مختلف, تحية طيبة, وبعد:

لما كنتَ مؤمنا بالله ليس غير, كان لا بدَّ من الاتكاء على الدليل العقلي في نقاشنا؛ لأنك لو آمنت بالقرآن لما فتحنا هذا الموضوع, والقرآن ليس حجة عليك ما لم تهتد بعقلك إلى أنَّه كتابُ حقٍّ وصدقٍّ, وإثبات ذلك يكون في بحث صدق نبوة النبي الأكرم محمد عليه أفضل صلاة وأتم تسليم.
ولما كان ذلك كذلك, كان كلامي معك مبنيًا على العقل لا على النقل, ولا دخل كوني متدينا بما سطرته لك من حديث حول الغرائز؛ لأنه حديث عن الإنسان من حيث هو إنسان, فلا دخل لعقائده في تحديد الغرائز, ولا دخل لمعتقدك في تحديد الغرائز, ولا أقبل منك أن تبرز غريزة بناء على معتقدك, وأنت لا تقبل مني ذلك.
ثمَّة أمران: الغريزة, ومظهر الغريزة؛ غريزة التدين هي في الملحد؛ لأنه_ أولا وأخيرًا _إنسان, ولكنَّ مظهر غريزة التدين لديه ليس العبادة, بل هو تقديس المادة, ومن ثَمَّ العلم. فتأمَّل.
وعليه, من الخطأ قولك:"فرؤيتي الشخصية أن غريزة التدين التي ذكرتها أنت -مشكوراً- ماهي إلا سدّ لفراغ المجهول الموجود لدى اﻹنسان". والذي دفعك إلى هذا القول هو معتقدك, ولا دخل للمعتقد في تحديد الغريزة ومظهرها؛ لأنه بحث في الإنسان من حيث هو إنسان.
وقد قلت لك:" ألا فاعلم أن الإنسان لديه شعور طبيعي بالبقاء والخلود، فكل ما يهدد هذا البقاء يشعر تجاهه طبيعياً، شعوراً حسب نوع هذا التهديد، بالخوف أو الإقدام، بالبخل أو الكرم، بالفردية أو التجمع". فلو تأمَّلت هذا القول, لعلمت أنَّ ما جعلته أنت غريزة ليس بغريزة, بل هو شعور طبيعي يسمى مظهرا للغريزة. لا يوجد غريزة يطلق عليها (غريزة الخوف من المجهول)؛ لأن الخوف من المجهول نتج من شعور الإنسان الطبيعي بالبقاء والخلود؛ لأنه يرى أن المجهول والسير في هذه الحياة بالمجهول يقوده إلى المهالك ويهدد بقاءه؛ لذلك تراه يقدم على البحث والمعرفة والعلم, حبًّا للسير على هدى ونور واستقامة؛ لاتقاء المخاطر التي تهدد بقاءه. وعليه, الخوف من الظلمة والمجهول يندرج تحت (غريزة حب البقاء), وأي أمر تأتي به سيندرج تحت الغرائز الثلاثة: التدين والنوع والبقاء.

والآن ننتقل للأدلة العقلية في إثبات حاجة الناس للرسل.