير أن الدولةالفرنسية اتبعت سياسة نشطة في عملية الدمج وفتحت المدارس أمام أعضاء الجماعةاليهودية، وفتحت أبواب الحراك الاجتماعي أمام المتعلمين منهم. ولذا، فإننا نجد، معمنتصف القرن التاسع عشر، أن أعضاء الجماعات اليهودية أخذوا في إرسال أولادهم إلىالمدارس الحكومية العلمانية، واكتفوا بالمدارس التكميلية (بعد انتهاء اليومالمدرسي) لتعليم أولادهم الدين اليهودي وما يُسمَّى «التاريخ اليهودي».

    وقدتدهور التعليم التقليدي، وأغلقت معظم المعاهد التلمودية العليا أبوابها. وبديلاً عنذلك افتُتحت في باريس عام 1859 كلية للدراسات الحاخامية تُسمَّى المدرسةالحاخامية.

    ولم تختلف الأوضاع التعليمية في إيطاليا عنها في جنوب فرنساكثيراً حيث كانت الجماعة اليهودية في إيطاليا تتسم بالانفتاح النسبي. وقد تدهورالتعليم اليهودي التقليدي مع تزايد هجرة اليهود من البلدان الصغيرة إلى المدنالكبرى. وقد قام أعضاء الجماعة اليهودية المتيسرون بإرسال أولادهم إلى المدارسالعامة ثم تبعهم في ذلك باقي أعضاء الجماعة.

    وفي عصر الاستنارة والتنوير،نشب صراع بين المحافظين والتجديديين حول منهج التعليم. ولكن أياً من الفريقين لميطالب بإلغاء المواد الدينية أو المواد العلمانية تماماً، وانصرف الخلاف إلى طريقةتحقيق التوازن بينهما.

    وبلغ عدد الطلبة المسجلين في المدارس اليهوديةالمعترف بها من الحكومة 1,600طالب عام 1901، ولم تزد المواد الدينية التقليدية فيهذه المدارس عن ساعة واحدة يومياً، وشملت القراءة والصلوات وأجزاء من أسفار موسىالخمسة وكانت تُلقى المواعظ الدينية باللغة الإيطالية. كما تدهورت الأوضاعالتعليمية في معهد الدراسات الحاخامية المعروف باسم «كوليجيو رابينكو» وقلَّ عددطلابه.

    3
    ـ إنجلترا:

    ظلت إنجلترا خالية من اليهود تقريباً حتىالقرن السابع عشر حيث سُمح لهم بالاستقرار. وكان عدد أعضاء الجماعة اليهودية فيهاصغيرا للغاية. ومع هذا، كان للجماعة اليهودية في إنجلترا شبكة واسعة من المدارساليهودية، وذلك قبل تطبيق قانون التعليم الإجباري العام في إنجلترا عام 1870. وقدتأسس كثير من هذه المدارس خلال القرن التاسع عشر، خصوصاً شبكة المدارس الحرة (بالإنجليزية: «فري سكولز free schools») التي كان يَدرس بها عام 1850 نحو 2000 طفليهودي من إجمالي تعداد أعضاء الجماعة البالغ في تلك الفترة 35000 شخص. كما كانتتوجد مدارس يهودية خاصة ذات مستوى أفضل من المدارس الحرة. ومما يُذكَر أن غالبيةهذه المدارس، وخصوصاً المدارس الحرة، كان يقدم تعليماً علمانياً إلى جانب قدر ضئيلمن الدراسات اليهودية، كما وُجدت فصول دينية مسائية ومدارس أحد لتعليم اللغةالعبرية. كذلك أُسِّست مؤسسات يهودية للتعليم العالي في منتصف القرن التاسع عشر، منأهمها كلية اليهود Jews' College التي تأسَّست عام 1855.

    ومع صدور قانونالتعليم الإجباري عام 1870، توقَّف تأسيس مدارس حرة جديدة. كما شهدت المدارساليهودية الخاصة تدهوراً حاداً. ولكن، مع بداية تدفق يهود اليديشية من شرق أورباعام 1881، أثارت ضحالة برامج الدراسات الدينية في المدارس اليهودية استياءالمهاجرين الجدد، ولذا فضلوا إقامة عدد من المدارس التقليدية وإرسال أولادهمإليهـا. فانتشرت المـدارس الابتدائية الدينية التقليـدية مثـل المـدارس الابتدائيةالخاصة (حيدر) والخيرية (تلمـود تـورا) في جميع أنحاء البلاد. إلا أن مستوى هذهالمدارس كان بدوره هابطاً للغاية ولا يُقــارَن بمـستوى مثيلتهـا في أوربا الشرقية،بل فشلت في تعميق ارتباط طلابها بالديانة والتقاليد اليهودية.

    ورغم أن لندنكانت تضم في نهاية القرن واحدة من أكبر المدارس اليهودية في أوربا بل في العالمبأسره، إذ كانت تضم 3000 طالب، إلا أن الهدف الحقيقي من هذه المدرسة كان إضفاءالطابع الإنجليزي على هؤلاء المهاجرين الغرباء إلى إنجلترا وكسر حدة يهوديتهمالزائدة، وفقـاً لإسرائيل زانجويل، في كـتابه أطفال الجيتو (1892).

    كما نجدأنه مع تحسُّن أوضاع المهاجرين الاقتصادية، وخروجهم من مناطق تمركزهم في لندن إلىالضواحي والمناطق السكنية الأرقى، بدأت تختفي أيضاً المدارس الدينية التقليديةلتحلّ محلها المدارس الملحقة بالمعبد حيث يتلقى الأطفال بضع ساعات من الدراسةالدينية خلال الأسبوع، وذلك في نظام مشابه لنظام مدارس الأحد اليهودية في الولاياتالمتحدة.

    وبالتالي، أصبحت الصورة السائدة في العقد الأول من القرن العشرينهي التحاق الجزء الأكبر من الأطفال الإنجليز اليهود بالمدارس الابتدائية والثـانويةالحكومية وحصولهم على قدر ضئيل من المعرفة بالديانة اليهودية واللغة العبرية منخلال الدراسة التكميلية.

    التربية والتعليم عند الجماعاتاليهودية في أوربا الشرقية (روسيا وبولندا) حتى الحرب العالمية الأولى
    Education of the Jewish Communities in Eastern Europe (except Russia and Poland) to the First World War
    بعد تقسيم بولندا للمرة الثالثة، ضمت روسياغالبية يهود اليديشية. وتزامنت هذه العملية مع تغيرات سياسية واقتصادية كان المجتمعالروسي يمر بها في مجرى انتقاله من مجتمع زراعي إقطاعي إلى مجتمع صناعي. فعلىالصعيد السياسي، قامت محاولة لفرض ضرب من الوحدة على مئات الأقليات والتشكيلاتالحضارية حتى يتسنى للحكومة المركزية التعامل معهم. وعلى الصعيد الاقتصادي، بدأتتظهر في روسيا اتجاهات نحو التصنيع، وتحديث بنية المجتمع الاقتصادية. وكانت عمليةالتحديث هذه تتم تحت إشراف القياصرة المطلقين وطبقة النبلاء الإقطاعيين، ومن خلالبيروقراطية غير مستنيرة وغير مؤهلة عرقلت عملية تحديث المجتمع، فأدَّى ذلك إلى قيامالاضطرابات والثورات التي انتهت بالثورة البلشفية عام 1917.

    وقد حدَّدت هذهالأوضاع علاقة الجماعات اليهودية بكل من المجتمع الروسي والدولة الروسية. فاتبعتالدولة معهم، مثلهم مثل غيرهم من الأقليات، سياسة الترويس بالقوة حتى يتم استيعابهمودمجهم في الثقافة الروسية.

    ومنذ بداية القرن التاسع عشر، ومع المحاولاتالأولى للحكومة الروسية في مجال تحديث وترويس الجماعات اليهودية، أدرك المسئولون فيالحكومة الدور الفعال الذي يمكن أن يلعبه التعليم الحديث في هذا المضمار، ومن ثماتخذ المسئولون من التعليم وسيلة لتحديث تربية أعضاء الجماعات اليهودية ودمجهم فيالإطار الثقافي العام للمجتمع. وساعد الحكومة القيصرية في جهودها رواد حركةالتنوير.

    بدأ التيار التنويري يدخل روسيا عن طريق أوربا الغربية وبالذاتألمانيا منذ بداية القرن التاسع عشر. وكانت ليتوانيا وأوكرانيا من المناطق الأولىالتي دخلها الفكر التنويري، وقد حمله إليهما التجار والعلماء المتجولون والأطباء. كما ساعد اشتراك بعض اليهود من مدن ليتوانيا وبولندا في الدوريات التي أصدرها دعاةالتنوير في ألمانيا في نشر الفكر التنويري بين بعض أعضاء الجماعات اليهودية فيروسيا.

    وكان من أوائل دعاة التنوير إسرائيل زاموسك ويهودا هرديتس ويهودامرجوليوث وباروخ تشيك ومنديل ليفين. وقد ساهم هؤلاء التنويريون الأوائل في نشرالثقافة الحديثة عن طريق كتابة أو ترجمة بعض كتب العلوم الحديثة إلى العبرية، فقامباروخ تشيك بكتابة عدة كتب في الرياضيات والفلك، كما ترجم منديل ليفين كتباً فيالطب والرحلات. وقام جونزبرج بترجمة كتاب اكتشاف أمريكا الذي ألَّفه كامب وكتابتاريخ العالم لفولتير، كما ألَّف كتاباً عن تاريخ الحرب الفرنسية الروسية عام 1812. وكانت هذه هي المرة الأولى التي تستخدم فيها اللغة العبرية لنقل العلوم الحديثة.

    كذلك قام أحد اليهود الأغنياء (يهوشاو زيتلين) بتأسيس مركز للمستنيرين فيضيعته. واعتمد هؤلاء المستنيرون الأوائل على علاقتهم بالسلطات الروسية كتجار وأطباءوموردي مواد غذائية، وقدموا مجموعة من المقترحات إلى الإدارة الروسية لتحسين وضعاليهود من أهمها إتاحة الفرصة لأعضاء الجماعات اليهودية للاشتغال بالحرف المختلفةوالعمل بالزراعة وفتح مدارس حديثة لهم.

    واهتم دعاة التنوير في روسيا منذالبداية، مثلهم مثل دعاة التنوير الألمان، بتأسيس مدارس تجمع مناهجها بين الموادالعامة والمواد اليهودية كوسيلة لتحديث ثقافة الجماعات اليهودية. وكانت أولىالمدارس التي تم تأسيسها على هذا النمط مدرسة أومان التي أسسها هايمان هورويتز. كماأسَّس بزاليل ستيرن مدرسة مماثلة في أوديسا عام 1826، وتلتها مجموعة من المدارس فيكل من ريجا وكشينيف وفلنا. وخلال هذه الفترة، قام إسحق ليفنسون بتوضيح برنامج دعاةالتنوير الروس لتحديث تربية أعضاء الجماعات اليهودية وتعليمهم. وقام هذا البرنامجأساساً على تأسيس شبكة من المدارس الابتدائية للبنين والبنات تجمع مناهجها بينالمواد الدينية واليهودية والمواد العامة والتدريب على بعض الحرف. كما تضمَّنالبرنامج تأسيس مدرسة ثانوية للمتميِّزين من الطلبة، كما أكد ضرورة نشر الحرفالمنتجة (وبالذات الزراعة) بين الجماهير اليهودية، وضرورة استخدام اللغة الألمانيةأو الروسية في التعليم. وبطبيعة الحال، قاومت القيادات الحاخامية الفكر التنويريالتربوي واتخذت إجراءات عنيفة ضد أيِّ شاب يُقلِّد « البرلينيين ».

    ونظردعاة التنوير إلى الحكومة الروسية كنصير لهم في محاولتهم تحديث تربية وتعليمالجماعات اليهودية وأعانوها في تأسيس شبكة من المدارس الحديثة المخصَّصة لليهودوالتي أُطلق عليها اسم «مدارس التاج». وقد أشرف ماكس ليلينتال على تأسيس هذه الشبكةكما حاول إقناع الجماعات اليهودية في روسيا بإرسال أولادهم إليها.

    واتجهتجهود الحكومة الروسية، في محاولتها تحديث ثقافة وتربية الجماعات اليهودية، اتجاهين: فتح أبواب التعليم الحكومي لأعضاء الجماعة اليهودية وإقامة مدارس يهودية مخصَّصةلهم تحت إشرافها من جهة، وتحديث نظام التعليم اليهودي القائم من جهة أخرى.

    فتحت الحكومة أبواب المدارس والجامعات الروسية للأطفال والشباب اليهودبقرار صدر عام 1804 خلال حكم القيصر ألكسندر الأول (1801 ـ 1825)، إلا أن عددالأطفال والشباب اليهود الذين انضموا إليها ظل منخفضاً جداً حتى عام 1840، فبلغ عددالتلاميذ اليهود في المرحلتين الابتدائية والثانوية 48 تلميذاً من المجموع الكليللتلاميذ المسجلين في المدارس والبالغ عددهم 8017. ولم يختلف الوضع بالنسبة إلىالجامعات، فقد بلغ عدد الطلاب اليهود 15 طالباً من مجموع الطلاب البالغ عددهم 2866.

    ويبدو أن سلطة القهال وقفت بشدة ضد هذا القرار ومارست سلطتها في منع الطلاباليهود من الالتحاق بالمدارس والجامعات الروسية. ونظراً لفشل الحكومة في جذب أعضاءالجماعة اليهودية للتعليم في المدارس الحكومية، وضعت الحكومة خطة لتأسيس مدارستُخصَّص لليهود تخضع لإشرافها دون النص على حرمان التلاميذ اليهود من الالتحاقبالمدارس الحكومية، وأصدرت قراراً عام 1844 بتأسيس شبكة من مدارس التاج. وقد تكونتهذه الشبكة من المدارس التالية:

    أ ) مدارس أولية من الدرجة الأولى فيالمدن.

    ب) مدارس أولية من الدرجة الثانية في الأقاليم.

    جـ) مدارسحاخامية لتدريب المدرسين والحاخامات.

    وتقرر تمويل هذه المدارس عن طريق فرضضريبة على الشموع التي يستخدمها اليهود في منازلهم يوم السبت. كذلك قررت الحكومةمنح خريجي هذه المدارس الامتيازات نفسها التي ينالها خريجو المدارس الحكومية. وتضمنمنهج هذه المدارس بعض المواد الدينية مثل العهد القديم وتاريخه والصلوات واللغةالعبرية، علاوة على المواد غير الدينية مثل اللغة الروسية وقواعدها والحسابوالجغرافيا وعلمي النبات والحيوان والخط والرسم. وكلفت الحكومة الروسية ماكسليلينتال، وهو تربوي يهودي من دعاة التنوير من ألمانيا، بتأسيس مدرسة يهودية حديثةفي ريجا عام 1840، إلا أن محاولاته باءت بالفشل إذ قاومت الجماعات اليهودية هذهالمدارس مقاومة شديدة، حتى أنها حينما فُتحت كانت شبه مهجـورة ولم يلتحـق بها سـوىأولاد الفقـراء من اليهود. وحتى عام 1857، لم يزد عدد الطلبـة اليهـود المسـجلين فيهـذه المدارس عن 3293.

    ومنذ منتصف القرن التاسع عشر، ومع تزايد معدلاتالتحديث، وكنتيجة للسياسة الليبرالية التي انتهجها القيصر ألكسندر الثاني والتيفتحت أبواب الحراك الاجتماعي والاقتصادي أمام أعضاء الجماعات اليهودية، تزايدت نسبةالأطفال والشباب اليهود المسجلون في المدارس الابتدائية والثانوية. ففي عام 1853،بلغت نسبة الطلبة اليهود 1.25% من العدد الكلي للطلاب، ثم زادت النسبة إلى 3.2% عام 1863 حتى وصلت نسبة الطلاب اليهود المسجلين في المدارس الثانوية 13.2% من المجموعالكلي للطلاب عام 1873، وهي نسبة تتجاوز نسبتهم إلى عدد السكان. كذلك زاد عددالطلاب اليهود المسجلين في الجامعات الروسية، ففي عام 1865 بلغت نسبتهم 3.2% منالعدد الكلي للطلاب، ثم زادت النسبة إلى 8.8% عام 1881. ومع ازدياد تسجيل الطلاباليهود في المدارس الحكومية، أصدرت الحكومة قراراً عام 1872 بإغلاق مدارس التاجالتي أنشأتها الحكومة (إلا في الأماكن التي لا توجد فيها مدارسحكومية).

    وقد نال دعاة التنوير دفعة قوية وانتشر فكرهم بين كثير منالشباب اليهودي خلال حكم القيصر ألكسندر الثاني (1850 ـ 1881)، حيث أدَّت السياسةالليبرالية إلى تشجيع كثير من اليهود على إرسال أولادهم إلى المدارس الروسيةالحكومية. كذلك لعبت الصحافة اليهودية، التي كان معظـم مؤسـسيها وصحفييـهاوناشـريها من أتبـاع حركة التنوير، دوراً مهماً في نشر الفكر التنويري داخل مدارسالتاج، مثل: مدرسة ريجا، ومدرسة أوديسا، ومدرسة سانت بطرسبرج التي أسستها جمعية نشرالتنوير.

    كما قام بعض المستنيرين من اليهود بتأسيس مدارس لتعليم البنات،فأُنشئت مدرسة في كل من تشرينجوف (1861) وكيشينيف (1864)، ومدرستان في منسك. وجمعتهذه المدارس بين المواد الدينية والمواد غير الدينية، فدرست المواد الدينية علاوةعلى الروسية والعبرية والألمانية. وقام دعاة التنوير بتأسيس جماعة نشر الثقافة بينيهود روسيا عام 1863 لتشجيع الشباب اليهودي على الالتحاق بالتعليم الحديث وتبنِّيالثقافة واللغة الروسية. وعاونت هذه الجمعية كثيراً من الشباب على الالتحاقبالمدارس الحكومية الحديثة، كما نشرت كثيراً من المطبوعات بالروسية والعبريةواليديشية.

    وكوسيلة لترويس وتحديث الجماعات اليهودية، حاولت الحكومةالقيصرية تحديث النظام التعليمي اليهودي التقليدي، ففرضت إشرافها على المدارسالأولية الخاصة (حيدر) وعلى معلميها، كما حاولت تغيير مناهجـها وتحسـين طرق التدريسفيها وتحسين الأوضاع التعليمية داخلها، إلا أن هذه المدارس كان بمقدورها تجاهلقرارات الحكومة نظراً لأنها كانت مدارس خاصة بعيدة عن قبضتها. ومع هذا، فقد تحسنتتجهيزات بعض هذه المدارس وكذلك الأوضاع الصحية داخلها تحت تأثير حركة التنوير، كمازادت رواتب معلميها، إلا أن مناهجها وطرق التدريس فيها لم تتغيَّر كثيراً عما قبل. ولكن أثر جهود كلٍّ من الحكومة وحركة التنوير في المدارس الأولية الخيرية (تلمودتورا) كان أكثر وضوحاً منه في المدارس الأولية الخاصة (حيدر) حيث إنها كانت مؤسساتتمولها الجماعة، فأدخلت بعض المواد غير الدينية على منهجها مثل اللغة الروسية (والترجمة منها إلى العبرية) والحساب، كما أدخلت التعليم المهني والحرف اليدوية فيبرامجها. وأُدخل في هذه المدارس نظام الامتحانات كطريقة للتقييم داخلها. كذلك حاولتالحكومة تحديث المدارس التلمودية العليا (يشيفا)، فأصدرت عدة قرارات شملت ضرورةتدريس اللغة الروسية والحساب والخط إلى جانب المواد الدينية، وتنظيم أوقات الدراسةداخلها. إلا أن قرارات الحكومة لم تؤثر كثيراً في هذه المدارس نظراً لكونها - كماأسلفنا - مؤسسات خاصة. ولعل أهم نتائج محاولات الحكومة الروسية تحديث ثقافة وتربيةالجماعات اليهودية هو بروز فئة من المثقفين والرأسماليين اليهود لديهم ثقافةعلمانية حديثة.

    وباغتيال ألكسندر الثاني عام 1881، زادت الاتجاهات الرجعيةفي روسيا القيصرية، وصدرت عدة قوانين تحدُّ من الحريات ومن فرص الحراك الاجتماعيوالاقتصادي للأقليات والجماعات غير الروسية. ولم تكن الجماعة اليهودية سوى إحدىالجماعات التي وقعت ضحية عملية القمع الرجعية، حيث صدرت قوانين مايو عام 1882 التيقلصت حقوقهم كثيراً. كما صدر قانون النسب (1887) الذي حدَّد نسبة قبول التلاميذوالطلبة اليهود في المدارس والجامعات الروسية، فحُدِّدت نسبة الطلبة اليهودالمسجلين في التعليم العالي والجامعي بـ 11% في منطقة الاستيطان، و5% خارج منطقةالاستيطان، و3% في كل من مدينتي موسكو وبتروجراد، ثم خُفِّضت النسَب إلى 7% و 5% و 2%على التوالي. وأدَّت القوانين الرجعية التي صدرت خلال هذه الفترة إلى تسييس طبقةالمثقفين والمتعلمين من اليهود وانضمامهم إلى الحركات الثورية الروسية أو اعتناقهمالأفكار القومية الصهيونية أو اليديشية. أما الجماهير اليهودية، فقد تعرقل حراكهاوبطؤت عملية استيعابها ودمجها في المجتمع الروسي.

    ورغم صدور قوانين عام 1887 التي حددت عدد الطلبة اليهود في التعليم العلماني الحديث، إلا أن الطلب علىالتعليم العلماني استمر بصورة عامة وإن تذبذب بين الارتفاع والانخفاض وفقاً لتطبيقأو عدم تطبيق سياسة النسب التي حددها القانون. وقد بلغت نسبة الطلبة اليهودالمسجلين في الجامعات والمعاهد العليا الروسية 13,2% عام 1894، وهبطت إلى 7% عام 1902، ثم ارتفعت مرة أخرى إلى 12% عام 1907، وعاودت الانخفاض مرة أخرى عام 1913 حتىبلغت 7,3%. فإذا ما أضيف أن عدد الطلاب اليهود المسجلين في جامعات أوربا الغربية،وكان يتراوح بين 1895 و2405 طالب عام 1902/1903، لاتضح أن عدد الطلاب اليهودالمسجلين في التعليم العالي العلماني كان آنذاك آخذاً في الزيادة، ومن ثم استمرتحركة علمنة وتحديث ثقافة طبقة المثقفين والمهنيين اليهود. كذلك تزايد عدد المدارساليهودية الخاصة المتأثرة بالفكر الاندماجي والتي استخدمت اللغة الروسية لغةللتدريس وجمع منهجها بين المواد الدينية وغير الدينية، وإن التحق بها أولادالميسورين فقط من اليهود. فقد بلغ عدد التلاميذ المسجلين في هذه المدارس قبل الحربالعالمية الأولى نحو 30 ألف تلميذ (نحو 7,5% من مجموع التلاميذ اليهود ممن كانوا فيسن التعليم). وظل التعليم في المدرسة الأولية الخاصة (الحيدر) يمثل تعليم المرحلةالأولى لأكثر من نصف الأطفال اليهود المسجلين حيث بلغت نسبتهم 53,8% من مجموعالأطفال اليهود. ولم تنخفض هذه النسبة حتى عام 1910، الأمر الذي يشير إلى أناستيعاب الجماهير اليهودية في الثقافة الروسية كان يتم ببطء شديد. إلا أن التعليماليهودي التقليدي في الفترة 1881 ـ 1917 شهد تغيرات أثرت في فلسفته ومحتواه، إذانعكست عليه عملية التسييس التي حدثت على مستوى المثقفين اليهود، ومن ثم فإن هذاالنوع من التعليم خضع للتيارات الأيديولوجية القومية السائدة بين هؤلاء المثقفين،حيث اتجه كل تيار إلى إقامة مدارس يهودية خاصة به تعكس فكره وأيديولوجيته، كماتكاثرت المدرسة الأولية اليهودية وظهرت أشكال عديدة منها.

    وفي أواخرالتسعينيات من القرن الماضي، بدأت المدرسة الأولية المطوَّرة (بالعبرية: حيدرمتوكان) في الظهور. وخضع هذا النوع من المدارس لتأثير الحركة الصهيونية، فكانتالمناهج فيها تجمع بين المواد الدينية والمواد غير الدينية، إلا أن المواد الدينيةوُجِّهت وجهة صهيونية، فاحتوى منهج هذه المدارس على تعليم اللغة العبرية لا كلغةمقدَّسة، وإنما كلغة قومية تستخدم في شتى المجالات المختلفة للحياة. كما تمت دراسةما يُسمَّى «تاريخ اليهود» وجغرافية إرتس يسرائيل، أي أرض فلسطين، وزاد الاهتمامبالعهد القديم باعتباره التعبير الحقيقي عن الجوهر اليهودي الأصلي والتعبير الأمثلعن اليهود المرتبطين بأرضهم، على عكس التلمود الذي كُتب بعد النفي (أي بعد انتشاراليهود) خارج فلسطين. كذلك دُرِّست بعض المواد غير الدينية الأخرى مثل التاريخالعام والرياضيات واللغة الروسية حيث تمت دراستها بشكل موجز ومختصر. وقد اتبعت هذهالمدارس تنظيماً حديثاً، فحدَّدت ساعات الدراسة وأدخلت نظام الامتحانات ومنحتشهادات لخريجيها. كذلك تم تحسين معداتها وطرق التدريس المتبعة فيها. وكان بعض هذهالمدارس مختلطاً، ثم قامت جمعية أحباء صهيون بتأسيس مدارس مخصَّصة للبنات حيث بدأتإقامة هذه المدارس في جنوب روسيا في منطقة كييف وبساربيا وأوديسا، ثم انتشرت فيمنطقة الاستيطان وفي جاليشيا النمساوية، وكذلك في بعض أجزاء من رومانيا.

    وارتبط انتشار المدرسة الأولية المطوَّرة بحركة إحياء اللغة العبرية، فنادىآحاد هعام بـ «أُسَر المدارس» كوسيلة لنشر الفكر الصهيوني واللغة العبرية، وكان منقادتها عدد من الصهاينة مثل وايزمان وديزنجورف والشاعر بياليك. وبعد اعتراف الحكومةالروسية بجمعية أحباء اللغة العبرية عام 1907، أشرفت هذه الجمعية على العديد منالمدارس الأولية للبنين والبنات ودور الحضانة، كما أقامت فصولاً مسائية لتعليماللغة. وفي الوقت نفسه لعبت جماعة نشر الثقافة بين يهود روسيا دوراً مهماً في نشرهذه المدارس، وجُنِّد بعض خريجي المدارس التلمودية للتدريس في هذه المدارس. وطوِّرمنهج جديد لهذه المدارس، وافتُتح فصل جديد لتدريس العبرية عن طريق المحادثة، كماعُقدت برامج صيفية لتدريب معلميها. وفي وارسو، فُتحت حضانة للأطفال اليهود عام 1909، وبدأت دورات تدريبية لمعلمي الحضانات على طريقة فروبل. ونظم معلمو هذهالمدارس أنفسهم في نقابة في جاليشيا. ولعبت نقابة المعلمين دوراً في تحسين التدريبداخل هذه المدارس، فظهرت كتب مدرسية ومطبوعات للأطفال والشباب والكبار باللغةالعبرية.

    كما ظهرت مدارس أولية خاصة متأثرة بالفكر القومي اليديشي. ففيعام 1908، صرح مؤتمر شيرنوفتس الذي عقده أتباع هذا الاتجاه بأن اليديشية هي اللغةالقومية للجماعات اليهودية في روسيا، ومن ثم كثفت الدوائر اليديشية جهودها لتأسيسشبكة من المدارس تستخدم اللغة اليديشية كلغة للتعليم. لكن نجاح هذه الحركة كانمحدوداً نظراً لمعارضة كل من الحكومة الروسية والاندماجيين من اليهود والصهاينةلهذا التيار الفكري. ورغم هذا، فإن جماعة نشر الثقافة قامت عام 1909 بإعانة نحو 27مدرسة منها 16 مدرسة للبنات و3 للبنين و 8 مدارس مختلفة احتوى منهجها على تعليماليديشية. وخلال الحرب العالمية الأولى، حينما رفع الحظر عن هجرة يهود منطقةالاستيطان إلى داخل روسيا، كان هناك 42 مدرسة تستخدم اللغة اليديشية مقيَّد بها 6000 تلميذ و130 مُعلماً، كما منحت السلطات الروسية المدارس الخيرية الأولية (تلمودتورا) تصريحاً بتدريس بعض المواد باليديشية. أما المدارس التلمودية العليا، فلميحدث فيها كثير من التغير لا في مناهجها ولا في طرق تدريسها، بل أغلقت الحكومةالروسية عام 1892 مدرسة فولوجين التلمودية العليا لتجاهلها التنظيمات التي أصدرتهاالحكومة الروسية. وقد ظهرت شبكة من المدارس التلمودية العليا في بعض المدن الروسيةتحت تأثير حركة الموزار. كما ظهرت بعض المدارس التلمودية المطوَّرة مثل مدرسة ليداالعليا عام 1905، والتي كان من مهامها إعداد الحاخامات والمعلمين من خلال تعريفهمبالثقافة عامة وإعطاء الطلبة الذين سينخرطون في الأعمال التجارية ثقافة يهودية. وأُسِّست في العام نفسه مدرسة عليا للدراسات اليهودية.

    ومع بداية الحربالعالمية الأولى، كان هناك ثلاثون مدرسة تلمودية عليا (يشيفا) مسجلاً فيها حوالي 10آلاف طالب في روسيا، وقد غطت هذه المدارس معظم دول البلطيق ومعظم بولنداوبساربيا.








  2. #2
    مراقبة أقسام رد الشبهات حول الإسلام
    الصورة الرمزية ساجدة لله
    ساجدة لله غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 317
    تاريخ التسجيل : 1 - 10 - 2007
    الدين : الإسلام
    الجنـس : أنثى
    المشاركات : 16,234
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 23
    البلد : مصر الإسلامية
    الاهتمام : منتدى البشارة
    الوظيفة : أمة الله
    معدل تقييم المستوى : 33

    افتراضي


    المجلد الرابع: الجماعات اليهودية.. تواريخ



    الجزء الأول: تواريخ الجماعات اليهوديةفي العالم القديم



    الباب الأول: إشكالية التاريخ اليهودي

    تاريــخ يهـودي أم تواريـخ جماعـات يهوديــــة؟
    ?Jewish History or Histories of the Jewish Communities
    «التاريخ اليهودي» مصطلح يتواتر في الكتاباتالصهيونية والغربية، وفي الكتابات العربية المتأثرة بها. وهو مصطلح يفترض وجودتاريخ يهودي مستقل عن تواريخ الشعوب والأمم كافة، كما يفترض أن هذا التاريخ لهمراحله التاريخية وفتراته المستقلة ومعدل تطوُّره الخاص، بل وقوانينه الخاصة. وهوتاريخ يضم اليهود وحدهم، يتفاعلون داخله مع عدة عناصر مقصورة عليهم، من أهمها دينهموبعض الأشكال الاجتماعية الفريدة. ومفهوم التاريخ اليهودي مفهوم محوري تتفرع منهوتستند إليه مفاهيم الاستقلال اليهودي الأخرى ومعظم النماذج التي تُستخدَم لرصدوتفسير سلوك وواقع أعضاء الجماعات اليهودية.

    يضرب المصطلح بجذوره فيالتشكيل الحضاري الغربي، سواء في جانبه الديني أو في جانبه الاقتصادي. لقد جاء فيالعهد القديم أن الخالق « اختار الشعب ». والاختيار يعني درجة من درجات الحلوليةالكمونية الواحدية (إذ لماذا يختار الإله شعباً دون الشعوب الأخرى؟). وقد تزايدالحلول والكمون الإلهي في الأمة إلى أن وصل الحلول إلى مرحلة وحدة الوجود فتوحَّدالإله والشعب وتاريخه وأرضه وأصبح هناك جوهر واحد للأمة والإله، لا يوجد الواحدمنهما دون الآخر، ويتم على هذا النحو زوال ثنائية الخالق والمخلوق والإله والشعب (والمطلق والنسبي، والأزلي والزمني والمقدَّس والتاريخي). ويصير تاريخ هذا الشعبمحط عناية الاله، بل يصبح تجسيداً لفكرة مقدَّسة ومطلقة، فيتداخل المطلق والنسبيوالمقدَّس والمدنَّس، وتصبح أية حادثة تقع لليهود ذات دلالة دينية عميقة. ومن هنا،فإن كتاب اليهود المقدَّس (العهد القديم) هو أيضاً سجل تاريخهم، حيث يتم تقديمالعبرانيين وهم يخرجون من مصر تهديهم ذراع الإله القوية وتنقذهم من الغرق، ثم يُلحقبهم العذاب في الصحراء ولكنه يسدد خطاهم في غزوهم لأرض كنعان. ويعقد الإله معهمالمواثيق، ويقبل منهم أفعالهم كافة الأخلاقية منها وغير الأخلاقية. ولهذا، أصبحتاريخ اليهودية هو نفسه تاريخ اليهود.

    وكما ورثت المسيحية العهد القديموجعلت منه أحد كتبها المقدَّسة، كذلك ورثت الحضارة الغربية هذه الرؤية. ولذا، فإنالإنسان الغربي يعتبر اليهود ورثة العبرانيين القدامى؛ و يراهم في عزلتهم لا يزالونمستمرين في مسيرتهم في الصحراء، نحو كنعان عبر التاريخ الإنساني بأسره وفي كل أرجاءالعالم. وقد تبدَّى ذلك في المفهوم الكاثوليكي للشعب الشاهد الذي يقف على حافةالتاريخ، شـاهداً على عظمة الكنيسة. كما يتبدَّى في المفاهيم الاسـترجاعيةالبروتستانتية التي تجعل من عودة اليهود إلى صهيون في نهاية التاريخ شرطاً لعمليةالخلاص وشرطاً لتأسيس الفردوس الأرضي. وقد تمت علمنة هذا المفهوم في العصر الحديث،فتحول اليهود من شعب يهودي مقدَّس له تاريخ يهودي مقدَّس إلى الشعب اليهودي المستقلصاحب التاريخ اليهودي الفريد. وهذه كلها مفاهيم تفترض عزلة اليهود، كما تفترض أنلهم وجوداً وتاريخاً مستقلين.

    ومما دعم إحساس الإنسان الغربي بوجود تاريخيهودي مستقل، اضطلاع اليهود بدور الجماعة الوظيفية (المالية أوالاستيطانية) فيالمجتمعات الغربية. ومثل هذه الجماعات يتم عزلها عن بقية المجتمع حتى تبدو وكأنهاخاضعة لآليات وحركيات تاريخية مستقلة، مع أنها في واقع الأمر جزء لا يتجزأ منالمجتمع، وخاضعة للآليات والحركيات التاريخية نفسها التي يخضع لها هذا المجتمع،تصعد بصعوده وتهبط بهبوطه رغم استقلالها النسبي. وقد ظل دور الجماعة الوظيفية حكراًتقريباً على الجماعات اليهودية في العالم الغربي، وذلك على عكس الحضارات الشرقيةحيث اضطلعت جماعات إثنية ودينية مختلفة، من بينها اليهود، بدور الجماعة الوظيفية.

    وغني عن الذكر أن مفهوم التاريخ اليهودي مفهوم محوري في الفكر الغربي وفيإدراك الإنسان الغربي لليهود. لكن المقدرة التفسيرية لهذا المفهوم ضعيفة إلى أقصىحد، فهو مفهوم اختزالي بسيط إلى أقصى حد. والإيمان بنموذج التاريخ اليهودي المستقلله نتائجه السلبية لا من الناحية المعرفية وحسب، وإنما من الناحية الإنسانيةوالأخلاقية كذلك.

    أما من الناحية المعرفية، فإننا نجد أن رصد واقع الجماعاتاليهودية، وتفسيره من خلال نموذج التاريخ اليهودي يُبسِّط هذا الواقع ويختزلهويجعله تافهاً، كما أنه يُضخِّم جوانب ثانوية منه ويتجاهل عناصر أساسية فيه. إناستقلالية أي بناء تاريخي تعني استقلالىة أبنيته الاقتصادية والاجتماعية، وكذلكاستقلالية الأبنية الحضارية والرمزية المرتبطة به، كما تعني تجانسها النسبي في كلمرحلة من مراحله. وكذلك فإن استقلالية أي بناء تاريخي تعني أن هذا البناء يضم جماعةمن الناس لا وجود لها خارجه ولا يمكن فهم سلوكها إلا في إطار تفاعلها معه. ولكن منالثابت تاريخياً أن الجماعات اليهودية المنتشرة في العالم كانت تتَّسم بعدم التجانسوعدم الترابط وبأن أعضاءها كانوا يوجدون في مجتمعات مختلفة تسودها أنماط إنتاجيةوأبنية حضارية اختلفـت باختلاف الزمان والمكـان. فيهـود اليمن، في القرن التاسععشر، كانوا يعيشون في مجتمع صحراوي قَبَلي عربي. أما يهود الولايات المتحدة فيالفترة نفسها، فكانوا يعيشون في مجتمع حضري رأسمالى غربي. فإذا بحث المرء في العنصرالمشترك بين يهود الىمن ويهود الولايات المتحدة، لوجد أنه هو الدين اليهودي وحسب،وهو عنصر واحد ضمن عناصر عديدة تحدد سلوك اليهودي. بل إن الأنساق الدينية اليهوديةذاتها، بسبب تركيب اليهودية الجيولوجي التراكمي وبسبب غياب سلطة مركزية دينية،تختلف اختلافاً حاداً وجوهرياً من حضارة إلى أخرى، ومن هنا نشأت قضية الهويةاليهودية. ولكل هذا، نجد أن سلوك اليهودي اليمني تحكمه عناصر البناء التاريخيالعربي الذي يعيش فيه، تماماً كما تحكم سلوك يهود الولايات المتحدةمكوناتالبناء التاريخي الغربي والأمريكي. غير أن نموذج التاريخاليهودي، بما يفترضه من وحدة وتجانس، يجعل المؤرخ يهمل كل عناصر عدم الوحدة وعدمالتجانس التي تُشكِّل الجانب الأكبر في مكوِّنات واقع أعضاء الجماعات اليهودية، وهيعناصر نتصور أنها أهم من عناصر الوحدة والتجانس، ولها قيمة تفسيرية ورصدية أعلى.

    ومن المعروف أن أعضاء الجماعات اليهودية لم يكونوا من صناع القرار في عصورالتاريخ المختلفة، وخصوصاً في الغرب. فقد كانوا يقتربون أحياناً من أعضاء النخبةالحاكمة ومؤسسات صنع القرار باعتبارهم جماعة وظيفية، وكانوا يبتعدون عنها أحياناًأخرى. ولكن القرار ظل دائماً في يد هذه النخبة. ومما له دلالته أن أول تاريخ لأعضاءالجماعات اليهودية في العصر الحديث، والذي كتبه أسحق ماركس يوسط (1793 ـ 1860)، بدأبالعبارة التالية: « هل يمكن أن يُكتب تاريخ مستقل للعبيد؟ ». والواقع أن الردّبالنفي إن أراد المؤرخ أن ينظر إلى تاريخ العبيد خارج الإطار السياسي والاجتماعيوالحضاري للمجتمعات التي يوجدون فيها، ذلك أن تاريخ العبيد ليس تاريخاً مستقلاً بلهو جزء من تاريخ المجتمع ككل. وما يهمنا هنا هو تأكيد أن الأحداث الكبرى التي تقعللجماعات اليهودية تكمن جذورها وأسبابها في مجتمع الأغلبية. ويمكن القول بأن نموذجالتاريخ اليهودي المستقل يُوجِّه رؤية المؤرخ توجيهاً خاطئاً، إذ يذهب هذا النموذجإلى أن الأحداث التاريخية الكبرى التي قررت مصير الجماعات اليهودية (كظهور الدولةالآشورية أو ظهور الإمبريالية الغربية) تقع خارج نطاق هذا التاريخ اليهودي. وتصبحهذه الأحداث، رغم مركزيتها وقدرتها التفسيرية، أحداثاًً هامشية ذات أهميةثانوية.






  3. #3
    مراقبة أقسام رد الشبهات حول الإسلام
    الصورة الرمزية ساجدة لله
    ساجدة لله غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 317
    تاريخ التسجيل : 1 - 10 - 2007
    الدين : الإسلام
    الجنـس : أنثى
    المشاركات : 16,234
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 23
    البلد : مصر الإسلامية
    الاهتمام : منتدى البشارة
    الوظيفة : أمة الله
    معدل تقييم المستوى : 33

    افتراضي



    انطلاقاً من كل هذا سنطرح مجموعة من الإشكاليات وسنجتهد في الإجابة عليها لنبيِّن استحالة افتراض الاستمرار اليهودي (الثقافي أو البيولوجي) من منظور إسلامي:

    1 ـ إشكالية المجال الزمني لمصطلح «يهودي» (هل يشير إلى كل يهود العالم في كل زمان ومكان، في الماضي والحاضر والمستقبل، أو إلى يهود المدينة أيام البعثة المحمدية وحسب؟):

    لفظ «يهودي» في اللغة من «هاد» أي «تاب ورجع إلى الحق» و«التَهوُّد» هو «التوبة والعمل الصالح». ويُقال أيضاً «هاد» و «تهود» أي «صار يهودياً» بمعنى أنه يؤمن بالعقيدة اليهودية. ولكن كلمة «يهودي» ليست الكلمة الوحيدة التي تدل على اليهود في القرآن، فقد وردت عدة مصطلحات أخرى: بني إسرائيل [41 مرةٍ]، واليهود [8 مرات]، وهود [3 مرات]، والذين هادوا [9 مرات]، وأوتو الكتاب [12 مرة]، وأهل الكتاب [31 مرة].

    ومن الواضح أن القرآن الكريم لا يفترض وجود استمرارية بين يهود العالم، ولذا وردت هذه المصطلحات غير المترادفة ليعبِّر كل مصطلح عن وضع زماني ومكاني مختلف. فالقرآن يُفرِّق تفرقة واضحة بين اليهود الذين عاشوا في الجزيرة العربية وتعامل المسلمون معهم في فترة البعثة المحمدية من جهة وبين بني إسرائيل من جهة أخرى. فمصطلح «بني إسرائيل» جاء مخصصاً للحديث عن يهود عصر موسى وعيسى وأنبياء بني إسرائيل، ولم يُستخدَم هذا اللفظ تخصيصاً ليهود عصر البعثة المحمدية إلا في موضعين (من المواضع الإحدى والأربعين) وهما:

    ـ «سـل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة » (سورة البقرة ـ 211(

    ـ « إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون» (سورة النمل ـ 76(.

    وواضح أن في هذين الموضعين إحالة إلى موروثات قديمة يمكن أن يتناقلها اليهود، أياً كانت أصولهم العرْقية، عن بني إسرائيل، أي يهود عصر موسى، الأمر الذي يفتح الباب لإمكانية توجيه الخطاب العام (اليهودي) بصفة الخاص (بنو إسرائيل) الذي هو مسئول مسئولية مباشرة عن هذه الموروثات.

    وهذا التمييز مفهوم تماماً في إطار الواقع التاريخي. فيهود المدينة والجزيرة العربية كانوا يؤمنون بصياغة دينية يُقال إنها شبه توحيدية، فهم في أغلب الظن لم يكونوا يعرفون التلمود حتى مع احتمال أن يكون قد تم جمعه آنذاك. (ومع هذا، تجب الإشارة إلى أن الفكر السبئي [نسبة إلى عبد الله بن سبأ] يدل على تَصاعُد العنصر الحلولي في اليهودية). وقد كان يهود الجزيرة العربية منعزلين عن يهود العالـم، وعـن مراكـز الدراسـة التلمـودية والفقهية في فلسطين وبابل، بل ويُقال إن يهود العالم آنذاك لم يكونوا يعتبرونهم يهوداً.

    ومن هنا تكون التفرقة بين يهود عصر موسى ويهود المدينة، ومن هنا تكون ضرورة افتراض عدم وجود استمرار يهودي، فلابد من التفرقة بين يهود الماضي من جهة ويهود العالم الحديث في أيامنا هذه من جهة أخرى، فالمجالان الدلاليان لكلمتي «يهودي» و«بني إسرائيل» كما وردتا في القرآن محددان ولا ينطبقان بالضرورة على يهود العصر الحديث.

    وربما كان من المفروض أن تُولَد داخل المعجم العربي الإسلامي، من البداية، مجموعة ألفاظ للإشارة إلى المدلولات المختلفة: «بنو إسرائيل»، و«اليهود بالمعنى القرآني»، و«اليهود عبر التاريخ»، و«اليهود في العصر الحديث»، وهكذا. وقد حاولنا من جانبنا أن نولّد مبدئياً مجموعة من المصطلحات مثل: «العبرانيون» للإشارة إلى اليهود القدامى كجماعة عرْقية، و«جماعة إسرائيل» للإشارة إليهم كجماعة دينية، و«الجماعات اليهـودية» للإشـارة إلى الجماعات البـشرية ممن اتُفق عرفاً أنهم يهود، وهو حل مؤقت للمشكلة إلى حين بحثها فقهياً ولغوياً. ولعل الفقهاء لم يتوجهوا لهذه المشكلة بالحماس المطلوب، لأن اليهود لم يكونوا يمثلون إشكالية خاصة أو مستقلة داخل التشكيل الحضاري الإسلامي نظراً لعدم أهميتهم وبسبب استقرار وضعهم داخل الحضارة الإسلامية بعد استقرار مفهوم أهل الذمة. أما في القرن العشرين، بعد تَركُّز غالبية يهـود العـالم داخل الحضـارة الغربية العلـمانية أو في الدولـة الصهيونية، فإن الوضع جدُّ مختلف ويتطلب فتح باب الاجتهاد والنظر في هذه المسألة.

    2 ـ التناقض بين تعريف العقيدة اليهودية لليهودي والتعريف الإسلامي له:

    كلمة «يهود» في الإسلام تعني «أتباع الكتاب الذي جاء به موسى عليه السلام». ورغم أنهم قاموا بتحريفه أو أصروا على اتباع المحرَّف منه إلا أن ثمة مبادئ أساسية وردت فيه لم يتم تحريفها من بينها الإيمان بالله واليوم الآخر.

    هذا التعريف الإسلامي لو طُبِّق على يهود العالم الحديث لتم استبعاد ما يزيد عن 90% منهم، أو إذا توخينا الدقة لقلنا لاستُبعد 50% منهم (الملحدون واللاأدريون) ولتَعَذَر تَقبُّل 40% (الإصلاحيون والمحافظون والتجديديون) كيهود، ولربما قُبل الـ 10% الأرثوذكس (فقط) كيهود. وحتى هذا أمر خلافي بسبب تَزايُد النزعة الحلولية التي هيمنت على اليهودية الحاخامية. والمسلم لا يمكنه إلا أن يستبعد أولئك الذين لا ينطـبق عليهم التعـريف الإسـلامي لليهودي، حتى لو سـموا أنفسـهم «يهوداً»، وحتى لو قبلتهم الشريعة اليهودية كيهود.

    وقد تنبه الشهرستاني (صاحب الملل والنحل) إلى ظاهرة مماثلة إذ أشار إلى أن الجماعة التي تُسمَّى «الصابئة» في العراق ليسوا هم في حقيقة الأمر بالصابئة الذين يشير إليهم القرآن، فهؤلاء جماعة غنوصية تُدعَى «المندائية» اتخذت الاسم بغية أن يُعامَلوا معاملة أهل الكتاب، أي أن كلمة «صابئة» (كما عرَّفها القرآن) لا تنطبق في واقع الأمر على هؤلاء الذين يُسمون أنفسهم «صابئة».

    3 ـ التناقض بين مفهوم الاستمرار اليهودي ومفهوم الفطرة في الإسلام:

    افتراض الاستمرار اليهودي، البيولوجي والثقافي، يتناقض مع إحدى القيم الحاكمة الكبرى في الإسلام، ونقصد به مفهوم الفطرة. فالإنسان ـ حسب التصور الإسلامي ـ يُولَد على الفطرة، وإن كان ثمة صفة وراثية فهي الفطرة الإنسانية والاستعداد لعمل الخير، وهو مفهوم يضع على الفرد عبء المسئولية الخلقية ويطرح إمكانية التوبة الدائمة (من جانب المخلوق) وإمكانية المغفرة (إن شاء الخالق). ومن ثم فإن فكرة الاستمرار اليهودي تُشكّل سقوطاً في المنطق العنصري العلماني الشامل الذي يرى الإنسان محكوماً بموروثه البيولوجي أو الاقتصادي أو العرْقي أو مجموعة من الحتميات المادية الأخرى. ومن الواضح أن النص القرآني حذَّر من ذلك ففرَّق بين اليهود عموماً من ناحية وبين الصالحين والطالحين منهم من ناحية أخرى، وحكم على كل فريق منهم بما يستحقه من خير أو شر، مُلتزماً في ذلك طريقة العدالة والصدق.

    والإنسان المسلم مُلزَم أولاً وأخيراً بالتعامل مع اليهود والمسيحيين من خلال مفهوم أهل الذمة الذي حدد حقوقهم وواجباتهم وأكد المساواة الكاملة والمطلقة بينهم وبين المسلمين، ولم يطرح تصوراً لوجود استمرار بيولوجي أو ثقافي بينهم.












  4. #4
    مراقبة أقسام رد الشبهات حول الإسلام
    الصورة الرمزية ساجدة لله
    ساجدة لله غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 317
    تاريخ التسجيل : 1 - 10 - 2007
    الدين : الإسلام
    الجنـس : أنثى
    المشاركات : 16,234
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 23
    البلد : مصر الإسلامية
    الاهتمام : منتدى البشارة
    الوظيفة : أمة الله
    معدل تقييم المستوى : 33

    افتراضي



    بيروبيجـان
    Birobidjan
    «بيروبيجان» مقاطعة سوفيتية ذات حكم ذاتي خُصِّصت لليهود، وتقع في شرق سيبريا خلف نهر «مامو» الذي يفصل بين الاتحاد السوفيتي ومنشوريا، وتبلغ مساحتها 37 ألف كيلو م.تر مربع، وقد اشـتُق اسـمها من فرعي النهر «بيرو» (والتي تُنطَق أيضـاً «بيرا») و«بيجان». وهي تحوي منطقة سهلية صالحة للزراعة، ومنطقة جبلية تضم غابات كثيفة غير مستغلَة تتوافر فيها أنواع ثمينة من الأخشاب. كما توجد فيها حيوانات ذات فراء. وتضم المنطقة ثروات معـدنية أبرزها الفحم والزئبق والنحاس والحـديد والذهب والمرمــر والأحجار شبــه الكريمة. وفي المنطقة كميات وافرة من مياه الري، وفيها نحو مائتي نهر كبير وصغير بالإضافة إلى البحيرات.
    وأكبر مدن المنطقة هي العاصمة. وقد كانت المنطقة تُسمَّى «كوخوتكايا» (وربما تعني «المكان الهادئ») وهي تُدعَى الآن «بيروبيجان». وقد كانت عام 1928 محطة قطار صغيرة على سكة حديد سيبريا، وأصبحت عام 1931 قرية، ثم صارت مدينة.
    وأقرب المدن الكبيرة (في الشرق الأقصى السوفيتي) إلى بيروبيجان هي خابازروفسك التي تبعد عنها 173 كيلومتراً، وهي عاصمة الإقليم الذي تتبعه بيروبيجان، أما المسافة بين موسكو وبيروبيجان فهي 8361 كيلومتراً. وقد وقع اختيار الحكومة السوفيتية على بيروبيجان عام 1928 لتشجيع التوطن اليهودي في الإقليم بهدف زيادة تَكيُّف اليهود مع النظام السوفيتي الجديد. وكذلك كان من بين أهداف السوفييت من المشروع اعتبارات إستراتيجية تتمثل في زيادة الكثافة السكانية في المنطقة المجاورة للحدود مع الصين واليابان، وتعمير كل أرجاء روسيا وخصوصاً الأطراف. لكن توطين السكان في هذه المنطقة كان إحدى الإشكاليات الأساسية التي تواجهها الحكومة المركزية الروسية سواء أثناء حكم القياصرة أو في حكم البلاشفة. كما كانت هناك اعتبارات سياسية تتمثل في إحباط دعايات العناصر اليهودية المعادية للسوفييت، وكسب تأييد اليهود في العالم، وخصوصاً في الولايات المتحدة في ظل اتجاه سوفيتي عام لتحسين العلاقات مع الغرب في تلك الفترة.

    ونظراً لكل هذه الاعتبارات، قررت القيادة السوفيتية أن تمنح اليهود إقليماً خاصاً بهم حيث يكون بمقدورهم أن يطوروا ثقافتهم وتقاليدهم الخاصة في إطار قومي ومحتوى اشتراكي، فيصبح مركزاً للثقافة اليهودية (اليديشية) ومجالاً لتحقيق هوية اليهود باعتبارهم أقلية قومية شرق أوربية، أو قومية يديشية، الأمر الذي يتفق مع صيغة البوند ودبنوف أكثر من اتفاقه مع أطروحات لينين. وقد تم تشكيل جهازين للإسراع في تنفيذ المشروع، وصدر مرسوم مارس 1928 متضمناً تخصيص جميع الأراضي في منطقة بيروبيجان للمستوطنات اليهودية مع منح المنطقة صفة «دائرة قومية يهودية» رغم أنها لم تكن تضم أي يهود آنذاك. كما نص المرسوم صراحة على أن المنطقة ستتحوَّل إلى مقاطعة يهودية ذات حكم ذاتي إذا ما سار التَوطُّن اليهودي بنجاح فيها.

    وفي القانون السوفيتي، تُعتبَر المقاطعة ذات الحكم الذاتي وحدة إدارية تتمتع بشيء من الكيان الذاتي، والمفروض أنها تمثل كياناً مستقلاًّ لمنطقة معينة تحوي سكاناً من قومية واحدة لا يكفي عددهم لتأليف جمهورية مستقلة.

    وقد شنت الحركة الصهيونية هجوماً مركزاً على المشروع منذ البداية. فأعلنت أن المكان غير مناسب، وأنه لا يحمل أية دلالة تاريخية يهودية، وأنه قد يصلح لمستوطنين ذوي تقاليد زراعية حيث إن اليهود لم يمارسوا الزراعة إلا حديثاً. ومن هنا، طالبت الحركة الصهيونية بالقرم أو أوكرانيا. ولكنها عادت وأكدت أن فلسطين هي المكان الوحيد المناسب لحل مشاكل اليهود السوفييت، وأن مشروع بيروبيجان محاولة سوفيتية لنسف أو إضعاف الفكرة الصهيونية والدينية لدى اليهود. هذا مع العلم بأن مساحة بيروبيجان تفوق مساحة فلسطين التي تبلغ 26.072 كيلو متراً مربعاً. وقد وصلت أول دفعة من اليهود السوفيت إلى بيروبيجان عام 1928. وكان عددهم 950 شخصاً عاد منهم 600 شخص. وقد بلغ عدد اليهود الذين هاجروا إلى المنطقة خلال خمس سنوات نحو عشرين ألف شخص، عاد منهم نحو اثنى عشر ألفاً، وبقي في المنطقة نحو ثمانية آلاف شخص فقط. ولم تكن هذه الأرقام تشير إلى درجة مشجعة من النجاح، بل كانت تشير إلى احتمال فشل المشروع.

    وفي 7 مايو (آيار) عام 1934، أي بعد احتلال اليابان لمنشوريا عام 1931 ـ 1932، أعلنت السلطات السوفيتية منح منطقة بيروبيجان صفة «مقاطعة يهودية ذات حكم ذاتي» مع أن شروط منح هذه الصفة، وأبرزها وجـود أغلبية من سـكان قومية معـيَّنة، بحسب الدستور السوفيتي، لم تكن متوافرة. وربما كان اتخاذ هذا القرار إحدى الوسائل التي لجأت إليها الحكومة السوفيتية لتشجيع اليهود على الهجرة إلى تلك المنطقة حيث وُضعت خطة جديدة لتوطين اليهود فيها تقوم على أساس اختيار الكفاءات بدل الهجرة الطوعية العشوائية. وكان مقدراً خلال السنوات 1934 ـ 1937 أن يبلغ عدد اليهود في بيروبيجان نحو 60 ألف نسمة. ومع ذلك، ومع حلول عام 1937، فإن عدد اليهود لم يتجاوز عشرين ألف نسمة كانوا يشكلون 24% من سكانها.

    وقد تعرَّض تنفيذ مشروع التوطين لحالة من الجمود في السنوات التي سبقت الحرب العالمية الثانية، وذلك بسبب حملة التطهير التي قادها ستالين وشملت العديد من القيادات ومن بينها القيادات اليهودية في الحزب والدولة. ثم إن ظروف الحرب (بعد ذلك) فرضت جموداً على تنفيذ المشروع، فلم يَعُد للبروز والنشاط إلا في نهاية الحرب العالمية الثانية وبالذات في النصف الثاني من عام 1946. وقد أظهر اليهود في تلك الفترة حماساً أشد للتَوطُّن في بيروبيجان، وتطوَّع للذهاب إليها فنانون وموسيقيون وأطباء. وتشير بعض التقديرات إلى أن عدد اليهود، في منتصف سنة 1948، بلغ نحو خمسة وثلاثين ألفاً جاء بعضهم ضمن الهجرة المنظمة، وجاء البعض الآخر هرباً من الجيوش النازية الزاحفة نحـو موسـكو، وجـاء البعـض الثالث ليفتش عن مكان جديد يبدأ فيه حياته. وقد تمت تنميـة الطابـع اليهـودي اليديـشي للمقاطعة في هذه المرحلة. فأُنشئت مزارع جماعية يهودية ومجالس فرعية، واستُخدمت اليديشية كلغة رسمية، وأُسِّس مسرح يديشي ومكتبة عامة سُمِّيت باسم الكاتب اليديشي شالوم عليخيم، كما أُقيمت مؤسسة طباعة عصرية وصُنعت آلات كاتبة بالحروف التي تُكتَب بها اللغة اليديشية.

    ولكن القيادات السوفيتية، بعد هذه الفترة القصيرة من الهجرة، غيَّرت موقفـها، وبدأ الفتور يسـيطر على الحـديث الرسـمي عن بيروبيجان، وبرزت اتهامات بعلاقات تجسُّس مع الخارج. وفي عام 1948، توقف نشر الأخبار عن بيروبيجان. وإذا كانت حركة التطهير الأولى استهدفت بعض الأفراد، فإن الحملة الجديدة استهدفت المشروع ذاته (ويبدو أن ستالين اتهم زعماء الجماعة في بيروبيجان بالتآمر لفصل الإقليم عن الاتحاد السوفيتي وتسليمه لليابان). وكانت النتيجة أن الهجرة اليهودية إلى الإقليم أخذت في التقلص تدريجياً إلى أن وصل عدد اليهود فيه سنة 1968 إلى نحو خمسة وعشرين ألف نسمة. وقد بلغ عدد السكان اليهود في عام 1989 نحو 8.887 مقابل 215 ألف روسي وكوري وصيني وغيرهم، أي 4% من عدد السكان، يقطن معظمهم في العاصمة التي يبلغ عدد سكانها ثلاثة وثمانين ألفاً. وعدد المتحدثين باليديشية آخذ في التناقص، ووصلت نسبة الزواج المختلط بين اليهود 80%، وهي بذلك قد تكون أعلى نسبة في العالم. وغالبية اليهود في بيروبيجان ملحدون، كما أن الحاخام الذي يشرف على إقامة الشعائر يؤمن بالمسيح ويستخدم الإنجيل في الصلوات. ومع هذا، لا تزال هناك محاولة لأن تحتفظ بيروبيجان بطابعها اليهودي اليديشي إذ تَصدُر الطوابع باليديشية والروسية ولا تزال أسماء الشوارع تُكتَب باللغتين. وقد تم الاحتفال بعيدها الخمسيني عام 1984. وبعد تفكك الاتحاد السوفيتي وظهور الكومنولث الروسي، بدأت الحكومة الروسية في تحويل بيروبيجان إلى منطقة اقتصادية حرة. ويفكر بعض أثرياء إسرائيل في الذهاب إلى بيروبيجان للاستثمار فيها. ويبدو أن زراعة المخدرات قد انتشرت فيها مؤخراً.

    وتجربة بيروبيجان، برغم أية نتائج انتهت إليها، تثير عدداً من الملاحظات حول الحركة الصهيونية في مجملها، أولاها أن الرفض الصهيوني لبيروبيجان انطلق من تبسيط مخل للحلول الممكنة للمسألة اليهودية يستهدف تبرير حتمية الهجرة إلى فلسطين، وهو ما يثبت أن الصهيونية لم تستهدف حل المشاكل الملحة عند اليهود بقدر ما استهدفت تحقيق أساطير بعضهم. ومن ناحية أخرى، فإن مشروع بيروبيجان كان امتداداً لأفكار البوند، أي التعبير عن الخصائص الذاتية اليهودية في إطار الدولة الاشتراكية. ومع هذا، فقد رفضته الحركة الصهيونية عامة والصهيونية الاشتراكية بصفة خاصة.

    ومن جانب ثالث، فإن الحركة الصهيونية قد عارضت المشروع رغم أن السوفييت كانوا يهدفون منه إلى تحويل اليهود من طبقة بورجوازية منعزلة غير منتجة إلى طبقة عاملة مندمجة في المجتمع ومنتجة، وهو ما تحدَّث عنه الصهاينة الاشتراكيون دائماً. وأخيراً، فإن مشروع بيروبيجان قد أثار من جديد الخلاف القديم بين يهود العالم حول ما عُرف بقضية الصهيونية الإقليمية. ولهذا، فقد أيَّدت المشروع بعض الجمعيات اليهودية في الولايات المتحدة وغرب أوربا وأمريكا اللاتينية، وكان من بينها لجنة التوزيع الأمريكية اليهودية المشتركة (جوينت)، والمؤسسة الأمريكية اليهـودية المشـتركة للزراعـة (أجروجوينت)، والجمعية الأمريكية للتوطين اليهودي في الاتحاد السوفيتي (وقد عُرفت باسم «إيكور» أي فلاح بالعبرية). في حين عارضته كل اتجاهات الحركة الصهيونية باعتباره تجسيداً لفكرة قومية الدياسبورا (القومية اليديشية) ولكن في ظل نظام اقتصادي مختلف.











 

صفحة 6 من 6 الأولىالأولى ... 23456

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المواضيع المتشابهه

  1. اليهود واليهودية والصهاينة والصهيونية الجزء السابع
    بواسطة ساجدة لله في المنتدى منتدى التاريخ
    مشاركات: 60
    آخر مشاركة: 2010-10-27, 05:42 AM
  2. اليهود واليهودية والصهاينة والصهيونية الجزء السادس
    بواسطة ساجدة لله في المنتدى منتدى التاريخ
    مشاركات: 61
    آخر مشاركة: 2010-10-27, 05:20 AM
  3. اليهود واليهودية والصهاينة والصهيونية الجزء الخامس
    بواسطة ساجدة لله في المنتدى منتدى التاريخ
    مشاركات: 60
    آخر مشاركة: 2010-10-26, 05:58 AM
  4. اليهود واليهودية والصهاينة والصهيونية الجزء الرابع
    بواسطة ساجدة لله في المنتدى منتدى التاريخ
    مشاركات: 28
    آخر مشاركة: 2010-10-25, 05:39 AM

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
RSS RSS 2.0 XML MAP HTML