مؤسسة الحرية الثقافية
كانت مؤسسة الحرية الثقافية، المؤسسة في عام 1950، أحد أهم مؤسسات الحرب الباردة المهمة المقاومة للشيوعية. وقد جاء أساس فكرة المؤسسة من جماعة من المفكرين الأمريكيين والأوروبيين الذين يشملوا ميلفن لاسكي وروث فيشر في عام 1949. فقد أراد هؤلاء المفكرين أن يعقدوا مؤتمر دولي في برلين لتوحيد المعارضين لمذهب ستالين في أوروبا الغربية والشرقية. فقد رأوا أن هذا المؤتمر يعتبر رد على سلسلة من المؤتمرات التي يرعاها الاتحاد السوفيتي وتدعو إلى السلام العالمي وتدين سياسات إدارة ترومان، وقد تم عقد إحدى هذه المؤتمرات في نيويورك وحضرها 800 شخصية من الشخصيات الفنية والأدبية البارزة تشمل أرثر ميلر وهارون كوبلاند وتشارلي تشابلن وألبرت إينستين33.
وقد ظلت الخطط التي تم إعدادها من أجل ما قد يصبح في النهاية مؤسسة للحرية في السجن البيروقراطي لبعض الوقت. وقد عرفت السلطات الأمريكية في ألمانيا بشأن هذه الخطط لكنها كانت قلقة من أن المؤسسة التي ترعاها حكومة الولايات المتحدة قد يكون له مصداقية أقل لدى المفكرين الأوروبيين. وعند هذه المخالفات تجد إثنين من الشخصيات البارزة المهمة: ميشيل جوسيلسون وميلفن لاسكي.
كان ميشيل جوسيلسون، الذي ولد في إستونيا لكنه أصبح مواطنا أمريكيا، هو مسئول الشئون الثقافية لدى الحكومة العسكرية الأمريكية بألمانيا. وقد أحب فكرة المؤسسة لكنه لم يكن لديه خطة أساسية بشأنها. فقد أراد جوسيلسون أن يعقد مؤتمر ثقافي وحضاري يمسك بزمام المبادرة من الشيوعيين بإعادة التأكيد على الأفكار الرئيسية التي تحكم العمل الثقافي والسياسي في العالم الغربي ورفض التحديات الاستبدادية أو الشمولية" 34.
وقد اقترح جوسيلسون على OPC أن تنظم لجنة المفكرين الأمريكيين والأروبيين مؤتمرا وتدعوا فيه المشاركين. ويتم اختيار المشاركين على أساس ثلاث معايير: وجهة نظرهم السياسية وشهرتهم الدولية وشهرتهم في ألمانيا. وقد كان الغرض من المؤتمر تأسيس لجنة دائمة تحافظ بالقليل من التمويل على مستوى التنسيق البلاغي والفكري. وقد رحبت OPC بخطة جوسيلسون ووافقت على ميزانية 50000دولار لها.
وقد كان لميلفن لاسكي أيضا دور رائد في إظهار هذا المؤتمر. وكان لاسكي صحفي أمريكي قام بتأسيس صحيفة دير مونات، وهي صحيفة ألمانية ترعاها سلطات الاحتلال الأمريكية. وأثناء هذه الفترة كانت الولايات المتحدة وحلفاؤها مشتركين بشكل فعال في محاولة إعادة إعمار المؤسسات الألمانية والثقافة ومنح التراخيص بشكل منظم للمطبوعات الألمانية. وكانت صحيفة دير مونات أكبر نجاح وقد جعلت من لاسكي أحد الرموز والشخصيات الفكرية والثقافية في أوروبا35.
بعد النظر في فائدة جوسيلسون من خطة المؤتمر، تحول لاسكي إلى العمل. وقد كان هذا مدعاة للقلق بالنسبة لـ OPC التي كانت قلقة من أن لاسكي، وهو موظف في حكومة الاحتلال الأمريكي قد يكون تم تعيينه كدليل على أن حكومة الولايات المتحدة كانت وراء هذا الحدث36. مع ذلك، لم يكن لاسكي مرعوبا، ففي زوبعة الأحداث خطط لإدراج محافظ برلين الغربية وحشد من المفكرين البارزين في المؤتمر.
وقد تم افتتاح مؤسسة الحرية الثقافية في برلين في 26 يونيو 1950، وهو اليوم التالي لليوم الذي بدأت فيه قوات كوريا الشمالية غزوها لكوريا الجنوبية. وقد تميزت المؤسسة بتنوع الأراء حول كيفية معارضة الشيوعية.
فقد فضلت إحدى الجماعات المواجهة العسكرية المباشرة، بينما يحتاج الآخرون طريقة أكثر براعة وأقل مواجهة تكون مركزة على الإصلاحات السياسية والاجتماعية من أجل تقويض الإغراء الأخلاقي الشيوعي. وبالرغم من هذه الاختلافات، وافقت المؤسسة على إصدار بيان رسمي يعارض الحيادية ويدعو إلى السلام من خلال إنشاء مؤسسات ديمقراطية والتعبير عن التضامن مع ضحايا الدول الشمولية المستبدة37. وقد وافقت الجمعية أيضا على إنشاء منظمة لتأييد المبادئ المتفق عليها في برلين.
وقد وضع مؤتمر برلين الأساس للغرض الرئيسي من مؤسسة الحرية الثقافية التي قد تدعمها سبعة عشر عاما. وتهدف المؤسسة إلى تشكيل إجماع على مقاومة الشمولية وتأييد التواصل بين أمريكا الشمالية وأوروبا بالاعتماد على القيم العالمية للفكر التحرري والتحقيق. وقد تم بذلك تشكيل لجان قومية عبر أوروبا (ومؤخرا في آسيا وأمريكا اللاتينية). وقد تكونت كل لجنة من مفكرين مستقلين يقوموا برعاية نشاطات \عتقدوا أنها كانت مناسبة لتطوير المبادئ العامة للمؤسسة. وقد كانت أحد النشاطات الرئيسية للجان القومية نشر المجلات والصحف.
وقد كانت صحيفة Encounter من أشهر ما نشرته المؤسسة، وقد قام بتحريرها إيرفينج كريستول بالتعاون مع ستيفن سبندر وتم نشرها في لندن. وقد كانت المؤسسة هي التي ترعى هذه الصحيفة ولكنها لم تقم مباشرة بنشرها وقد كانت أيضا مستقلة عن المؤسسة البريطانية للحرية الثقافية. وبمراجعة فكرية لما قد تكون قد قامت الصحيفة بتغطيته من نزعات دولية ثقافية سياسية ودولية، نرى أن هذه الصحيفة استقت محتوياتها من كتابات مجموعة من الكتاب الأمريكيين والأوروبيين والبريطانيين.
وقد قامت المؤسسة بإنتاج ما يزيد عن دستة من المجلات الفكرية التي توزع حول العالم باللغة الألمانية والفرنسية والأسبانية والإنجليزية. ولكل من هذه المجلات آراء تحررية مشابهة تعادي الشيوعية وغطت القضايا السياسية والثقافية. وفي الخمسينيات وأوائل الستينيات أصبح العديد من هذه المجلات هي المجلات الأكثر إثارة للمناقشة والتحدث عنها أكثر من الصحف في دولهم.
وقد عقدت مؤسسة الحرية الثقافية مؤتمرات دولية حول القضايا السياسية والاجتماعية الرئيسية. وقد كان الهدف منها هو خلق منتدى دولي للمناقشة وليست كوسيلة أخرى تستخدم في الصراع الأيديولوجي ضد الاتحاد السوفيتي.
وقد سعت الجمعية لتقديم وجهات نظر بناءة حول الموقف السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي لم يكن مجرد انعكاس لمعاداة الشيوعية38. وقد أصبحت هذه المؤتمرات هي الأساس الذي تركز عليه المناقشات الفكرية الخاصة بشئون التواصل بين دول المحيط الأطلنطي حول العصرنة والديمقراطية والتطور التكنولوجي. فعلى سبيل المثال، عمل مؤتمر 1955 على تقديم منتدى للجدال بين علماء الاقتصاد جيه كي جالبريث وفرديريك فون هايك حول الدور المناسب للحكومة في الاقتصاد وما إذا كان إدارة الدولة للاقتصاد له أي علاقة بالحرية السياسية.
وقد كانت المؤسسة أيضا فعالة سياسياً ومنظمة للمعارضات ضد اضطهاد المفكرين في كل من العلاقات بين جناح اليمين وجناج اليسار. وبعد أن قام السوفيتون بقمع الثورة المجرية في عام 1956، قامت المؤسسة بحشد دعم عالمي للكتاب والفنانين والعلماء المجريين. وقد قدمت المؤسسة المعاونة للاجئين المجريين الذين فروا من البلد ولا سيما المفكرين منهم. وقد عارضت أيضا تعليق النظام الفرنسي لأساتذة الجامعة في عام 1956 وقبض السلطات البرتغالية في موزمبيق على المحرر المعارض للاستعمار في عام 391956.
وقد ساعدت CIA مؤسسة الحرية الثقافية بطريقتين. الطريقة الأولى هو دعمها بالأموال. فبعد مؤتمر برلين، أرادت المؤسسة أن تواصل نشاطاتها لكن لم يكن لديها مصدر تعتمد عليه في التمويل. ولم يكن من المحتمل آنذاك أن تتلقى المؤسسة أموالا من وزارة الخارجية الأمريكية أو الكونجرس. وقد كانت هذه هي فترة إشاعات ماكارثي، وقد كان صعبا في ذلك الوقت الحصول على تمويل بشكل علني من حكومة الولايات المتحدة. ومن الجانب الآخر كانت CIA ترغب في وقادرة على تمويل المؤسسات اليبرالية المعادية للشيوعية. وقد تم الحفاظ على مصادر تمويل CIA بشكل سري حتى يحافظ على مصداقيته مع أعضاءه، حيث لم يكن من المحتمل أن يتعاون العديد من هؤلاء المفكرين الأوروبيين مع جماعة تتلقى تمويل مباشر من حكومة الولايات المتحدة.
أما الدور الثاني الذي لعبته CIA في تحقيق نجاح المؤسسة فهو ضمان التنافس والقيادة المخلصة. وفي نوفمبر
من عام 1950، اختارت OPC ميشيل جوسيلسون لمنصب أمانة سر إدارة المؤسسة، وهو الدور الذي قد تحققه في الستة عشر عاما القادمة40. وقد تخلى جوسيلسون عن منصبه مع حلول حكومة الاحتلال الأمريكي في ألمانيا من أجل تقلد منصب جديد. وهكذا فقد تقلد جوسيلسون منصبين في المؤسسة: فقد كان هو منظم الجماعة العالمية للمفكرين ورابط لمصادر تمويل المؤسسة التي هي CIA.