السؤال الثالث:
- ما ضابط تقصير الصلاة في السفر، وهل له زمن محدد أم لا ؟
الجواب :
إنْ كان المقصود من الضّابط هو ضابط المسافة، فإنّ العلماء قد اختلفوا في ذلك اختلافا كبيرا، والصّحيح منها قول من لم يحدّد ذلك بمسافة، وأرجع ذلك إلى العُرف، وهو قول جمع من المحقّقين كابن حزم، وابن قدامة، وابن تيمية، وابن القيم، وهذه أقوالهم :
قال ابن حزم كما في " المحلّى " (5/21): " لا حدّ لذلك أصلا، إلاّ ما سمّي سفرا في لغة العرب الّتي بها خاطبهم عليه السّلام، إذ لو كان لمقدار السّفر حدّ غير ما ذكرنا لما أغفل عليه السّلام بيانَه ألبتّة، ولا أغفلوا هم سؤالَه عليه السّلام عنه، ولا اتّفقوا على ترك نقل تحديده في ذلك إلينا ".
وقال ابن قدامة في المغني (3/109): " التقدير بابه التوقيف، فلا يجوز المصير إليه برأي مجرد، سيما وليس له أصل يُرد إليه، ولا نظير يقاس عليه، والحجّة مع من أباح القصر لكل مسافر، إلا أن ينعقد الإجماع على خلافه ".
وقال ابن تيمية (24/15): "ولكن لا بد أن يكون ذلك مما يُعَدّ في العرف سفراً، مثل أن يتزوّد له، ويبرز للصّحراء ".
و قال ابن القيّم في " زاد المعاد ": " ولم يحُدّ لأمّته مسافة محدودة للقصر والفطر، بل أطلق لهم ذلك في مطلق السفر والضّرب في الأرض، كما أطلق لهم التيمّم في كلّ سفر، وأمّا ما يُروى عنه من التحديد باليوم أو اليومين أو الثلاثة فلم يصحّ عنه منها شيء البتة والله أعلم ".


وأما تحديد الزّمن: فإنّ ذلك يختلف باختلاف حالات المسافر:
الحالة الأولى: أن يكون المسافر في الطريق، فاتفق العلماء على مشروعية القصر.
الحالة الثانية: أن يصل المسافر إلى البلد الذي يقصده، ولم يجمع على الإقامة إلاّ بمقدار قضاء حوائجه، فقد أجمع العلماء أيضا على مشروعية القصر، ونقل الإجماع ابن المنذر فقال : " أجمع أهل العلم أنه يشرع للمسافر القصر ما لم يجمع إقامة، وإن أتى عليه سنون "، وبه قال ابن مفلح في "المبدع" (2/115)، و ابن قدامة في " المغني " (2/292)، والشّيرازي في " شرح المهذّب "، وأبو الحسن المالكي في " كفاية الطّالب الربّاني " (1/ 462)، والكاساني في " بدائع الصّنائع " (1/97)، والأدلّة على ذلك:
1- عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ: (( أَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم بِتَبُوكَ عِشْرِينَ يَوْمًا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ )) رواه أَبُو دَاوُد.
2- عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنه كَانَ يَقُولُ: ( أُصَلِّي صَلَاةَ الْمُسَافِرِ مَا لَمْ أُجْمِعْ مُكْثًا وَإِنْ حَبَسَنِي ذَلِكَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً ) رواه مالك.
3- وروى البخاري عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ: ( أَقَامَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم بِمَكَّةَ تِسْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ ).
4- وروى مالك أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنه كَانَ يَقُولُ: ( أُصَلِّي صَلَاةَ الْمُسَافِرِ مَا لَمْ أُجْمِعْ مُكْثًا وَإِنْ حَبَسَنِي ذَلِكَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً ).
5- وعن أنس رضي الله عنه أنّه أقام سنتين بنيسابور يقصر الصّلاة. [رواه الطّبراني في "الكبير" كما في "مجمع الزّوائد"(2/158)].
6- وقال أبو مجلز: قلت لابن عمر رضي الله عنه: إنّي آتي المدينة فأقيم بها السّبعة أشهر والثّمانية طالبا حاجة ؟ فقال: صلّ ركعتين. [أخرجه عبد الرزّاق في "المصنّف" (4364)].
7- وقال أبو إسحاق السّبيعي: أقمنا بسجستان ومعنا رجال من أصحاب ابن مسعود رضي الله عنه سنتين نصلّي ركعتين. [ذكره ابن عبد البرّ في "التّمهيد"].
8- وروى البيهقيّ (3/152) " أنّ ابن عمر رضي الله عنه أقام بأذربيجان يصلّي ركعتين ركعتين، وكان الثّلج حال بينهم وبين القفول"، وكان يقول: " إذا أزمعت إقامة فأتم ّ". [صحّحها الحافظ في "الدّراية" (ص129)، والألباني في "الإرواء" (3/28)].
9- وعن نصر بن عمران قال: قلت لابن عبّاس رضي الله عنه: " إنّا نطيل المقام بالغزو بخراسان، فكيف ترى ؟ قال: ( صلّ ركعتين وإن أقمت عشر سنين ) [ذكرها ابن عبد البرّ أيضا].
قال ابن عبد البرّ رحمه الله في "التّمهيد"(11/184):
" محمل هذه الأحاديث عندنا على من لا نيّة له في الإقامة لواحد من هؤلاء المقيمين هذه المدد المتقاربة، وإنّما ذلك مثل أن يقول: أخرج اليوم، أخرج غدا، وإذا كان هكذا فلا عزيمة ههنا على الإقامة، قيل لأحمد بن حنبل: فإذا قال: أخرج اليوم، أخرج غدا يقصر ؟ قال: هذا شيء آخر، هذا لم يعزم".

الحاصل: ملخّص ما ذكرناه أنّ المسافر إذا كان في الطّريق أو دخل بلدة لا ينوي الإقامة بها لعذر أو مانع أو قضاء حاجة، فهذا يقصر باتّفاق.
الحالة الثالثة: أن يصل المسافر إلى البلد الذي يقصد، ويُجمِع ويعزم على الإقامة، فاختلف العلماء في ذلك، و الرّاجح في المسألة هو التّفصيل:
- فإن لم يعزم على الإقامة الّتي تخرجه عن حدّ السّفر ( ويُدرَك ذلك بالعرف)، فإنّه يقصر كما فعل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم والصحابة في الآثار السابقة.
- أما إن أجمع على الإقامة التي تخرجه عن حد السفر عرفا، بأن يتّخذ ذلك وطنا له مؤقّتا، فإنّه يُتِم لأنّه ليس مسافرا لا لغة ولا عرفا ولا شرعًا:
أمّا لغة: فإنّ النّاس صنفان: مقيم ومسافر، فإن لم يكن مسافرا لغةً فهو مقيم، وليس هناك وسط.
أما عرفا: فلا زال السلف يرحلون في طلب العلم، وينتقلون من بلد لآخر ويقيمون سنوات، و كانوا يتمون صلاتهم، بل بعضهم يصير إماما في تلك البلد مع عزمه على الرجوع إلى بلده.
أما شرعا: فلأنه لا يدخل في حكم ابن السبيل فلا يعطى من الزكاة، كما لا يحل له المسح ثلاثًا، ولا تسقط عنه الجمعة، ولا يحل له الفطر في رمضان وغير ذلك من الأحكام.