لمحة سريعة عن صحة الحديث، والانتقادات التي وجهت إلى سنده:

هذا الحديث صحيح سنداً ومتناً من الناحية الحديثية على شرط مسلم -من وجهة نظري- وقد رواه مسلم في "صحيحه" كما أشرنا في تخريجه، وكفى بهذا بياناً لصحته.

- فرواة هذا الحديث ثقات أثبات، وثقات، ولا مطعن فيهم؛ غير أن أيوب بن خالد؛ قد لينه الحافظ الأزدي، وتابعه ابن حجر في "التقريب" (610)، والحق أن طعنهما فيه ليس له مستند! بل هو تعجل في نظري!

أما الأزدي؛ فإنه لم يأت بسبب مقنع لطعنه في أيوب بن خالد، وقد قال -كما في "التهذيب" (1/351)-: أيوب بن خالد ليس حديثه بذاك، تكلم فيه أهل العلم بالحديث، وكان يحيى بن سعيد ونظراؤه لا يكتبون حديثه" اهـ.

ونحن نرد على هذا الكلام: بأن أيوب بن خالد لم يطعن فيه أحد، ولم يأت الأزدي بمطعن واحد فيه، ولم ينقل عن غيره كلاماً يشفي ويروي يدل على ذلك! فهو لم يذكر لنا من هم أهل العلم بالحديث الذين تكلموا فيه!

أما قوله: إن يحيى بن سعيد ونظراءه لم يكونوا يكتبون حديثه؛ فإن هذا ليس طعناً صريحاً منهم؛ حتى يتكلموا أو يعملوا ما يدل على طعنهم فيه؛ كأن يقولوا "لا يكتب حديثه"، أو حتى: "يكتب حديثه"، أو غيرها من الألفاظ الصريحة، الدالة على غمز أو طعن في الراوي؛ كما هو المعلوم والمعروف في هذا العلم الشريف، وإذ لم يحدث ذلك ولم ينقل عنهم فإنني أحسب أن هذا الكلام فيه تعجل وتقويل لهم ما لم يقولوا! فهو يعبر عن اجتهاد في الفهم لا أكثر! وما أسهل أن نقابل هذا الكلام بكلام موثق يراه كل الناس؛ فنقول: إن يحيى بن معين ونظراءه كانوا يكتبون حديثه! فها هو يحيى بن معين وأحمد بن حنبل وأضرابهما قد كتبوا حديثه، بل رووه واستشهدوا به؛ كما نرى، ولم يتكلموا فيه بشيء! فلماذا نقدم عدم كتابة ابن سعيد لحديث أيوب على كتابة ابن معين له؟! وعلى أي أساس؟!
وعلى هذا؛ فإن هذه الشبهة –في نظري- لا تقوى على القيام بنفسها.

ومن العجيب أن الحافظ –رحمه الله- قد تابع الأزدي في تليين أيوب هذا –كما ذكرنا- مع أن الحافظ نفسه قد رفض تضعيف الأزدي للثقات، وقد قال في "هدي الساري"ص386: "ولا عبرة بقول الأزدي لأنه ضعيف فكيف يعتمد في تضعيف الثقات"اهـ كلامه بنصه!

وقد رأيت الحافظ يذكر أيوب بن خالد ويترجمه في تعجيل المنفعة (78) ولم يشر إلى هذا التليين من قريب أو من بعيد؛ مما يؤكد لي أنها متابعة متعجلة منه للأزدي!

ويكفي أن أحداً لم يطعن طعناً صحيحاً صريحاً في أيوب، ويكفي أن مسلماً روى له في الأصول، وقد وثقه ابن حبان (4/52)، كما أن تصحيح من صححوا الحديث من العلماء يتضمن توثيقهم له، وهذا كاف –إن شاء الله- في بيان توثيقه.

- كما أن إسناد الحديث متصل؛ كما يتبين للباحث فيه من خلال طرقه المذكورة، وقد اتفق الرواة على سياقه المذكور، غير أن الإمام ابن المديني قال: "وما أرى إسماعيل بن أمية أخذ هذا إلا من إبراهيم بن أبي يحيى"اهـ (الصفات للبيهقي ص487) وإبراهيم بن أبي يحيى هذا متروك! وهو الذي حدث ابنَ المديني بهذا الحديث عن أيوب.

ومع كل الاحترام والتقدير لابن المديني –رحمه الله- فإننا نقول: إن هذا رأي مجرد رآه وليس عليه دليل أو برهان، ولم يقل لنا ما الأساس الذي اعتمد عليه في دعواه هذه، ولذلك فإنه لا يجوز الأخذ بها؛ فقد نهانا الله تعالى عن قفو ما لا علم لنا به.

ويكفي أن أحداً من العلماء والأئمة والحفاظ لم يقل بهذا القول، بل هو مما تفرد به ابن المديني، وقد مر معنا رواية ابن معين وغيره له، ولم نر أحداً منهم طعن فيه بذلك.

ثم إن إسماعيل بن أمية ثقة ثبت؛ كما ذكر الحافظ في "التقريب" (425)، وقد روى له الستة، وليس هو بمدلس.

وقد توبع إسماعيل بن أمية على روايته؛ كما بين الحافظ البيهقي في "الأسماء والصفات" ص487 على ضعف في هذه المتابعات، والله أعلم.

- بقيت شبهة تتعلق بالسند، وهي أخطر الشبهات التي وجهت إلى الحديث في نظري بسبب تعلق الكثيرين بها، وهي دعوى أن أبا هريرة -رضي الله عنه- روى الحديث عن كعب الأحبار وليس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم! ويعلم الله أنني بحثت حتى أجهدني البحث عن مستند لهذه الشبهة، فلم أجد دليلاً عليها أو برهاناً، بل وجدت كل من زعم هذا الزعم إنما يشير إلى رواية ذكرها البخاري في "التاريخ الكبير" (1/413-414) حيث ذكر البخاري طرفاً من الحديث معلقاً -كما ذكرنا في تخريجه- ثم قال: "وقال بعضهم عن أبي هريرة عن كعب، وهو أصح"اهـ. هذا نص ما قاله البخاري؛ لم أزد حرفاً ولم أنقص حرفاً! وقد والله تعجبت من تتابع الطاعنين في هذا الحديث على الأخذ بهذه الرواية التي لا قيمة لها من الناحية العلمية؛ دون أن يكلف أحد منهم نفسه أن يبحث فيها أو يعرف مصدرها! وكلهم إنما جعلوا العهدة فيها على البخاري! واكتفوا بذلك.
وكما يرى كل منصف فإن هذه الرواية معلقة؛ حيث قال البخاري: "وقال بعضهم"، ولم يقل: حدثني أو أخبرني.. الخ

ثم إن هذه الرواية المعلقة جاءت عن مجاهيل لا يدرى ما هم، ولا يعرف شيء عن حالهم؛ وإلا فمن (بعضهم) هؤلاء! وكيف فات ذلك كل من شككوا في الحديث بناء على قول (بعضهم)! هؤلاء.

ثم ما هو دليل هؤلاء الـ(بعضهم)! على زعمهم أن أبا هريرة أخذ الحديث عن كعب؟! إنهم لم يذكروا لنا مصدرهم، ولم يذكروا لنا إسناداً أو أي دليل يوصلنا إلى صحة زعمهم هذا! وعلى هذا فإن شبهتهم هذه لا قيمة لها في سوق العلم والحقائق. ولا يجوز لكل منصف أن يعتمد على مثل هكذا رواية للطعن في حديث رواه مسلم في "صحيحه" على شرطه، وإلا فكيف –بالله!- يطعن في حديث رواه الثقات الأثبات الأمناء برواية هؤلاء المجاهيل المجاهيل المجاهيل! الذين لا نعرف عنهم شيئاً ولو يسيراً نعذر به من يأخذون بهذه الشبهة التي طارت في الآفاق؛ حتى إنك لا تسأل من يطعن في الحديث عن سبب للطعن فيه حتى يبادرك بهذه الشبهة، وكأنها الفصل، وقد تبين لك حالها!

وإنني ادعو كل مسلم منصف يتقي الله تعالى أن يكف عن ذكر هذه الشبهة التي لا تقوم بنفسها فضلاً عن أن تطعن في حديث رواه مسلم في "صحيحه" على شرطه.

- والخلاصة أن سند هذا الحديث صحيح ولا مطعن فيه، وأنبه إلى أن جمهور من طعنوا في متن هذا الحديث قد صححوا إسناده، ومنهم من صرح بأنه على شرط مسلم؛ كما قال شعيب الأرناؤوط في تحقيق "صحيح ابن حبان" تعليقاً على هذا الحديث.

- أما متن الحديث؛ فلم يطعن فيه أحد من العلماء أو الحفاظ من الناحية الحديثية كالشذوذ أو الاضطراب أو غيرها، وجميع الشبهات التي وجهت إلى متن الحديث إنما هي كلامية وليست حديثية، وسوف نتحدث عنها بعد قليل إن شاء الله تعالى.

والخلاصة أن الحديث صحيح من الناحية الحديثية سنداً ومتناً؛ فقد اتصل برواية الثقات عن بعضهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، من غير شذوذ أو علة قادحة.
هذا وقد صرح بصحة الحديث عدد من الحفاظ السابقين واللاحقين، ومنهم الحافظان ابن الأنباري وابن الجوزي -كما نقل ذلك عنهما شيخ الإسلام ابن تيمية في "الفتاوى" (18/18)-، وقد ذكره النووي وشرحه في شرحه لـ"صحيح مسلم" (8/127) ولم يعله بشيء، وقد ضمنه كتابه رياض الصالحين، ومن المعلوم أنه قد اشترط الصحة في الأحاديث التي يذكرها فيه؛ كما بين في مقدمته له.

وممن صحح الحديث من المعاصرين العلامة عبد الرحمن المعلمي اليماني، والألباني في "الصحيحة" (1833)، كما حسن الألباني إسناد النسائي للحديث في "مختصر العلو" للذهبي ص112
هذا عدا عن الحفاظ الذين ذكروه، واستشهدوا به في كتبهم، ولم يتكلموا فيه بشيء؛ كالذهبي –رحمه الله- وغيره.
وقد قال الألباني -رحمه الله-: في الصحيحة (4/450): "ويكفي في صحة الحديث أن ابن معين رواه ولم يعله بشيء"اهـ.