163 " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال , أو ثلاثة

فراسخ ( شك شعبة ) قصر الصلاة . ( و في رواية ) : صلى ركعتين " .



قال الألباني في "السلسلة الصحيحة" 1 / 257 :



أخرجه الإمام أحمد ( 3 / 129 ) و البيهقي 3 / 146 و السياق له عن محمد بن جعفر

حدثنا شعبة عن يحيي بن يزيد الهنائي قال :

" سألت أنس بن مالك عن قصر الصلاة , و كنت أخرج إلى الكوفة فأصلي ركعتين حتى

أرجع ? فقال # أنس # ..." فذكره .



قلت : و هذا سند جيد رجاله كلهم ثقات رجال الشيخين غير الهنائي فمن رجال مسلم

وحده , و قد روى عنه جماعة من الثقات , و قال ابن أبي حاتم ( 4 / 2 / 198 ) عن

أبيه : " هو شيخ " و ذكره ابن حبان في " الثقات " ( 1 / 257 ) و سمى جده مرة ,

و قال :

" و من قال : يزيد بن يحيى أو ابن أبي يحيى فقد وهم " .

و الحديث أخرجه مسلم ( 2 / 145 ) و أبو داود ( 1201 ) و ابن أبي شيبة

( 2 / 108 / 1 / 2 ) و عنه أبو يعلى في " مسنده " ( ق 99 / 2 ) من طرق عن محمد

بن جعفر به دون قول الهنائي : " و كنت أخرج إلى الكوفة ... حتى أرجع " . و هي

زيادة صحيحة و من أجلها أوردت الحديث . و كذلك أخرجه أبو عوانة ( 2 / 346 ) من

طريق أبي داود ( و هو الطيالسي ) قال : حدثنا شعبة به . و لم يروه الطيالسي في

" مسنده " .

( الفرسخ ) ثلاثة أميال , و الميل من الأرض منتهى مد البصر لأن البصر يميل عنه

على وجه الأرض حتى يفنى إدراكه , و بذلك جزم الجوهري , و قيل : حده أن ينظر إلى

الشخص في أرض مسطحة فلا يدري أهو رجل أو امرأة , و هو ذاهب أو آت , كما في

" الفتح " ( 2 / 467 ) و هو في تقدير بعض علماء العصر الحاضر يساوي 1680 مترا .



فقه الحديث

------------

يدل هذا الحديث على أن المسافر إذا سافر مسافة ثلاثة فراسخ ( و الفرسخ نحو ثمان

كيلو مترات ) جاز له القصر , و قد قال الخطابي في " معالم السنن " ( 2 / 49 ) :

" إن ثبت الحديث كانت الثلاثة الفراسخ حدا فيما يقصر إليه الصلاة , إلا أني لا

أعرف أحدا من الفقهاء يقول به " .

و في هذا الكلام نظر من وجوه :



الأول : أن الحديث ثابت كما تقدم , و حسبك أن مسلما أخرجه و لم يضعفه غيره .



الثاني : أنه لا يضر الحديث و لا يمنع العمل به عدم العلم بمن قال به من

الفقهاء , لأن عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود .



الثالث : أنه قد قال به راويه أنس بن مالك رضي الله عنه و أفتى به يحيى بن يزيد

الهنائي راويه عنه كما تقدم , بل ثبت عن بعض الصحابة القصر في أقل من هذه

المسافة , فروى ابن أبي شيبة ( 2 / 108 / 1 ) عن محمد بن زيد بن خليدة عن

ابن عمر قال :

" تقصر الصلاة في مسيرة ثلاثة أميال " .

و إسناده صحيح كما بينته في " إرواء الغليل " ( رقم 561 ) .

ثم روى من طريق أخرى عنه أنه قال :

" إني لأسافر الساعة من النهار و أقصر " .

و إسناده صحيح , و صححه الحافظ في " الفتح " ( 2 / 467 ) .

ثم روى عنه ( 2 / 111 / 1 ) عنه :

" أنه كان يقيم بمكة , فإذا خرج إلى منى قصر " .

و إسناده صحيح أيضا . و يؤيده أن أهل مكة لما خرجوا مع النبي صلى الله عليه

وسلم إلى منى في حجة الوداع قصروا أيضا كما هو معروف مشهور في كتب الحديث

و السيرة و بين مكة و منى فرسخ كما في " معجم البلدان " .

و قال جبلة بن سحيم سمعت ابن عمر يقول :

" لو خرجت ميلا قصرت الصلاة " .

ذكره الحافظ و صححه .

و لا ينافي هذا ما في الموطأ و غيره بأسانيد صحيحة عن ابن عمر أنه كان يقصر في

مسافة أكثر مما تقدم , لأن ذلك فعل منه , لا ينفي القصر في أقل منها لو سافر

إليها , فهذه النصوص التي ذكرناها صريحة في جواز القصر في أقل منها , فلا يجوز

ردها , مع دلالة الحديث على الأقل منها . و قد قال الحافظ في " الفتح "

( 2 / 467 - 468 ) :

" و هو أصح حديث ورد في بيان ذلك و أصرحه , و قد حمله من خالفه على أن المراد

به المسافة التي يبتدأ منها القصر , لا غاية السفر ! و لا يخفى بعد هذا الحمل ,

مع أن البيهقي ذكره في روايته من هذا الوجه أن يحيى بن يزيد قال : سألت أنسا عن

قصر الصلاة , و كنت أخرج إلى الكوفة يعني من البصرة أصلى ركعتين ركعتين حتى

أرجع فقال أنس : فذكر الحديث , فظهر أنه سأله عن جواز القصر في السفر لا عن

الموضع الذي يبتدئ القصر منه , ثم إن الصحيح في ذلك أنه لا يتقيد بمسافة بل

بمجاوزة البلد الذي يخرج منها . و رده القرطبي بأنه مشكوك فيه فلا يحتج به .

فإن كان المراد به أنه لا يحتج به في التحديد بثلاثة أميال فمسلم , لكن لا

يمتنع أن يحتج به في التحديد بثلاثة فراسخ , فإن الثلاثة أميال مندرجة فيها

فيؤخذ بالأكثر احتياطا . و قد روى ابن أبي شيبة عن حاتم بن إسماعيل عن

عبد الرحمن بن حرملة قال : قلت لسعيد ابن المسيب : أأقصر الصلاة و أفطر في بريد

من المدينة ? قال : نعم . و الله أعلم " .



قلت : و إسناد هذا الأثر عند بن أبي شيبة ( 2 / 15 / 1 ) صحيح .

و روي عن اللجلاج قال :

" كنا نسافر مع عمر رضي الله عنه ثلاثة أميال فنتجوز في الصلاة و نفطر " .

و إسناده محتمل للتحسين رجاله كلهم ثقات غير أبي الورد بن ثمامة روى عنه ثلاثة

و قال ابن سعد : " كان معروفا قليل الحديث " .

و قد دلت هذه الآثار على جواز القصر في أقل من المسافة التي دل عليها الحديث ,

و ذلك من فقه الصحابة رضي الله عنهم , فإن السفر مطلق في الكتاب و السنة , لم

يقيد بمسافة محدودة كقوله تعالى ( و إذا ضربتم في الأرض فلا جناح عليكم أن

تقصروا من الصلاة ) الآية .

و حينئذ فلا تعارض بين الحديث و هذه الآثار , لأنه لم ينف جواز القصر في أقل من

المسافة المذكورة فيه , و لذلك قال العلامة ابن القيم في " زاد المعاد في هدي

خير العباد " ( 1 / 189 ) :

" و لم يحد صلى الله عليه وسلم لأمته مسافة محدودة للقصر و الفطر , بل أطلق لهم

ذلك في مطلق السفر و الضرب في الأرض , كما أطلق لهم التيمم في كل سفر , و أما

ما يروى عنه من التحديد باليوم أو اليومين أو الثلاثة , فلم يصح عنه منها شيء

البتة , و الله أعلم " .



و قال شيخ الإسلام ابن تيمية :

" كل اسم ليس له حد في اللغة و لا في الشرع فالمرجع فيه إلى العرف فما كان سفرا

في عرف الناس , فهو السفر الذي علق به الشارع الحكم " .

و قد اختلف العلماء في المسافة التي تقصر فيها الصلاة اختلافا كثيرا جدا , على

نحو عشرين قولا , و ما ذكرناه عن ابن تيمية و ابن القيم أقربها إلى الصواب ,

و أليق بيسر الإسلام , فإن تكليف الناس بالقصر في سفر محدود بيوم أو بثلاثة

أيام و غيرها من التحديدات , يستلزم تكليفهم بمعرفة مسافات الطرق التي قد

يطرقونها , و هذا مما لا يستطيع أكثر الناس , لاسيما إذا كانت مما لم تطرق

من قبل !

و في الحديث فائدة أخرى , و هي أن القصر مبدؤه من بعد الخروج من البلدة و هو

مذهب الجمهور من العلماء , كما في " نيل الأوطار " ( 3 / 83 ) , قال :

" و ذهب بعض الكوفيين إلى أنه إذا أراد السفر يصلي ركعتين و لو كان في منزله .

و منهم من قال : إذا ركب قصر إن شاء . و رجح ابن المنذر الأول بأنهم اتفقوا على

أنه يقصر إذا فارق البيوت , و اختلفوا فيما قبل ذلك , فعليه الإتمام على أصل ما

كان عليه حتى يثبت أن له القصر . قال : و لا أعلم النبي صلى الله عليه وسلم قصر

في سفر من أسفاره إلا بعد خروجه من المدينة " .



قلت : و الأحاديث في هذا المعني كثيرة , و قد خرجت طائفة منها في " الإرواء "

من حديث أنس و أبي هريرة و ابن عباس و غيرهم فانظر رقم ( 562 ) .