ثانياً: من نهاية القرن الحادي عشر الميلادي حتى بداية عصر النهضة فيالغرب:

تتسم هذه الفترة من العصور الوسطى بتدهور أحوال اليهود. ويمكناعتبار حروب الفرنجة التي تُعرَف اصطلاحاً باسم «الحروب الصليبية» نقطةً حاسمة فيتواريخ أعضاء الجماعات اليهودية، لا لأنها قامت بالهجوم عليهم ولكن لأنها تزامنت معتحوُّل اقتصادي عميق في المجتمعات الغربية. وقد كانت هذه الحروب تعبيراً عن التحولالمتمثل في ظهور القوى الاقتصادية المسيحية، مثل اللومبارد في إيطاليا والكوهارسينفي جنوب فرنسا وفرسان الهيكل في فرنسا وغيرها من مناطق أوربا، والمتمثل أيضاً فيظهور جماعات رجال المال المحليين. لقد حلت هذه القوى الجديدة محل اليهود في التجارةالدولية أو في تجارة الجملة، وفي مجالات ونشاطات اقتصادية أخرى مثل إقراض المبالغالكبيرة، الأمر الذي دفع اليهود إلى العمل في الربا والتجارة الصغيرة البدائية.واستمر هذا التيار في التَزايُد، وتبلور في القرن الثالث عشر الميلادي، واستمر حتىالقرن الخامس عشر الميلادي، حتى أصبحت كلمة «يهودي» تعني «مرابي». وشهد هذا القرنأيضاً ظهور الملكيات القومية القوية التي بدأت تستقل بنفوذها عن الكنيسة وأصبحت لهامشروعاتها السياسية والاقتصادية المستقلة. وأدَّى هذا الوضع إلى ازدياد احتياج بعضهذه الدول إلى أعضاء الجماعة اليهودية لفترة من الزمن ثم إلى استغنائها عنهم فيمرحلة لاحقة. وساهمت حركات الهرطقة في جنوب فرنسا، من القرن الحادي عشر حتى القرنالرابع عشر الميلادي، في تدهور وضع أعضاء الجماعات اليهودية حين اضطرت الكنيسة إلىاتخاذ موقف متشدد ونشطت محاكم التفتيش.

ويُعَدُّ يهود إنجلترا مثلاًجيداً على صعود اليهود وتدهور حالهم ثم طردهم وتَحوُّلهم من التجارة إلى الربا ومناعتماد الطبقة الحاكمة عليهم إلى استغنائها عنهم. فهم لم يتأثروا كثيراً بحروبالفرنجة وإن شنت بعض الهجمات عليهم، ولكنهم تأثروا بظهور القوى المالية غيراليهودية، مثل اللومبارد والكوهارسين، الأمر الذي أدَّى إلى إفقارهم. وقد أصدرإدوارد الأول عام 1274 أمراً بمنع اليهود من الاشتغال بالأعمال المالية، وفتح لهمأبواب الزراعة والحرف والتجارة، ولكنه لم يُوفَّق في مساعيه فطردهم عام 1290.والظاهرة نفسها يمكن ملاحظتها بين يهود فرنسا الذين طُردوا من التجارة، حتى بلغتدهورهم حداً كبيراً تحت حكم لويس التاسع (1226 ـ 1270) ثم تم طردهم عام 1306.

ويتسم وضع يهود إسبانيا في تلك المرحلة بأنه أكثر تركيباً بسبب وضع إسبانياالخاص. فبعد فترة ازدهرت فيها التجارة اليهودية، أقيمت محاكم التفتيش عام 1478،وانتهى الأمر بطرد اليهود من إسبانيا عام 1492 بقرار من فرديناند وإيزابيلا، كما تمطردهم من البرتغال عام 1497. وبلغ عدد اليهود الذين طُردوا نحو مائة وخمسين ألفيهودي، لجأت أعداد كبيرة منهم إلى العالم الإسلامي في شمال أفريقيا والدولةالعثمانية، وهاجر بعضهم إلى فرنسا وهولندا. أما يهود ألمانيا، فكان من الصعب طردهممن بلادهم بصورة كاملة، لأن ألمانيا كانت مقسَّمة إلى عدة إمارات صغيرة ولم تكن بهادولة مركزية قوية. وقد ضمن هذا الوضع استمرارهم إذ كانوا حينما يُطرَدون من إمارةيلجأون إلى أخرى كما كان الحال في إيطاليا، وعلى عكس ما حدث في فرنسا وإنجلتراوإسبانيا حيث كانت توجد سلطة مركزية قوية نسبياً.

ومع ذلك، يمكننا أن نقولإن معظم المدن الألمانية طردت اليهود في نهاية الأمر. ومع القرن السادس عشرالميلادي، لم تكن هناك جماعات يهودية إلا في ورمز وفرانكفورت، وكانت تُوجَد جيوبيهودية صغيرة متناثرة داخل الإمارات المختلفة. ونتيجة حروب الفرنجة، ولأسباب أخرىأيضاً، بدأ التجار اليهود بدعوة من الملوك البولنديين يسـتوطنون بولندا في القرنالثالث عشـر الميلادي، وذلك لتشـجيع التجارة. وقد كانت هناك عوامل تؤدي إلى تَناقُصعدد أعضاء الجماعات اليهودية من بينها عمليات الطرد، ولكن أهم هذه العوامل كانالاندماج والتنصر الطوعي، كما يقرر إسحق أبرابانيل (الكاتب الأسباني اليهودي فيالعصر الوسيط). ولكن، ورغم هذه العوامل، فقد زاد عدد يهود أوربا الكلي بين القرنينالثاني عشر والثالث عشر الميلاديين بسـبب الارتفاع النسـبي لمسـتواهم المعيـشي أوبسـبب هجرة يهود الخزر، حسب نظرية آرثر كوستلر، أو لمركب من هذه الأسباب جميعاً.ومع حلول القرن الثالث عشر الميلادي، كانت أغلبية يهود العالم تعيش في أوربا. وقدتعرَّض كثير من الجماعات اليهودية في غرب أوربا للهجمات الشعبية أثناء وباء الطاعونأو الموت الأسود إذ أُلقي باللوم على اليهود ووُجِّهت إليهم تهمة نشر الوباء. وقامتالكنيسة ومعها الملوك بمحاولة حماية أعضاء الجماعات اليهودية من غضب الثوراتالشعبية.

وكان التركيب الاجتماعي لأعضاء الجماعات اليهودية في أوائل العصورالوسطى الغربية هرمياً. وقد شغل أعضاء سبع أسر من مينز وورمز كل المناصب المهمة فيفرنسا وألمانيا، فكان منهم قادة الجماعة اليهودية ورؤساء المدارس التلمودية ومعلموالتوراة. وظل الانتماء الأسري لليهودي أمراً مهماً جداً في تحديد مكانته الاجتماعيةداخل الجماعة اليهودية، تماماً كما كان الأمر بالنسبة إلى المسيحي في المجتمعالإقطاعي الغربي، وظل هذا الوضع حتى القرن الثاني عشر الميلادي. ولكن، مع حلولالقرن الثالث عشر الميلادي، زاد نفوذ أثرياء اليهود، وأصبح بالإمكان إحراز المكانةمن خلال الثروة خارج نطاق الوراثة. وتمتع أعضاء الجماعات في الغرب حتى القرن التاسععشر الميلادي، شأنهم شأن الفئات والطوائف الأخرى، بما نسميه «الإدارة الذاتية»،وذلك في الشئون الخاصة بهم كطائفة دينية، أي فيما يتعلق بالمحاكم والمدارس وشئونالزواج والدفن. وقد قوَّى هذا هيمنة النخبة اليهودية على أعضاء الجماعة الذين كانوايشكلون حلقة الوصل بين أعضاء الجماعة والسلطة الحاكمة في عملية جمع الضرائب وغيرهامن الأمور.

ومع حلول القرن الثالث عشر الميلادي، أصبح أعضاء الجماعاتاليهودية في المجتمعات الغربية الوسيطة جماعة وظيفية وسيطة تشكل جسماً غريباً بمعنىالكلمة وتعيش على هامش المجتمع أو في مسامه، تؤمن بدين معاد للديانة الرسمية بل تقفمنها موقف النقيض، فاليهود قتلة المسيح وفق التصور المسيحي وهم يقرأون نفس الكتابالمقدَّس (العهد القديم) دون أن يعـوا مضمونه، وهم بحســب القول المسـيحي: " أغبياءيحملون كتباً ذكية "، كما أنهم يرجعون لكتاب ضخم من كتب التفسير يُسمَّى التلمودالذي هو موضع شك العالم المسيحي، ويرتدون أزياء خاصة بهم، ويتسمون بأسماء يهودية،ويتحدثون برطَانَات غريبة وأحياناً بلغة غير لغة أهل البلاد مثل الفرنسية فيإنجلترا والألمانية في بولندا، ويعملون في وظائف هامشية مثل التجارة والربا. وقدأخذت عزلتهم تتزايد حتى تبلورت تماماً داخل الجيتو خلال القرن الخامس عشر الميلادي.ويبدو أن استبعاد اليهود إلى هذا الحد هو الذي أدَّى في نهاية الأمر إلى ظهورالمسائل اليهودية المختلفة في غرب أوربا ووسطها وشرقها. ولم تكن مؤسسات يهود أورباالإدارية والتنظيمية في العصور الوسطى تمتلك بيروقراطية محترفة معترفاً بها من قبَلالدولة المركزية، ولم يكن هناك نظير لرأس الجالوت (المنفى) أو رئيس اليهود (نجيد)،فكان لكل قهال قوانينه الخاصة به (تاقانوت) التي يحدد فيها حقوقه وامتيازاته ويدافععنها ضد يهود المدن المجاورة. وكانت المحكمة التابعة لكل قهال مستقلة تباشر نفوذهامن خلال التهديد بالطرد من الجماعة (حيريم). وانقسام القهالات على هذا النحو كانتعبيراً عن اللامركزية التي كانت تسم النظام الإقطاعي في أوربا (ويختلف وضعالجماعات اليهودية في العصور الوسطى في الغرب في كـثير من الوجـوه عنه في العـالمالإســلامي في الفترة نفسها. ففي العالم الإسلامي، اندمج اليهودي في مجتمعه علىالمستوى الوظيفي والاقتصادي والحضاري. كما أنه، باعتباره عضواً في جماعة دينية، لميكن فريداً بل كان ضمن أقليات دينية أخرى).

ومن الصعب تحديد عدد اليهودفي كل من أوربا والعالم في ذلك الوقـت. ويبدو أن من العسـير أيضاً الوصـول إلىتقـديرات تقريبية. ولذا، فإن الأرقام أقرب إلى التخمينات التي تستند إلى كم هائل منالوثائق المتضاربة، بل إن الأرقام الخاصة بالعصور الوسطى قد تكون أقل دقة من تلكالخاصة بالعالم القديم حيث كان يُوجَد جهاز إداري تابع للإمبراطورية (الرومانية علىسبيل المثال) التي كانت تقوم بحصر سكانها وفرض الضرائب عليهم. ويبدو أن عدد يهودالعالم كان يبلغ في القرن الثاني عشر الميلادي مليوناً معظمهم في العالم الإسلامي.ولكن، مع القرن الثالث عشر الميلادي، بدأ عددهم يزداد تدريجياً ليصل إلى مليون ونصفمليون، منهم عدد كبير في أوربا. وفيما يلي بيان تقريبي بعدد يهود أوربا خلال الفترةمن عام 1300 إلى عام 1490:

الدولــــة / عام 1300 عدد اليهود /عددالسكان / عام 1490 عدد اليهود / عدد السكان

فرنسا /100.000 / 14مليوناً / 20.000 / 20 مليوناً

الإمبراطورية الرومانية المقدسة
وضمنذلك سويسرا وهولندا / 100.000 / 12 مليوناً / 80.000 / 12 مليوناً

إيطاليا / 50.000 / 11 مليوناً / 120.000 / 12 مليوناً

إسبانيا / 150.000 / 5.5مليون / 250.000 / 7 ملايين

البرتغال / 40.000 / 600 ألف / 80.000 / مليونواحد

بولندا / 5.000 / 500 ألف / 30.000 / مليون واحد

المجر / 5.000 / 400 ألف / 20.000 / 800 ألف

المجموع / 450.000 / 44 مليوناً / 60.000 / 53مليوناً

ولم يكن حجم أية جماعة يهودية في أية مدينة يزيد على ألفين.وكانت الجماعة المكونة من عدة مئات تُعتبَر مهمة وكبيرة. ويُلاحَظ أيضاً خلوإنجلترا من اليهود بعد أن كان قد تم طردهم. أما يهود فرنسا، فكانوا يوجدون أساساًفي الإمارات البابوية. ويُلاحَظ أن أغلبية يهود العالم كانت لا تزال في العالمالعربي الإسلامي، وأن الجماعات اليهودية كانت لا تزال متركزة في حوض البحر الأبيضالمتوسط.