الباب الثالث: مصر والإمبراطورية الحيثية



العلاقات الدولية في الشرق الأدنى القديم والمسألة العبرانية
International Relations in the Ancient Near East and the Hebrew Question
لا يمكن فهم تاريخ العبرانيين (أو العبرانيين اليهود) الذي تمركز بشكل أو بآخر في فلسطين إلا بفهم العلاقات الدولية في الشرق الأدنى القديم، ذلك أن أحداث تاريخ العبرانيين لم تكن سوى صدى أو رد فعل لحركيات هذه العلاقات الدولية.

وثمة مشكلة أساسية كانت تواجه العبرانيين، ومن بعدهم اليهود في فلسطين، منذ بداية ظهورهم حتى تحوُّلهم إلى جماعات منتشرة في أرجاء الأرض غير مرتبطة بفلسطين إلا بالرباط الديني. وتتمثل هذه المشكلة في قلة عددهم وصغر حجمهم كتشكيل سياسي، وضآلة إسهامهم الحضاري بالقياس إلى التشكيلات الحضارية الضخمة. وقد أدَّت العناصر السابقة مجتمعة إلى عجز العبرانيين عن أن يكون لهم جيوش ضخمة مسلحة تسليحاً جيداً ويمكنها أن تدافع عن كيانهم السياسي، وفي أن تضم أراضي أخرى. ولم يمكنهم بطبيعة الحال استرقاق الشعوب الأخرى أو فتح أراضيها، إذ أن هذا يتطلب قوة عسكرية ضخمة كما يتطلب مستوى إنتاجياً متقدماً نسبياً لاستيعاب الرقيق ولتشغيلهم. بل إننا نجد أن هذا التخلف النسبي جعل الدولة العبرانية غير قادرة على استيعاب كل المصادر البشرية المحلية فتحوَّلت إلى مُصدِّر لها، ومن ثم نجد أن كثيراً من العبرانيين القدامى كانوا يعملون عبيداً وجنوداً مرتزقة للشعوب والإمبراطوريات التي قامت في المنطقة.

ومما ساعد على تفاقم المشكلة أن الرقعة الجغرافية التي تمركز فيها تاريخ العبرانيين هي فلسطين، وهي نقطة إستراتيجية ذات أهمية قصوى كانت تُعَدُّ معبراً بين التشكيلات الحضارية المختلفة في الشرق الأدنى القديم، الأمر الذي جعلها وجعل سكانها عرضة للهجرات والغزوات.

ولقد كان الشرق الأدنى القديم يتكون من تشكيلين حضاريين أساسيين: التشكيل الحضاري المصري، وتشكيل الرافدين. وكان ينضم إليهما أحياناً تشكيل خارجي غير محلي مثل الحيثيين. وعند تَراجُع هـذه القوى العظمى، كانت تظهر قوى محلية مثل الآراميين والأنباط. وقد استمر هذا الوضع قائماً إلى أن غزا الفرس المنطقة وأصبحوا القوة العظمى فيها. وجاء بعدهم اليونانيون ثم الرومان. وحينما فتـح المسـلمون المنطقـة، كان اليهـود قد انتشروا في بقاع الأرض، ولم تكن فلسطين مركزاً لهم إلا من الناحية الدينية والمجازية.

ويمكن أن ننظر إلى تاريخ العلاقات الدولية في الشرق الأدنى القديم في هذا الإطار. فحتى بداية الألف الثانية قبل الميلاد، كان المصريون قانعين إلى حدٍّ كبير بحكم الأراضي الواقعة شمالي أول شلالات النيل، في حين كان حكام دول بلاد الرافدين يحكمون الشعوب الموجودة في منطقة دجلة والفرات. هذا لا يعني أن كلتا القوتين لم تمارس أي سلطان خارج حدودها، فحكام بلاد الرافدين هيمنوا على العيلاميين (3000 ـ 1700 ق.م). كما أن مصر في الدولة القديمة، من الأسرة الثالثة إلى الخامسة (2895 ـ 2510 ق.م)، وفي أيام الدولة الوسطى، أثناء حكم الأسرة الثانية عشرة (2040 ـ 1786 ق.م)، غزت النوبة وضمتها، كما كانت تقوم بالتعدين في شبه جزيرة سيناء، وكانت ذات نفوذ واضح في فينيقيا وشمالي سوريا وفلسطين.

وبعد عام 1500 ق.م، أخذ نفوذ القوتين العظميين ينحسر، الأمر الذي أدَّى إلى ظهور شعوب وأقوام عديدة لكلٍّ دولته ومناطق نفوذه ومراكز السلطة والحضارة الخاصة به، فأخذت تتنافس مع حضارات الأنهار. وهذه الشعوب والأقوام هي: الحوريون والكاشيون والشعوب السامية المختلفة والحيثيون.

وبعد ذلك التاريخ، تصبح الإمبراطوريات العظمى الشكل الأساسي للحكم في الشرق الأوسط. وقد ظهرت هذه الإمبراطوريات بسبب التطورات التقنية المهمة في أدوات الحرب والتخطيط العسكري، وبسبب تزايد السكان وتراكم الخبرات في عمليات الإدارة. وقد ظهر في ذلك الوقت نوع من أنواع العالمية الثقافية يتجلى في اختراع حروف الكتابة وانتشار لغات دولية مثل: الآرامية والأكادية. وظهرت العالمية أيضاً في المعتقدات الدينية سواء في عبادة آتون في مصر أو عبادة آشور في بلاد الرافدين أو يهوه عند العبرانيين، وكذلك عبادة زرادشت التوحيدية في فارس. وقد استمرت أولى مراحل الإمبراطوريات الدولية من 1500 إلى 1200 ق.م وهي الفترة التي نشب الصراع فيها بين المصريين والحيثيين على فلسطين والشام.

أما المرحلة الثانية، فهي مرحلة ظهور الأمم الصغيرة بسبب تَحطُّم قوة الحيثيين وضعف آشور المؤقت وتقوقع مصر، وهو ما أتاح الفرصة لبعض الشعوب الصغيرة للتحرك وإنشاء دويلات. فظهر الفلستيون على ساحل كنعان، وتسلل العبرانيون وأسسوا دولتهم في المنطقة الداخلية، وأسس الفينيقيون دويلاتهم في لبنان، واستقر الآراميون في سوريا.

أما المرحلة الثالثة، فتبدأ نحو عام 1100 ق.م، وتشهد ظهور القوة الآشورية، وخصوصاً في الفترة الآشورية الجديدة أو الثالثة، وعودة الدولة المصرية لتضطلع بدور إمبراطوري مرة أخرى، ثم أخيراً ظهور الدولة الفارسية التي استمرت حتى وصول الإسكندر الذي بسط نفوذه على معظم الشرق الأدنى القديم وتبعه السلوقيون فالبطالمة ثم الرومان.

ووجد العبرانيون أنفسهم وسط هذه التشكيلات السياسية والحضارية العظمى والإمبراطوريات الضخمة، وحاولوا أن يتكيفوا مع هذا الوضع إما عن طريق خلق إمبراطورية صغيرة (كما هو الحال مع داود وسليمان) تملأ الفراغ المؤقت الذي خلقه انكماش الإمبراطوريات العظمى في مرحلة مؤقتة، أو عن طريق التحالف مع بعض الدويلات الصغيرة (مثل الدويلات الآرامية في الشام) لمنع تَدخُّل القوى العظمى، أو عن طريق الاعتماد على إحدى القوى العظمى كما هو الحال مع المملكتين العبرانيتين الجنوبية والشمالية.

وقد ظهرت مملكة داود (1004 ـ 965 ق.م) في مرحلة ضَعُفت فيها مصر بسبب النزاعات الخارجية، وكان الحيثيون مشغولين بصد شـعوب البحر، ولم تكن بابل قد صارت بعد قوة عظمى، وكانت آشور على عتبـات عظمـتها الإمبراطورية، فاستفاد داود من هذا الفراغ المؤقت. واستمر هذا الوضع حتى نهاية حكم سليمان. ومن القرن الثامن قبل الميلاد حتى القرن السادس قبل الميلاد، لعبت آشور ثم بابل دوراً حاسماً في الشمال، ولعبت مصر دوراً مماثلاً في الجنوب. كما لعب الآراميون، كقوة عظمى محلية صغيرة، دوراً كبيراً في تحديد السياسات والتحالفات. وقد تحدَّد مصير المملكتين من خلال صراع كل هذه القوى العظمى، وهو الصراع الذي انعكس في صراع بين عدة أحزاب في المملكتين الشمالية والجنوبية، فكان ثمة حزب مصري وآخر آشوري وثالث يطالب بالتحالف مع الدويلات الآرامية. وبعد عدة محاولات، سقطت المملكة الشمالية (721 ق.م) وبعدها المملكة الجنوبية (567 ق.م)، وتبع ذلك تهجير إلى آشور وانصهار في سكانها ثم تهجير إلى بابل أعقبته عودة بعد أن أصدر قورش الأخميني إمبراطور الفرس مرسوماً يسمح لهم بها (538 ق.م).

وسيطرت الإمبراطورية الفارسية على الشرق الأدنى القديم، وعادت جماعات من العبرانيين اليهود إلى فلسطين تحت الحكم الفارسي الذي أعقبه الحكم اليوناني (333 ق.م). وقد تمتَّع اليهود بشيء من الاستقرار تحت حكم الدولة العظمى التي وفرت عليهم عناء الاختيار وأعفتهم من مسئولية القرار السياسي، بل تحولت طبقة كبار الكهنة والأثرياء إلى جماعة وظيفية.

وانتهت هذه الفترة بانقسام إمبراطورية الإسكندر إلى عدة إمبراطوريات صغيرة أهمها البطلمية في مصر والسلوقية في سوريا اللتان تنازعتا فيما بينهما فلسطين. وكان هناك حزب بطلمي وآخر سلوقي بين اليهود. هذا إلى جانب الانقسام الأعمق بين النخبة اليهودية ذات الطابع الهيليني والجماهير اليهودية ذات الطابع السامي، وهو الانقسام الذي انعكس في التمرد الحشموني والتمردات اليهودية الأخرى ضد الرومان. وقد استفاد المتمردون الحشمونيون من الصراع بين البطالمة والسلوقيين، كما استفادوا من ظهور قوة عظمى محلية أخرى هي الأنباط فتحالفوا معهم في بداية الأمر.

ورغم أن التمرد الحشموني قد حقق شيئاً من النجاح، وخصوصاً عام 161 ق.م، ضد الدولة السلوقية التي كانت قد بدأت تشعر بهجوم القوة الرومانية الصاعدة، فإن الحشمونيين كانوا يعرفون قوانين اللعبة كما كانوا يعرفون أنهم قوة صغيرة لا يمكنها أن تحقق الاستقلال لنفسها، ولذا أرسل يهودا المكابي مبعوثاً للدولة الرومانية ليعقد حلفاً مع القوة الجديدة. وقد قبل الرومان، إذ كانوا يعقدون تحالفات مع أعداء جيرانهم إلى أن يتم لهم التخلص منهم ثم يفرضون بعد ذلك هيمنتهم على الجمـيع. ولم يكن المجتمـع اليهـودي في فلسـطين اسـتثناءً من هذه القاعدة، فلقد كانت المعاهدة بين روما والدولة الحشمونية، شأنها شأن المعاهدات مع الدويلات المماثلة، تشبه معاهدات التحالف وعدم الاعتداء بين الولايات المتحدة وجرينادا أو حتى التحالف بين الولايات المتحدة وإسرائيل. وقد استمر التحالف قائماً بين الرومان والحشمونيين، وخصوصاً أن مجلس الشيوخ الروماني كان مهتماً بالحد من طموحات السلوقيين التوسعية. وقد قوى الحشمونيون علاقتهم مع الفرثيين (حكام الفرس)، ومع البطالمة في مصر، حتى أصبحت يهودا قوة عسكرية لا بأس بها في القرن الأول قبل الميلاد.

ولكن القوة الرومانية الصاعدة كانت آخذة في الاقتراب، كما أن الخلافات الداخلية كانت تعتمل داخل الدولة الحشمونية. ولذا، فقد سقطت الدولة بسهولة في يد الرومان (65 ق.م) وتحولت إلى الدولة الهيرودية التابعة.
وقد تعاظمت قوة الحزب الشعبي بين اليهود أثناء حكم الأسرة الهيرودية، وكان أعضاء هذا الحزب لا يعرفون موازين القوى العظمى. ولذا، فقد تمردوا ضد الهيمنة الرومانية، فكانت النتيجة سلسلة الهزائم والانكسارات في ماسادا وغيرها، وهي الهزائم التي انتهت بهدم الهيكل ثم القدس نفسها وبتحريم اليهودية في فلسطين.

ولم يكن لمشكلة العبرانيين في التاريخ القديم حل، فكان لابد أن تنتهي بهذه الطريقة، أي بخروجهم من فلسطين. ففلسطين ممر بريّ يربط آسيا بأفريقيا ومصر ببلاد الرافدين، الأمر الذي جعلها عبر التاريخ ميدان قتال دائم. وكان لابد أن تصبح فلسطين جزءاً من تشكيل حضاري كبير يعطيها هوية محددة حتى يصبح العنصر السكاني فيها جزءاً من كل يشعر بالأمن والانتماء، وحتى تصبح جزءاً من تشكيل أكبر لا مجرد مَعبر من تشكيل إلى آخر، وهذا ما حققه في نهاية الأمر الفتح الإسلامي.

والمشروع الصهيوني يرمي إلى نقيض ذلك تماماً إذ يستهدف أن يحتفظ لفلسطين بطبيعة الممر (القاعدة) ولسكانها بطبيعة العنصر الغريب (الاستيطاني) وهو ما أسميناه «الحدودية». كما يريد أن تحتفظ الدولة الصهيونية ببقائها واستمرارها، عن طريق التحالف مع القوة الإمبراطورية العظمى، نظير أن تضطلع هي بدور الدولة الوظيفية والخفير الذي يسهر على حراسة مصالح القوة الراعية.

ورغم انتهاء مشكلة العبرانيين باختفائهم كعنصر بشري مستقل، فإن وضعهم داخل التشكيلات الحضارية الكبرى أدَّى إلى انتشارهم في أنحاء العالم فيما يُسمَّى «الدياسبورا اليهودية».وقد تحولت معظم هذه الجماعات إلى جماعة وظيفية تجارية ومالية. ولذا، فإن المسألة أو الإشكالية العبرانية أدَّت إلى ظهور المسألة اليهودية إذ أن المسألة اليهودية هي مسألة الجماعات اليهودية (في شرق أوربا على وجه الخصوص) كجماعـات وظيفـية لم يَعُـد لها دور تلعبه أو وظيفة تضطلع بها. وهذه القضية هي التي أدَّت بدورها إلى المسألة الإسرائيلية، أي مشكلة المستوطنين الصهاينة الذين أرسلهم الاستعمار الغربي ليحل المسألة اليهودية التي تفاقمت عنده، وليحولهم إلى جماعة قتالية تدافع عن مصالحه. ومن ثم، يمكننا أن نقول إنه قد لا توجد علاقة سببية بين المسألة العبرانية والمسألتين اليهودية والإسرائيلية رغم أن هناك علاقة ترابط، إذ أن المسألة العبرانية هي التي خلقت قابلية لدى اليهود لأن يتحولوا إلى جماعات وظيفية تجارية ثم إلى جماعة وظيفية استيطانية قتالية كما حدث في فلسطين في نهاية الأمر.



hgdi,] ,hgdi,]dm ,hgwihdkm ,hgwid,kdm hg[.x hgjhsu