يقول السفير محمد ابراهيم كامل في مذكراته :



في بداية عام‏1964‏ صدرت حركة ترقيات في وزارة الخارجية وتضمنت ترقيتي إلي درجة وزير مفوض وكنت وقتها في السابعة والثلاثين من عمري وهي سن مبكرة بالنسبة لتولي تلك الدرجة في ذلك الوقت خاصة بالنسبة لدبلوماسي مدني مثلي‏..‏ فقد كان الصراع يحتدم في ذلك الوقت بين الدبلوماسيين المدنيين والعسكريين الذين بدأوا منذ قيام الثورة ينتقلون إلي وزارة الخارجية بأعداد متزايدة وكان الكثير منهم من الشبان ذوي الرتب الصغيرة في الجيش ولكنهم عند نقلهم إلي وزارة الخارجية كثيرا ماكانوا يتولون رتبا ودرجات أعلي من أقرانهم المدنيين باعتبار أن مرتباتهم كانت أعلي في الجيش وباعتبارهم محل ثقة قادة الثورة أو لإبعادهم عن الداخل‏.‏


ولم تكن هذه ظاهرة مقصورة علي وزارة الخارجية بل شملت غزو العسكريين مختلف الوزارات والمصالح وتعداها إلي الشركات والمؤسسات‏.‏
ونتيجة لذلك دخل اسمي في زمرة النقاش والجدل بين الدبلوماسيين العسكريين والمدنيين حيث كان العسكريون يضربون المثل بي كمدني وصل إلي درجة كبيرة في سن مبكرة وكنت لا أميز بين مدني أو عسكري إذ كان معياري هو الشخص نفسه مايتحلي به من وطنية وكفاءة وذكاء ودماثة خلق وكم كان هناك من العسكريين الممتازين وكم كان هناك من المدنيين غير الصالحين‏.‏

وبعد ذلك بعدة أشهر بدأت تروج الشائعات في الوزارة حول قرب صدور حركة تنقلات دبلوماسية لشغل مناصب أربعين سفيرا يحلون محل سفراء انتهت مدة عملهم في الخارج‏.‏ وكما شاهدت منذ التحقت بالعمل في وزارة الخارجية فإن الفترة السابقة علي صدور أي حركة التنقلات أو الترقيات تكاد تصيب الوزارة بالشلل حيث تكثر التكهنات ويزداد القلق والتوتر وربما يرتفع ضغط الدم لدي العديد من المتطلعين إلي النقل للخارج‏,‏ ولايقتصر الأمر عليهم فحسب بل تشتد المنافسة علي المناصب التي ستشغل حسب أهميتها ومميزاتها‏.‏ كما أن الفرق شاسع بين العمل في دولة متقدمة وأخري متخلفة وبين دولة قريبة وأخري بعيدة وبين دولة تتميز برخص المعيشة وبين دولة يشتد فيها الغلاء إلي غير ذلك من الاعتبارات وبالتالي فالفروق واضحة بين باريس ولندن ونيويورك وبين جيبوتي وكابول وبنوم بنه‏.‏ وكنت قد روضت نفسي عندما كنت أعمل في مجلس الدولة علي ألا أقحم نفسي من قريب أو بعيد في الجو الذي يسبق ويسود في انتظار صدور حركة الترقيات والتنقلات‏.‏ ولم يحدث طوال مدة خدمتي أن سعيت إلي التعيين في منصب معين سواء بالخارج أو الداخل أو رفضت تعييني في أي مكان‏,‏ بل لم أكن أعرف علي وجه التحديد ترتيبي إزاء الترقية إلي درجة أعلي أو ترتيبي في النقل إلي الخارج عن اقتناع بأن هذا لايقدم ولا يؤخر ولايجدي السعي والوساطة إلا أن يذل المرء نفسه ويفقد ماء وجهه ويحط من كرامته‏.‏

ومرت الأيام وبورصة حركة التنقلات في هبوط وصعود إلي أن استيقظت صباح يوم الجمعة علي رنين جرس التليفون في غرفة نومي‏.‏ وكان المتكلم زوج شقيقتي المرحوم فتحي البدراوي وكنت مستغرقا في نوم عميق بعد سهرة طويلة ليلة الإجازة‏..‏ قال لي أنه يأسف لإيقاظي من النوم ثم أردف لا أعرف يامحمد ماذا أقول لك هل أقول مبروك أم أواسيك؟ فقلت‏:‏ خيرا قال‏:‏ بقي يامحمد أنت رايح الكونجو ومعرفش إلا من الجرائد‏,‏ ولم استوعب ماقاله وقلت وأنا غير مصدق‏:‏ أنت صاحي بدري ومصلي الفجر ورايق وأنا لسه في سابع نومه فأجاب‏:‏ أنا أكلمك بمنتهي الجدية لقد عينت سفيرا في الكونجو ليوبولدفيل‏,‏ قلت‏:‏ هذا غير معقول فلم يفاتحني أحد في موضوع النقل من قريب أو بعيد فضلا عن إنه لم تمض غير فترة وجيزة منذ عودتي من الخارج‏,‏ قال‏:‏ إذن إقرأ جرائد الصباح‏.‏
وطار النوم من جفوني وفعلا وقعت عيني في الأهرام علي عنوان بالبنط العريض‏:‏ صدور حركة دبلوماسية تشمل أربعين سفيرا وسارعت إلي قراءتها فوقع نظري علي اسمي في الكونجو ليوبولدفيل وكان يليني في الترتيب السفير جمال منصور الذي عين سفيرا في بون وتشاء الظروف أن تسحب السفارة المصرية من ليوبولدفيل بعد أربعة أشهر من وصولي وأنت تقطع العلاقات الدبلوماسية بين القاهرة وبون بعد بضعة أشهر وأن تمضي السنوات‏,‏ فأعين سفيرا لمصر في بون ويعين جمال منصور سفيرا في الكونجو ليوبولدفيل بعد أن غير الجنرال موبوتو اسمها إلي كينشاسا وهو الاسم الأصلي لها قبل استعمار بلجيكا للكونجو‏.‏


تابعونا ...


إلى اللقاء ...