الملخص

اكتسبت التفسيرات المتطرفة والمتشددة للإسلام مكانة بارزة في المجتمعات الإسلامية على مدار السنوات الأخيرة . وبالرغم من وجود أسباب كثيرة وراء ذلك إضافة إلى الدراسات - الكبيرة والنامية - التي ما زالت مستمرة لاكتشاف هذه التفسيرات والأيديولوجيات إلا أنه من الواضح أن العوامل البنيوية تلعب الدور الأكبر في هذا الصدد . إن شيوع الأنظمة الاستبدادية في العالم الإسلامي وضعف دور مؤسسات المجتمع المدني جعل المسجد هو المتنفس الوحيد لأصحاب هذه الآراء للتعبير عن الغضب الشعبي العارم ضد هذه الأنظمة الفاسدة والأوضاع المتردية في المجال السياسي والاجتماعي والاقتصادي . وفي العديد من دول العالم الإسلامي وخاصة المستبدة منه يظهر المتطرفون من الإسلاميين في صورة البديل الوحيد لهذه الأوضاع المتردية ويقومون بشن حربهم في وسائل الإعلام والساحة السياسية سواء بشكل معلن أو بشكل سري طبقا لدرجات الإستبداد والقمع الذي يواجههم .

ولقد نجح المتطرفون والمتعصبون في إرهاب المعتدلين من المسلمين وتهميشهم وإسكاتهم , وهؤلاء المعتدلون هم بالفعل من يشتركون معنا في الإيمان بالثقافة الديمقراطية مهما اختلفت طبقاتهم .[1] وفي كثير من الدول الإسلامية مثل مصر وإيران والسودان يتم إغتيال المسلمين الليبراليين من المفكرين أو إجبارهم على الهجرة من بلادهم . وفي دول أكثر ليبرالية مثل إندونيسيا يلجأ المتطرفون للعنف والتهديدات لإرهاب خصومهم

أما هذه الأساليب فتزداد في الغرب مع الشتات الإسلامي هناك .

وبعيدا عن هذه الأساليب التي يستخدمها الراديكاليون في إخضاع الجانب الآخر من المسلمين لاعتقاداتهم وآرائهم الدينية إلا أنهم يتمتعون بميزتين لا يتمتع بها الليبراليون الإسلاميون وأول هاتين الميزتين المال لأن السعودية هي أكبر ممول للإسلام الوهابي وخاصة في العقود الثلاث الأخيرة سواء بقصد أو غير قصد وهذا له أثر بالغ في انتشار التطرف في العالم الإسلامي . والميزة الثانية تلك التي يتمتع بها الراديكاليون ألا وهي القدرة على التنظيم , حيث استطاعت الجماعات الراديكالية خلال السنوات الأخيرة من عملشبكات كبيرة استطاعت بعضها أن تكون عالمية ولها ثقل في العلاقات الدولية . وبالتالي ، فإن هذا البون الشاسع بين الراديكاليين والليبراليين في هذين المقومين أًهًّل الراديكاليون – بالرغم من قلة عددهم في العالم الإسلامي - أن يكون لهم النفوذ الأكبر الذي لا يتناسب مع عددهم . ولهذا نجد أن إنشاء شبكات دعم للمسلمين المعتدلين أصبحت ضرورة لأن الليبراليين والمعتدلين من المسلمين لا يملكون المقومات المالية والتنظيمية وبالتالي تم إنشاء أرضية يستطيع من خلالها الليبراليون توجيه رسالتهم وأهدافهم كما أنها ستوفر بعض الحماية من بطش المتطرفين و بطش حكوماتهم التي ترى فيهم بديلا عن الاستبداد وبديلا عن الراديكاليين المتطرفين .

وبما أن الليبراليين يفتقرون هذه المقومات التي تؤهلهم لإنشاء شبكات خاصة بهم, أصبح من الواجب وجود دعم خارجي لهم . وقد ذهب البعض إلى أن الولايات المتحدة – وهي دولة غالبيتها ليست مسلمة - لا تستطيع أن تقوم بهذا الدور لوحدها . في حقيقة الأمر لا ينبغي على الإطلاق الاستهانة بالعقبات التي تحول دون إحداث تطورات سياسية إجتماعية في الدول الخارجية . ومن التجارب السابقة لعبت الولايات المتحدة دورا غاية في الأهمية أثناء الحرب الباردة من خلال دعمها للمعتدلين ( من السوفييت ) .

وفي هذا التقرير سنقوم أولا بشرح كيف قامت الولايات المتحدة ببناء ودعم هذه الشبكات في الحرب الباردة وكيف استطاعت أن تميز وتحدد شركائها وكيف تمكنت من حمايتهم من أي مخاطر .

ثانيا سنقوم بتحليل المتشابهات والفروق بين الجو السائد في الحرب الباردة وصراع اليوم مع الإسلام المتطرف وما هو دور هذه المتشابهات في الفروق في التأثير على جهود الولايات المتحدة . وثالثا سنقوم بتحليل إستراتيجيات وخطط الولايات المتحدة تجاه العالم الإسلامي .



وفي النهاية سنقوم بصياغة " خارطة الطريق " لإنشاء شبكات من المسلمين المعتدلين استنادا على الخبرة المكتسبة من الحرب الباردة وأبحاث مؤسسة راند السابقة في تحليل الاتجاهات الأيديولوجية في العالم الإسلامي . وهناك ملحوظة لابد من ذكرها – كما استنتج القائمين على هذا البحث - وهي أن الولايات المتحدة وحلفاؤها قد فشلوا في تحديد معيارية لحلفائها من المعتدلين فعلا . ولكن تبقى النتيجة النهائية هي عدم تشجع المسلمين المعتدلين[2] .

دروس مستفادة من الحرب الباردة

تحمل الجهود التي بذلتها واشنطن وحلفاؤها خلال السنوات الأولى من الحرب الباردة للمساعدة في بناء مؤسسات ومنظمات حرة وديمقراطية في طياتها دروسًا مفيدة للحرب العالمية الجارية ضد الإرهاب .

فعند بداية الحرب الباردة ، كان بإمكان الاتحاد السوفيتي الاعتماد ليس فقط على ولاء أحزاب شيوعية قوية بغرب أوروبا ( وكان بعضهم من أكبر الأحزاب وأكثرها تنظيما داخل دولهم وكانت على وشك الوصول للسلطة بدلا من الأحزاب الديمقراطية ) وإنما أيضًا على مجموعة من المنظمات ، مثل الإتحادات العمالية والمنظمات الشبابية والطلابية ، التي منحت العناصر المؤيدة للاتحاد السوفيتي سيطرة فاعلة على قطاعات مهمة في المجتمع . أما خارج أوروبا الغربية ، كان من بين حلفاء الاتحاد السوفيتي عدد من "حركات التحرير"التي كانت تناضل للتخلص من الحكم الاستعماري . وعليه تتطلب عملية نجاح سياسة الاحتواء الأمريكية (إلى جانب الدرع العسكري الذي وفرته القوة الأمريكية النووية والتقليدية) بناء مؤسسات ديمقراطية مناظرة لتحدي الهيمنة الشيوعية على المجتمع المدني . وشكلت العلاقة الوثيقة بين الاستراتيجية الكبرى للولايات المتحدة وجهودها لإنشاء شبكات تروج للفكر الديمقراطي المكون الرئيسي والعامل الأهم في النجاح العالمي الذي أحرزته سياسة الاحتواء الأمريكية . وبذلك فإنها تمثل نموذجًا لصانعي السياسات في الوقت الراهن .

كما أن هناك صفة رئيسية لمبادرات إنشاء الشبكات للولايات المتحدة وحلفائها وهو الصلة بين القطاعين العام والخاص .



والجدير بالذكر أنه داخل الولايات المتحدة وأوروبا كان هناك بالفعل حركات فكرية مناهضة للشيوعية خاصة في الأوساط اليسارية غير الشيوعية . وكانت الحاجة ماسة في هذا الوقت لعاملين مهمين ألا وهما المال والتنظيم اللازمين لتحويل الجهود الفردية إلى حملة واسعة النطاق . وبالتالي يتضح أن الولايات المتحدة لم تقم بإنشاء هذه الشبكات من فراغ , ولكن جاءت هذه الشبكات نتيجة لجهود حركات فكرية وسياسية قامت الولايات المتحدة والحكومات الأخرى الموالية لها بتبنيها وإيوائها بهدوء .

وبدت الولايات المتحدة في كل هذه المساعي كالمؤسسة البحثية حيث قامت بتقييم كل المشاريع والأفكار لتحديد ما إذا كانت تخدم مصالح الولايات المتحدة وقامت بدعمها مادياً ثم اتبعت توجهًا يقوم على عدم التدخل وتركت هذه المنظمات والهيئات بإدارة نفسها وتحقيق أهداف الولايات المتحدة دون أي تدخل مباشر من الولايات المتحدة . ومثلما الحال مع أي مؤسسةوضعت الحكومة الأمريكية خطوطًا إرشادية بشأن كيفية إنفاق الأموال إلا أنه بصورة عامة أدرك المسئولون الأمريكيون أنه كلما ابتعدت المسافة بين حكومتهم وبين المؤسسات التي ترعاها كلما زادت إحتمالات نجاح أنشطة هذه المنظمات .

أما اليوم فتواجه الولايات المتحدة تحديات جسيمة في إنشاء شبكات ديمقراطية في العالم الإسلامي مثلها مثل التحديات التي إعترضت صانعوا السياسة عند بداية الحرب الباردة . وعلى رأسها ثلاث تحديات :

الأولى : أنه في أواخر الأربعينيات ومطلع الخمسينيات ثار جدال بين واضعي السياسات الأمريكية حول ما إذا كانت جهودهم لبناء الشبكات ينبغي أن تحمل طابعًا هجوميًا أم دفاعيًا . وذلك لأن البعض قد رأى أنه يتحتم على الولايات المتحدة أن تتبنى استراتيجية هجوميةللقضاء على الحكم الشيوعي في أوروبا الشرقية والاتحاد السوفيتي من خلال دعم الجماعات التي تريد الإطاحة بالحكومات الشيوعية سواء في السر أو في العلن . بينما رأى البعض أن تنتهج الولايات المتحدة إستراتيجية دفاعية ترمي لتدمير الحكم الشيوعي بشرق أوروبا والاتحاد السوفيتي عن طريق تقديم الدعم- سراً أو علناً - للجماعات القائمة داخل هذه الدول والساعية بنشاط نحو الإطاحة بالحكومات الشيوعية . بينما آمن البعض الآخر أنه من الضروري اتباع إستراتيجية ذات طابع دفاعي أكبر تركز على احتواء التهديد السوفيتي عبر تعزيز القوى الديمقراطية في غرب أوروبا وآسيا وأمريكا اللاتينية . وكانت اليد العليا في الجزء الأكبر للإستراتيجية الدفاعية . وسعت واشنطن أيضًا لتحويل مسار تدفق الأفكار إلى الطريق المعاكس ، فبدلاً من تدفق الأفكار الشيوعية على الغرب عبر الاتحاد السوفيتي ومنظماته ، تمكنت الأفكار الديمقراطية من اختراق الستار الحديدي من خلال المنشآت الإعلامية المنشأة حديثًا .

أما التحدي الثاني الذي واجهه صناع السياسة الأمريكية إبان الحرب الباردة تمثل في الـحفاظ على مصداقية الجماعات التي تساندها الولايات المتحدة . حيث حاول منظموا الجهود الأمريكية



لبناء الشبكات الحد بأقصى درجة ممكنة من كل المخاطر التي قد تتعرض لها الجماعات عن طريق تحجيم المسافة بين هذه الجماعات وحكومة الولايات المتحدة وإختيار أفراد بارزين يتمتعون بقدر كبير من المصداقية لتولي مناصب قيادية في الشبكات . ويذكر أن الولايات المتحدة قد ساندت أنشطة إنشاء الشبكات التي قامت بها منظمات مستقلة مثل الاتحاد الأمريكي للعمال .

أما التحدي الثالث الذي كان يواجهه صناع السياسة الأمريكية هو تحديد مدى اتساع التحالف المناهض للشيوعية فعلى سبيل المثال هل ينبغي أن يضم الاشتراكيين الذين انقلبوا ضد الشيوعية ولكن ما زالوا ينتقدون بعض جوانب السياسة الأمريكية ؟ ولكن في النهاية قررت الولايات المتحدة أن التحالف من الممكن أن يضم أي شخص طالما أنه ملتزم بمبادئ محددة أساسية . فعلى سبيل المثال كانت طريقة الحصول على بطاقة عضوية مؤسسة الحرية الثقافية هي الموافقة بالإجماع على معارضة النظم الشمولية . ويسمح بالإختلاف مع سياساة الولايات المتحدة – وقد تم تشجيع ذلك - لأن ذلك ساعد في ترسيخ مصداقية وإستقلالية المنظمات المدعومة .

أوجه الشبه والاختلاف بين مناخ الحرب الباردة والعالم الإسلامي اليوم .

بصورة عامة ، هناك ثلاثة جوانب واسعة للمقارنة بين بيئة الحرب الباردة والبيئة الراهنة .

أولا: واجهت واشنطن في أواخر الأربعينيات كما تواجه اليوم بيئة جيو/سياسية جديدة ومحيرة تنطوي على تهديدات أمنية جديدة . ففي بداية الحرب الباردة ، تمثل التهديد في الحركة الشيوعية العالمية التي قادها الاتحاد السوفيتي المسلح نوويًّا . أما اليوم فيتركز هذا التهديد في حركة جهادية عالمية تشن هجمات إرهابية ضد الغرب تسقط أعدادا ضخمة من الضحايا .

ثانيًا: مثلما الحال في الأربعينيات شهدنا إنشاء كيانات بيروقراطية كبيرة وجديدة تابعة للحكومة الأمريكية بهدف التصدي لهذه التهديدات .

والأخير والأهم في هذا الموضوع أنه في بدايات الحرب الباردة ساد الإدراك بأن الولايات المتحدة وحلفاؤها يخوضون صراعاً أيديولوجيا . فمن جانبهم أدرك صانعو السياسات جيدًا أن هذا الصراع سيجري خوضه على مستويات دبلوماسية واقتصادية وعسكرية ونفسية . أما اليوم , وكما اعترفت وزارة الدفاع في تقريرها الربع سنوي أن الولايات المتحدة اليوم تقود حربا



على الصعيدين الحربي والفكري فهي تقود معركة بالأسلحة ومعركة بالأفكار حيث لن تكون الغلبة على الجانب الآخر إلا بتشويه الأيديولوجيات المتطرفة في أعين معتنقيها ومؤيديها[3] .

ومن المهم عندما نعقد مقارنات تاريخية أن نذكر الفروق والمتشابهات بين الماضي والحاضر . وكدولة قومية ، فإن الاتحاد السوفيتي كانت له مصالح قومية تتعلق بالدولة يقوم بحمايتها وحدود يقوم بترسيمها وبناء حكومي واضح .

وعلى النقيض نجد اليوم أن الولايات المتحدة تقف في مواجهات عناصر غامضة لا تتبع دولة بعينها ولا تسيطر على مناطق محددة ( بالرغم من أن بعضهم استطاع إقامة ملتجآت خارج سيطرة الدولة ) وهؤلاء الأفراد يرفضون الأعراف التي يقوم عليها النظام الدولي كما لا يخضعون للسبل التقليدية للردع .