الحمد لله حتى يرضى, وسلام على عباده الذين اصطفى, تحية طيبة, وبعد:

في معرض الحديث عن (إجماع الأمة), تطرقنا للحديث عن أحاديث الآحاد من حيث إفادتها للعلم, وصلاحيتها في إثبات الأصول: أصول الدين (العقائد), وأصول الفقه (الأدلة الشرعية). حينئذٍ, طلبت من أخي الحبيب, أبي حمزة السيوطي أن لا نناقش هذه المسألة هنا, بل في موضوع مستقل, وقد الآن الأوان, والله من وراء القصد.

الحديث هنا سيكون منفصلا إلى قسمين: قسمٍ نبحث من خلاله في إفادة أحاديث الآحاد للعلم, وقسمٍ نبحث من خلاله في حكم العمل في العقائد والأحكام, بناء على أحاديث الآحاد.

أولا_هل العلم يثبت بخبر الآحاد؟

لقد اختلف الأصوليون والمحدِّثون في هذا, وفق الآتي:

1. لا يفيد العلم مطلقًا: هو مذهب الإمام ابن عبد البر القرطبي، والنووي, والإمام العز بن عبد السلام، والإمام أبو السعادات ابن الأثير, والشيخ عبد الوهاب النجار, والشيخ محمود شلتوت, وكثير من المعتزلة وعلماء الكلام. يقول ابن الموقت الحنفي: «وَالْأَكْثَرُ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ مُطْلَقًا, أَيْ: سَوَاءٌ كَانَ بِقَرَائِنَ أَوْ لَا».

2. يفيد العلم مطلقا: هو مذهب الإمام الشافعي, والإمام أحمد, والإمام مالك, داود الظاهري, والحسين بن علي الكرابيسي, والحارث بن أسد المحاسبي، وابن حزم, والبزدوي, والعلامة صديق حسن خان, والعلامة أحمد شاكر, والدكتور صبحي الصالح, وأبو منصور البغدادي.

3. يفيد العلم إذا احتف بالقرائن: هو مذهب ابن تيمية, وابن كثير, والقاضي عبد الوهاب المالكي، والشيخ أبو حامد الإسفراييني، والقاضي أبو الطيب الطبري، والشيخ أبو إسحاق الشيرازي، وابن حامد, وأبو يعلى بن الفراء, وأبو الخطاب, وابن الزاغوني, وشمس الأئمة السَّرخسي, وأبو إسحاق الإسفراييني وابن فُوَرك, والإمام الصنعاني.

وحتى نقف على وجه الحق_ بإذن الله _نقول:

- إنَّ هذا البحث هو بحث عقلي, ودليله عقلي؛ فإفادة الخبر العلم (اليقين) هو منوط بالعقل, ودليله ليس نقليًّا, بل عقلي.
- إنَّ العمل بأخبار الآحاد بحث شرعي, ودليله سمعي؛ فوجوب العمل بأخبار الآحاد هو منوط بالشرع؛ لأنَّه متوقف على الحكم الشرعي: الحلال, والحرام.
- كونه يفيد العلم, يعني أنَّه مقطوع بصدقه؛ إذ لا يوجد احتمال يطعن بصدقه, وهو اليقين.
- هنا البحث متسلط على ثبوت الخبر (قطعي الثبوت), وليس على مدلوله (قطعي الدلالة).
- وعليه, فبحثنا في السند, وليس في المتن.

- الخبر الذي يفيد العلم هو المتواتر, وليس الآحاد؛ لأنَّ الخبر الذي نقطع بصدقه تلزمه شروط عقلية, وهي:

· لا يجوز أن يكون ناقلو الخبر بحاجة لتزكية؛ لأن الجمع المعتبر يجب أن لا يحتاج إلى تزكية حتى يكون قطعيا بمجرد الإخبار. وعليه, لا يكفي أربعة، لأن الأربعة يحتاجون إلى تزكية في حالة جهل حالهم إذا شهدوا بالزنا.

· أن تحيل العادة تواطؤهم على الكذب؛ وهذه تختلف باختلاف الأشخاص والأمكنة: فخمسة من مثل علي بن أبي طالب تكفي لاعتبار القطع، ومن غيره لا تكفي. وخمسة من بلدان مختلفة لم يجتمعوا قد تكفي لاعتبار القطع؛ إذ لم يجتمعوا في مكان حتى يتأتى تواطؤهم، وربما كان إخبار مثلهم في بلد واحد لا يكفي.

· أن يتحقق هذان الشرطان في كل طبقات الرواة.

· أن يكون مستند انتهائهم الحس من سماع وغيره، لا ما يثبت بالعقل الصرف؛ لأن العقل الصرف يمكن أن يخطئ إذا لم يكن مستنداً إلى الحس، فلا يفيد اليقين.

- والخبر الذي تحققت به الشروط سابقة الذكر هو الخبر المتواتر.
- وعليه, لا يفيد العلم إلا الخبر المتواتر, وخبر الآحاد لا يفيد العلم, بل يفيد الظن.
- لا يوجد دليل عقلي يدلُّ بشكل قاطع أنَّ القرينة تجعل خبر الآحاد مفيدًا للعلم, وهنا لي وقفة مع القرائن:

· ما أخرجه الشيخان يرى بعضهم أنه يفيد العلم لقرائن, منها:
v جلالتهما في هذا الشأن. التعليق: إنَّ جلالتهما لم تجعلهما معصومين, ثمَّ إنَّ جلالة الشيخين: أبي بكر وعمر أعظم من جلالتهما, وأجمع الصحابة أنهما ليسا معصومين من الخطأ, وجواز الخطأ ينفي العلم.
v تقدمهما في تمييز الصحيح على غيرهما. التعليق: هذا التقدم لم يمنع الحفاظ من أن ينتقدوا بعضًا مما جاء فيهما, وهذا التقدم يفيد بصحة الخبر, وليس بإفادة الخبر العلم.
v تلقي العلماء كتابيهما بالقبول. التعليق: هذا كله راجع للشيخين, وليس للأحاديث التي أخرجها الشيخان, وهذا ليس محل النزاع.

· المشهور إذا كانت له طرق متباينة سالمة من ضعف الرواة والعلل. التعليق: يبقى احتمال تواطئهم على الكذب قائما, ومع هذا الاحتمال ينتفي العلم.

· المسلسل بالأئمة الحفاظ المتقنين. التعليق: يبقى احتمال الكذب والخطأ واردًا؛ فلذلك ينتفي العلم مع هذا الاحتمال.

- وعليه, لم تقم الحجة في إفادة العلم إلا فيما كان متواترًا من الأخبار, وعلى هذا أكثر أهل العلم من الفقهاء والأصوليين.

ثانيا_حجية خبر الآحاد:

الإسلام يشمل نوعين من الأحكام: الأحكام العلمية (العقائد), والأحكام العملية (الفقه). والقاعدة في التمييز بينهما هي واقعهما؛ فما كان يتعلق بالإيمان هو عقيدة, نحو: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ﴾, (النساء: 136). وما كان يتعلق بعمل هو حكم شرعي, نحو: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾, (البقرة: 110).

§ حجية خبر الآحاد بالأحكام الشرعية:

لقد ثبت بالدليل الشرعي حجية خبر الآحاد في الأحكام الشرعية؛ فالحكم الشرعي تكفي فيه غلبة الظن, فلا يشترط اعتقاد أنَّ هذا الحكم حكم الله, بل يكفي أن يغلب على الظن ذلك, وهذا ما جاء به الشرع.

§ حجية خبر الآحاد بالأحكام العقدية:

لقد نهى الشارع عن اتباع الظنِّ في العقائد, وذمَّ ذلك. ولقد أجمع الصحابة على أنَّ العقائد لا تؤخذ إلا باليقين, وخير دليل على هذا اشتراطهم التواتر في الآية قبل إثباتها في القرآن, ولو كان الظن يصلح في العقائد, لما أجمع الصحابة على بطلان الآيات ظنية الثبوت.

وهنا يجب التفريق بين أمرين, وهما: التصديق, والاعتقاد. الاعتقاد هو التصديق الجازم, والتصديق وحده ليس اعتقادًا؛ لذلك: الذي نهى عنه الشارع هو الجزم في التصديق, وليس التصديق, أي أنَّ تصديق أحاديث العقيدة واجب, ولا يجوز تكذيبها.
وعليه, في الوقت الذي لا أعتقد به بحديث ما, فإنَّني أصدق ما جاء به, ولكن لا أجزم بتصديقي, وأدلة النهي عن الاعتقاد بالذم سوف أضعها وفق ما يتطلبه النقاش. ومن يملك دليلا يجيز الاعتقاد بالظن في العقائد, فليضعه.

hgNph]: Yth]jih ggugl< ,hgulg fih>