المستقبل للإسلام وحده
فليعش الجنون ، وليعش الموت ، ولتعش جهنم!.

«إنني أستطيع أن أتحمل كل آلامي الشخصية ، ولكن آلام الأمة الإسلامية سحقتني ، إنني أشعر بأن الطعنات التي وُجّهت إلى العالم الإسلامي كأنها وُجهت إلى قلبي أوّلا ، ولهذا ترونني مسحوق الفؤاد ، ولكنني أرى نورا ينسينا هذه الآلام إن شاء الله تعالى» لقد «دنا شروق شمس سعادة عالم الإسلام الدنيوية، لاسيما سعادة العرب الذين يتوقف تقدم العالم الإسلامي ورقيه على تيقظهم وانتباههم ، فإني أعلن بقوة وجزم ، بحيث أسمع الدنيا كلها وأنف اليأس والقنوط راغم : إن المستقبل سيكون للإسلام وللإسلام وحده ، وإن الحكم لن يكون إلاّ لحقائق القرآن والإيمان » .
كان ذلك ما قاله العلامة بديع الزمان سعيد النورسي (1294 ـ 1379هـ، 1877 ـ 1960) بعد استسلام الدولة العثمانية و قبيل انهيارها.ولكنه بين مخاضات الآلام المروعة امتلك البصيرة المذهلة التي جعلته يتنبأ بين خرائب الهزائم بما سيحدث:
«إن الدولة العثمانية حبلى حاليا بجنين أوروبا وستلد يوما ما ، أما أوروبا فهي أيضا حبلى بجنين الإسلام وستلد يوما ما».
تصدي بديع الزمان للدفاع عن الإسلام فمارس الدعوة والخطابة والكتابة بل والقتال، ودسوا له السم مرات لكنه نجا. وعندما اعترضت السلطة على قيامه بالدعوة دون ترخيص من السلطة الرسمية سخر منهم قائلا : أغلقوا القبور وأوقفوا الموت وساعتها يحق لكم منعي.
وقف متهما أمام المحاكم مرات عديدة وحكم عليه بالإعدام مرات. لم يحن رأسا عمرها الإيمان لغير الله أبدا. وعندما وظّف الإنجليز "الكنيسة الأنجليكانية" للشماتة بالمسلمين فطلبوا منه الردّ على ستة أسئلة وجهتها له حول الدين الإسلامي في ستمائة كلمة فكان جوابه : «إن هذه الأسئلة لا يُجاب عنها بستمائة كلمة ، ولا بست كلمات ولا بكلمة واحدة بل ببصقة واحدة على الوجه الصفيق للإنجليزي اللعين».
وفي إحدى المحاكمات العديدة التي تعرض لها جعلوه يرى في الساحة خمسة عشر رجلاً معلقين على أعواد المشانق ، ظناً من القضاة أن هذا المنظر سوف يرهبه ، وقال له الحاكم العسكري خورشيد باشا : وأنت أيضاً تدعو إلى تطبيق الشريعة ؟ إن من يطالب بها يشنق هكذا (مشيراً بيده إلى المشنوقين).
فقام بديع الزمان سعيد النورسي ليقول : لو أن لي ألف روح لما ترددت أن أجعلها فداء لحقيقة واحدة من حقائق الإسلام، إنني لا أعترف إلا بملة الإسلام ، إنني أقول لكم وأنا واقف أمام البرزخ الذي تسمونه (السجن) في انتظار القطار الذي يمضي بي إلى الآخرة، إنني متهيئ بشوق لقدومي للآخرة ، وأنا مستعد للذهاب مع هؤلاء الذي علقوا في المشانق، لقد كانت هذه الحكومة تخاصم العقل أيام الاستبداد والآن فإنها تعادي الحياة ، وإذا كانت هذه الحكومة هكذا : فليعش الجنون ، وليعش الموت ، وللظالمين فلتعش جهنم.
وفي محاكمة أخرى جاء في دفاعه أمام المحكمة : «إن بعضاً ممن جعلوا السياسة أداة للإلحاد ، يتهمون الآخرين بالرجعية أو باستغلال الدين ، ليتستروا على سيئاتهم وجرائمهم» واستطرد قائلا: «إن الزنادقة والمنافقين قد غرروا بكم، وصفعوا العدل والحق، وانحرفوا بالدولة عن وظيفتها الأساس إلى مشاغل لا فائدة منها، واتخذوا من الاستبداد جمهورية، ومن الردة نظامًا، ومن الجهل والسفه مدنية، ومن الظلم قانونًا، وبذلك خانوا وطنهم وضربوه ضربة ما كان الأجنبي يضرب مثلها.»
كان النورسي واحدا من كوكبة عظيمة من المفكرين والمجاهدين استنفرهم سقوط دولة الخلافة فهبوا لاستعادتها وكان على رأسهم الإمام حسن البنا في مصر والنورسي في تركيا و أبو الأعلى المودودي في الهند وبن باديس والخطابي في المغرب العربي..إلخ.
كانوا جميعا قد قرؤوا خطابا لوزير المستعمرات البريطانية (وليم غلادستون) حيث قال : «ما دام هذا القرآن بيد المسلمين فلن نستطيع أن نحكمهم ، فلا مناص لنا من أن نزيله من الوجود ، أو نقطع صلة المسلمين به».
واشتعل غضب بديع الزمان وحماسه فاندفع يكتب رسائل النور مستهدفا الحفاظ على الإيمان بأركانه المتعددة واستعادة ما ضيّع منه. ويصرح أنه ليس صوفيا، وأن الصوفية عاجزة عن مواجهة التحديات الراهنة وأن عصرنا هذا هو عصر حفظ الإيمان ، لا حفظ الطريقة، وأن كثيرين يدخلون الجنة بغير الانتماء إلى طريقة صوفية ، ولكن أحداً لا يدخل الجنة بغير إيمان!. لقد كان التصوف أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، مسمى لا اسم له ثم أصبح الآن في الغالب اسما بلا مسمّى. ذلك أن"- المعرفة القرآنية مأمونة والمعرفة الصوفية مغامرة."
إنه ينبري في رسائل النور(ثمانية مجلدات في 6000 صفحة وزعت في حياته ما يقارب مليون نسخة) ليواجه الهجوم الصارخ على القرآن الكريم ، والتجاوز الشنيع على الحقائق الإيمانية بتزييفها ، والغزو الفكري والتحولات الرهيبة والدمار الفظيع والعداء الشرس للإسلام ، ومسخ التاريخ المجيد لهذه الأمة البطلة. حتى دفعت المنظمات الإلحادية الجيل الناشئ - ولا سيما طلاب المدارس - إلى نسيان ماضي أجدادهم المليء بالجهاد في سبيل إعلاء كلمة الله، وذلك بكلام براق في الظاهر لكي يقطعوا صلتهم بالإسلام، حتى يهيئوا جوا ملائما لإقرار نظام إلحادي سافر.
إن القارئ الذي يتدبر ويتأمل سيلاحظ أن مخطط الحرب المعلنة على الإسلام تتخذ نفس الخطوات في كل بلد إسلامي وإن اختلفت التفاصيل بسبب الاختلافات المحلية في الظروف والتطور. وانظروا مثلا الحرب على الحجاب وقارنوا ما حدث بتركيا وتونس وما يحدث بمصر بل والخليج لتكتشفوا دون عناء أن يدا واحدة هي التي تحرك الأمور ضد الإسلام في هذه البلاد جميعا. لقد كان النورسي-كالبنا كالخطابي كالمودودي يدافع عن حقنا في دولة إسلامية واحدة وفي استعادة القوة والمنعة والدين باستعادة الخلافة.
وفي عام 1958كان الطواغيت يحاكمون الرجل الذي تجاوز الثمانين من عمره فقلب هو المحاكمة إلى محاكمة لقضاته:
«أنتم تعلمون، دون شك، الاعتداءات الشنيعة التي تمت ضد دين هذه الأمة، وضد إيمانها وقرآنها ونبيها، والإهانات التي وجهت إليه. وإذا كان هناك احتمال ضعيف جدا في أن المدعي العام لا يعرف هذا، فإننا نسرد هنا بعضا منها:
* من هم الذين قاموا بمنع دروس الدين من المدارس؟.. وقاموا بفتح المحافل الماسونية ورموا إلي السجون كل من يتجاسر علي قول «الله أكبر» وسجنوا علماء الدين، وأهانوا المتدينين وحاربوهم حتى أشرفوا علي حافة التسول؟! بل قلتم أنكم تحتاجون إلي ثلاثين سنة أخري لكي تنتزعوا الدين من رؤوس الشعب؟! وقلبتم مسجد «أيا صوفيا» إلي متحف كنسي؟. ومنعتم المسلمين من الحج؟!.
نذكر القارئ أننا نتحدث عن تركيا.. وليس عن مضر أو تونس أو الخليج أو إندونيسيا!.
كان النورسي شديد الاعتزاز بدينه، ففي أحد الأيام أثناء زيارة "نيقولا نيقولافيج" - وهو خال القيصر والقائد العام للجبهة - إلى معسكر الأسرى ، قام الجميع لأداء التحية إلا بديع الزمان ، الأمر الذي لفت نظر القائد العام فرجع مرة ثانية أمامه فلم يكترث سعيد ، وفي المرة الثالثة وقف غاضبا وجرت بينهما المحاورة التالية - بواسطة المترجم :
-أما عرفتني؟
- بلى لقد عرفته . إنه نيقولافيج ، خال القيصر والقائد العام في جبهة القفقاس .
- فلم إذن قصد الإهانة؟
- كلاّ ، معذرة ؛ إنني لم أستهن به ، وإنما فعلت ما تأمرني به عقيدتي .
- وماذا تأمر العقيدة ؟
- إنني عالم مسلم أحمل في قلبي إيمانا ؛ فالذي يحمل الإيمان في قلبه هو أفضل ممن لا يحمله ، فلو أنني قمت له احتراما ، لكنت قليل الاحترام لعقيدتي ، ولهذا لم أقم له .
- إذن فهو بإطلاقه صفة عدم الإيمان عليّ يكون قد أهانني ، وأهان جيشي وأهان أمتي والقيصر ، فلتشكل حالا محكمة عسكرية للنظر في أمره .
حاول بعض الأسرى المرافقين للنورسي إقناعه بالاعتذار للقائد الروسي ، لكنه رفض ذلك قائلا : «إنني راغب في الرحيل إلى الآخرة والمثول بين يدي رسول الله  ، فأنا بحاجة إلى جواز سفر فحسب للآخرة ، وأنا لا أستطيع أن أعمل بما يخالف إيماني . . . » .
وأصدرت المحكمة حكمها بالإعدام على النورسي ، غير أنه لم ينزعج لهذا الحكم ، بل استقبله بابتهاج طالبا من الضابط المرافق له إلى ساحة الإعدام السماح له بعض الوقت للوضوء والصلاة .
وأثناء أدائه الصلاة ، حضر القائد الروسي بعد أن أيقن من صدق النورسي مع عقيدته ، فاعتذر للنورسي وأمر بإلغاء حكم المحكمة العسكرية.
كان النورسي عملاقا وهو يواجه الحضارة الغربية دون استخذاء بل باستعلاء المؤمن داحضا وهم تقدمها ونافيا وهم تخلف الإسلام. إنه لا يدافع بل يهاجم ملخصا الحضارتين فيما يلي:

نقطة المقارنة
الحضارة الغربية
الحضارة الإسلامية
ركيزتها
إن مدنية الغرب تقوم على فلسفة ركيزتها القوة ، وهذه من شأنها الاعتداء والتجاوز، ومن هنا تنشأ الخيانة
الحق بدلاً من القوة ، والحق من شأنه العدالة والتوازن ، ومن هذا ينشأ السلام .
هدف هذه الحضارة وقصدها
المنفعة الخسيسة بدل الفضيلة ، وشأن المنفعة : التخاصم والتزاحم ، ومن هذا تنشأ الجناية .
الفضيلة بدل المنفعة ، والفضيلة من شأنها : المودة والتجاذب، ومن هذا تنشأ السعادة وتزول العداوة .
دستورها في الحياة
الجدال والصراع بدل التعاون ، وهذا من شأنه التنازع والتدافع .
التعاون بدل الجدال والصراع ، وشأن هذا الدستور: الاتحاد والترابط اللذان تحيى بهما الجماعات .
رابطتها الأساسية بين الناس
العنصرية والقومية السلبية التي تنمو وتتوسع بابتلاع الآخرين ، وهذا من شأنه أن يؤدي إلى التصادم ، ومن هذا ينشأ الدمار والهلاك .
الهدى وليس الهوى ، وشأن الهدى الارتقاء بالإنسان إلى مراقي التكريم والكمال .

الغاية
تشجيع الأهواء والنوازع وإشباع الشهوات والرغبات، وشأن الأهواء والنوازع : مسخ الإنسان وتغيير سيرته .
رابطتها بين الجماعات البشرية هي رابطة الدين والإيمان ومن شأن هذه الرابطة : الأخوة الخالصة بدل العنصرية والقومية السلبية .
الإنسان
- (فرعون) طاغية، ولكنه ذليل، ويتخذ كل شئ ينتفع منه ربّاً له .
-(متمرد) مسكين؛ لأنه يرضى بالذل والهوان من أجل منفعة خسيسة .
-(غني) لكنه يفقد الإحساس بكل ما يملك.
- قد يكون شبعانا، ممتلئا، لكنه فارغ.
- و (جبار) ، لكنه عاجز في ذاته.
-كل واحد منهم سيد لعبد وعبد لسيد.
- شره مسعور لتلبية رغبات النفس، وإشباع هواها لأنه لا يحب سواها.
- قاس وساخط مهما امتلك.
وهو مستعد للتضحية بكل شيء في سبيل ذاته .
يعيش حالة مرضية مستعصية تبلد الحسّ وتخدر الشعور، مشتت الذهن مغيب الوعي شديد التعاسة لأن نهمه يجعله لا يشبع أبدا.
- (عبد) ، ولكنه عبد عزيز لله ، لا يرضى بعبادة أعظم مخلوق .
- وهو (هيّن ليّن) ، ولكنه لا يتذلل لغير الله تعالى .
ـ وهو (فقير) ، ولكنه مستغن بما عند الله تعالى .
- قد يكون جائعا محتاجا لكنه ممتلئ
ـ وهو (ضعيف) ، ولكنه يستند إلى قوة سيده المطلقة .
- كل واحد عبد لله فقط وكل الناس متساوون.
- قنوع وقانع .
-
- رحيم وراض مهما فقد.
- مستعد للتضحية بذاته في سبيل دينه وأمته.
- ولأن هذا الإنسان مؤمن بأن ما يملكه من نفس ومال هو أمانة لديه ، فإنه يسعى جاهداً لتسليم الأمانة لصاحبها ؛ لذا فهو يشعر بغاية السعادة ما دام ملتزماً بما يأمره به ربه تعالى .
ومن أجل ذلك كله كان من حق المسلم أن يستعلي وعلى المتغرب أن يخجل.

لقد حدّد النورسي مفهومه جيداً لما ينبغي أن تكون عليه سياسة الحكم ؛ إذ يقول : «إن الاستبداد ظلم وتحكم في الآخرين ، أما الدستور ، فهي العدالة والشريعة ، فالسلطان إذا ما أطاع أوامر سيدنا الرسول الكريم، وسار في نهجه المبارك فهو الخليفة ونحن نطيعه ، وإلا فالذين يعصون الرسول، ويظلمون الناس هم قطاع طرق ولو كانوا سلاطين».
نجح النورسي نجاحا باهرا في معظم بنود مشروعه الفكري رغم كل العواصف والأنواء التي أحاطت به والتي كانت تصلح كمبررات قوية للفشل لا مسوغات للنجاح. لكنه فشل في بند هام وهو إنشاء جامعة كبرى في آسيا على غرار الجامع الأزهر ، تكون لغة التدريس فيها هي العربية لتجمع فكريا بين المسلمين وتقوى مركز العرب (كان كرديا يناصر العرب ورفض أن يشارك في الثورة على الأتراك لأنهم مسلمون.
سوف يفاجأ من يقرأ تاريخ النورسي عندما يكتشف أن مصرنا الغالية –حماها الله- أكثر تقدما بكثير من تركيا .. لكن في مجال التعذيب والقهر وتلفيق القضايا والتأثير على أحكام القضاء. بل إن النورسي لو كان في مصر لقتل كالإمام الشهيد حسن البنا أو الشهيد عبد القادر عودة أو الشهيد سيد قطب.. ولعذب في السجن الحربي.. أو سمم بالأكونتين أو دفن في صحراء ألماظة.
انتقل النورسي إلى رحمة الله تعالى يوم الأربعاء 26 رمضان 1379هـ (23/3/1960م) في ليلة لعلها كانت ليلة القدر. وبعد وفاته بأربعة شهور اختطف العسكر رفاته من قبره إلى جهة أخرى ظلت مجهولة إلى حد الآن .. ولقد حدث الأمر نفسه مع الشهيدين حسن البنا وسيد قطب.
ترى .. ماذا يمكن أن يفعلوا في بلادنا بشيخ يقول للرئيس – أي رئيس- : إن أعظم حقيقة بعد الإيمان هي الصلاة ، وإن الذي لا يصلي خائن ، وحكم الخائن مردود . .
ماذا يمكن أن يفعل الرئيس في مثل هذا خاصة إذا كان لا يصلي..
لقد قالها النورسي للهالك كمال أتاتورك ..ولم يجرؤ الكافر على المساس به..

ولعل قصة أتاتورك تجيب على سؤال محير يتساءل عن السبب في أن نجاح الحركة الإسلامية في تركيا يفوق مثيلتها في مصر..
أما الإجابة فهي أن نظم الحكم هناك كان أقل دموية وإجراما وقدرة على الكذب والتزوير والتعذيب.. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

hglsjrfg gghsghl